موسوعة التفسير

سورةُ الحَشْرِ
الآيات (18-21)

ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غريب الكلمات:

خَاشِعًا: أي: مُتذَلِّلًا مُتواضِعًا، وأصلُ (خشع): يدُلُّ على التَّطامُنِ [371] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/549)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 204)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/182)، ((المفردات)) للراغب (ص: 283)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 249). .
مُتَصَدِّعًا: أي: مُتَشَقِّقًا، وأصلُ (صدع): يدُلُّ على انفراجٍ في الشَّيءِ [372] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/337)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 398)، ((تفسير القرطبي)) (18/44). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى موجِّهًا نداءَه إلى المؤمنينَ: يا أيُّها الَّذين آمَنوا، اتَّقُوا اللهَ، ولْيَنظُرْ كُلُّ أحدٍ فيما قدَّمَه مِن أعمالٍ لآخِرتِه، واتَّقُوا اللهَ؛ إنَّ اللهَ خَبيرٌ بما تَعمَلونَ، ولا تَكونوا كالَّذين غَفَلوا عن ذِكرِ اللهِ، والقيامِ بحَقِّه وطاعتِه، فأنساهم اللهُ أنفُسَهم؛ عُقوبةً لهم، أولئك هم الخارِجونَ عن طاعةِ اللهِ، لا يَستوي أهلُ النَّارِ وأهلُ الجنَّةِ، أهلُ الجنَّةِ هم الفائِزونَ.
 ثمَّ يقولُ تعالى معظِّمًا لأمرِ القرآنِ، ومبيِّنًا عُلُوَّ قَدرِه: لو أنزَلْنا هذا القُرآنَ على جَبَلٍ لَرأيتَه خاضِعًا مُتذَلِّلًا مُتشَقِّقًا؛ لشِدَّةِ خَوفِه مِنَ اللهِ تعالى، وتلك الأمثالُ نَذكُرُها للنَّاسِ؛ لعَلَّهم يَتفَكَّرونَ فيها.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا انْقَضى في هذه السُّورةِ وصْفُ المنافِقينَ واليهودِ، وَعَظَ المؤمنينَ بكلامٍ مُستأنَفٍ؛ لأنَّ الموعظةَ بعْدَ ذِكرِ المصيبةِ لها مَوقعٌ في النَّفْسِ لرِقَّةِ القلوبِ، والحذَرِ ممَّا يُوجِبُ العذابَ [373] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/148)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/53). .
وأيضًا هو انتِقالٌ مِن الامتنانِ على المسلِمينَ بما يسَّرَ اللهُ مِن فتْحِ قَريةِ بَني النَّضيرِ بدونِ قِتالٍ، وما أفاء اللهُ على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منهم- إلى الأمرِ بتَقوى اللهِ؛ شُكرًا له على ما مَنَحَ وما وعَدَ مِن صادقِ الوعدِ؛ فإنَّ الشُّكرَ جَزاءُ العبدِ عن نِعمةِ ربِّه؛ إذ لا يَستطيعُ جَزاءً غيرَ ذلك، فأقبَلَ على خِطابِ الَّذين آمَنوا بالأمرِ بتَقوى اللهِ. ولَمَّا كان ما تَضمَّنَته السُّورةُ مِن تأْييدِ اللهِ إيَّاهم وفَيضِ نِعَمِه عليهم، كان مِن مَنافعِ الدُّنيا؛ أعْقَبَه بتَذكيرِهم بالإعدادِ للآخرةِ بقولِه: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [374] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/110). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا، خافُوا اللهَ واحذَروا سَخَطَه وعَذابَه الدُّنيويَّ والأُخرويَّ، بامتِثالِ أوامِرِه، واجتِنابِ نواهيه [375] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/546)، ((تفسير القرطبي)) (18/43)، ((تفسير ابن كثير)) (8/77)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/398)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/ 457)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853). .
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ.
أي: ولْيتأمَّلْ كُلُّ أحدٍ فيما قدَّمَه مِن أعمالٍ لآخِرتِه؛ فيَزدادَ مِنَ الحَسَناتِ، ويَتوبَ مِن السَّيِّئاتِ، ويَستَعِدَّ للِقاءِ رَبِّه، ويُحاسِبَ نفْسَه قبْلَ أن يُحاسِبَه ربُّه [376] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/546)، ((تفسير ابن عطية)) (5/291)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/187)، ((تفسير ابن كثير)) (8/77)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/476)، ((تفسير الشربيني)) (4/256)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/110، 111). قال الرازي: (الغَدُ: يومُ القيامةِ، سمَّاه باليَومِ الَّذي يَلِي يَومَك؛ تقريبًا له). ((تفسير الرازي)) (29/511). وقال البِقاعي: (لِغَدٍ أي: لأجْلِ العَرضِ بعدَ الموتِ، أو في يومِ القيامةِ الَّذي هو في غايةِ القُربِ؛ لأنَّ هذه الدُّنيا كُلَّها يومٌ واحِدٌ يَجيءُ فيه ناسٌ ويذهَبُ آخَرونَ، والموتُ أو الآخرةُ غَدُه، لا بدَّ مِن كُلٍّ منهما، وكُلُّ ما لا بُدَّ منه فهو في غايةِ القُربِ). ((نظم الدرر)) (19/458). !
وَاتَّقُوا اللَّهَ.
أي: واجعَلوا بَيْنَكم وبيْنَ سَخَطِ اللهِ وعَذابِه وِقايةً [377] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/547)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/112). .
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
أي: إنَّ اللهَ ذو خِبرةٍ بالِغةٍ تامَّةٍ بجَميعِ أعمالِكم؛ ظاهِرِها وباطِنِها، وسيُجازيكم عليها [378] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/547)، ((تفسير ابن كثير)) (8/77)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/459). .
ثمَّ ضرَب لهم الأمثالَ تحذيرًا وإنذارًا، فقال [379] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (28/53). :
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19).
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ.
