موسوعة التفسير

سورةُ مَريمَ
الآيات (41-50)

ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ

غريب الكلمات :

صِدِّيقًا: الصِّدِّيقُ: هو المُصدِّقُ قولَه بفِعلِه، أو صدَق بقولِه واعتقادِه، وحقَّق صِدْقَه بفِعلِه، وقيل: هو مَن كثُر منه الصِّدقُ، وقيل: هو مَنْ لا يَكذِبُ قطُّ، أو مَن لا يَتأتَّى منه الكذبُ؛ لتعوُّدِه الصِّدقَ، وأصلُ (صدق): يدلُّ على قوَّةٍ في الشيءِ قولًا وغيرَه [419] يُنظر: ((تفسير الطبري)) (7/212)، ((المفردات)) للراغب (ص: 479)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/339). .
سَوِيًّا: مستقيمًا مستويًا، والسَّوِيُّ يُقالُ فيما يُصانُ عن الإفراطِ والتَّفريطِ مِن حيثُ القدرُ والكيفيَّةُ، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استِقامةٍ، واعتِدالٍ بينَ شَيئينِ [420] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/550)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/112)، ((المفردات)) للراغب (ص: 440)، ((تفسير ابن كثير)) (5/234). .
عَصِيًّا: أي: عاصيًا أو عاقًّا، وأصلُه هنا يدلُّ على الفُرقةِ [421] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/551)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 334)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/334)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 660). .
لَأَرْجُمَنَّكَ: الرَّجْمُ: الرَّمْيُ بالرِّجامِ، أي: الحجارةِ، والرجمُ: القتلُ؛ لأنَّهم كانوا يقتلونَ بالرَّجمِ، والرَّجمُ: الشَّتمُ والسَّبُّ؛ لأنَّه رمْيٌ بالقولِ القبيحِ، وأصلُ الرَّجمِ: يدلُّ على الرَّميِ بقولٍ كان أو بفعلِ [422] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 274)، ((تفسير ابن جرير)) (1/110) (15/552)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/493)، ((المفردات)) للراغب (ص: 345)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 224)، ((تفسير الرازي)) (19/129). .
مَلِيًّا: أي: حينًا طَويلًا، والإملاءُ: الإمدادُ، ومنه قيل للمُدَّة الطويلةِ: مُلاوةٌ مِن الدَّهرِ، وأصلُ (ملو): يدُلُّ على امتدادٍ في شَيءٍ؛ زَمانٍ أو غيرِه [423] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 274)، ((تفسير ابن جرير)) (6/260)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 420- 421)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/346، 352)، ((المفردات)) للراغب (ص: 776)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 224)، ((تفسير القرطبي)) (11/111). .
حَفِيًّا: أي: لطيفًا بارًّا كثيرَ الإحسانِ، والتحَفِّي: التلَطُّفُ في القَولِ والفِعلِ، وأصلُ (حفي): يدُلُّ على المُبالغةِ [424] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 274)، ((تفسير ابن جرير)) (15/556)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 189)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/83)، ((البسيط)) للواحدي (14/259)، ((المفردات)) للراغب (ص: 246)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/429). .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى جانبًا مِن قصةِ إبراهيمَ -عليه السلامُ-، ودعوتِه لأبيه، وما دار بينَهما مِن حوارٍ، فيقولُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- لقومِك في هذا القرآنِ قِصَّةَ إبراهيمَ -عليه السَّلامُ-: إنَّه كان كثيرَ الصِّدقِ، وكان نبيًّا رفيعَ المنزلةِ؛ إذ قال لأبيه: يا أبتِ، لماذا تَعبُدُ ما لا يسمَعُ ولا يُبصِرُ ولا يدفَعُ عنكَ شيئًا من دونِ الله؟! يا أبتِ، إنَّ الله أعطاني مِن العِلمِ ما لم يُعطِك، فاتَّبِعْني إلى ما أدعوك إليه أُرشِدْك طريقًا مُستقيمًا. يا أبتِ، لا تُطِعِ الشَّيطانَ فيما يُزَيِّنُ لك مِن الكُفرِ والشِّركِ؛ إنَّ الشَّيطانَ كان عاصيًا لله، مُستَكبرًا عن طاعتِه. يا أبتِ، إني أخافُ أن يمَسَّك عذابٌ مِن الرَّحمنِ إن أصرَرْتَ على كُفرِك، فتكونَ للشَّيطانِ قَرينًا في النَّارِ.
فقال له أبوه: أمُعرِضٌ أنت عن عبادةِ آلهتي يا إبراهيمُ؟ لئِنْ لم تنتَهِ عن سَبِّها لأرجُمَنَّك، واذهَبْ عني زمانًا طويلًا. قال إبراهيمُ لأبيه: سلامٌ عليك منِّي، فلا ينالُك منِّي ما تَكرهُ، وسوف أدعو اللهَ لك بالمغفرةِ؛ إنَّ ربِّي كان رَحيمًا لطيفًا مُعتَنيًا بي، يُجيبُني إذا دَعَوتُه، وأفارِقُكم وآلهَتَكم التي تَعبُدونَها مِن دونِ الله، وأدعو ربِّي مُخلِصًا؛ عسى ألَّا أشقى بدُعاءِ ربي، وإفرادي له بالعبادة.
