موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيات (67-70)

ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ

غريب الكلمات:

وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ: أي: يُمسِكونَها عن الصَّدَقةِ والخَيرِ، وأصلُ (قبض): يدلُّ على شيءٍ مأخوذٍ، وتجمُّعٍ في شَيءٍ [1150] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 509)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/50)، ((المفردات)) للراغب (ص: 652)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 142)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 227). .
بِخَلَاقِهِمْ: أي: بنَصيبِهم في الدُّنيا، والخَلاقُ: النَّصيبُ والحظُّ من الخَيرِ [1151] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 59،190)، ((المفردات)) للراغب (ص: 297)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 142)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 101)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 438). .
وَخُضْتُمْ: أي: دَخَلْتُم في الباطِلِ [1152] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 155)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/229)، ((المفردات)) للراغب (ص: 302)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 97، 142)، ((تفسير أبي السعود)) (4/81). .
وَالْمُؤْتَفِكَاتِ: أي: مَدائِنِ قَومِ لُوطٍ؛ ائتَفَكَت بهم، أي: انقَلَبَت، وأصلُ (أفك): يدلُّ على قلبِ الشَّيءِ، وصَرفِه عن جِهَتِه [1153] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 190)، ((تفسير ابن جرير)) (11/555)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/118)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 142)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 227)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 882). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّ المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ هم صِنفٌ واحِدٌ مُتشابِهونَ في كُفرِهم ونِفاقِهم؛ يأمرونَ بالمُنكَرِ، وينهَوْنَ عن المعروفِ، ويُمسِكونَ أيديَهم عن إخراجِ ما يجِبُ عليهم من النَّفَقات، نَسُوا ذِكرَ اللهِ، فتَرَك هدايتَهم ورَحمتَهم، وأهمَلَهم وتخلَّى عنهم، ويترُكُهم مخلَّدِينَ في عذابِ جهنَّمَ في الآخرةِ، إنَّ المُنافقينَ هم الفاسِقونَ.
وعَدَ اللهُ المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ والكُفَّارَ نارَ جهنَّمَ، ماكثينَ فيها أبدًا، هي كافيةٌ لِعقابِهم، وأبعَدَهم اللهُ مِن رَحمتِه، ولهم عذابٌ دائِمٌ غيرُ مُنقطِعٍ.
ثمَّ وجَّه تعالى الخِطابَ للمُنافِقينَ والكُفَّارِ، فقال لهم: أنتم تعمَلونَ مثلَ أعمالِ مَن قَبلَكم مِن الأمَمِ، الذين كانوا أقوَى مِنكم، وأكثَرَ أموالًا وأولادًا منكم، فتمتَّعوا بنَصيبِهم المقَدَّرِ من الدُّنيا، مُؤْثِرينَ له على نعيمِ الآخرةِ، فتمَتَّعتُم أنتم بنَصيبِكم من الدُّنيا، وأعرَضْتُم عن الآخرةِ، كما فعَلَ الذين كَفَروا من قَبلِكم، وخُضتُم في الذي خاضُوا فيه، أولئك بطَلَت أعمالُهم في الدُّنيا والآخرةِ، وأولئك هم الخاسِرونَ.
ألمْ يأتِ هؤلاءِ المُنافِقينَ والكُفَّارَ خَبَرُ إهلاكِ اللهِ الأمَمَ الماضيةَ؛ قومِ نوحٍ وعادٍ، وثمودَ، وقَومِ صالحٍ، وأهلِ مَدينَ، وقَومِ لوطٍ الذين انقلبت بهم أرضُهم، فصار أعلاها أسفلَها، جاءتهم رسُلُهم بالمُعجِزاتِ الواضِحةِ، فكَذَّبوا الرُّسُلَ فأهلَكَهم اللهُ، فما كان اللهُ ليَظلِمَهم، ولكِنَّهم كانوا يَظلِمونَ أنفُسَهم بالكُفرِ والعِصيانِ وتكذيبِ الرُّسُلِ، فاستحقُّوا العُقوبةَ.

تفسير الآيات:

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها شَرحٌ لِنَوعٍ آخَرَ مِن أنواعِ فضائِحِ المنافقين وقبائِحِهم، والمقصودُ بيانُ أنَّ إناثَهم كذُكورِهم في تلك الأعمالِ المُنكَرةِ والأفعالِ الخَبيثةِ [1154] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/97). .
وأيضًا فهذه الآيةُ احتراسٌ عن أن يظُنَّ المنافِقونَ أنَّ العَفوَ المفروضَ لطائفةٍ منهم، هو عفوٌ يَنالُ فريقًا منهم باقينَ على نفاقِهم؛ فعَقَّبَ ذلك ببيانِ أنَّ النِّفاقَ حالةٌ واحدةٌ، وأنَّ أصحابَه سواءٌ؛ ليُعلَمَ بذلك أنَّ افتراقَ أحوالِهم بين عَفوٍ وعذابٍ، لا يكونُ إلَّا إذا اختلَفَت أحوالُهم بالإيمانِ، والبقاءِ على النِّفاقِ [1155] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/253). .
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ.
أي: المُنافِقونَ والمُنافِقات، الذين يُظهِرونَ للمُسلِمينَ الإيمانَ بألسِنَتِهم، ويُبطِنونَ الكُفرَ في قلوبِهم؛ هم صِنفٌ واحدٌ مُتشابِهونَ في كُفرِهم ونِفاقِهم، وأخلاقِهم وأغراضِهم، وبعضُهم أولياءُ بعضٍ [1156] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/548)، ((تفسير ابن عطية)) (3/56)، ((تفسير القرطبي)) (8/199)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/105)، ((تفسير السعدي)) (ص: 343)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/253، 254)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/621). .
يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ .
أي: المُنافِقونَ والمُنافِقاتُ يأمرونَ بما يُبغِضُه اللهُ ويُنكِرُه؛ من الكُفرِ والمعاصي، ويَنهونَ عن المعروفِ الذي يحِبُّه الله ويأمُرُ به؛ من الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ [1157] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/548)، ((تفسير ابن عطية)) (3/56)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/106)، ((تفسير السعدي)) (ص: 343)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/621). .
وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ.
أي: ويُمسِكُ المُنافِقونَ والمُنافِقاتُ أيديَهم عن إخراجِ زكاةِ أموالِهم، وعن كلِّ ما وجَبَ عليهم من النَّفَقاتِ، ومن ذلك الإنفاقُ في الجِهادِ [1158] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/548)، ((تفسير ابن عطية)) (3/56)، ((تفسير الرازي)) (16/97)، ((تفسير القرطبي)) (8/199)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/106 - 108)، ((تفسير ابن كثير)) (4/172)، ((تفسير السعدي)) (ص: 343)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/254)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/621). قال ابنُ تيمية: (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ قال مجاهد: «يقبِضُونَها عن الإنفاقِ في سبيلِ الله». وقال قتادة: «يقبضون أيديَهم عن كلِّ خيرٍ» فمجاهدٌ أشار إلى النَّفعِ بالمالِ، وقتادةُ أشار إلى النَّفع بالمالِ والبَدَن). ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/106-107). .
نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ.
أي: نَسِيَ المُنافِقونَ ذِكرَ اللهِ وتَرَكوا طاعَتَه، فتَرَك اللهُ هدايتَهم ورَحمَتَهم، وأهمَلَهم وتخلَّى عنهم، ويترُكُهم مخلَّدِينَ في عذابِ جهنَّمَ في الآخرةِ [1159] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/549)، ((تفسير ابن عطية)) (3/56)، ((تفسير القرطبي)) (8/199)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/108)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 132)، ((تفسير ابن كثير)) (4/172، 173)، ((فتح الباري)) لابن رجب (1/166)، ((تفسير السعدي)) (ص: 343). قال ابن القيم: (أي: تَرَكوا طاعةَ الله والإيمانَ بما جاء به رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتَرَكهم اللهُ مِن رحمَتِه، وهذا لا خلافَ فيه، ولا يجهَلُه من له أقَلُّ علمٍ بتأويلِ القُرآنِ). ((الصلاة)) (ص: 77). وقال القرطبي: (قال قتادة: فَنَسِيَهُمْ أي: من الخَيرِ، فأمَّا مِن الشَّرِّ، فلم ينْسَهم). ((تفسير القرطبي)) (8/199). .
كما قال تعالى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الجاثية: 34] .
وقال سبحانه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: 19] .
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
أي: إنَّ المُنافِقين هم الخارِجونَ عن طاعةِ اللهِ، والإيمانِ به سُبحانَه [1160] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/549)، ((البسيط)) للواحدي (10/543)، ((تفسير ابن عطية)) (3/56)، ((تفسير ابن كثير)) (4/173). .
وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى في المُنافِقين والمُنافِقاتِ أنَّه نَسِيَهم، أي: جازاهم على تَرْكِهم التمسُّكَ بطاعةِ الله؛ أكَّدَ هذا الوعيدَ، وضَمَّ المُنافِقين إلى الكُفَّارِ فيه، فقال تعالى [1161] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/98). :
وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا.
أي: وعَدَ اللهُ المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ وجميعَ الكُفَّارِ أنْ يُدخِلَهم نارَ جَهنَّمَ، ماكثينَ فيها أبدًا [1162] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/550)، ((تفسير ابن كثير)) (4/173)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/625). .
هِيَ حَسْبُهُمْ.
أي: نارُ جهنَّمَ كافيةٌ لعقابِ المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ والكُفَّارِ؛ جزاءً على نفاقِهم وكُفرِهم [1163] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/550)، ((البسيط)) للواحدي (10/543، 544)، ((تفسير ابن عطية)) (3/56)، ((تفسير ابن كثير)) (4/173)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/625). قال الزجاج: (أي كفايةُ ذُنُوبِهم، كما تقول: عذَّبْتُك حسبَ فِعْلِك، وحَسْبُ فُلانٍ ما نَزَل به، أي: ذلك على قَدْر فِعلِه). ((معاني القرآن وإعرابه)) (2/460). .
وَلَعَنَهُمُ اللّهُ.
أي: وأبعَدَ اللهُ المُنافِقينَ والكُفَّارَ، وطَرَدَهم مِن رَحمتِه [1164] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/550)، ((تفسير ابن عطية)) (3/56)، ((تفسير ابن كثير)) (4/173)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/256)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/625). .
كما قال تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ [الأحزاب: 60-61] .
وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [الأحزاب: 64-65] .
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ.