أي: ولا تَكونوا كالَّذين غَفَلوا عن ذِكرِ اللهِ، والقيامِ بحَقِّه وطاعتِه؛ فأنساهم اللهُ أنفُسَهم؛ عُقوبةً لهم، فلم يُقَدِّموا لها خَيرًا يَنفَعُها، أو أمرًا يُصلِحُها، فضَيَّعوها [380] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/284)، ((تفسير ابن جرير)) (22/548)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/348-353)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 70، 103، 104)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (4/1481)، ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 46)، ((تفسير ابن كثير)) (8/77)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/459، 460)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/112، 113). قال ابن القيِّم: (نهى أن يَتشَبَّهَ عِبادُه المؤمنونَ بمَن نَسِيَه بتَرْكِ تَقْواه، وأخبَر أنَّه عاقَب مَن ترَك التَّقْوى بأنْ أنساه نفْسَه، أي: أنساه مصالِحَها، وما يُنجيها مِن عذابِه، وما يوجِبُ له الحياةَ الأبَديَّةَ، وكمالَ لَذَّتِها وسُرورِها ونعيمِها، فأنساه اللهُ ذلك كلَّه جزاءً لِما نَسِيَه مِن عَظَمتِه وخَوفِه، والقيامِ بأمْرِه). ((الجواب الكافي)) (ص: 70). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/348 - 353). وقال أيضًا: (هؤلاء نَسُوا نُفوسَهم لا مِن جميعِ الوُجوهِ، بل مِنَ الوَجهِ الَّذي به مَصالِحُها وكمالُها وسعادتُها، وإن لم يَنسَوها مِن الوَجهِ الَّذي منه شَهوتُها وحَظُّها وإرادتُها، فأنساهم مَصالِحَ نُفوسِهم أن يَفعَلوها ويَطلُبوها، وعُيوبَها ونقائِصَها أن يُزيلوها ويجتَنِبوها، وكمالَها الَّذي خُلِقَت له أن يَعرِفوه ويَطلُبوه؛ فهم جاهِلونَ بحقائِقِ أنفُسِهم مِن هذه الوُجوهِ، وإن كانوا عالِمينَ بها مِن وُجوهٍ أُخَرَ). ((الروح)) (ص: 212). ويُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/86)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 135). وقال ابن تيميَّة: (ونِسيانُهم أنفُسَهم يَتضَمَّنُ إعراضَهم وغفلتَهم، وعدَمَ مَعرفتِهم بما كانوا عارِفينَ به قبْلَ ذلك مِن حالِ أنفُسِهم، كما أنَّه يَقتضي تَرْكَهم لِمَصالِحِ أنفُسِهم؛ فهو يَقتضي أنَّهم لا يَذكُرون أنفُسَهم ذِكرًا يَنفَعُها ويُصلِحُها، وأنَّهم لو ذكَروا اللهَ لَذَكَروا أنفُسَهم). ((مجموع الفتاوى)) (16/348 - 353). وقال ابن جُزَي: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ يعني: الكُفَّارَ، والنِّسيانُ هنا يحتمِلُ أن يكونَ بمعنى التَّرْكِ أو الغَفْلةِ، أي: نَسُوا حقَّ اللهِ، فأنساهم حُقوقَ أنفُسِهم والنَّظَرَ لها). ((تفسير ابن جزي)) (2/362). .
أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
أي: أولئك الَّذين نَسُوا اللهَ، فأنساهم أنفُسَهم: هم الخارِجونَ عن طاعةِ اللهِ إلى مَعصيتِه [381] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/548)، ((تفسير القرطبي)) (18/43)، ((تفسير ابن كثير)) (8/77)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/114). قال ابن عاشور: (فالفاسِقونَ هم الآتُونَ بفواحِشِ السَّيِّئاتِ ومَساوئِ الأعمالِ، وأعظَمُها الإشراكُ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/114). .
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أرشَد المؤمنينَ إلى ما هو مَصلَحتُهم يومَ القيامةِ بقولِه: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: 18] ، وهدَّد الكافِرين بقولِه: كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر: 19] ؛ بيَّن الفَرقَ بيْنَ الفَريقَينِ [382] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/511، 512). ، فقال:
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ.
أي: لا يَستوي أهلُ النَّارِ وأهلُ الجنَّةِ في الفَضلِ والرُّتبةِ والجَزاءِ عِندَ اللهِ [383] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/548)، ((تفسير القرطبي)) (18/44)، ((تفسير ابن كثير)) (8/78)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853). قال البقاعي: (لَا يَسْتَوِي أي: بوَجْهٍ مِن الوُجوهِ أَصْحَابُ النَّارِ الَّتي هي محلُّ الشَّقاءِ الأعظَمِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ الَّتي هي دارُ النَّعيمِ الأكبَرِ؛ لا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ). ((نظم الدرر)) (19/461). وقال القرطبي: (قولُه تعالى: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أي: في الفضلِ والرُّتبةِ). ((تفسير القرطبي)) (18/44). وقال ابن كثير: (لا يَستوي هؤلاء وهؤلاء في حُكمِ الله يومَ القيامةِ، كما قال: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] ، وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ الآيةَ [غافر: 58]، وقال: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28]، في آياتٍ أُخَرَ دالَّاتٍ على أنَّ اللهَ سُبحانَه يُكرِمُ الأبرارَ، ويُهينُ الفُجَّارَ). ((تفسير ابن كثير)) (8/78). .
كما قال تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 18 - 20].
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ.
أي: أهلُ الجنَّةِ هم وَحْدَهم النَّاجُونَ مِن العَذابِ، الظَّافِرونَ بالثَّوابِ [384] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/548)، ((تفسير القرطبي)) (18/44)، ((تفسير ابن كثير)) (8/78)، ((تفسير الشوكاني)) (5/245)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853). .
كما قال الله وتعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران: 185] .
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى لعِبادِه ما بَيَّنَ، وأمَرَهم ونهاهم في كتابِه العزيزِ؛ كان هذا مُوجِبًا لأنْ يُبادِروا إلى ما دعاهم إليه، وحَثَّهم عليه، ولو كانوا في القَسْوةِ وصَلابةِ القُلوبِ كالجِبالِ الرَّواسي؛ فإنَّ هذا القُرآنَ لو أنزَلَه على جَبَلٍ لَرأَيْتَه خاشِعًا متَصَدِّعًا مِن خَشيةِ اللهِ [385] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 853). .