ثم يبيِّنُ الله سبحانه ما ترتَّب على اعتزالِ إبراهيمَ للشركِ والمشركينَ فيقولُ: فلمَّا فارقهم وآلهَتَهم التي يعبدونَها مِن دونِ اللهِ رزَقْناه إسحاقَ ويعقوبَ بنَ إسحاقَ، وجعَلْناهما نبيَّينِ، ووهَبْنا لهم جميعًا -إبراهيمَ وإسحاقَ ويَعقوبَ- مِن رحمَتِنا فضلًا كثيرًا، وعِلمًا نافِعًا، وأعمالًا صالحةً، ورزقًا واسعًا، وذريَّةً كثيرةً، إلى غيرِ ذلك، وجعَلْنا لهم ذِكرًا حَسَنًا، وثناءً جميلًا باقيًا في النَّاسِ.

تفسير الآيات:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّن تعالى ضَلالَ مَن أثبَتَ مَعبودًا غيرَ اللهِ حَيًّا عاقِلًا فاهِمًا، وهم النَّصارى؛ تكلَّمَ في ضَلالِ مَن أثبَتَ مَعبودًا غيرَ اللهِ جمادًا، وهم عَبَدةُ الأوثانِ [425] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢١/٥٤١). ؛ فذكَرَ قِصَّةَ إبراهيمَ -عليه السَّلامُ- مع أبيه؛ تذكيرًا للعَربِ بما كان إبراهيمُ عليه مِن توحيدِ الله، وتبيينِ أنَّهم سالِكو غيرِ طَريقِه [426] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/267). ، فقال:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ.
أي: واتلُ -يا محمَّدُ- في القرآنِ خبَرَ إبراهيمَ عليه الصَّلاة والسَّلامُ، على قَومِك الذين هم مِن ذريَّتِه، ويدَّعون كَذِبًا أنَّهم على مِلَّتِه، ويتمَسَّكونَ بتَقليدِ آبائِهم، فهم يَعبُدونَ الأصنامَ والحالُ أنَّ أعظَمَ آبائِهم -إبراهيمَ- كان حنيفًا مُسلِمًا ينهَى أباه عن الشِّركِ، وعبادةِ الأصنامِ [427] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/548)، ((تفسير القرطبي)) (11/110)، ((تفسير ابن كثير)) (5/234)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/203). .
كما قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ [الشعراء: 69] .
إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا.
أي: إنَّ إبراهيمَ كان كثيرَ الصِّدقِ في أقوالِه وأعمالِه ومواعيدِه، بليغَ التَّصديقِ بكُلِّ ما هو أهلٌ لأن يُصَدَّقَ به، وكان نبيًّا رفيعَ القَدرِ [428] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/548)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 682)، ((تفسير ابن عطية)) (4/17، 18)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/203-204)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/424، 425). قال الشنقيطي: (الصِّدِّيقُ صِيغةُ مبالغةٍ مِن الصِّدقِ؛ لشِدَّةِ صِدقِ إبراهيمَ في معاملتِه مع رَبِّه، وصِدقِ لهجتِه، كما شَهِدَ اللهُ له بصِدقِ معاملتِه في قَولِه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37] ، وقَولِه: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة: 124] ، ومِن صِدقِه في معاملتِه رَبَّه: رِضاه بأن يَذبَحَ ولَدَه، وشُروعُه بالفِعلِ في ذلك؛ طاعةً لرَبِّه... ومِن صِدقِه في معاملتِه مع ربِّه: صبرُه على الإلقاءِ في النَّارِ... ومِن صِدقِه في معاملتِه رَبَّه: صبرُه على مفارقةِ الأهلِ والوطنِ؛ فرارًا بدينِه). ((أضواء البيان)) (3/424، 425). .
كما قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] .
وقال سُبحانَه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37] .
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42).
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ.
أي: اذكُرْ -يا مُحمَّدُ- إبراهيمَ حين قال لأبيه: يا أبتِ، لِماذا تعبُدُ أصنامًا لا تَسمَعُ ولا تُبصِرُ شَيئًا [429] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/549)، ((تفسير القرطبي)) (11/110، 111)، ((تفسير السعدي)) (ص: 494). ؟!
وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا.
أي: ولا تدفَعُ الأصنامُ عنك -يا أبتِ- أيَّ ضَررٍ، ولا تنفَعُك بأيِّ شَيءٍ، فلِمَ تَعبُدُها [430] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/549)، ((تفسير ابن كثير)) (5/234)، ((تفسير السعدي)) (ص: 494). ؟!
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43).
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ.
مناسبتُها لما قبلَها:
لما سألَه عن العلَّةِ في عبادةِ الصنمِ، ولا يمكنُ أن يجِدَ جوابًا؛ انتقَل معه إلى إخبارِه بأنَّه قد جاءَه مِن العلمِ ما لم يأتِه [431] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/268-269). .