أي: ولأهلِ النِّفاقِ والكُفرِ عذابٌ دائِمٌ لا ينقطِعُ [1165] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/550)، ((تفسير ابن عطية)) (3/56)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/626). قال ابن تيمية: (قيل: إنَّ قَولَه تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ إشارةٌ إلى ما هو لازِمٌ لهم في الدُّنيا والآخرة من الآلامِ النَّفسية: غَمًّا وحُزنًا، وقسوةً وظُلمةَ قلبٍ، وجَهلًا؛ فإنَّ للكُفرِ والمعاصي من الآلامِ العاجِلةِ الدَّائمة ما اللهُ به عليمٌ؛ ولهذا تجِدُ غالِبَ هؤلاء لا يُطَيِّبونَ عَيشَهم إلَّا بما يُزيلُ العَقلَ، ويُلهي القَلبَ؛ من تناوُلِ مُسكِرٍ، أو رؤيةِ مُلْهٍ، أو سَماعِ مُطرِبٍ، ونحوِ ذلك). ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/110). وقال الألوسي: (قيل: إنَّ الأوَّلَ عذابُ الآخرةِ، وهذا عذابُ ما يقاسونَه في الدُّنيا؛ مِن التَّعَبِ، والخَوفِ من الفضيحةِ والقَتلِ، ونَحوِه). ((تفسير الألوسي)) (5/323). .
كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان حالُ المُنافِقينَ في الإقبالِ على العاجلةِ؛ لِكَونِها حاصلةً، والإعراضِ عن العاقِبةَ؛ لأنَّها غائبةٌ- مُشابِهًا لحالِ من كان قَبْلَهم من الأُمَمِ الخاليةِ، والقُرونِ الماضية؛ بيَّنَ لهم ذلك، وختَمَ ببيانِ سُوءِ أحوالِهم وقُبحِ مآلِهم، بتلاشي أعمالِهم، فقال تعالى [1166] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/522). :
كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا.
أي: فعَلْتُم - أيُّها المُنافِقونَ والكفَّارُ- كفعلِ الذين مِنْ قبلِكم، فسَينزِلُ بكم مِن العُقوباتِ مثلُ ما نَزَلَ بهم، وقد كانُوا أقوى منكم، وأكثرَ منكم أموالًا وأولادًا [1167] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/627). وفي الآيةِ أوجهٌ أخرى. قال ابنُ القيِّمِ: (اختُلِفَ في محلِّ هذه الكافِ وما يتعلَّقُ بها، فقيل: هو رفعٌ، خبَرُ مبتدأٍ مَحذوفٍ، أي: أنتم كالذين مِن قَبْلِكم. وقيل: نصبٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ، تقديرُه: فعَلْتُم كفِعلِ الذين مِن قَبْلِكم، والتشبيهُ على هذينِ القَولينِ في أعمالِ الذين مِن قَبلُ. وقيل: إنَّ التَّشبيهَ في العذابِ، ثم قيل: العاملُ مَحذوفٌ، أي: لعَنَهم وعذَّبَهم كما لعنَ الذينَ مِن قَبلُ، وقيل: بل العامِلُ ما تقدَّمَ، أي: وعدَ الله المُنافِقينَ كوَعدِ الذين مِن قَبلِكم، ولعَنَهم كلَعْنِهم، ولهم عذابٌ مُقيمٌ كالعذابِ الذي لهم). ((إعلام الموقعين)) (1/104، 105). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/98)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/112، 114)، ((تفسير الشوكاني)) (2/432، 433). وقال ابنُ تيميَّةَ: (وإذا عرَفْتَ أنَّ مِن النَّاسِ مَن يجعَلُ التَّشبيهَ في العمل، ومنهم من يجعَلُ التَّشبيهَ في العذابِ، فالقولان متلازِمانِ؛ إذ المُشابهةُ في الموجِبِ تقتضي المُشابهةَ في الموجَبِ، وبالعكسِ، فلا خلاف معنويٌّ بين القولينِ. وكذلك ما ذكرناه من اختلافِ النَّحويينِ في وجوبٍ في الحذفِ وعَدَمِه، إنما هو اختلافٌ في تعليلاتٍ ومآخِذَ، لا تقتضي اختلافًا لا في إعرابٍ، ولا في معنًى؛ فإذن: الأحسَنُ أن تتعَلَّق الكافُ بمجموعِ ما تقدَّمَ: مِن العَمَل والجزاء، فيكونُ التَّشبيهُ فيهما لفظًا. وعلى القولينِ الأوَّلَينِ: يكون قد دلَّ على أحَدِهما لفظًا، وعلى الآخَرِ لُزومًا). ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/113). وقيل: المعنى: أباللهِ وآياتِ كِتابِه ورَسولِه كنتُم تستَهزِئونَ كالذينَ مِن قَبْلِكم، من الأمَمِ الذين فَعَلوا فِعْلَكم، فأهلَكَهم اللهُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/550). .
كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الروم: 9] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ [غافر: 21-22] .
فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ.
أي: فتمتَّع كُفَّارُ الأمَمِ الماضيةِ بنَصيبِهم المقدَّرِ لهم من الدُّنيا وشَهَواتِها، مُؤثِرينَ له على نَعيمِ الآخرةِ، فتمتَّعتُم- أيُّها المُنافِقونَ والكفَّارُ- بنَصيبِكم من شَهَواتِ الدُّنيا، وأعرَضْتُم عن الآخِرةِ كذلك، كما تمتَّعَ الكُفَّارُ الذين مِن قَبلِكم بنَصِيبِهم [1168] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/551)، ((البسيط)) للواحدي (10/545)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/121، 122)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/166)، ((تفسير السعدي)) (ص: 343)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/628، 629). .
وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ.
مُناسَبَتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ تعالى مُشابهةَ هؤلاءِ المُنافِقينَ لأولئك المتقَدِّمينَ في طلَبِ الدُّنيا، وفي الإعراضِ عن طلَبِ الآخرةِ؛ بَيَّنَ حُصولَ المُشابَهةِ بين الفَريقَينِ، في تكذيبِ الأنبياءِ، وفي المَكرِ والخديعةِ والغَدرِ بهم، فقال تعالى [1169] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/99). :
وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ.
أي: وخضتُم- أيُّها المُنافِقونَ والكُفَّارُ- في الكُفرِ والكَذِبِ، والباطِلِ والشُّبُهاتِ، والاستهزاءِ باللهِ وآياتِه ورَسولِه؛ مثلَ الخَوضِ الذي خاضَتْه الأمَمُ قَبلَكم [1170] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/551)، ((تفسير ابن عطية)) (3/57)، ((تفسير القرطبي)) (8/201)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/118)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/105، 106)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/166)، ((تفسير ابن كثير)) (4/173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 343)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/259). قال ابن عاشور: (فأنتم وهم سَواءٌ، فيُوشِكُ أن يحيقَ بكم ما حاق بهم). ((تفسير ابن عاشور)) (10/259). .
أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ.
أي: أولئك الذين تمتَّعوا بشَهَواتِ الدُّنيا، وخاضوا في الباطِلِ؛ بطَلَت أعمالُهم في الدُّنيا والآخرةِ، فلا يَقبَلُها اللهُ تعالى منهم، ولا يُثيبُهم عليها [1171] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/553)، ((البسيط)) للواحدي (10/545)، ((تفسير ابن عطية)) (3/57)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/115)، ((تفسير ابن كثير)) (4/173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 343)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/259، 260)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/632). وحبوطُ الأعمالِ معناه: ذهابُها، وعدمُ الاستفادةِ منها، فأمَّا في الآخرةِ فظاهرٌ، وأمَّا في الدنيا فحبوطُها ألَّا تُقبلَ منهم، فهم لا ينتفعونَ بها، ولا يستفيدون منها، فصاروا كأنَّهم لم يعملوها. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (1/424) ((تفسير ابن عثيمين - سورة آل عمران)) (1/142). وينظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (2/332). وقال ابنُ عطية: (قَولُه في الدُّنْيَا معناه: إذا كان في المُنافِقينَ ما يُصيبُهم في الدُّنيا مِن المَقْتِ مِن المؤمنينَ، وفسادِ أعمالِهم عليهم، وفي الآخرةِ بألَّا تنفَعَ، ولا يقَعَ عليها جزاءٌ). ((تفسير ابن عطية)) (3/57). وقال ابنُ عاشور: (المرادُ بأعمالهم: ما كانوا يَعمَلونَه، ويَكدَحونَ فيه: مِن معالجةِ الأموالِ والعِيالِ، والانكبابِ عليهما، ومعنى حَبَطِها في الدُّنيا: استئصالُها، وإتلافُها بحلولِ مُختَلِفِ العذابِ بأولئك الأمَمِ، وفي الآخرةِ: بعَدَمِ تَعويضِها لهم). ((تفسير ابن عاشور)) (10/259-260). .
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
أي: وأولئك هم المَغبونونَ بحِرمانِ الخَيرِ العاجِلِ والآجِلِ، وحُصولِ العِقابِ في الدُّنيا والآخرةِ [1172] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/553)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/276)، ((تفسير الرازي)) (16/99)، ((تفسير ابن كثير)) (4/173)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/633). .
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا شَبَّه اللهُ تعالى المُنافِقينَ بالكُفَّارِ المتقَدِّمينَ، في الرَّغبةِ في الدُّنيا، وتكذيبِ الأنبياءِ، وكان لفظُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فيه إبهامٌ- نَصَّ على طوائِفَ بأعيانِها سِتَّةٍ؛ لأنَّهم كان عندهم شَيءٌ مِن أنبائِهم، وكانت بلادُهم قريبةً مِن بلادِ العَربِ، وكانوا أكثَرَ الأمَمِ عَددًا، وأنبياؤُهم أعظَمَ الأنبياءِ [1173] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/457). .
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.
أي: ألَمْ يَسمَعِ المُنافِقونَ والكُفَّارُ خَبَرَ إهلاكِنا الأمَمَ الكافِرةَ الماضيةَ [1174] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/553، 554)، ((تفسير القرطبي)) (8/202)، ((تفسير ابن كثير)) (4/174). ؟!
ثمَّ بيَّن جلَّ ثناؤُه مَنْ أولئك الأممُ [1175] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/554). ، فقال:
قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ.
أي: قَومِ نُوحٍ، وعادٍ- قَومِ هُودٍ- وثمودَ- قَومِ صالحٍ- وقَومِ إبراهيمَ، وأهلِ مَدينَ- قَومِ شُعيبٍ- وأهلِ قُرى قَومِ لوطٍ، التي انقلَبَت بهم فصار أعلاها أسفَلَها [1176] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/554)، ((البسيط)) للواحدي (10/546، 547)، ((تفسير ابن عطية)) (3/57)، ((تفسير ابن كثير)) (4/174)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/261). ؟!
أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ.
أي: جاءَت تلك الأممَ رسُلُ اللهِ بالمُعجِزاتِ الواضِحاتِ، فكذَّبوا الرُّسُلَ، فأهلكَهم اللهُ [1177] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/554، 555)، ((تفسير ابن عطية)) (3/58)، ((تفسير الرازي)) (16/100)، ((تفسير ابن كثير)) (4/174)، ((تفسير السعدي)) (ص: 343). .