وأيضًا لَمَّا حذَّر المسلِمينَ مِن الوُقوعِ في مَهْواةِ نِسيانِ اللهِ الَّتي وقَعَ فيها الفاسِقون، وتوعَّد الَّذين نَسُوا اللهَ بالنَّارِ، وبيَّن حالَهم بأنَّ الشَّيطانَ سوَّلَ لهم الكفْرَ، وكان القرآنُ دالًّا على مَسالكِ الخَيرِ، ومُحذِّرًا مِن مَسالكِ الشَّرِّ، وما وقَعَ الفاسِقون في الهَلَكةِ إلَّا مِن جَرَّاءِ إهمالِهم التَّدبُّرَ فيه، وذلك مِن نِسيانِهم اللهَ تَعالى؛ انتقَلَ الكلامُ إلى التَّنويهِ بالقرآنِ وهَدْيِه البيِّنِ الَّذي لا يَصرِفُ النَّاسَ عنه إلَّا أهْواؤُهم ومُكابَرتُهم، وكان إعراضُهم عنه أصلَ استِمرارِ ضَلالِهم وشِركِهم- ضرَبَ لهم هذا المثَلَ تَعجيبًا مِن تَصلُّبِهم في الضَّلالِ [386] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/115، 116). .
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.
أي: لو أنزَلْنا هذا القُرآنَ على أيِّ جَبَلٍ مِن الجِبالِ، فسَمِعَ كَلامَ اللهِ وفَهِمَه؛ لَرأيتَه في حالِ خُضوعٍ وذُلٍّ، وفي غايةِ التَّشَقُّقِ؛ لشِدَّةِ خَوفِه مِنَ اللهِ تعالى، رَغْمَ قَساوتِه وصلابتِه؛ وذلك لكمالِ تأثيرِ معاني القرآنِ العَظيمِ [387] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/549)، ((تفسير القرطبي)) (18/44)، ((تفسير ابن كثير)) (8/78، 79)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/461، 462)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/116، 117). قال ابنُ كثير: (فكيف يَليقُ بكم -أيُّها البَشَرُ- ألَّا تَلينَ قُلوبُكم وتَخشَعَ، وتتصَدَّعَ مِن خَشيةِ اللهِ، وقد فَهِمتُم عن اللهِ أمْرَه، وتدبَّرتُم كِتابَه؟!). ((تفسير ابن كثير)) (8/78). .
قال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 74] .
وقال سُبحانَه: وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى [الرعد: 31] .
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
أي: وتلك الأمثالُ المَضروبةُ في القُرآنِ نَذكُرُها للنَّاسِ؛ لعَلَّهم يَتفَكَّرونَ فيها، فيَعتَبِرونَ بها ويتَّعِظونَ [388] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/550)، ((تفسير السمرقندي)) (3/432)، ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/298)، ((تفسير السعدي)) (ص: 854). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ فيه حَثٌّ على تقوى اللهِ [389] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/49). ، وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ في مجيءِ قَدَّمَتْ بصِيغةِ الماضي حَثٌّ على الإسراعِ في العَملِ، وعدَمِ التَّأخيرِ؛ لأنَّه لم يَملِكْ إلَّا ما قدَّمَ في الماضي، والمُستقبَلُ ليس بيَدِه، ولا يَدري ما يكونُ فيه: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا [390] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/54). [لقمان: 34] .
2- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وُجوبُ محاسَبةِ النَّفْسِ [391] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/84). . والآيةُ أصلٌ في محاسَبةِ العَبدِ نَفْسَه، وأنَّه يَنبغي له أن يتفَقَّدَها؛ فإنْ رأى زَلَلًا تَدارَكَه بالإقلاعِ عنه، والتَّوبةِ النَّصوحِ، والإعراضِ عن الأسبابِ الموصِلةِ إليه، وإنْ رأى نَفْسَه مُقَصِّرًا في أمرٍ مِن أوامِرِ اللهِ، بَذَل جُهدَه واستعان برَبِّه في تكميلِه وتتميمِه وإتقانِه، ويقايِسُ بيْن مِنَنِ اللهِ عليه وإحسانِه، وبيْنَ تَقصيرِه؛ فإنَّ ذلك يُوجِبُ له الحَياءَ بلا مَحالةٍ.
والحِرمانُ كُلُّ الحِرمانِ أن يَغفُلَ العبدُ عن هذا الأمرِ، ويُشابِهَ قَومًا نَسُوا اللهَ، وغَفَلوا عن ذِكرِه والقيامِ بحَقِّه، وأقبَلوا على حُظوظِ أنفُسِهم وشَهَواتِها؛ فلم يَنجَحوا، ولم يَحصُلوا على طائِلٍ، بل أنساهم اللهُ مصالحَ أنفُسِهم، وأغفَلَهم عن منافِعِها وفوائِدِها، فصار أمرُهم فُرُطًا، فرَجَعوا بخَسارةِ الدَّارَينِ، وغُبِنوا غَبنًا لا يُمكِنُهم تَدارُكُه، ولا يُجبَرُ كَسرُه؛ لأنَّهم هم الفاسِقونَ الَّذين خرَجوا عن طاعةِ رَبِّهم، وأوضَعوا في معاصيه، فهل يَستوي مَن حافَظَ على تقوى اللهِ ونَظَر لِما قدَّم لغَدِه، فاستحَقَّ جَنَّاتِ النَّعيمِ والعَيشَ السَّليمَ مع الَّذين أنعَمَ اللهُ عليهم مِن النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ، ومَن غفَل عن ذِكرِ اللهِ، ونَسِيَ حُقوقَه؛ فشَقِيَ في الدُّنيا، واستحَقَّ العذابَ في الآخِرةِ؛ فالأوَّلونَ هم الفائِزونَ، والآخِرونَ هم الخاسِرونَ [392] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 853). ؟!
3- قال تعالى: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ جعَلَ اللهُ تعالى يومَ القيامةِ في القُربِ بمَنزِلةِ الغَدِ؛ تَهييجًا لِدَواعي العبادِ على الاستِعدادِ له، والعملِ مِن أجْلِه، كما قرَّب زمَنَ إهلاكِ القُرونِ الماضيةِ فقال: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يونس: 24] ؛ لِيَكونَ ذلك في جهةِ الاعتِبارِ والادِّكارِ كأنَّه بالنِّسبةِ إلى يَومِهم الحاضِرِ أمْسِهم الذَّاهِبُ؛ فإنَّه أبْلَغُ في المَوعِظةِ والتَّخويفِ [393] يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (8/72). .
