موسوعة التفسير

سورةُ الحَشْرِ
الآيات (14-17)

ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ

غريب الكلمات:

مُحَصَّنَةٍ: أي: مُحكَمةٍ مُمتَنِعةٍ بالأسوارِ والخنادقِ، وأصلُ (حصن): يدُلُّ على حِفظٍ وحِياطةٍ [322] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/69)، ((المفردات)) للراغب (ص: 239)، ((تفسير ابن كثير)) (8/74). .
جُدُرٍ: أي: حيطانٍ وأسوارٍ، إلَّا أنَّ الحائِطَ يُقالُ اعتبارًا بالإحاطةِ بالمكانِ، والجِدارَ يُقالُ اعتبارًا بالنُّتوءِ والارتِفاعِ [323] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 182)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/431)، ((المفردات)) للراغب (ص: 189)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 278). .
بَأْسُهُمْ: أي: عداوتُهم، وأصلُ (بأس): يدُلُّ على الشِّدَّةِ وما شابَهَها [324] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/537)، ((المفردات)) للراغب (ص: 153)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 397)، ((تفسير القرطبي)) (18/36). .
شَتَّى: أي: مُختَلِفةٌ، وأصلُ (شتت): يدُلُّ على تفَرُّقٍ [325] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/537)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 288)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/177)، ((تفسير القرطبي)) (18/36)، ((تفسير ابن كثير)) (8/75). .
وَبَالَ: الوبالُ: الجزاءُ والثِّقلُ والعاقِبةُ، وأيضًا: الوَخامةُ وسُوءُ العاقِبةِ، وأصلُ (وبل): يدُلُّ على شِدَّةٍ فِي شَيءٍ وتجَمُّعٍ [326] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 479)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/82)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 89)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 186)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 949). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: لا يُقاتِلُكم المنافِقونَ واليَهودُ -أيُّها المُسلِمونَ- وهم مجتَمِعونَ، إلَّا في مُدُنٍ آمِنةٍ مُحاطةٍ بالحُصونِ، أو مِن وراءِ جُدرانٍ وأسوارٍ، عداوتُهم بيْنَهم شَديدةٌ، تَظُنُّ أنَّهم مُجتَمِعونَ، والحَقُّ أنَّ قُلوبَهم مُختَلِفةٌ؛ بسَبَبِ أنَّهم قَومٌ لا عَقْلَ لهم!
ثمَّ يقولُ تعالى ضاربًا المثَلَ؛ تثبيتًا للمؤمنينَ، وتهوينًا مِن شأنِ أعدائِهم: مَثَلُ اليَهودِ والمنافِقِينَ كمَثَلِ الَّذين مِن قَبلِهم مِن يَهودِ بني قَينُقاعَ وكُفَّارِ قُرَيشٍ، قبْلَ وُقوعِ جَلاءِ بني النَّضيرِ بزَمَنٍ يَسيرٍ، نالوا جزاءَ كُفرِهم، فعَذَّبَهم اللهُ في الدُّنيا، ولهم عَذابٌ شَديدٌ في الآخِرةِ.
ويَضرِبُ مثلًا آخَرَ فيقولُ: مَثَلُ أولئك المنافِقينَ الَّذين وَعَدوا يَهودَ بَني النَّضيرِ الخُروجَ معهم إن أُخرِجوا، والنُّصرةَ لهم إن قُوتِلوا، ثمَّ خَذَلوهم، ومثلُ  اليهودِ في اغترارِهم بهم؛ كمَثَلِ الشَّيطانِ إذ قال للإنسان: اكفُرْ باللهِ، فلمَّا كَفَر الإنسانُ بالله تبَرَّأَ منه الشَّيطانُ وخَذَلَه، وقال له: إنِّي أخافُ اللهَ ربَّ العالَمينَ! فكان آخِرَ أمْرِهما أنَّهما في النَّارِ ماكِثَينِ فيها أبَدًا، وذلك جزاءُ الظَّالِمينَ.

تفسير الآيات:

لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أخبَر الله تعالى برَهْبَتِهم؛ دلَّ عليها بقولِه [327] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/450). :
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ.