كما قال تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [إبراهيم: 9] .
وقال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق: 12 - 14] .
فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
أي: فما كان اللهُ ليظلِمَ تلك الأممَ المكَذِّبةَ، بإهلاكِهم قبلَ إقامةِ الحُجَّةِ عليهم، ولكِن كانوا يظلِمونَ أنفُسَهم، بالكُفرِ باللهِ وعِصيانِه، وتكذيبِ رُسُلِه، فاستحَقُّوا عِقابَه [1178] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/556)، ((تفسير ابن كثير)) (4/174)، ((تفسير السعدي)) (ص: 343). .
كما قال سُبحانه: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131] .
وقال تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لأنَّهم اشتَرَكوا في النِّفاق، فاشتَرَكوا في تولِّي بَعضِهم بعضًا، وفي هذا قَطعٌ للمُؤمِنينَ مِن وَلايَتِهم [1179] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:343).
2- قَولُه تعالى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ ووَخُضْتُمْ خبرٌ عن وقوعِ ذلك في الماضي، وهو ذَمٌّ لِمن يفعَلُه، إلى يومِ القيامةِ، كسائِرِ ما أخبَرَ اللهُ به عن الكفَّار والمُنافِقين، عند مبعَثِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّه ذَمٌّ لِمَن حالُه كحالِهم، إلى يومِ القيامةِ، فيكونُ كُلُّ مَن حصل منه هذا الاستمتاعُ والخَوضُ مُخاطَبًا بِقَولِه: فَاسْتَمْتَعْتُمْ ووَخُضْتُمْ [1180] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/121، 122).
3- قال الله تعالى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا فَسادُ الدِّينِ إمَّا أن يقَعَ بالاعتقادِ الباطِلِ والتكَلُّمِ به، وهو (الخَوض)، أو يقَعَ في العمَلِ بخلافِ الحَقِّ والصَّوابِ، وهو (الاستمتاعُ بالخَلاقِ). فالأوَّلُ البِدَعُ، والثاني اتِّباعُ الهوى، وهذان هما أصلُ كُلِّ شَرٍّ وفِتنةٍ وبلاءٍ، وبهما كُذِّبَت الرُّسُلُ، وعُصِيَ الرَّبُّ، ودُخِلَت النَّارُ، وحَلَّت العُقوباتُ، فالأوَّلُ مِن جهةِ الشُّبُهات، والثاني من جهةِ الشَّهواتِ؛ ولهذا كان السَّلَفُ يقولونَ: احذَروا من النَّاسِ صِنفَينِ: صاحِبَ هَوًى، فِتنَتُه هَواه، وصاحِبَ دُنيا، أعجَبَتْه دُنياه، وكانوا يقولونَ: احذَروا فتنةَ العالِمِ الفاجِرِ، والعابِدِ الجاهِلِ؛ فإنَّ فِتنَتَهما فتنةٌ لكُلِّ مفتونٍ، فهذا يُشبِهُ المغضوبَ عليهم، الذين يعلمونَ الحَقَّ ويَعملونَ بخلافِه، وهذا يُشبِهُ الضَّالِّينَ الذين يعملونَ بغيرِ عِلمٍ، فقولُه تعالى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ إشارةٌ إلى اتِّباعِ الشَّهواتِ، وهو داءُ العُصاةِ، وقَولُه: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا إشارةٌ إلى الشُّبُهاتِ، وهو داءُ الْمُبتَدعةِ، وأهلِ الأهواءِ والخُصُوماتِ، وكثيرًا ما يجتمعانِ، فقَلَّ مَن تجِدُه فاسِدَ الاعتقادِ، إلَّا وفَسادُ اعتقادِه يظهَرُ في عَمَلِه، والمقصودُ أنَّ الله أخبَرَ أنَّ في هذه الأمَّةِ مَن يستمتِعُ بخَلاقِه، كما استمتَعَ الذين مِن قَبلِه بخَلاقِهم، ويخوضُ كَخَوضِهم، وأنَّهم لهم من الذَّمِّ والوعيدِ كما للَّذين مِن قَبلِهم [1181] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/118، 119)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/106).
4- عاقب اللهُ سبحانه مَن نَسِيَه عُقوبَتينِ: إحداهما: أنَّه سُبحانه يَنساه، كما في قولِه تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ، والثَّانية: أنَّه يُنسيه نفسَه، كما في قولِه تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر: 19] ، ونسيانُه سبحانَه للعبدِ: إهمالُه، وتركُه، وتخلِّيه عنه، وأمَّا إنساؤُه نفسَه، فهو: إنساؤُه لِحُظوظِها العاليةِ، وأسبابِ سعادتِها وفلاحِها وما تَكْمُلُ به؛ فلا يسعَى إليها، وكذا نسيانُ عُيوبِ نَفسِه ونَقصِها وآفاتِها، فلا يخطُرُ ببالِه إزالتُها، وأيضًا يُنسيه أمراضَ نفسِه وقلبِه وآلامَها، فلا يخطُرُ بِقَلبِه مُداواتُها، ولا السعيُ في إزالةِ عِلَلِها وأمراضِها التي تَؤُولُ بها إلى الفَسادِ والهلاكِ، فهو مريضٌ مُثخَنٌ بالمَرَض، ومَرَضُه مُتَرامٍ به إلى التَّلَفِ، ولا يشعرُ بمَرضِه، ولا يخطرُ ببالِه مُداواتُه [1182] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/349)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 103).