وأيضًا لَمَّا نبَّهَه على أنَّ ما يَعبُدُه لا يَستَحِقُّ العبادةَ، بل لا تجوزُ عبادتُه؛ لِنَقصِه مُطلَقًا، ثمَّ نَقصِه عن عابِدِه، ولن يكونَ المعبودُ دونَ العابدِ أصلًا، وكان أقَلُّ ما يَصِلُ إليه بذلك مقامَ الحَيرةِ- نبَّهَه على أنَّه أهلٌ للهِدايةِ، فقال [432] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/205). :
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ.
أي: يا أبتِ، إنِّي قد أُعطيتُ مِن العِلمِ بالحَقِّ ما لم تُعْطَه [433] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/550)، ((تفسير القرطبي)) (11/111)، ((تفسير ابن كثير)) (5/234). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء: 51] .
فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا.
أي: فاقبَلْ نَصيحتي، واعبُدِ اللهَ وَحدَه، ولا تُشرِكْ به شيئًا؛ أُرشِدْك طريقًا مُستقيمًا لا اعوِجاجَ فيه، مُوصِلًا إلى نيلِ المطلوبِ، والنَّجاةِ مِن المرهوبِ [434] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/550)، ((تفسير القرطبي)) (11/111)، ((تفسير ابن كثير)) (5/234)، ((تفسير أبي السعود)) (5/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 494). .
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44).
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ.
أي: يا أبتِ، لا تُطِعِ الشَّيطانَ فيما يُزَيِّنُ لك مِن الكُفرِ والشِّركِ، فتكونَ عابدًا له [435] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/111)، ((تفسير ابن كثير)) (5/235)، ((تفسير السعدي)) (ص: 494)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/116)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/426). .
كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس: 60، 61].
إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا.
أي: لأنَّ الشَّيطانَ عاصٍ للرَّحمنِ، مُستكبِرٌ عن طاعتِه، فلا تتَّبِعْه فتكونَ عاصيًا لله مِثلَه [436] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/550)، ((تفسير ابن كثير)) (5/235)، ((تفسير السعدي)) (ص: 494)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/117). قال الواحدي: (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا قيل: كان: زائدةٌ. وقيل: إنَّه بمعنى صار. والصحيحُ: أنَّه بمعنى الحالِ، أي: كائن). ((البسيط)) (14/254). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/111). .
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما قرَّر له أنَّ عبادتَه الأصنامَ اتِّباعٌ لأمرِ الشَّيطانِ؛ انْتَقَل إلى تَوَقُّعِ حرمانِه مِنْ رحمةِ اللَّهِ بأنْ يَحِلَّ به عذابٌ مِنَ اللَّهِ، فحَذَّره مِنْ عاقبةِ أنْ يصيرَ مِن أولياءِ الشَّيطانِ [437] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/117). .
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ.
أي: يا أبتِ إنِّي أخافُ -إن أقمْتَ على الشِّركِ، وأصرَرْتَ عليه- أن يُصيبَك عذابٌ واقِعٌ مِن الرَّحمنِ [438] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 682)، ((تفسير ابن عطية)) (4/18)، ((تفسير القرطبي)) (11/111)، ((تفسير ابن كثير)) (5/235)، ((تفسير السعدي)) (ص: 494). .
فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا.
أي: فتكونَ من أولياءِ الشَّيطانِ، ومُقارِنًا له في النِّيرانِ، ويتبرَّأَ منك الرَّحمنُ، فلا تكونَ لك نصرةٌ أبدًا [439] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/551)، ((تفسير القرطبي)) (11/111)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/206)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/426). .
كما قال تعالى: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف: 30].
وقال سُبحانه: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 63] .
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46).
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ.
أي: قال أبوه: أتُعرِضُ -يا إبراهيمُ- عن عبادةِ آلهَتي، وتَترُكُها إلى غيرِها [440] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/551)، ((تفسير القرطبي)) (11/111)، ((تفسير ابن كثير)) (5/235)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/119)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/427، 429). ؟!
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ.
أي: لئِنْ لم تَترُكْ -يا إبراهيمُ- نُصحي، وذِكرَ آلهتي بسُوءٍ لأرجُمَنَّك [441] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/227)، ((تفسير ابن جرير)) (15/551)، ((تفسير الألوسي)) (8/416)، ((تفسير القاسمي)) (7/101)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495). قيل معنى: لَأَرْجُمَنَّكَ: لأشتُمَنَّك. وممن ذهَب إلى ذلك: مقاتلُ بنُ سليمان، وابنُ جرير، والزجَّاج، والواحدي، وابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/630)، ((تفسير ابن جرير)) (15/551)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/332)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 682)، ((تفسير ابن كثير)) (5/235). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ، والسدي، وابنُ جُريجٍ، والضحَّاك. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/552). وقيل: معنى: لَأَرْجُمَنَّكَ أي: بالحجارةِ. وممَّن ذهَب إلى هذا القولِ في الجملةِ: يحيى ابنُ سلام، والقاسمي، والسعدي، وابنُ عاشور، واستظهَره الشنقيطي. ونصَّ يحيى بنُ سلام، والسعدي، وابنُ عاشور على أنَّ المرادَ: القتلُ بها. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/227)، ((تفسير القاسمي)) (7/101)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/120)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/427). قال ابن عطية: (وقال الحسنُ بنُ أبي الحسنِ: معناه: لأرجُمَنَّك بالحجارةِ، وقالتْ فرقةٌ: معناه لأقتلنَّك، وهذان القولانِ بمعنًى واحدٍ). ((تفسير ابن عطية)) (4/18). ونقل ابن الجوزي عن الحسن أنَّ معنى قولِه: لَأَرْجُمَنَّكَ: أي: بالحجارةِ حتى تتباعدَ عنِّي. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/134). .
وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا.
أي: وابتَعِدْ عني زَمنًا طويلًا [442] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 274)، ((الوسيط)) للواحدي (3/185)، ((تفسير ابن جزي)) (1/481)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/207)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/120)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/427). وممَّن اختار أن المراد بقولِه مَلِيًّا: زمنًا طويلًا: ابنُ قتيبة، والواحدي، وابنُ جُزي، والبقاعي، والسعدي، وابنُ عاشور، والشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. قال ابنُ عطيةَ: (مَلِيًّا معناه: دهرًا طويلًا، مأخوذٌ مِن المَلَوينِ، وهما الليلُ والنهارُ، وهذا قولُ الجمهورِ، والحسنِ، ومجاهدٍ، وغيرِهما). ((تفسير ابن عطية)) (4/18). وقال النحَّاس: (القولُ عندَ أهلِ اللغةِ أنَّه بمعنى: زمانًا ودهرًا). ((معاني القرآن)) (4/335). وممن قال بنحو هذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهدٌ، وعكرمةُ، والحسنُ البصري، ومحمدُ بنُ إسحاقَ، وسعيدُ بنُ جُبير، والسُّدِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/552)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/134)، ((تفسير ابن كثير)) (5/235). وقيل: معنى وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا: سالِمًا مِن عقوبتي. وممَّن اختار هذا المعنى: ابنُ جريرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/554، 555). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وقتادةُ، وعطيةُ العوفي، والضحَّاك. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/554)، ((تفسير ابن كثير)) (5/235). .
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47).
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ.
أي: قال إبراهيمُ لأبيه: أنتَ في أمانٍ وسَلامةٍ مني، فلا ينالُك مني سوءٌ [443] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/555)، ((تفسير القرطبي)) (11/111)، ((تفسير ابن كثير)) (5/235، 236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/428). .
كما قال تعالى في صفةِ المؤمنينَ: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63] .
 وقال سُبحانَه: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص: 55] .
سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي.
أي: سأطلُبُ لك مِن ربِّي أن يستُرَ ذُنوبَك، ويتجاوَزَ عن مُؤاخَذتِك بها [444] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/555)، ((تفسير ابن عطية)) (4/19)، ((تفسير ابن كثير)) (5/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/121). وقيل: المرادُ: دُعاءُ إبراهيم بأن يهديَ اللهُ أباه للتوحيدِ، فتحصُلَ له بذلك مغفرةُ ذنوبِه. وممن قال بهذا المعنى: ابنُ عطيةَ، والبقاعي، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/19)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/208)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/121). قال ابنُ كثير: (وقد استغفر إبراهيمُ لأبيه مدةً طويلةً، وبعد أن هاجرَ إلى الشامِ وبنى المسجِدَ الحرامَ، وبعد أن وُلِدَ له إسماعيلُ وإسحاقُ -عليهما السلامُ- في قَولِه: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم: 41] . وقد استغفر المسلِمونَ لقراباتِهم وأهليهم من المُشرِكين في ابتداءِ الإسلامِ؛ وذلك اقتداءً بإبراهيمَ الخليلِ في ذلك، حتى أنزل الله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة: 4] ، يعني: إلَّا في هذا القَولِ، فلا تتأسَّوا به. ثمَّ بيَّن تعالى أنَّ إبراهيمَ أقلعَ عن ذلك، ورجع عنه، فقال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 113، 114]). ((تفسير ابن كثير)) (5/236). .
كما حكى تعالى قَولَ إبراهيمَ: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء: 86].
إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا.
أي: إنِّي عَهِدتُ رَبِّي لطيفًا، مُعتَنيًا بي، شديدَ البِرِّ والإكرامِ لي، كثيرَ الإحسانِ إليَّ، وقد هداني وعوَّدَني إجابةَ دُعائي [445] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/555)، ((تفسير القرطبي)) (11/113)، ((تفسير ابن كثير)) (5/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/429). .
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48).
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
أي: وأجتَنِبُكم وآلهَتَكم التي تَعبُدونَها مِن دونِ اللهِ [446] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/556)، ((البسيط)) للواحدي (14/260)، ((تفسير ابن عطية)) (4/19)، ((تفسير ابن كثير)) (5/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/122). .
وَأَدْعُو رَبِّي.
أي: وأعبُدُ رَبِّي وَحدَه، وأدعوه مُخلِصًا له لا أُشرِكُ به شيئًا [447] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/556)، ((تفسير ابن كثير)) (5/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/122، 123). .
عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا.
أي: أرجو ألَّا أشقَى بدُعائي لربِّي، وإفرادي له بالعبادةِ، بل أرجو أن يجيبَني، ويتقَبَّلَ أعمالي ويُسعِدَني [448] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/556)، ((البسيط)) للواحدي (14/260)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495). قال ابن كثير: («عسى» هذه مُوجِبةٌ لا محالةَ؛ فإنَّه عليه السلام سيِّدُ الأنبياءِ بعد محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير ابن كثير)) (5/236). .