أي: لا يُقاتِلُكم المنافِقونَ واليَهودُ -أيُّها المُسلِمونَ- وهم مجتَمِعونَ، إلَّا في مُدُنٍ آمِنةٍ مُمَنَّعةٍ بالحُصونِ، أو مِن وراءِ جُدرانٍ وأسوارٍ وحِيطانٍ، فلا يَبرُزونَ لقِتالِكم؛ مِن شِدَّةِ جُبنِهم، وخَوفِهم منكم [328] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/537)، ((الوسيط)) للواحدي (4/276)، ((تفسير ابن عطية)) (5/289)، ((تفسير القرطبي)) (18/35)، ((تفسير ابن كثير)) (8/74)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/450)، ((تفسير العليمي)) (7/16)، ((تفسير السعدي)) (ص: 852). قيل: الضَّميرُ في قَولِه تعالى: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ عائِدٌ إلى يَهودِ بَني النَّضيرِ، وممَّن اختاره: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/537). وقيل: الضَّميرُ عائِدٌ إلى اليَهودِ، وممن اختاره: ابنُ أبي زَمَنين، والسمرقنديُّ، والواحدي، والبغوي، والقرطبي، وأبو حيَّان، وجلال الدين المحلي، ونسَبَه ابنُ الجوزي للأكثَرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/371)، ((تفسير السمرقندي)) (3/430)، ((الوسيط)) للواحدي (4/ 276)، ((تفسير البغوي)) (5/62)، ((تفسير القرطبي)) (18/35)، ((تفسير أبي حيان)) (10/146)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 732)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/261). قال ابنُ عطيَّةَ: (الضَّميرُ في قَولِه تعالى: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ لِبَني النَّضيرِ وجميعِ اليَهودِ، وهذا قَولُ جماعةِ المفَسِّرينَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/289). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: اليهودُ والمنافِقونَ: الزمخشريُّ، والرازي، والرَّسْعَني، والبيضاوي، والنَّسَفي، والعُلَيمي، والشوكاني، والقاسمي، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/ 507)، ((تفسير الرازي)) (29/510)، ((تفسير الرسعني)) (8/64)، ((تفسير البيضاوي)) (5/201)، ((تفسير النسفي)) (3/461)، ((تفسير العليمي)) (7/16)، ((تفسير الشوكاني)) (5/243)، ((تفسير القاسمي)) (9/192)، ((تفسير الألوسي)) (14/251). قال ابن عطية: (يحتَمِلُ أن يريدَ بذلك: اليهودَ والمنافِقينَ؛ لأنَّ دُخولَ المنافِقينَ في قَولِه تعالى: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى متمكِّنٌ بيِّنٌ). ((تفسير ابن عطية)) (5/289). وقال ابنُ عاشور: (قَولُه: جَمِيعًا يجوزُ أن يكونَ بمعنى «كُلُّهم»، كقَولِه تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا [المائدة: 48] ، فيكونَ للشُّمولِ، أي: كُلُّهم لا يُقاتِلونَكم -اليهودُ والمنافِقونَ- إلَّا في قُرًى مُحَصَّنةٍ... إلخ. ويجوزُ أن يكونَ بمعنى «مجتَمِعينَ»، أي: لا يقاتِلونَكم جُيوشًا كشأنِ جُيوشِ المتحالِفينَ؛ فإنَّ ذلك قتالُ مَن لا يَقبَعونَ في قُراهم، فيكونَ النَّفيُ مُنصَبًّا إلى هذا القَيدِ، أي: لا يَجتَمِعون على قِتالِكم اجتِماعَ الجُيوشِ، أي: لا يُهاجِمونَكم، ولكنْ يُقاتِلون قِتالَ دِفاعٍ في قُراهم). ((تفسير ابن عاشور)) (28/104، 105). .
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ.
أي: عداوةُ بَعضِهم لِبَعضٍ عَداوةٌ شَديدةٌ [329] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/537)، ((تفسير السمرقندي)) (3/430)، ((الوسيط)) للواحدي (4/276)، ((تفسير القرطبي)) (18/36)، ((تفسير ابن كثير)) (8/75)، ((تفسير السعدي)) (ص: 852)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/106). قال الزمخشري: (يعني: أنَّ البأسَ الشَّديدَ الَّذي يُوصَفونَ به إنَّما هو بيْنَهم إذا اقتَتَلوا، ولو قاتَلوكم لم يَبْقَ لهم ذلك البأسُ والشِّدَّةُ؛ لأنَّ الشُّجاعَ يَجبُنُ، والعزيزَ يَذِلُّ، عندَ محاربةِ اللهِ ورَسولِه). ((تفسير الزمخشري)) (4/507). وقال الشوكاني: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي: بعضُهم غليظٌ فظٌّ على بعضٍ، وقُلوبُهم مُختَلِفةٌ، ونِيَّاتُهم مُتبايِنةٌ. قال السُّدِّيُّ: المرادُ اختِلافُ قُلوبِهم، حيث لا يَتَّفِقون على أمرٍ واحدٍ. وقال مجاهدٌ: بأسُهم بيْنَهم شديدٌ بالكلامِ والوعيدِ: لَيَفْعَلُنَّ كذا، والمعنى: أنَّهم إذا انفَرَدوا نَسَبوا أنفُسَهم إلى الشِّدَّةِ والبأسِ، وإذا لاقَوا عَدُوًّا ذَلُّوا وخَضَعوا وانهَزَموا. وقيل: المعنى: أنَّ بأْسَهم بالنِّسبةِ إلى أقرانِهم شديدٌ، وإنَّما ضَعفُهم بالنِّسبةِ إليكم؛ لِما قذَفَ اللهُ في قُلوبِهم مِن الرُّعبِ. والأوَّلُ أَوْلى؛ لقوله: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى؛ فإنَّه يدُلُّ على أنَّ اجتِماعَهم إنَّما هو في الظَّاهرِ، معَ تَخالُفِ قُلوبِهم في الباطنِ، وهذا التَّخالُفُ هو البأسُ الَّذي بيْنَهم، المَوصوفُ بالشِّدَّةِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/243). .
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى.
أي: تَظُنُّ أنَّهم مُجتَمِعونَ على كَلِمةٍ واحِدةٍ، والحَقيقةُ أنَّ قُلوبَهم مُختَلِفةٌ، وفي غايةِ التَّفَرُّقِ [330] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/537)، ((الوسيط)) للواحدي (4/276)، ((تفسير ابن كثير)) (8/75)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/452)، ((تفسير السعدي)) (ص: 852)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/106). .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ.