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وصَفَ اللهُ سُبحانَه المُنافِقينَ بأنَّ بَعضَهم مِن بَعضٍ، وقال في المؤمنينَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] ؛ وذلك لأنَّ المُنافِقينَ تشابهَت قلوبُهم وأعمالُهم، وهم مع ذلك تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: 14] فليست قلوبُهم مُتوادَّةً مُتوالِيةً، إلَّا ما دام الغَرَضُ الذي يَؤُمُّونَه مُشترِكًا بينهم، ثم يتخَلَّى بعضُهم عن بعضٍ، بخلافِ المؤمِن، فإنَّه يُحِبُّ المؤمِنَ وينصُرُه بظَهرِ الغيبِ، وإن تناءَت بهم الدِّيارُ، وتباعَدَ الزَّمانُ [1184] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/105). ، ودلَّ قولُه: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ على أنَّ نِفاقَ الأتباعِ كالأمرِ المتفَرِّعِ على نفاقِ الأسلافِ، والأمرُ في نفسِه كذلك؛ لأنَّ نِفاقَ الأتباعِ وكُفرَهم حصَلَ بسبَبِ التَّقليدِ لأولئك الأكابِرِ، وبسببِ مُقتضى الهَوى والطَّبيعةِ والعادةِ، أمَّا المُوافَقةُ الحاصِلةُ بين المؤمنينَ، فإنَّما حصَلَت لا بسبَبِ المَيلِ والعادةِ، بل بسبَبِ المُشاركةِ في الاستدلالِ والتَّوفيقِ والهِدايةِ، اللُّحْمةُ الجامعةُ بينهم هي ولايةُ الإسلامِ، فهم فيها على السَّواءِ، ليس واحدٌ منهم مقلِّدًا للآخَرِ ولا تابعًا له على غيرِ بَصيرةٍ؛ لِما في معنى الولايةِ مِن الإشعارِ بالإخلاصِ والتَّناصُرِ، بخلافِ المُنافِقينَ، فكأنَّ بَعضَهم ناشئٌ مِن بعضٍ في مَذامِّهم؛ فلهذا السَّبَبِ قال تعالى في المُنافقين: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وقال في المؤمنين: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [1185] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/100)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/262). .
2- قَولُ الله تعالى: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ اقتصَرَ مِن مُنكَراتِ المُنافِقينَ الفعليَّةِ على هذا؛ لأنَّه شَرُّها وأضَرُّها، وأقواها دَلالةً على النِّفاقِ [1186] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/460). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ أخَّرَ ذِكرَ الكُفَّارِ في مقامِ الوعيدِ؛ للإيذانِ بأنَّ الْمُنافِقينَ- وإن أظهَروا الإيمانَ وعَمِلوا أعمالَ الإسلامِ- شَرٌّ مِن الكفَّارِ الصُّرَحاءِ، ولا سيَّما المتدَيِّنونَ منهم بأديانٍ باطلةٍ مِن الأصلِ، أو مُحرَّفةٍ ومَنسوخةٍ كأهلِ الكِتابِ [1188] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/461). .
4- في قَولِه تعالى: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا تَوبيخٌ مِن اللهِ لِمَن تشَبَّه بأهلِ الشَّرِّ- مِثل أهلِ الكُفرِ والفُسوقِ والعِصيانِ- في شيءٍ مِن قبائِحهم [1189] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/249). .
5- قولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ لعلَّه خَصَّ هؤلاءِ بالذِّكرِ مِن بينِ بقيَّةِ الأمَمِ؛ لِمَا عند العَرَبِ مِن أخبارِهم، وقُربِ ديارِهم مِن ديارِهم، مع أنَّهم كانوا أكثَرَ الأُمَم عددًا، وأنبياؤُهم أعظَمَ الأنبياءِ [1190] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/541). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
قولُه: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ زِيدَ في هذه الآيةِ ذِكْرُ المُنافقاتِ؛ وذلك للتَّنصيصِ على تَسويةِ الأحكامِ لجَميعِ المُتَّصفينَ بالنِّفاقِ ذُكورِهم وإناثِهم؛ كيلا يَخْطُرَ بالبالِ أنَّ العفوَ يُصادِفُ نِساءَهم، وأنَّ المؤاخذةَ خاصَّةٌ بذُكرانِهم؛ ليَعلَمَ النَّاسُ أنَّ لنِساءِ المُنافِقينَ حَظًّا مِنْ مُشاركةِ رِجالِهِنَّ في النِّفاقِ فيَحذَروهنَّ [1191] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/254). ، والتَّعرضُ لأحوالِ الإناثِ أيضًا؛ للإيذانِ بكمالِ عراقتِهم في الكُفْرِ والنِّفاقِ [1192] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/80). .
قولُه: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ على القَولِ بأنَّه اسْتِئنافٌ، فهو مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما سَبَق، ومُفْصِحٌ عن مُضادَّةِ حالِهم لحالِ المؤمنينَ [1193] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/80). .
قولُه: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ قَبْضُ اليدِ كِنايةٌ عَنِ البُخْلِ والشُّحِّ، والأصْلُ في هذه الكِنايةِ أنَّ المُعطي يَمُدُّ يدَهُ، ويَبْسُطُها بالعَطاءِ، فقيل لِمَنْ مَنَعَ وبَخِلَ: قد قَبَضَ يَدَه [1194] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/88)، ((تفسير أبي حيان)) (5/455)، ((تفسير أبي السعود)) (4/80)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/254). .