4- قولُه تعالَى: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ تَنبيهٌ للنَّاسِ، وإيذانٌ لهم بأنَّهم لفَرْطِ غَفلتِهم وقِلَّةِ فِكرِهم في العاقِبةِ، وتَهالُكِهم على إيثارِ العاجِلةِ، واتِّباعِ الشَّهواتِ؛ كأنَّهم لا يَعرِفون الفرْقَ بيْن الجنَّةِ والنَّارِ، والبَونَ العظيمَ بيْن أصحابِهما، وأنَّ الفوزَ مع أصحابِ الجنَّةِ، فمِن حقِّهم أنْ يُعلَموا ذلك، ويُنبَّهوا عليه [394] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/508). .
5- قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حثَّ على تأمُّلِ مَواعِظِ القُرآنِ، وبَيَّنَ أنَّه لا عُذْرَ في تَركِ التَّدَبُّرِ؛ فإنَّه لو خُوطِبَ بهذا القُرآنِ الجِبالُ مع تركيبِ العَقلِ فيها، لَانقادت لِمَواعِظِه، ولَرأيتَها على صلابتِها ورزانتِها خاشِعةً متصَدِّعةً [395] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/44). ! فالغرضُ تَوبيخُ الإنسانِ على قَسْوةِ قلْبِه، وقِلَّةِ خشوعِه عندَ تِلاوةِ القُرآنِ، وإعراضِه عن تَدبُّرِ آياتِه، والتَّفكُّرِ في عجائبِ ما صُرِّف فيه مِن الوعدِ والوعيدِ [396] يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (8/74). .
6- قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هذه الجِبالُ -وهي الحِجارةُ الصُّلبةُ- قد أخبَرَ عنها فاطِرُها وباريها أنَّه لو أنزَلَ عليها كلامَه لخَشَعت ولتصَدَّعَت من خَشيةِ اللهِ.
فيا عَجَبًا مِن مُضغةِ لَحمٍ أَقسى مِن هذه الجِبالِ! تَسمَعُ آياتِ اللهِ تُتلَى عليها، ويُذكَرُ الرَّبُّ تبارك وتعالى، فلا تَلينُ ولا تَخشَعُ ولا تُنيبُ؛ فليس بمُستَنكَرٍ على اللهِ عزَّ وجَلَّ، ولا يُخالِفُ حِكمتَه: أن يَخلُقَ لها نارًا تُذيبُها؛ إذ لم تَلِنْ بكلامِه وذِكْرِه، وزواجِرِه ومَواعِظِه، فمَن لم يَلِنْ لله في هذه الدَّارِ قَلْبُه، ولم يُنِبْ إليه، ولم يُذِبْه بحُبِّه والبكاءِ مِن خَشيتِه؛ فلْيَتمتَّعْ قليلًا؛ فإنَّ أمامَه المُليِّنَ الأعظَمَ، وسيُرَدُّ إلى عالِمِ الغَيبِ والشَّهادةِ، فيَرى ويَعلَمُ [397] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/221). !
7- في قَولِه تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أنَّ مِن أسبابِ لِينِ القَلبِ قراءةَ القُرآنِ الكريمِ؛ فإنَّه يُلَيِّنُ القَلبَ إذا قَرَأَه الإنسانُ بتدَبُّرٍ وتَمعُّنٍ [398] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (12/19). .
8- في قَولِه تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ الحَضُّ على تَدَبُّرِ القرآنِ وفِقْهِه وعَقْلِه، والتَّذَكُّرِ به والتَّفَكُّرِ فيه [399] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/306). . قال الحسَنُ: (يا ابْنَ آدَمَ، إذا وَسْوَسَ لك الشَّيطانُ بخطيئةٍ أو حدَّثتَ بها نفْسَك، فاذكُرْ عندَ ذلك ما حمَّلك اللهُ مِن كتابِه ممَّا لو حملَتْه الجبالُ الرَّواسي لَخَشعَتْ وتصَدَّعتْ، أمَا سمِعتَه يقولُ: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ؛ فإنَّما ضرَب لك الأمثالَ لِتَتفكَّرَ فيها، وتَعتبِرَ بها، وتَزدَجِرَ عن معاصي الله عزَّ وجلَّ، وأنت يا ابْنَ آدَمَ أحقُّ أن تَخشَعَ لِذِكْرِ الله، وما حمَّلك مِن كتابِه، وآتاك مِن حِكمةٍ؛ لأنَّ عليك الحسابَ، ولك الجنَّةَ أو النَّارَ) [400] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/298). .
9- قال اللهُ تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أخبَرَ تعالى أنَّه يَضرِبُ للنَّاسِ الأمثالَ، ويُوضِّحُ لعبادِه في كتابِه الحلالَ والحرامَ؛ مِن أجْلِ أن يتفَكَّروا في آياتِه ويَتدَبَّروها؛ فإنَّ التَّفَكُّرَ فيها يَفتَحُ للعَبدِ خزائِنَ العِلمِ، ويُبَيِّنُ له طرُقَ الخَيرِ والشَّرِّ، ويَحُثُّه على مَكارِمِ الأخلاقِ، ومحاسِنِ الشِّيَمِ، ويَزجُرُه عن مَساوي الأخلاقِ؛ فلا أنفَعَ للعَبدِ مِن التَّفَكُّرِ في القُرآنِ، والتَّدَبُّرِ لِمَعانيه [401] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 854). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ فيه سؤالٌ: (الغَدُ): اليَومُ الَّذي يَعقُبُ لَيلتَك، فكيف أُطلِقَ على يومِ القيامةِ؟
أجابوا عن ذلك مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: لَمَّا كان أمرُ القيامةِ كائِنًا لا مَحالةَ، عَبَّرَ عنه بالغَدِ، وهو اليومُ الَّذي يَلِي يَومَك، على سَبيلِ التَّقريبِ.
الوَجهُ الثَّاني: عبَّرَ عن الآخِرةِ بالغَدِ، كأنَّ الدُّنيا والآخِرةَ نهارانِ: يومٌ، وغَدٌ [402] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/148). .
الوَجهُ الثَّالِثُ: يحتَمِلُ أن يريدَ بقَولِه لِغَدٍ: ليَومِ الموتِ؛ لأنَّه لكُلِّ إنسانٍ كغَدِه [403] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/291). .