أي: وُقوعُ مُعاداةِ بَعضِهم لبَعضٍ، وتَشَتُّتُ آرائِهم، وتَفَرُّقُ أهوائِهم؛ بسَبَبِ أنَّهم قَومٌ لا عَقْلَ لهم؛ حيثُ وَقَعوا فيما يَعلَمونَ ضَرَرَه، وأهمَلوا النَّظَرَ في عواقبِ الأُمورِ [331] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/538)، ((الوسيط)) للواحدي (4/276)، ((تفسير القرطبي)) (18/36)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/24)، ((تفسير السعدي)) (ص: 852)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/106). قال ابنُ عاشور: (لأنَّ مَعرِفةَ مآلِ التَّشَتُّتِ في الرَّأيِ وصَرفِ البأسِ إلى المُشارِكِ في المصلحةِ، مِنَ الوَهْنِ والفَتِّ في ساعدِ الأمَّةِ: مَعرِفةٌ مشهورةٌ بيْن العُقَلاءِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/107). .
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان الإخبارُ بعَدَمِ عَقْلِهم دَعوى؛ دَلَّ عليها بأمرٍ مُشاهَدٍ، فقال [332] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/452). :
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا.
أي: مَثَلُ اليَهودِ والمنافِقينَ كمَثَلِ يَهودِ بني قَينُقاعَ الَّذين عَذَّبَهم اللهُ بالجَلاءِ مِنَ المدينةِ، وكَمَثَلِ كُفَّارِ قُرَيشٍ الَّذين هُزِموا في بَدرٍ، وذلك قبْلَ وُقوعِ جَلاءِ بَني النَّضيرِ بزَمَنٍ يَسيرٍ [333] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/539، 540)، ((تفسير ابن عطية)) (5/290)، ((تفسير العليمي)) (7/17)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853). ممَّن اختار أنَّ المرادَ: مَثَلُ المنافِقِينَ واليهودِ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: ابنُ جرير، وأبو السعود، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/539)، ((تفسير أبي السعود)) (8/231)، ((تفسير الشوكاني)) (5/244). قال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: مَثَلُ هؤلاء اليهودِ مِن بَني النَّضيرِ والمنافِقِينَ فيما اللهُ صانعٌ بهم، مِن إحلالِ عُقوبتِه بهم، كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يقولُ: كشَبَهِهم). ((تفسير ابن جرير)) (22/539). وممَّن اختار أنَّ المثَلَ مَضروبٌ لليهودِ: الواحديُّ، والبغوي، وابن الجوزي، والرَّسْعَني، وابنُ جُزَي، وأبو حيَّان، والخازنُ، وجلال الدين المحلي، والشربيني، والسعدي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/276)، ((تفسير البغوي)) (5/62)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/261)، ((تفسير الرسعني)) (8/65)، ((تفسير ابن جزي)) (2/362)، ((تفسير أبي حيان)) (10/147)، ((تفسير الخازن)) (4/273)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 733)، ((تفسير الشربيني)) (4/253)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853). وقيل: أي: مَثَلُ هؤلاء المنافِقِينَ كمَثَلِ مُنافِقِي الأُمَمِ الماضيةِ. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/252). واختُلِف في قولِه: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؛ فقيل: المرادُ بالَّذينَ مِن قَبلِهم: يهودُ بَني قَينُقاعَ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ كثير، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/75)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/453). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/539). وقيل: المرادُ: كُفَّارُ قُرَيشٍ الَّذين هُزِموا في بَدرٍ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، والواحدي، والزمخشري، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/281)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/148)، ((الوسيط)) للواحدي (4/276)، ((تفسير الزمخشري)) (4/507)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/540)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/116). وذهب ابنُ جريرٍ إلى العُمومِ، فقال: (أَولى الأقوالِ بالصَّوابِ أنْ يُقالَ: إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ مَثَّلَ هؤلاء الكُفَّارَ مِن أهلِ الكِتابِ مِمَّا هو مُذيقُهم مِن نَكالِه، بالَّذين مِن قَبْلِهم مِن مُكَذِّبي رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الَّذين أهلَكَهم بسَخَطِه، وأمْرُ بَني قَيْنُقاعَ ووَقْعةُ بَدرٍ كانا قبْلَ جلاءِ بني النَّضيرِ، وكُلُّ أولئك قد ذاقوا وَبالَ أَمْرِهم، ولم يَخْصُصِ اللهُ عزَّ وجَلَّ منهم بعضًا في تمثيلِ هؤلاء بهم دونَ بَعضٍ، وكُلٌّ ذائِقٌ وَبالَ أمْرِه، فمَن قَرُبَت مُدَّتُه منهم قَبْلَهم، فهم مُمثَّلونَ بهم فيما عُنُوا به مِنَ المَثَلِ). ((تفسير ابن جرير)) (22/540). وقيل: هم بنو النَّضيرِ الذين أُجلوا مِن الحِجازِ إلى الشَّامِ، وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/509)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/116). قال ابنُ عاشور: (أي: حالُ أهلِ الكِتابِ الموعودِينَ بنَصرِ المنافقينَ كحالِ الَّذين مِن قَبلِهم قريبًا. والمرادُ: أنَّ حالَهم المركَّبةَ مِن التَّظاهُرِ بالبأسِ مع إضمارِ الخَوفِ مِن المسلمينَ، ومِن التَّفَرُّقِ بيْنَهم وبيْنَ إخوانِهم مِن أهلِ الكتابِ، ومِن خِذلانِ المنافِقينَ إيَّاهم عندَ الحاجةِ، ومِن أنَّهم لا يُقاتِلونَ المسلِمينَ إلَّا في قُرًى مُحَصَّنةٍ أو مِن وَراءِ جُدُرٍ- كحالِ الَّذين كانوا مِن قَبلِهم في زمَنٍ قَريبٍ، وهم بنو النَّضيرِ؛ فإنَّهم أظهَروا الاستِعدادَ للحَربِ وأَبَوُا الجَلاءَ، فلم يُحارِبوا إلَّا في قَريتِهم؛ إذ حَصَّنوها وقَبَعوا فيها حتَّى أعياهم الحِصارُ فاضطُرُّوا إلى الجَلاءِ، ولم يَنفَعْهم المنافِقونَ ولا إخوانُهم مِن أهلِ الكِتابِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/107). .
ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ.
أي: نالوا جزاءَ كُفرِهم، فعَذَّبَهم اللهُ في الدُّنيا [334] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/540)، ((تفسير القرطبي)) (18/36)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853). .
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: ولهم عَذابٌ شَديدُ الإيلامِ في الآخِرةِ [335] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/540)، ((تفسير ابن عطية)) (5/290)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/108). .
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
هذا المَثَلُ مُتَّصِلٌ بقَولِه تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الحشر: 15] كما يُفصِحُ عنه قَولُه في آخِرِه: فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ الآيةَ، أي: مَثَلُهم في تَسبيبِهم لأنفُسِهم عذابَ الآخِرةِ كمَثَلِ الشَّيطانِ إذ يُوَسْوِسُ للإنسانِ بأن يَكفُرَ، ثمَّ يَترُكُه ويَتبَرَّأُ منه، فلا ينتَفِعُ أحَدُهما بصاحِبِه، ويَقَعانِ معًا في النَّارِ؛ فجُملةُ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ حالٌ مِن ضَميرِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الحشر: 15] ، أي: في الآخِرةِ [336] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/108، 109). .
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ.
أي: مَثَلُ أولئك المنافِقينَ الَّذين وَعَدوا يَهودَ بَني النَّضيرِ الخُروجَ معهم إن أُخرِجوا، والنُّصرةَ لهم إن قُوتِلوا، ثمَّ خَذَلوهم، فما مِن شَيءٍ مِن ذلك فَعَلوا، ومثَلُ اليهودِ في اغترارِهم بهم- كمَثَلِ الشَّيطانِ حينَ سوَّل للإنسانِ الكُفرَ بالرَّحمنِ، وزَيَّنَه له، ووَعَده وَعدًا حَسَنًا بالنَّصرِ أو نَحوِه [337] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/540، 541)، ((تفسير ابن عطية)) (5/290)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/116)، ((تفسير ابن كثير)) (8/75)، ((تفسير العليمي)) (7/17، 18)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853). ممَّن قال في الجملةِ إنَّ المرادَ أنَّ اللهَ تعالى ضرَبَ مثَلًا للمنافِقِينَ واليهودِ في تَخاذُلِهم، وتخلِّي بعضِهم عن بعضٍ، وعدَمِ الوفاءِ في نُصرتِهم: الثعلبيُّ، والواحدي، وابن الجوزي، والرَّسْعَني، والقرطبي، والخازن، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/284)، ((الوسيط)) للواحدي (4/276)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/261)، ((تفسير الرسعني)) (8/66)، ((تفسير القرطبي)) (18/37)، ((تفسير الخازن)) (4/273)، ((تفسير الشوكاني)) (5/244). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (5/290). وممَّن قال: إنَّ المرادَ مثَلُ المنافِقِين في غُرورِهم لبَني النَّضِيرِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، ومكِّي، والزمخشري، والبيضاوي، والنسفي، وابنُ جُزَي، والعُلَيمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/281)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/148)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7402)، ((تفسير الزمخشري)) (4/507)، ((تفسير البيضاوي)) (5/201)، ((تفسير النسفي)) (3/462)، ((تفسير ابن جزي)) (2/362)، ((تفسير العليمي)) (7/17)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853). وقيل: المرادُ: مثَلُ اليهودِ معَ المنافِقِينَ، واغترارِهم بهم حينَ وعَدوهم النَّصرَ. وممَّن اختاره: أبو حيَّان، وابنُ كثير، وجلال الدين المحلي، والشربيني. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/147)، ((تفسير ابن كثير)) (8/75)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 733)، ((تفسير الشربيني)) (4/253). وقال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: مَثَلُ هؤلاء المنافِقِينَ الَّذين وعَدوا اليهودَ مِن النَّضِيرِ النُّصْرةَ إن قُوتِلوا، أو الخروجَ معهم إنْ أخُرِجوا، ومَثَلُ النَّضيرِ في غُرورِهم إيَّاهم بإخلافِهم الوعدَ، وإسلامِهم إيَّاهم عندَ شدَّةِ حاجتِهم إليهم، وإلى نُصرتِهم إيَّاهم - كمَثَلِ الشَّيطانِ...). ((تفسير ابن جرير)) (22/540، 541). ويُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/193). وقال ابن عاشور: (حكى ابنُ عبَّاسٍ وغَيرُهما مِن السَّلَفِ في هذه الآيةِ قِصَّةَ راهبٍ بحِكايةٍ مُختَلفةٍ، جُعِلَت كأنَّها المرادُ مِن الإنسانِ في هذه الآيةِ، ذكَرَها ابنُ جريرٍ، والقُرطبيُّ، وضَعَّف ابنُ عطيَّةَ أسانيدَها، فلئن كانوا ذكَروا القِصَّةَ فإنَّما أرادوا أنَّها تَصلُحُ مِثالًا لِما يقَعُ مِن الشَّيطانِ للإنسانِ، كما مالَ إليه ابنُ كثيرٍ، فالمعنى: إذ قال للإنسانِ في الدُّنيا: اكفُرْ، فلمَّا كَفَر ووافى القيامةَ على الكُفرِ، قال الشَّيطانُ يومَ القيامةِ: إنِّي بَريءٌ منك، أي: قال كُلُّ شَيطانٍ لقَرينِه مِنَ الإنسِ: إنِّي بريءٌ منك). ((تفسير ابن عاشور)) (28/109). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/ 541)، ((تفسير ابن عطية)) (5/290)، ((تفسير القرطبي)) (18/37)، ((تفسير ابن كثير)) (8/75). .
فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ.
أي: فلمَّا كَفَر الإنسانُ باللهِ؛ اتِّباعًا للشَّيطانِ، وقَبولًا لتَزيينِه، واغترارًا بوَعدِه- تبَرَّأَ منه الشَّيطانُ وخَذَلَه [338] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/541)، ((الوسيط)) للواحدي (4/277)، ((تفسير الشوكاني)) (5/244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853). قال ابن عطية: (ذهَب مجاهدٌ وجمهورٌ مِن المتأوِّلينَ إلى أنَّ الشَّيطانَ والإنسانَ في هذه الآيةِ أسماءُ جِنسٍ؛ لأنَّ العُرفَ أن يَعمَلَ هذا شياطينُ بناسٍ، كما يُغْوي الشَّيطانُ الإنسانَ ثمَّ يَفِرُّ منه بعدَ أن يُوَرِّطَه، كذلك أغوى المنافِقونَ بَني النَّضيرِ، وحرَّضوهم على الثُّبوتِ، ووَعَدوهم النَّصرَ، فلمَّا نَشِبَ بَنو النَّضيرِ وكشَفوا عن وُجوهِهم ترَكَهم المُنافِقون في أسوأِ حالٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/290). وقال الألوسي: (الجُمهورُ على أنَّ المرادَ بالشَّيطانِ والإنسانِ الجِنسُ، فيكونُ التَّبَرِّي يومَ القيامةِ، وهو الأوفَقُ بظاهِرِ قَولِه: إِنِّي أَخَافُ... إلخ). ((تفسير الألوسي)) (14/253). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/147). !
كما قال تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 48] .
وقال سُبحانَه: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22] .
إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أي: قال الشَّيطانُ مُبَيِّنًا سَبَبَ تَبَرُّئِه مِن الإنسانِ الَّذي أطاعه في الكُفرِ: إنِّي أخافُ اللهَ الَّذي أوجَدَ جميعَ الخلائِقِ، وربَّاهم بنِعَمِه، فلا يُغْني أحَدٌ مِن خَلْقِه عن أحَدٍ شَيئًا إلَّا بإذْنِه؛ فليس لي قُدرةٌ على دَفعِ العذابِ عنك، أو جَلْبِ النَّفعِ لك [339] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/456)، ((تفسير الشوكاني)) (5/244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853). قال ابنُ عطية: (قولُ الشَّيطانِ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، رياءٌ مِن قَولِه، وليست على ذلك عقيدتُه، ولا يَعرِفُ اللهَ حَقَّ مَعرفتِه، ولا يَحجُزُه خَوفُه عن سُوءٍ يُوقِعُ فيه ابنَ آدَمَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/290). وقال القرطبي: (ليس قَولُ الشَّيطانِ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، حَقيقةً، إنَّما هو على وَجهِ التَّبَرُّؤِ مِن الإنسانِ؛ فهو تأكيدٌ لِقَولِه تعالى: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ). ((تفسير القرطبي)) (18/42). وقال الشوكاني: (قال الشَّيطانُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ. وهذا يكونُ منه يومَ القيامةِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/244). .
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17).
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا.
أي: فكان آخِرَ أمْرِ ذلك الشَّيطانِ والإنسانِ أنَّهما في النَّارِ ماكِثَينِ فيها أبَدًا [340] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/545)، ((الوسيط)) للواحدي (4/277)، ((تفسير القرطبي)) (18/42)، ((تفسير ابن كثير)) (8/76)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853). .
وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ.
أي: والعاقِبةُ السَّيِّئةُ بالخُلودِ في النَّارِ هي جزاءُ كُلِّ مَن ظَلَم نَفْسَه بالكُفرِ باللهِ [341] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/545)، ((تفسير ابن كثير)) (8/76)، ((تفسير السعدي)) (ص: 853)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/110). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ فيه تَربيةٌ للمُسلِمينَ؛ لِيَحذَروا مِن التَّخالُفِ والتَّدابُرِ، ويَعلَموا أنَّ الأُمَّةَ لا تكونُ ذاتَ بأسٍ على أعدائِها إلَّا إذا كانت متَّفِقةَ الضَّمائِرِ، يَرَونَ رأيًا مُتماثِلًا في أُصولِ مَصالِحِهما المُشتَرَكةِ، وإن اختَلَفت في خُصوصيَّاتِها الَّتي لا تَنقُضُ أُصولَ مَصالحِها، ولا تُفَرِّقُ جامِعَتَها؛ وأنَّه لا يكفي في الاتِّحادِ تَوافُقُ الأقوالِ، ولا التَّوافُقُ على الأغراضِ، إلَّا أن تكونَ الضَّمائِرُ خالِصةً مِن الإحَنِ والعَداواتِ [342] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/106). ، فاجتِماعُ النُّفوسِ مع تنافُرِ القُلوبِ واختِلافِها: أصلُ كُلِّ فَسادٍ، ومُوجِبُ كُلِّ تَخاذُلٍ، ومُقتَضٍ لتجاسُرِ العَدُوِّ؛ واتِّفاقُ القُلوبِ، والاشتراكُ في الهِمَّةِ، والتَّساوي في القَصدِ: يُوجِبُ كُلَّ ظَفَرٍ، وكُلَّ سعادةٍ [343] يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/563). .