قولُه: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ، أي: تَركُوهُ حين تَرَكوا نبيَّهُ وشِرْعتَه، فتَرَكَهم حين لم يَهْدِهم، ولا كَفاهم عذابَ النَّارِ؛ ففيهِ التَّعبيرُ عَنِ التَّرْكِ بالنِّسيانِ؛ وإنَّما يُعبَّرُ بالنِّسيانِ عَنِ التَّركِ مُبالغةً؛ إذ أبلَغُ وجوهِ التَّرْكِ الوَجْهُ الذي يَقْتَرِنُ به نِسيانٌ، أو مُبالَغةً في أنَّه لا يَخْطُرُ ذلك ببالٍ [1195] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/56)، ((تفسير أبي حيان)) (5/455). .
قولُه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيثُ لم يَقُلْ: (إنَّهم)-؛ لزِيادةِ تَقريرِهم في الذِّهْنِ لهذا الحُكْمِ، ولِتكونَ الجُمْلةُ مُسْتَقِلَّةً حتَّى تكونَ كالمَثَلِ [1196] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/80)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/254). .
وقولُه: هُمُ الْفَاسِقُونَ صِيغةُ قَصْرٍ، أي: هم الكامِلونَ في الفِسْقِ، وهو قَصْرٌ ادِّعائيٌّ للمُبالَغةِ؛ لأنَّهُمْ لَمَّا بَلَغوا النِّهايةَ في الفُسوقِ جُعِلَ غيرُهم كمَنْ ليس بفاسِقٍ [1197] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/287)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/254). ، فحَصَرَ الفِسقَ فيهم؛ لأنَّ فِسقَهم أعظَمُ مِن فِسقِ غَيرِهم؛ بدليل ِأنَّ عَذابَهم أشَدُّ مِن عذابِ غَيرِهم، وأنَّ المُؤمِنينَ قد ابتُلُوا بهم؛ إذ كانوا بين أظهُرِهم، والاحترازُ منهم شديدٌ [1198] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:343). .
2- قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ
جُمْلةُ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ اسْتِئنافٌ بيانيٌّ ناشِئٌ عَنْ قولِه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، أو مُبيِّنةٌ لجُملةِ فَنَسِيَهُمْ؛ لأنَّ الخُلودَ في جَهنَّمَ واللَّعنَ بَيانٌ للمرادِ مِنْ نِسيانِ اللهِ إيَّاهم [1199] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/255). .
وفي قولِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيثُ لم يَقُلْ: (وَعَدَهُمُ اللهُ)-؛ لتقريرِ المحكومِ عليه في ذِهْنِ السَّامِعِ حتَّى يتمكَّنَ اتِّصافُهم بالحُكْمِ. وزيادةُ ذِكْرِ الكُفِّارِ هنا؛ للدَّلالةِ على أنَّ المُنافِقين ليسوا بأهونَ حالًا مِنَ المشركينَ؛ إذْ قَدْ جَمَعَ الكُفْرُ الفريقينِ [1200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/256). .
وعبَّر بصيغةِ الماضي وَعَدَ؛ للإخبارِ عَنْ وعيدٍ تَقدَّمَ، وَعَدَهُ اللهُ المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ تذكيرًا بِهِ؛ لزيادةِ تَحقيقِهِ، أو لصَوغِ الوعيدِ في الصِّيغةِ التي تَنشأُ بِها العُقودُ، مِثْلَ: (بِعْتُ ووَهَبْتُ)؛ إشعارًا بأنَّهُ وعيدٌ لا يتخلَّفُ مِثْلَ العَقْدِ والالْتِزامِ [1201] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/255). .
قوله: هِيَ حَسْبُهُمْ فيه مُبالَغةٌ في عِظَمِ عذابِها، وأنَّهُ لا شيءَ أبْلَغَ مِنه، وأنَّهُ بحيثُ لا يُزادُ عليه [1202] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/287)، ((تفسير أبي حيان)) (5/456). .
قولُه: وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ فيه إظهارُ الاسْمِ الجليلِ (الله)؛ للإيذانِ بشِدَّةِ السَّخَطِ عليهم [1203] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/81). .
3- قوله تعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
قولُه: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً فيه الْتِفاتٌ عن ضمائرِ الغَيبةِ الرَّاجِعةِ إلى المُنافِقينَ، إلى خِطابِهم؛ لقَصْدِ التَّقريعِ والتَّهديدِ بالمَوعظةِ، والتَّذكيرِ عَنِ الغُرورِ بما هم فيه مِنْ نِعْمةِ الإمهالِ بأنَّ آخِرَ ذلك حَبطُ الأعمالِ في الدُّنيا والآخِرةِ، وأنْ يَحِقَّ عليهم الخُسرانُ [1204] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/456)، ((تفسير أبي السعود)) (4/81)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/256). .
وقولُه: كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا تَفْسيرٌ وبيانٌ لِشَبَهِهم بهم، وتمثيلٌ لحالِهم بحالِهم [1205] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/288)، ((تفسير أبي حيان)) (5/456)، ((تفسير أبي السعود)) (4/81). .