الوَجهُ الرَّابعُ: الغَدُ له معنيانِ: اليومُ الَّذي يَعقُبُ ليلتَك، ومُطلَقُ الزَّمانِ المُستَقبَلُ [404] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 559). ، فاللُّغةُ العربيَّةُ واسِعةٌ، تقولُ: غدًا لليَومِ الَّذي يَلي يومَك، وتقولُ غدًا لليَومِ الَّذي بعدَ يَومِك بآلافِ السِّنينَ، فقولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ يعني بـ «غَدٍ» يومَ القيامةِ، وبَيْنَك وبيْنَه مَسافاتٌ اللهُ أعلمُ بها، كذلك الأمسُ؛ فإنَّ اللُّغةَ العربيَّةَ واسعةٌ، قد يُرادُ بالأمسِ ما قَبْلَ يومِك المباشرِ، وقد يُرادُ به ما قبْلَ يومِك بزَمَنٍ بعيدٍ [405] يُنظر: ((اللقاء الشهري)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 22). .
2- في قَولِه تعالى: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ حُجَّةٌ واضحةٌ لِمَن أراد المُبالَغةَ في وَصْفِ شيءٍ أنْ يُبالِغَ فيه، ولا يكونُ كاذِبًا ولا آثمًا؛ لأنَّ اللهَ جلَّ جلالُه سمَّى الآخرةَ بـ «غَدٍ» كما ترى، وبَيْنَ نزولِ الآيةِ وبيْنَها دهرٌ طويلٌ [406] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/261). .
3- في قَولِه تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أنَّ الاعتِرافَ بالخالقِ عِلمٌ ضَروريٌّ لازِمٌ للإنسانِ، لا يَغفُلُ عنه أحدٌ بحيثُ لا يَعرِفُه، بل لا بُدَّ أنْ يكونَ قد عَرَفَه وإنْ قُدِّرَ أنَّه نَسِيَه؛ ولهذا يُسمَّى التَّعريفُ بذلك تذكيرًا؛ فإنَّه تذكيرٌ بعُلومٍ فِطريَّةٍ ضَروريَّةٍ قد يَنساها العَبدُ [407] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (8/489). .
4- في قَولِه تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ الجزاءُ بالمعاصي على المعاصي، وكقَولِه تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] [408] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 161). . فقولُه: فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ هذا مِن المُجازاةِ على الذَّنْبِ بالذَّنبِ؛ عُوقِبوا على نِسيانِ جِهةِ اللهِ تعالى، بأن أنساهم أنفُسَهم [409] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/148). !
5- في قَولِه تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أنَّ مَن عَرَفَ اللهَ عَرَفَ ما سِواه، ومَن جَهِلَ ربَّه فهو لِمَا سِواهُ أجهَلُ؛ فتأمَّلْ هذه الآيةَ تَجِدْ تَحتَها معنًى شَريفًا عَظيمًا، وهو أنَّ مَن نَسِيَ ربَّه أنساه ذاتَه ونفْسَه، فلم يَعرِفْ حقيقتَه ولا مَصالِحَه، بل نَسِيَ ما به صلاحُه وفَلاحُه في مَعاشِه ومَعادِه؛ فصار مُعَطَّلًا مُهمَلًا بمَنزِلةِ الأنعامِ السَّائمةِ، بل رُبَّما كانتِ الأنعامُ أَخْبَرَ بمَصالحِها منه؛ لبَقائِها على هُداها التَّامِّ الَّذي أعطاها إيَّاه خالقُها، وأمَّا هذا فخَرَجَ عن فِطرتِه الَّتي خُلِقَ عليها، فنَسِيَ ربَّه، فأنساه نفْسَه وصِفاتِها وما تَكمُلُ به، وتَزكو به، وتَسْعَدُ به في مَعاشِها ومَعادِها [410] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/86). .
6- في قَولِه تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أنَّ مَن أضاعَ اللهَ -أي: أضاع دِينَ اللهِ-، فإنَّ اللهَ يُضَيِّعُه ولا يَحفَظُه [411] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) لابن عثيمين (ص: 204). .
7- في قَولِه تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أنَّ مِن عُقوبةِ المعصيةِ أنَّها تُنسي العبدَ نفْسَه، وإذا نَسِيَ نفْسَه أهمَلَها وأفسَدَها وأهلَكَها [412] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 103). .
8- في قَولِه تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أنَّ دوامَ ذِكرِ الرَّبِّ تبارك وتعالى يُوجِبُ الأمانَ مِن نِسيانِه الَّذي هو سَبَبُ شَقاءِ العَبدِ في مَعاشِه ومَعادِه [413] يُنظر: ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 46). .
9- قوله تعالى: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَقتضي نَفْيَ مُطلَقِ المُساواةِ بيْنَ المُسلمِ والكافرِ، لا نفْيَ المُساواةِ المُطلَقةِ؛ فإنَّها مُنتَفيةٌ عن كلِّ شيئينِ وإنْ تماثَلَا، وبهذه الآيةِ احتجَّ مَن نفى القِصاصَ بيْنَ أهلِ الذِّمَّةِ وبيْنَ المسلِمينَ [414] يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (1/593). ، ومَن قال: إنَّ المسلِمَ لا يُقتَلُ بالذِّمِّيِّ [415] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/512). وهو مذهبُ الشَّافعيَّةِ والحنابلةِ. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (7/136) و(31/342).  .
10- نفْيُ التَّساوي في كتابِ الله تعالى قد يأتي بيْنَ الفِعلَينِ، كقولِه تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 19] ، وقد يأتي بيْنَ الفاعِلَينِ، نحو: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ [النساء: 95] ، وقد يأتي بيْن الجَزاءَينِ، كقولِه: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وقد جمَع اللهُ بيْن الثَّلاثةِ في موضعٍ واحدٍ، وهو قولُه تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [فاطر: 19 - 22] ؛ فالأعمى والبصيرُ: الجاهلُ والعالِمُ، والظُّلماتُ والنُّورُ: الكفرُ والإيمانُ، والظِّلُّ والحَرورُ: الجنَّةُ والنَّارُ، والأحياءُ والأمواتُ: المؤمنونَ والكفَّارُ [416] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/8، 9). .