2- عَن قَتادةَ في قَولِه تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى قال: (كذلك أهلُ الباطِلِ؛ مُختَلِفةٌ شَهادتُهم، مُختَلِفةٌ أهواؤُهم، مُختَلِفةٌ أعمالُهم، وهم مُجتَمِعونَ في عَداوةِ أهلِ الحَقِّ) [344] يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/116). .
3- أعظَمُ الأسبابِ في القَضاءِ على كِيانِ الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ هو اختِلافُ القُلوبِ؛ وذلك لاستِلزامِه الفَشَلَ، وذَهابَ القُوَّةِ والدَّولةِ، وسبَبُ هذا الدَّاءِ الَّذي عَمَّت به البلوى إنَّما هو ضَعفُ العَقلِ؛ كما بيَّن الله تعالى ذلك في قولِه: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، ثمَّ ذَكَر العِلَّةَ لكَونِ قُلوبِهم شَتَّى بقَولِه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ، ولا شَكَّ أنَّ داءَ ضَعفِ العَقلِ الَّذي يُصيبُه فيُضعِفُه عن إدراكِ الحقائِقِ، وتمييزِ الحَقِّ مِن الباطِلِ، والنَّافِعِ مِن الضَّارِّ، والحَسَنِ مِن القَبيحِ: لا دواءَ له إلَّا إنارتُه بنُورِ الوَحيِ؛ لأنَّ نُورَ الوَحيِ يحيا به مَن كان مَيتًا، ويُضيءُ الطَّريقَ للمُتمَسِّكِ به [345] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/53). .
4- في قَولِه تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أنَّه لا فائدةَ مِنِ اجتِماعِ الأبدانِ مع تَفَرُّقِ القلوبِ! الفائدةُ باجتماعِ القلوبِ وتآلُفِ القلوبِ ولو تباعدَتِ الأبدانُ، وكم مِن إنسانٍ يكونُ بيْنَك وبيْنَه مَوَدَّةٌ وصداقةٌ وهو بعيدٌ منك، وبعيدٌ عنك؟! وكم مِن إنسانٍ بالعكسِ؛ تَشعُرُ بأنَّه يُنافِقُك؛ وأنَّه لا يُكِنُّ لك المحَبَّةَ ولا الصَّداقةَ؛ ومع ذلك هو ملازِمٌ لك كمُلازَمةِ الظِّلِّ؟! فالشَّأنُ كلُّ الشَّأنِ بالقلوبِ [346] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/597). . قال الإمامُ أحمدُ: (إنَّ لي إخوانًا لا ألْقاهم إلَّا في كلِّ سنةٍ مرَّةً، أنا أوثقُ بمودَّتِهم ممَّن ألقَى كلَّ يومٍ) [347] يُنظر: ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 152). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- القِتالُ على الخَيلِ بالسِّلاحِ هو أعلى وأفضلُ مِن القِتالِ في الحُصونِ بالسِّلاحِ، فالحِصانُ خَيرٌ مِن الحُصونِ، ومَن لم يكُنْ قِتالُه إلَّا في الحُصونِ والجُدُرِ فهو مَذمومٌ كما قال تعالى: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ [348] يُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (1/328). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ لَمَّا كان رُبَّما ظُنَّ أنَّ هذا عن عَجزٍ منهم لازِمٍ لهم، دَفَعَه بقَولِه إعلامًا بأنَّه إنَّما هو مِن مُعجِزاتِ هذا الدِّينِ: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ، أي: إذا أدارُوا رأيًا، أو حاربَ بَعضُهم بَعضًا -على قولٍ-؛ فجَرَّأَ المؤمِنينَ عليهم بأنَّ ما يَنظُرونَه مِن شِدَّتِهم وشَجاعتِهم إذا حارَبوا المُشرِكينَ، لا يُذكَرُ عندَ مُحارَبةِ المؤمِنينَ؛ كرامةً أكرَمَ اللهُ بها المؤمِنينَ، تتضَمَّنُ عَلَمًا مِن أعلامِ النُّبُوَّةِ، تقويةً لإيمانِهم، وإعلاءً لشَأنِهم [349] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/451). .
3- قولُ اللهِ تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى فيه سُؤالٌ: كيف ذلك ونحنُ نراهم متَّفِقينَ؟
الجوابُ: أنَّ ظاهِرَ حالِهم حالُ اجتِماعٍ واتِّحادٍ، وهم في بواطِنِهم مُختَلِفونَ؛ فآراؤُهم غَيرُ مُتَّفِقةٍ، لا ألْفةَ بيْنَهم؛ لأنَّ بيْنَهم إِحَنًا وعَداواتٍ، فلا يَتعاضَدونَ، وهذا تقويةٌ للمؤمنينَ، وتَشجيعٌ لقُلوبِهم على قِتالِهم، والاستِخفافِ بجَماعتِهم [350] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/106). .