كما قال تعالى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] .
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49).
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ.
أي: فلمَّا اجتنَبَ إبراهيمُ قَومَه، واجتنَب عبادةَ أصنامِهم وهاجَر؛ رزَقْناه ابنَه إسحاقَ وحفيدَه يعقوبَ [449] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/556)، ((تفسير السمعاني)) (3/297)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/134)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/124). قال ابن الجوزي: (قال المفسِّرون: هاجَر عنهم إلى أرضِ الشَّامِ، فوهَب اللهُ له إسحاقَ ويعقوبَ، فآنسَ الله وحَشَته عن فراقِ قَومِه بأولادٍ كرام). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/134). .*
كما قال تعالى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 99، 100].
وقال سُبحانَه: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ [الأنبياء: 71- 72].
وقال عزَّ وجلَّ: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] .
وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا.
أي: وكلًّا مِن إسحاقَ ويعقوبَ جعَلْناه نبيًّا [450] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/556)، ((تفسير ابن كثير)) (5/237)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/209، 210)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495). .
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50).
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا.
أي: وأعطَينا إبراهيمَ وإسحاقَ ويَعقوبَ عِلمًا نافِعًا، وأعمالًا صالحةً، ورزقًا واسعًا، وذريَّةً كثيرةً، وشرفًا عظيمًا، وغيرَ ذلك من الخيراتِ [451] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/557)، ((البسيط)) للواحدي (14/261)، ((تفسير ابن عطية)) (4/19)، ((تفسير النيسابوري)) (4/492)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/210)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495). .
كما قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 27] .
وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا.
أي: وجعَلْنا لهم ثناءً حَسَنًا، وذِكرًا جميلًا عاليًا صادقًا، مُستَمِرًّا مَنشورًا بين النَّاسِ إلى يومِ القيامةِ [452] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/557)، ((البسيط)) للواحدي (14/261)، ((تفسير ابن عطية)) (4/19)، ((تفسير القرطبي)) (11/113)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/260)، ((تفسير ابن كثير)) (5/237)، ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/357)، ((تفسير السعدي)) (ص: 495). .
كما قال تعالى حاكيًا دُعاءَ إبراهيمَ عليه السلامُ: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ [الشعراء: 84] .
وقال سُبحانَه: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [453] قال ابنُ القيم في قولِه: ذِكْرَى الدَّارِ: (هو الذِّكرُ الجميلُ الَّذي يُذكرونَ به في هذه الدَّارِ). ((الجواب الكافي)) (ص: 80)، وفي هذه الآيةِ أقوالٌ أُخرَى. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/578). [ص: 45، 46].

الفوائد التربوية:

1- تأمَّلْ قولَ إبراهيمَ الخليلِ -عليه السَّلامُ- لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ابتدأ خطابَه بذِكْرِ أُبُوَّتِه الدَّالَّةِ على توقيرِه، ولم يُسَمِّه باسمِه، ثم أخرجَ الكلامَ معه مَخْرَجَ السُّؤالِ، فقال: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ولم يقُلْ: «لا تعبُدْ»، ثمَّ قال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فلم يقُلْ له: «جاهلٌ لا عِلْمَ عندك!»، بل عَدَل عن هذه العبارةِ إلى ألطفِ عبارةٍ تدلُّ على هذا المعنى، فقال: جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ، فأتَى بصيغةٍ تقتضي أنَّ عندي وعندك علمًا، وأنَّ الذي وصَل إليَّ لم يصلْ إليك، ولم يأتِك، فينبغي لك أن تتبعَ الحجةَ، وتنقادَ لها، ثم قال: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا، وهذا مِثْلُ قولِ موسى لفرعونَ: وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ [النازعات: 19] ، ثمَّ قال: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا فنسَبَ الخوفَ إلى نفْسِه دون أبيه، كما يَفعَلُ الشفيقُ الخائفُ على مَن يُشْفِقُ عليه، وقال: يَمَسَّكَ فذكَر لفظَ المَسِّ الذي هو ألطفُ مِن غيره، ثم نَكَّرَ العذابَ، ثمَّ ذَكَرَ الرحمنَ، ولم يقلِ: «الجبارُ» ولا «القهارُ»، فأيُّ خطابٍ ألطفُ وألينُ مِن هذا [454] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/133)، ((تفسير السعدي)) (ص: 494). ؟!