11- قَولُ اللهِ تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فيه سُؤالٌ: كيف يكونُ هذا تأثيرَ القُرآنِ لو أُنزِلَ على الجِبالِ، ولم تتأثَّرْ به القُلوبُ؟
الجوابُ: أجاب القُرآنُ عن ذلك في قَولِه تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: 74] ، وكذلك أَصَمُّوا آذانَهم عن سَماعِه، وغَلَّفوا قُلوبَهم بالكُفرِ عن فَهْمِه، وأَوْصَدوها بأقْفالِها، فقالوا: قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة: 88] ، وكذلك قَولُه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا [الكهف: 57] ، أي: بسَبَبِ الإعراضِ، وعَدَمِ التَّدَبُّرِ، والنِّسيانِ [417] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/63). .
12- في قَولِه تعالى: لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ دَلالةٌ على أنَّ للجَبَلِ إحساسًا؛ لأنَّه يَخشَعُ ويَتصَدَّعُ، والأمرُ كذلك؛ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أُحُدٍ: ((هذا أحُدٌ، جَبَلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه)) [418] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/373). والحديث أخرجه البخاريُّ (4422)، ومسلمٌ (1392) مِن حديثِ أبي حُمَيدٍ السَّاعديِّ رضيَ الله عنه. .
13- قال اللهُ تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ضَربُ الأمثالِ في القرآنِ يُستفادُ منه أمورٌ: التَّذكيرُ والوَعظُ، والحَثُّ والزَّجرُ، والاعتبارُ والتَّقريرُ، وتقريبُ المرادِ للعَقلِ، وتَصويرُه في صورةِ المحسوسِ، بحيثُ يكونُ نِسبَتُه للعَقلِ كنِسبةِ المحسوسِ إلى الحِسِّ. وقد تأتي أمثالُ القُرآنِ مُشتَمِلةً على بيانِ تَفاوُتِ الأجرِ على المَدحِ والذَّمِّ، وعلى الثَّوابِ والعِقابِ، وعلى تفخيمِ الأمرِ أو تحقيرِه، وعلى تحقيقِ أمرٍ وإبطالِ أمرٍ. واللهُ أعلَمُ [419] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/9). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
- قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ تَنكيرُ النَّفْسِ لاستِقلالِ -أي: لتَقليلِ- الأنفُسِ النَّواظِرِ فيما قدَّمْن للآخِرةِ، وتَنكيرُ (الغَدِ)؛ لتَعظيمِه وإبهامِ أمْرِه، كأنَّه قِيل: لغَدٍ لا يُعرَفُ كُنْهُه لِعِظَمِه، وأصلُ الكلامِ: يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقوا اللهَ وانْظُروا ما تُقدِّموا لأنفُسِكم ليَومِ القِيامةِ؛ فوُضِعَ مَوضِعَ الضَّميرِ نَفْسٌ مَنكورةً؛ تقليلًا لها، وتَقريعًا على قِلَّةِ نَظَرِها في العاقِبةِ، وأُقِيمَ مُقامَ يومِ القيامةِ (غَد) مَنْكورًا؛ تَهويلًا، كأنَّه قِيل: فلْتَنظُرْ نفْسٌ واحدةٌ لذلك اليَومِ الهَولِ [420] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- مع حاشية ابن المنير)) (1/396)، (4/508)، ((تفسير البيضاوي)) (5/202)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/339، 340)، ((تفسير أبي حيان)) (10/ 148)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 559)، ((تفسير أبي السعود)) (8/232)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/55). .
وقيل: ذِكرُ كَلمةِ نَفْسٌ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لأنَّ مُقْتضى الظَّاهرِ: وانْظُروا ما قدَّمْتُم؛ فعُدِلَ عن الإظهارِ لقَصْدِ العمومِ، أي: لِتَنْظُروا وتَنظُرْ كلُّ نفْسٍ. وتَنكيرُ نَفْسٌ يُفيدُ العُمومَ في سِياقِ الأمرِ، أي: لِتَنظُرْ كلُّ نفْسٍ، وإنَّما لم يُعرَّفْ بلامِ التَّعريفِ تَنصيصًا على العُمومِ؛ لئلَّا يُتوهَّمَ نفْسٌ مَعهودةٌ [421] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/110، 111). .
- و(التَّقديمُ) مُعبَّرٌ به هنا عن العمَلِ الَّذي يُعمَلُ لتَحصيلِ فائدتِه في زمَنٍ آتٍ؛ شُبِّهَ قصْدُ الانتِفاعِ به في المُستقبَلِ بتَقديمِ مَن يَحُلُّ في المَنزِلِ قبْلَ وُرودِ السَّائرينَ إليه مِن جَيشٍ أو سَفَرٍ ليُهيِّئَ لهم ما يُصلِحُ أمْرَهم، ومنه مُقدِّمةُ الجَيشِ، وتَقديمُ الرَّائدِ قبْلَ القافلةِ [422] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/111). .
- قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إعادةُ وتَكرُّرُ الأمرِ بالتَّقْوى في قولِه: وَاتَّقُوا اللَّه؛ ليُبْنى عليه إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، فيَحصُلَ الرَّبطُ بيْن التَّعليلِ والمُعلَّلِ؛ إذ وقَعَ بيْنَهما فصْلٌ بـ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، وإنَّما أُعِيدَ بطَريقِ العطْفِ لزِيادةِ التَّأكيدِ؛ وذلك أنَّ في العطفِ إيهامَ أنْ يكونَ التَّوكيدُ يُجعَلُ كالتَّأسيسِ؛ لزِيادةِ الاهتمامِ بالمُؤكَّدِ. أو كُرِّرَ الأمرُ بالتَّقْوى لاختلافِ مُتعلَّقِ التَّقْوى؛ فالأُولى في أداءِ الفرائضِ؛ لأنَّه مُقترِنٌ بالعمَلِ، والثَّانيةُ في ترْكِ المعاصي؛ لأنَّه مُقترِنٌ بالتَّهديدِ والوعيدِ.
ويجوزُ أنْ يكونَ اتَّقُوا اللَّهَ المذكورُ أوَّلًا مُرادًا به التَّقوى بمعْنى الخَوفِ مِن اللهِ، وهي الباعثةُ على العملِ؛ ولذلك أُردِفَ بقولِه: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، ويكونَ اتَّقُوا اللَّهَ المذكورُ ثانيًا مُرادًا به الدَّوامُ على التَّقوى الأُولى، أي: ودُوموا على التَّقوى؛ ولذلك أُردِفَ بقولِه: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، أي: بمِقدارِ اجتِهادِكم في التَّقوى، وأُردِفَ بقولِه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر: 19] ، أي: أهْمَلوا التَّقْوى بعْدَ أنْ تَقلَّدُوها [423] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/508)، ((تفسير البيضاوي)) (5/202)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/339)، ((تفسير أبي حيان)) (10/148)، ((تفسير أبي السعود)) (8/ 232)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/112). .