قولُه: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا فيه مِنْ محاسِنِ البلاغةِ: أنَّه لَمَّا ذَكَرَ تَشبيهَهم بمَنْ قَبْلَهم، وذَكَر ما كانوا فيه مِنَ شِدَّةِ القُوَّةِ، وكَثْرةِ الأولادِ، واسْتِمتاعِهم بما قُدِّرَ لهم مِنَ الأنصباءِ، أي: الحُظوظِ، شَبَّهَ اسْتِمتاعَ المُنافِقينَ باسْتِمتاعِ الذين مِنْ قَبْلِهم، وأبْرَزَهم بالاسمِ الظَّاهِرِ فقال: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ، ولَمْ يَكُنِ التَّركيبُ (كما اسْتَمْتَعوا بخلاقِهِمْ)، فأوْقَع الظَّاهِرَ مَوقِعَ المُضْمَرِ؛ ليَدُلَّ بذلك على التَّحقيرِ لهم؛ لأنَّهُ كما يَدُلُّ بإعادةِ الظاهِرِ مَكانَ المُضْمَرِ على التَّفخيمِ والتَّعظيمِ، كذلك يَدلُّ بإعادتِهِ على التَّحقيرِ والتَّصغيرِ لشأنِ المذكورِ؛ كما في قولِهِ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [1206] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/457)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/85). [مريم: 44] .
قولُه: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ في صِيغةِ الاسْتِفعالِ فَاسْتَمْتَعُوا ما ليس في صِيغةِ التَّفعُّلِ (تَمتَّعوا) مِنَ الاسْتِزادةِ والاسْتِدامةِ في التَّمتُّعِ؛ فالسِّينُ والتَّاءُ فيه للمُبالَغةِ في قُوَّةِ التَّمتُّعِ [1207] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/81)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/258). .
وقولُه: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ فيه التَّكريرُ في تَرديدِ فِعْلِ الاسْتِمتاعِ؛ ذلك أنَّهُ شَبَّهَ حالَهم بحالِ الأوَّلينَ؛ ففي التَّكريرِ تأكيدٌ ومُبالَغةٌ في ذَمَّ المُخاطَبينَ، وتَقبيحُ حالِهم، واسْتِهجانُ أَمْرِهم [1208] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/288)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/130). .
قولُه: أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ فيه إعادةُ اسْمِ الإشارةِ أُولئِك؛ للاهْتِمامِ بتَمييزِ المُتحَدَّثِ عنهم؛ لزِيادةِ تَقريرِ أحوالِهم في ذِهْنِ السَّامِعِ [1209] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/259). ، وللإشعارِ بعِليَّةِ الأوصافِ المُشارِ إليها للحُبوطِ والخُسْرانِ [1210] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/85). .
وفي الالتفاتِ إلى مَقامِ الخِطابِ في قَولِ اللهِ تعالى: وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ إشارةٌ إلى تحذيرِ كُلِّ سامِعٍ عَن مِثلِ هذه المقالةِ [1211] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/630). .
4- قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
قولُه: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... اسْتِفهامٌ للتَّقريرِ والتَّحذيرِ [1212] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/82). .
قولُه: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ اسْتئنافٌ بيانيٌّ نَشَأ عَنْ قولِه: نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أي: أتتْهُم رُسُلُهم بدَلائلِ الصِّدقِ والحَقِّ [1213] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/82)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/260). .
قولُه: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فيه حذْفٌ بَيْنَ قولِه: بِالْبَيِّنَاتِ وقولِه: فَمَا كَانَ، والتَّقديرُ: فكذَّبوا فأهْلَكَهمُ اللهُ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ [1214] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/459). ؛ فتَفريعُ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ على قوله: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ إيجازُ حذْفٍ بديعٌ؛ لأنَّ مَجيءَ الرُّسلِ بالبيِّناتِ يَقتضي تصديقًا وتكذيبًا، فلمَّا فرَّعَ عليه أنَّهم ظَلموا أنفُسَهم، عُلِمَ أنَّهم كذَّبوا الرُّسُلَ، وأنَّ اللهَ جازاهم على هذا بأنْ عاقَبَهم عِقابًا لو كان لغيرِ جُرمٍ لشابَهَ الظُّلمَ؛ فجُعِلَ مِن مجموع نفْيِ ظُلمِ الله إيَّاهم، ومِن إثباتِ ظُلمِهم أنفُسَهم، مَعرفةُ أنَّهم كذَّبوا الرُّسُلَ وعانَدوهم، وحَلَّ بهم ما هو معلومٌ مِن مُشاهدةِ دِيارِهم، وتَناقُل أخبارِهم [1215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/58). .
والتعبيرُ بقولِه: فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فيه مُبالَغةٌ في تَنزيهِ اللهِ سُبْحانَه عن الظُّلْمِ، أي: ما صَحَّ وما اسْتقامَ له أنْ يَظْلِمَهم، ولكِنَّهم ظَلَموا أَنْفُسَهم [1216] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/82). .
قولُه: وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فيه الجَمعُ بينَ صِيغَتِي الماضي والمُسْتقبلِ؛ للدَّلالةِ على اسْتِمرارِ ظُلْمِهم، حيثُ لم يَزالوا يُعَرِّضونَها للعقابِ بالكُفْرِ والتَّكذيبِ [1217] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/82). .
وفيه تقديمُ المفعولِ أَنْفُسَهُمْ على الفِعْلِ يَظْلِمُونَ؛ للاهْتِمامِ به، مع مُراعاةِ الفاصِلةِ [1218] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/82). .