4- في قَولِه تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أنَّ اليهودَ ليسوا مجتَمِعينَ -وذلك على أنَّ الضَّميرَ يعودُ عليهم-؛ ولذلك هم أحزابٌ شتَّى، وحتَّى داخِلَ الحزبِ الواحدِ مُتفَرِّقونَ؛ لأنَّهم لا يُمكِنُ أنْ يَجتَمِعوا وقد أَلْقَى اللهُ بيْنَهم العداوةَ والبَغضاءَ، لكنْ لاحِظْ أنَّ العَدُوَّينِ إذا كان لهما عدوٌّ ثالثٌ، اجتمَعا عليه لمقابلةِ العدوِّ الثَّالثِ؛ فاجتِماعُهم الآنَ ليس لأنَّهم مُتحابُّونَ مُتآلِفونَ أبدًا، ولا يمكِنُ أنْ نُصَدِّقَ، واللهُ يقولُ: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة: 64] ، لكِنَّهم اجتَمَعوا لهَدَفٍ واحدٍ ومَصلَحةٍ واحِدةٍ ضِدَّ عَدُوٍّ واحدٍ للجَميعِ، وهذا الاجتِماعُ لا شَكَّ أنَّه اجتِماعٌ ظاهِريٌّ فقط، مَقصودٌ لغيرِه، وليس مَقصودًا لِذاتِه [351] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/133). ، فقُلوبُهم ليست مُتوادَّةً مُتوالِيةً إلَّا ما دام الغَرَضُ الَّذي يَؤُمُّونَه مُشتَرِكًا بيْنَهم، ثمَّ يَتخَلَّى بَعضُهم عن بعضٍ، بخِلافِ المؤمِنِ؛ فإنَّه يُحِبُّ المؤمِنَ، ويَنصُرُه بظَهرِ الغَيبِ، وإن تناءَت بهم الدِّيارُ، وتباعدَ الزَّمانُ [352] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/105). .
5- العقلُ الصَّريحُ يُوجِبُ الاجتماعَ؛ فإنَّ الحقَّ لا يَختلِفُ ولا يَتناقَضُ، وقد بَيَّنَ سُبحانَه وتعالى أنَّ تَشَتُّتَ اليهودِ هو بسَبَبِ عَدَمِ العَقلِ، قال تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [353] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (5/160). ، فالعَقلُ مدارُ الاجتماعِ، كما كان الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم أجمعينَ في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما أنَّ الهوى مدارُ الاختِلافِ [354] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/453). .
6- في قَولِه تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أنَّ الشَّيطانَ يَخذُلُ الإنسانَ في المواطنِ التي يحتاجُ فيها إلى النَّصرِ [355] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 103). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ
- قولُه: لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ هذه الجُملةُ بدَلُ اشتِمالٍ مِن جُملةِ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ [الحشر: 13] ؛ لأنَّ شِدَّةَ الرَّهبةِ مِن المسلمينَ تَشتمِلُ على شِدَّةِ التَّحصُّنِ لقِتالِهم إيَّاهم، أي: لا يَقدِرون على قِتالِكم إلَّا في هاتِه الأحوالِ [356] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/104). .
- وهذا أيضًا كِنايةٌ عن مَصيرِهم إلى الهزيمةِ؛ إذ ما حُورِبَ قومٌ في عُقْرِ دارِهم إلَّا ذَلُّوا، كما قال عليٌّ رضِيَ اللهُ عنه، وهذا إطْلاعٌ لهم على تَطمينٍ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنينَ، ودَخائلِ الأعداءِ [357] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/105). .
- قولُه: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ استئنافٌ سِيقَ لبَيانِ أنَّ ما ذُكِرَ مِن رَهبتِهم ليسَ لضَعْفِهِم وجُبْنِهم في أنفُسِهم؛ فإنَّ بأْسَهُم بالنِّسبةِ إلى أقرانِهِم شديدٌ -على قولٍ-، وإنَّما ضَعْفُهم وجُبْنُهم بالنِّسبةِ إليكم بما قذَفَ اللهُ تَعالَى في قُلوبِهم مِن الرُّعبِ [358] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/231)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/51). . وقيل: هو استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ الإخبارَ عن أهلِ الكِتابِ وأنصارِهم بأنَّهم لا يُقاتِلون المسلِمينَ إلَّا في قُرًى مُحصَّنةٍ المُفيدَ أنَّهم لا يتَّفِقون على جَيشٍ واحدٍ مُتسانِدين فيه؛ ممَّا يُثيرُ في نفْسِ السامعِ أنْ يَسأَلَ عن مُوجِبِ ذلك مع أنَّهم مُتَّفِقون على عَداوةِ المسلِمينَ، فيُجابُ بأنَّ بيْنهم بأسًا شديدًا وتَدابُرًا، فهمْ لا يَتَّفِقون [359] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/105، 106). .
- وافتُتِحَ الكلامُ بكَلمةِ بَأْسُهُمْ؛ للاهتِمامِ بالإخبارِ عنه بأنَّه بيْنَهم، أي: مُتسلِّطٌ مِن بَعضِهم على بَعضٍ، وليس بأْسُهم على المسلمينَ، وفيه تَهكُّمٌ [360] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/106). .
- قولُه: وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى قيل: القلوبُ: العقولُ والأفكارُ، وإطلاقُ القلْبِ على العقلِ كَثيرٌ في اللُّغةِ؛ شُبِّهَت العقولُ المختلِفةُ مَقاصدُها بالجماعاتِ المُتفرِّقينَ في جِهاتٍ في أنَّها لا تَتلاقى في مَكانٍ واحدٍ [361] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/106). .