وقيل: التَّقْوى الأُولى لإيجادِ صُوَرِ الأعمالِ، والثَّانيةُ لتَصفيتِها وتزكيةِ أرواحِها؛ ولذلك عَلَّل بقَولِه مُرَغِّبًا مُرَهِّبًا: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [424] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/458). .
وقيل: الأمرُ بتقوى اللهِ أوَّلًا بالنِّسبةِ لِما مضى وسبَقَ مِن عَمَلٍ تقَدَّمَ بالفِعْلِ، ويكونُ النَّظَرُ بمعنى المحاسَبةِ والتَّأَمُّلِ، فإذا ما نَظَر في الماضي وحاسَبَ نَفْسَه، وعَلِمَ ما كان مِن تقصيرٍ أو وُقوعٍ في محظورٍ، جاءه الأمرُ الثَّاني بتقوى اللهِ لِما يَستَقبِلُ مِن عَمَلٍ جديدٍ، ومُراقَبةِ اللهِ تعالى عليه وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فلا يكونُ هناك تَكرارٌ، ولا يكونُ تَوزيعٌ [425] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/54). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ تَعليلٌ للحثِّ على تَقْوى اللهِ، ومَوقعُ (إنَّ) فيها مَوقعُ التَّعليلِ [426] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/112). .
- وفي قولِه: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ إظهارُ اسمِ الجَلالةِ في مَقامِ الإضمارِ، فتَكونُ الجُملةُ مُستقِلَّةً بدَلالتِها أتمَّ استقلالٍ، فتَجْري مَجْرى الأمثالِ، ولتَربيةِ المَهابةِ في نفْسِ المُخاطَبينَ [427] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/112). .
2- قولُه تعالَى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
- قولُه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ جِيءَ في النَّهيِ بنَهْيِهم عن حالةِ قَومٍ تَحقَّقت فيهم هذه الصِّلةُ؛ ليَكونَ النَّهيُ عن إضاعةِ التَّقوى مُصَوَّرًا في صُورةٍ مَحسوسةٍ هي صُورةُ قَومٍ تَحقَّقت فيهم تلك الصِّلةُ، وهم الَّذين أعْرَضوا عن التَّقوى [428] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/112، 113). .
- قولُه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ قيل: ظاهرُ الموصولِ أنَّه لطائفةٍ مَعهودةٍ، فيحتملُ أنْ يُرادَ بـ (الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ) المنافِقون؛ لأنَّهم كانوا مُشرِكين ولم يَهتَدُوا للتَّوحيدِ بهُدى الإسلامِ، فعُبِّرَ عن النِّفاقِ بنِسيانِ اللهِ؛ لأنَّه جهْلٌ بصِفاتِ اللهِ مِن التَّوحيدِ والكمالِ، وعبَّرَ عنهم بالفاسِقِينَ قولُه تَعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة: 67] ؛ فتَكونَ هذه الآيةُ ناظِرةً إلى تلك. ويحتملُ أنْ يكونَ المرادُ بهم اليهودَ؛ لأنَّهم أضاعوا دِينَهم، ولم يَقبَلوا رِسالةَ عِيسى عليه السَّلامُ، وكَفَروا بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فالمعْنى: نَسُوا دِينَ اللهِ ومِيثاقَه الَّذي واثَقَهم به، وقد أُطلِقَ نِسيانُهم على التَّرْكِ والإعراضِ عن عمْدٍ، أي: فنَسُوا دَلائلَ تَوحيدِ اللهِ، ودَلائلَ صِفاتِه، ودَلائلَ صِدقِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفَهْمِ كِتابِه، فالكلامُ بتَقديرِ حذْفِ مُضافٍ أو مُضافَينِ [429] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/113). .
- وإظهارُ اسمِ الجلالةِ في قولِه: كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ، دونَ أنْ يُقالَ: نَسُوه؛ لاستِفظاعِ هذا النِّسيانِ، فعُلِّقَ باسمِ اللهِ الَّذي خَلَقَهم وأرْشَدَهم [430] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/114). .
- وأشعَرَ فاءُ التَّسبُّبِ في فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ بأنَّ إنساءَ اللهِ إيَّاهم أنفُسَهم مُسبَّبٌ على نِسيانِهم اللهَ [431] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/113). .
- وجُملةُ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا لبَيانِ الإبهامِ الَّذي أفادَهُ قولُه: فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، كأنَّ السَّامعَ سأَلَ: ماذا كان إثرَ إنْساءِ اللهِ إيَّاهم أنفُسَهم؟ فأُجِيبَ بأنَّهم بَلَغوا بسَببِ ذلك مُنْتهى الفِسقِ في الأعمالِ السَّيِّئةِ حتَّى حقَّ عليهم أنْ يُقالَ: إنَّه لا فِسقَ بعْدَ فِسقِهم [432] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/114). .
- والقصْرُ المُستفادُ مِن ضَميرِ الفصْلِ في قولِه: أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ قصْرٌ ادِّعائيٌّ [433] القَصرُ أو الحَصرُ: في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحَقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمُبالَغةِ، بتنزيلِ غَيرِ المذكورِ مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. يُنظر: ((مِفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ للمُبالَغةِ في وصْفِهم بشِدَّةِ الفِسقِ، حتَّى كأنَّ فِسقَ غَيرِهم ليس بفِسقٍ في جانبِ فِسقِهم [434] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/114). .
- وأيضًا يُستفادُ عِظَمُ الفِسقِ مِن تَعريفِ الخَبرِ بلامِ الجِنسِ، أي: همُ الكامِلون في الفِسقِ [435] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/202)، ((تفسير أبي السعود)) (8/233). .
- واسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ للتَّشهيرِ بهم بهذا الوصْفِ [436] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/114). .