2- نصيحةُ الابنِ لأبيه أو لأمِّه أو لأقاربه ليست عقوقًا للوالِدَينِ، ولا قطيعةً للأقاربِ، بل هذا مِن بِرِّ الوالِدَينِ وصِلةِ الأقاربِ؛ فالواجِبُ على الإنسانِ أن يبَرَّ والدَيه بنصيحتِهما، وأن يصِلَ أقارِبَه بنَصيحتِهم، كما قال الله تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ، وإذا غَضِبَ الوالدانِ أو الأقاربُ مِن هذه النَّصيحةِ فغَضَبُهم عليهم، وليس عليك منهم شيءٌ، ولا يُعَدُّ إغضابُهم بالنصيحةِ قطيعةً ولا عقوقًا، ولكن يجِبُ عليك أن تكون حكيمًا في النصيحةِ، بأن تتحرَّى الأحوالَ التي يكونون بها أقرَبَ إلى الإجابةِ والقَبولِ، وألَّا تُعَنِّفَ وتَسُبَّ وتَشتُمَ؛ لأنَّ هذا قد ينفِّرُ من تُوجِّهُ إليهم النصيحةَ، فإذا أتيتَ بالتي هي أحسَنُ مُخلِصًا لله عزَّ وجلَّ مُمتَثِلًا لأمرِه، ناصِحًا لعباده؛ كان في هذا خيرٌ كثيرٌ، ولا يضُرُّك غَضَبُ مَن غَضِبَ، ولنا في قِصَّةِ إبراهيمَ عليه السلامُ مع أبيه أُسوةٌ، لما نصَحه إبراهيمُ عليه السلامُ متلطفًا في خطابِه، ماذا قال له أبوه: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا فهل تجدُ غضبًا أشدَّ مِن هذا الغضبِ؟! يقول لابنِه: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ويقولُ: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا طويلًا، فماذا قال له: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا فاتَّخِذْ من هذه القصةِ عبرةً [455] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (12/285). .
3- قال الله تعالى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ... إلى قَولِه تعالى: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا فرتَّب نبيُّ الله إبراهيمُ صلَّى الله عليه وسلَّم كلامَه في غايةِ الحُسنِ؛ لأنَّه نبَّه أوَّلًا على ما يدُلُّ على المنعِ مِن عبادةِ الأوثانِ، ثمَّ أمَرَه باتِّباعِه فيما يدعو إليه مِن التوحيدِ ونبذِ الشركِ، ثمَّ نبَّه على أنَّ طاعةَ الشيطانِ غيرُ جائزةٍ في العقولِ، ثمَّ ختم الكلامَ بالوعيدِ الزَّاجِرِ عن الإقدامِ على ما لا ينبغي، ثمَّ إنَّه عليه السَّلامُ أورد هذا الكلامَ الحَسَنَ مَقرونًا باللُّطفِ والرِّفقِ؛ فإنَّ قَولَه في مُقَدِّمةِ كُلِّ كلامٍ: يَا أَبَتِ، دليلٌ على شِدَّةِ الحُبِّ، والرَّغبةِ في صَونِه عن العِقابِ، وإرشادِه إلى الصوابِ، وختَم الكلامَ بقَولِه: إِنِّي أَخَافُ وذلك يدُلُّ على شِدَّةِ تعَلُّقِ قَلبِه بمصالحِه، وإنَّما فعَل ذلك لوجوهٍ:
أحدُها: قضاءً لحَقِّ الأبوَّةِ على ما قال تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23] . والإرشادُ إلى الدينِ مِن أعظَمِ أنواعِ الإحسانِ، فإذا انضاف إليه رعايةُ الأدبِ والرِّفقِ، كان ذلك نورًا على نور.
وثانيها: أنَّ الهاديَ إلى الحقِّ لا بدَّ أن يكونَ رفيقًا لطيفًا، يورِدُ الكلامَ لا على سبيلِ العُنفِ؛ لأنَّ إيرادَه على سبيلِ العُنفِ يصير كالسبَّبِ في إعراضِ المُستَمِع، فيكونُ ذلك في الحقيقةِ سَعيًا في الإغواءِ [456] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/545). .
4- سمَّى اللهُ تعالى طاعةَ الشَّيطانِ في معصيتِه عِبادةً للشَّيطانِ، كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس: 60] ، وقال حاكيًا عن خليلِه إبراهيمَ أنَّه قال لأبيه: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، فمن لم يحقِّقْ عُبوديَّةَ الرَّحمنِ وطاعتَه، فإنَّه يعبُدُ الشَّيطانَ بطاعتِه له، ولم يَخلُصْ مِن عبادةِ الشَّيطانِ إلَّا مَن أخلَصَ عبوديَّةَ الرَّحمنِ، وهم الذين قال اللهُ فيهم: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر: 42] ؛ فهم الذين حَقَّقوا قَولَ: «لا إلهَ إلَّا اللهُ» وأخلصوا في قَولِها، وصَدَّقوا قَولَهم بفِعلِهم، فلم يلتَفِتوا إلى غَيرِ الله؛ محبَّةً ورجاءً، وخشيةً وطاعةً وتوكُّلًا، وهم الذين صَدَقوا في قَولِ: «لا إلهَ إلَّا اللهُ» وهم عبادُ الله حقًّا، فأمَّا مَن قال: «لا إلهَ إلَّا اللهُ» بلِسانِه، ثمَّ أطاع الشَّيطانَ وهواه في مَعصيةِ الله ومخالفتِه؛ فقد كَذَّب فِعلُه قَولَه، ونَقَص مِن كَمالِ توحيدِه بقَدرِ مَعصيةِ اللهِ في طاعةِ الشَّيطانِ والهوى. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص: 50] وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [457] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/58). [ص: 26] .