- وأُتيَ بلَفظِ القومِ في قولِه: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ؛ إيماءً إلى أنَّ ذلك مِن آثارِ ضَعْفِ عُقولِهم حتَّى صارَتْ عُقولُهم كالمَعدومةِ؛ فالمُرادُ: أنَّهم لا يَعقِلون المَعقِلَ الصَّحيحَ، وإسنادُ الحُكْمِ إلى عُنوانِ (قَوم) يُؤذِنُ بأنَّ ذلك الحُكمَ كالجِبِلَّةِ المُقوِّمةِ للقوميَّةِ [362] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/107). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: لَا يَعْقِلُونَ، وفي الآيةِ الَّتي قبْلَها: لَا يَفْقَهُونَ [الحشر: 13] ؛ ووَجْهُه: أنَّه لَمَّا قال: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ، أي: خَوفُهم منكم أشدُّ مِن خَوفِهم مِن اللهِ تَعالى؛ لأنَّهم يَعلَمون ظاهرًا، ولا يَعرِفون ما استَتَرَ عنْهم منه، والفَقيهُ: مَن يَستدرِكُ مِن الكلامِ ظاهرَه الجَليَّ، وغامِضَه الخَفيَّ، بسُرعةِ فِطنتِه، وجَودةِ قَريحتِه، فلمَّا رَهِبوا النَّبيَّ ما لم يَرهَبوا اللهَ عزَّ ذِكرُه، صاروا كمَن يَعرِفُ ما يَشهَدُه، ويَجهَلُ ما يَغيبُ عنْه، ولو فَقِهوا لَعَلِموا أنَّ لِما ظَهَرَ مِن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باطنًا، خَفِيَ عنهم مِن أمْرِ اللهِ تَعالى؛ فلذلك وَصَفَهم بأنَّهم قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، وقال هنا: لَا يَعْقِلُونَ؛ لأنَّ مَعرِفةَ مآلِ التَّشتُّتِ في الرَّأيِ، وصَرْفِ البأسِ إلى المُشاركِ في المصلحةِ مِن الوهْنِ والْفَتِّ في ساعدِ الأُمَّةِ؛ مَعرِفةٌ مَشهورةٌ بيْن العُقلاءِ، فإهْمالُهم سُلوكَ ذلك جَعَلَهم سواءً مع مَن لا عُقولَ لهم، فكانت هذه الحالةُ شِقْوةً لهم حصَلَت منها سَعادةٌ للمسلمينَ [363] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1264-1266)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 235)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/471)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/458، 459)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 557، 558)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/107). .
2- قولُه تعالَى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- قولُه: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه: مَثَلُهم [364] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/231). .
- قولُه: مِنْ قَبْلِهِمْ حرْفُ (مِن) صِلةٌ؛ لتأْكيدِ ارتباطِ الظَّرفِ بعامِلِه [365] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/108). .
3- قولُه تعالَى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
- قولُه: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ خَبرٌ ثانٍ للمُبتدأِ المُقدَّرِ مُبيِّنٌ لحالِهِم، مُتضمِّنٌ لحالٍ أُخْرَى لليهودِ، وهي اغترارُهم بمُقابَلةِ المنافقينَ أوَّلًا وخَيبتُهُم آخِرًا، وقد أُجْمِلَ في النَّظمِ الكريمِ، حيث أُسنِدَ كلٌّ مِن الخَبَرينِ إلى المقدَّرِ المضافِ إلى ضَميرِ الفَريقَينِ مِن غيرِ تَعيينِ ما أُسْنِدَ إليه بخُصوصِه؛ ثقةً بأنَّ السَّامعَ يَرُدُّ كلًّا مِن المَثَلَينِ إلى ما يُماثِلُه، كأنَّهُ قيلَ: مَثَلُ اليهودِ في حُلولِ العذابِ بهم كمَثَلِ الَّذينَ مِن قبْلِهم... إلخ، ومَثَلُ المنافِقينَ في إغرائِهِم إيَّاهُم على القتالِ -حسَبَما نُقِلَ عنهُم- كمَثَلِ الشَّيطانِ... [366] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/232)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/52). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وفي الآيةِ إيجازُ حذْفٍ، حُذِفَ فيها مَعطوفاتٌ مُقدَّرةٌ بعْدَ شرْطِ (لَمَّا) هي داخلةٌ في الشَّرطِ؛ إذ التَّقديرُ: فلمَّا كَفَرَ واستَمرَّ على الكفْرِ، وجاء يومَ الحشْرِ واعتَذَرَ بأنَّ الشَّيطانَ أضَلَّه؛ قال الشَّيطانُ: إنِّي بَريءٌ منك... إلخ [367] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/109). .
- وجُملةُ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ تَعليلٌ كاذِبٌ مِن الشَّيطانِ لبَراءتِه مِن مُتَّبِعِه؛ وإلَّا فهو لا يَخافُ اللهَ [368] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/52). .
4- قولُه تعالَى: فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ مِن تَمامِ المَثَلِ، أي: كان عاقبةُ المُمثَّلِ بهما خُسرانَهما معًا، وكذلك تكونُ عاقبةُ الفريقَينِ المُمثَّلينِ أنَّهما خائبانِ فيما دبَّرَا وكادَا للمُسلِمينَ [369] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/110). .
- وجُملةُ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ تَذييلٌ، والإشارةُ بـ (ذلِك) إلى ما يدُلُّ عليه فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ مِن معْنى: فكانتْ عاقبتُهما سُوأَى، والعاقبةُ السُّوأى جَزاءُ جَميعِ الظَّالِمينَ المُعتدينَ على اللهِ والمسلِمينَ، فكما كانتْ عاقبةُ الكافرِ وشَيطانِه عاقبةَ سُوءٍ، كذلك تكونُ عاقبةُ المُمثَّلَينِ بهما وقدِ اشتَرَكَا في ظُلمِ أهلِ الخَيرِ والهُدى [370] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/110). .