3- قولُه تعالَى: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ
- قولُه: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ تَذْييلٌ لجُملةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ... [الحشر: 18] إلخ؛ لأنَّه جامعٌ لخُلاصةِ عاقِبةِ الحالَينِ: حالِ التَّقْوى والاستِعدادِ للآخِرةِ، وحالِ نِسيانِ ذلك وإهمالِه، ولِكلَا الفَريقينِ عاقِبةُ عَمَلِه، ويَشملُ الفَريقينِ وأمثالَهم، والجُملةُ أيضًا فَذْلَكةٌ [437] الفَذْلَكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. والفَذْلَكةُ كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملةِ) و(الحَوقَلةِ)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلام، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قولِه: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لِما قبْلَها مِن حالِ المُتَّقينَ والَّذين نَسُوا اللهَ ونَسُوا أنفُسَهم؛ لأنَّ ذِكرَ مِثلِ هذا الكلامِ بعْدَ ذِكرِ أحوالِ المُتحدَّثِ عنه يكونُ في الغالبِ للتَّعريضِ؛ فمعْنى الآيةِ كِنايةٌ عن كَونِ المؤمنينَ همْ أصحابَ الجنَّةِ، وكَونِ الَّذين نَسُوا اللهَ همْ أهلَ النارِ، فتَضمَّنَت الآيةُ وعْدًا للمُتَّقينَ، ووَعيدًا للفاسِقِين [438] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/114). .
- وتَقديمُ أصحابِ النَّارِ في الذِّكرِ؛ للإيذانِ مِن أوَّلِ الأمرِ بأنَّ المقصورَ الَّذي يُنبِئُ عنه عدَمُ الاستِواءِ مِن جِهتِهِم لا مِن جِهةِ مُقابلِيهِم؛ فإنَّ مَفهومَ عدَمِ الاستواءِ بيْن الشَّيئينِ المُتفاوِتَينِ زِيادةً ونُقصانًا، وإنْ جازَ اعتِبارُه بحسَبِ زِيادةِ الزَّائدِ، لكنِ المُتبادِرُ اعتبارُه بحسَبِ نُقصانِ النَّاقصِ [439] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/233). ، وبيانُ ذلك أنَّ الفَرْقَ بيْن المتفاوتَينَ في الزِّيادةِ والنَّقصِ يمكنُ اعتبارُ التَّفاوُتِ بالنِّسبةِ إلى النَّقصِ في النَّاقصِ، ويمكن اعتبارُه بالنِّسبةِ إلى الزِّيادة في الزَّائدِ؛ فقدَّمَ الجانبَ النَّاقصَ ليُبيِّنَ أنَّ التَّفاوُتَ الَّذي حصَل بيْنَهما إنَّما هو بسَببِ النَّقصِ الَّذي جاء منهما، لا بسببِ الزِّيادةِ في الفريقِ الثَّاني، والنَّتيجةُ في ذلك عدمُ إمكانِ جانبِ النَّقصِ الاحتِجاجَ على جانبِ الزِّيادةِ. وفيه زيادةُ تأنيبٍ لجانبِ النَّقصِ [440] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/59). .
- وقيل: إنَّ الملوكَ إذا أرادُوا الجمْعَ بيْنَ الأشياءِ بالذِّكرِ قدَّموا الأدْنَى، والتَّقديمُ في الذِّكْرِ لا يَقتضي تشريفًا [441] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14 /349، 350). .
- والمُرادُ مِن نفْيِ الاستِواءِ في مِثلِ هذا الكنايةُ عن البَونِ بيْن الشَّيئينِ [442] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/115). .
- قولُه: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ استِئنافٌ مُبَيِّنٌ لكَيفيَّةِ عدَمِ الاستِواءِ بيْنَ الفَريقَينِ، أي: هُمُ الفائزونَ بكلِّ مَطلوبٍ، النَّاجون مِن كلِّ مَكروهٍ [443] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/233). .
- والقصرُ المُستفادُ مِن ضَميرِ الفصْلِ في قولِه تَعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ قصْرٌ ادِّعائيٌّ [444] القَصرُ أو الحَصرُ: في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحَقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمُبالَغةِ، بتنزيلِ غَيرِ المذكورِ مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. يُنظر: ((مِفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ لأنَّ فَوزَهم أبَديٌّ، فاعتُبِرَ فَوزُ غَيرِهم ببَعضِ أُمورِ الدُّنيا كالعدَمِ [445] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/115). .
4- قولُه تعالَى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ انتقَلَ الكلامُ إلى التَّنويهِ بالقرآنِ وهَدْيِه البيِّنِ، وفي هذا الانتِقالِ إيذانٌ بانتهاءِ السُّورةِ؛ لأنَّه انتِقالٌ بعْدَ طُولِ الكلامِ في غرَضِ فتْحِ قُرى اليهودِ وما يَنالُ المنافِقين مِن جَرَّائِه مِن خُسرانٍ في الدُّنيا والآخرةِ [446] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/115، 116). .
- فائدةُ الإتيانِ باسمِ إشارةِ القريبِ (هذا) في قولِه تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ ... التَّعريضُ لهم بأنَّ القُرآنَ غيرُ بَعيدٍ عنْهم، وأنَّه في مُتناوَلِهم، ولا كُلْفةَ عليهم في تَدبُّرِه، ولكنَّهم قَصَدوا الإعراضَ عنه [447] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/116). .
- والخِطابُ في لَرَأَيْتَهُ لغَيرِ مُعيَّنٍ؛ فيَعُمُّ كلَّ مَن يَسمَعُ هذا الكلامَ، والرُّؤيةُ بَصريَّةٌ، وهي مَنْفيَّةٌ لوُقوعِها جَوابًا لحرْفِ (لو) الامتناعيَّةِ، والمعْنى: لو كان كذلك لَرَأيتَ الجَبَلَ في حالةِ الخُشوعِ والتَّصدُّعِ [448] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/117). .
- وجُملةُ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ تَذييلٌ؛ لأنَّ ما قبْلَها سِيقَ مَساقَ المَثَلِ، فذُيِّلَ بأنَّ الأمثالَ الَّتي يَضرِبُها اللهُ في كَلامِه -مِثلَ هذا المثَلِ- أراد منها أنْ يَتفكَّروا، فإنْ لم يَتفكَّروا بها فقد سُجِّلَ عليهم عِنادُهم ومُكابرتُهم؛ فالإشارةُ بـ (تِلْكَ) إلى مَجموعِ ما مرَّ على أسْماعِهم مِن الأمثالِ الكثيرةِ، وتَقديرُ الكلامِ: ضَرَبْنا هذا مَثَلًا، وتلك الأمثالُ نَضرِبُها للنَّاسِ [449] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/117). .