5- قال الله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا في ذِكرِ إضافةِ العِصيانِ إلى اسمِ الرَّحمنِ إشارةٌ إلى أنَّ المعاصيَ تمنَعُ العبدَ مِن رَحمةِ اللهِ، وتُغلِقُ عليه أبوابَها، كما أنَّ الطاعةَ أكبَرُ الأسبابِ لِنَيلِ رَحمتِه [458] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 494). .
6- قولُه: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ التَّعبيرُ بالخوفِ الدَّالِّ على الظَّنِّ دونَ القطعِ: تأدُّبٌ مع اللهِ تعالى بألَّا يُثْبِتَ أمرًا فيما هو مِن تصرُّفِ اللهِ، وإبقاءٌ للرَّجاءِ في نفْسِ أبيه؛ لينظُرَ في التَّخلُّصِ من ذلك العذابِ بالإقلاعِ عن عبادةِ الأوثانِ [459] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/118). .
7- قال الله تعالى: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا في ذلك تَسليةٌ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم، وتأسيةٌ فيما كان يلقَى مِن الأذى، ويُقاسي مِن قَومِه مِن العناءِ، ومِن عَمِّه أبي لهبٍ مِن الشَّدائِدِ والبلايا: بأعظَمِ آبائِه وأقرَبِهم به شَبَهًا [460] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/207). .
8- قَولُ الله تعالى: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ هذا دليلٌ على جوازِ مُتاركةِ المنصوحِ إذا ظهَر منه اللَّجاجُ [461] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/546). .
9- قَولُ الله تعالى: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ هذا دليلٌ على أنَّه تَحسُنُ مُقابلةُ الإساءةِ بالإحسانِ [462] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/546). ، فقولُه: سَلَامٌ عَلَيْكَ توديعٌ ومُتارَكةٌ على طريقةِ مُقابلةِ السَّيِّئةِ بالحسنةِ، أي: لا أُصِيبُك بمكروهٍ بعْدُ، ولا أُشافِهُك بما يُؤذيك [463] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/21)، ((تفسير البيضاوي)) (4/12)، ((تفسير أبي السعود)) (5/268)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/121). . ويجوزُ أنْ يكونَ قد دعا له بالسَّلامةِ؛ استمالةً له، ودليلُ ذلك أنَّه وعَدَه الاستغفارَ [464] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/21)، ((تفسير أبي حيان)) (7/271). . وبادرَهُ بالسَّلامِ قبْلَ الكلامِ الَّذي أعقَبَه به؛ إشارةً إلى أنَّه لا يَسوؤه ذلك الهجْرُ في ذاتِ اللهِ تعالى ومَرضاتِه [465] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/121). .
10- قال الله تعالى حاكيًا عن إبراهيمَ: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ قال بعضُ الحُكَماءِ: (من هاجر لطَلَبِ رِضا اللهِ عَزَّ وجَلَّ، أكرمَه الله عزَّ وجلَّ في الدُّنيا والآخرةِ)، كما أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ هاجر مِن قَومِه في طلَبِ رِضا الله تعالى عنه، فأكرَمَه الله تعالى [466] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/376-377). ، وعوَّضه أولادًا مؤمنينَ أنبياءَ، فما خسِر على اللهِ أحدٌ ترَك الكفَّارَ الفسقةَ لوجهِه [467] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/22). ، واللَّهُ سبحانَه يَجْزي العبدَ على عملِه بما هو مِن جنسِ عملِه، ومَن تَرَك لِلَّهِ شيئًا عَوَّضه اللَّهُ خيرًا منه [468] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 179). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا النبيُّ يجِبُ أن يكونَ صادِقًا في كلِّ ما أخبَرَ عنه؛ لأنَّ الله تعالى صَدَّقَه، ومَن يُصَدِّقْه اللهُ فهو صادِقٌ، وإلَّا لزِمَ الكَذِبُ في كلامِ الله تعالى؛ فيلزمُ مِن هذا كَونُ الرَّسولِ صادِقًا في كُلِّ ما يقولُ، ولأنَّ الرُّسُلَ شُهَداءُ اللهِ على النَّاسِ، على ما قال اللهُ تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] ، والشَّهيدُ إنَّما يُقبَلُ قَولُه إذا لم يكُنْ كاذِبًا، فلمَّا ثَبَت أنَّ كُلَّ نبيٍّ يجِبُ أن يكونَ صِدِّيقًا، ولا يجِبُ في كلِّ صِدِّيقٍ أن يكونَ نبيًّا- ظهَرَ بهذا قُربُ مَرتبةِ الصِّدِّيقِ مِن مَرتبةِ النبيِّ؛ فلهذا انتقَلَ مِن ذِكرِ كَونِه صِدِّيقًا إلى ذِكرِ كَونِه نبيًّا [469] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/542). .
2- في قَولِه تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ، وقَولِه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى وقَولِه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ، وقَولِه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ دَلالةٌ على أنَّ تذكرةَ قَصصِ الأنبياءِ المتقَدِّمينَ هو ممَّا أمَرَ اللهُ به المؤمنينَ [470] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/193). .
3- قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا فتدرَّج الخَليلُ عليه السَّلامُ بدعوة أبيه، بالأسهلِ فالأسهَلِ، فأخبَرَه بعِلمِه، وأنَّ ذلك مُوجِبٌ لاتِّباعِك إياي، وأنَّك إن أطعتَني اهتديتَ إلى صراطٍ مُستَقيمٍ، ثمَّ نهاه عن عبادةِ الشَّيطانِ، وأخبَرَه بما فيها من المضارِّ، ثمَّ حَذَّره عقابَ اللهِ ونِقمَتَه إن أقام على حالِه، وأنَّه يكونُ وليًّا للشَّيطانِ [471] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 494). .
4- قال الله تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، فوَصَف الأوثانَ بصِفاتٍ ثلاثٍ، كُلُّ واحدةٍ منها قادِحةٌ في الإلهيَّةِ، وبيانُ ذلك مِن أوجُهٍ:
أحدها: أنَّ العبادةَ غايةُ التعظيمِ؛ فلا يَستَحِقُّها إلَّا مَن له غايةُ الإنعامِ، وهو الإلهُ الذي منه أصولُ النِّعَمِ وفُروعُها؛ قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [مريم: 36] ، وقال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [البقرة: 28] الآية، وكما يُعلَمُ بالضَّرورةِ أنَّه لا يجوزُ الاشتِغالُ بشُكرِها ما لم تكُنْ مُنعِمةً، وجَبَ ألَّا يجوزَ الاشتِغالُ بعبادتِها.
ثانيها: أنَّها إذا لم تَسمَعْ ولم تُبصِرْ، ولم تميِّزْ مَن يُطيعُها عَمَّن يَعصيها، فأيُّ فائدةٍ في عبادتِها؟! وهذا ينبِّهُك على أنَّ الإلهَ يجِبُ أن يكونَ مَوصوفًا بصِفاتِ الكَمالِ، عالِمًا بكُلِّ المعلوماتِ؛ حتى يكونَ العبدُ آمِنًا مِن وُقوعِ الغَلَطِ للمَعبودِ.
ثالثها: أنَّ الدُّعاءَ هو العبادةُ؛ فالوَثَنُ إذا لم يَسمَعْ دُعاءَ الدَّاعي، فأيُّ مَنفعةٍ في عبادتِه؟! وإذا كانت لا تُبصِرُ بتقَرُّبِ مَن يتقَرَّبُ إليها، فأيُّ مَنفعةٍ في ذلك التقَرُّبِ؟!
رابعها: أنَّ السَّامِعَ المُبصِرَ، الضَّارَّ النَّافِعَ: أفضَلُ مِمَّن كان عاريًا عن كلِّ ذلك، والإنسانُ موصوفٌ بهذه الصِّفاتِ؛ فيكونُ أفضَلَ وأكمَلَ مِن الوَثَنِ، فكيف يليقُ بالأفضَلِ عِبادةُ الأخَسِّ؟!
خامسها: إذا كانت لا تنفَعُ ولا تضُرُّ، فلا يُرجَى منها مَنفَعةٌ، ولا يُخافُ مِن ضَرَرِها، فأيُّ فائدةٍ في عبادتِها؟!
سادسها: إذا كانت لا تحفَظُ أنفُسَها عن الكَسرِ والإفسادِ، على ما حكى اللهُ تعالى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ أنَّه كَسَرَها، وجعَلَها جُذاذًا؛ فأيُّ رجاءٍ للغيرِ فيها [472] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/543). ؟!
5- قال الله تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا عاب الوَثَنَ مِن ثلاثةِ أوجُهٍ؛ أحَدُها: لا يسمَعُ، وثانيها: لا يُبصِرُ. وثالثها: لا يغني عنك شيئًا، كأنه قال له: بل الإلهيَّةُ ليست إلَّا لربي؛ فإنَّه يسمَعُ ويُجيبُ دَعوةَ الداعي ويُبصِرُ، كما قال: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] ، ويقضي الحوائِجَ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [473] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/543). [النمل: 62] . فالآيةُ فيها دَلالةٌ على أنَّ مَنْ لا يتَّصِفُ بصِفاتِ الكَمالِ لا يصلحُ أنْ يكونَ ربًّا ولا إلهًا [474] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (10/154)، ((تقريب التدمرية)) لابن عثيمين (ص: 29). .
6- في قَولِه تعالى عن إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ردٌّ على المعتزلةِ والجَهميَّةِ، إذْ لا يُنْكِرُ إبراهيمُ على أبيه ما لا يَسمَعُ ولا يُبصِرُ إلَّا ومعبودُه يُبصِرُ ويَسمعُ، ويُغني عن كلِّ شَيءٍ [475] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/241). .
7- قال تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السلامُ: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا تَفريعُ أمْرِه بأنْ يتَّبِعَه على الإخبارِ بما عندَه من العلْمِ: دليلٌ على أنَّ أحقِّيَّةَ العالِمِ بأنْ يُتَّبعَ مركوزةٌ في غريزةِ العُقولِ، لم يزَلِ البشرُ يتقصَّونَ مظانَّ المعرفةِ والعلْمِ؛ لجلْبِ ما ينفَعُ، واتِّقاءِ ما يضُرُّ [476] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/115-116). .
8- قال الله تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السلامُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا فقال: لِلرَّحْمَنِ ولم يقُلْ: للجَبَّارِ؛ لئلَّا يُتوَهَّمَ أنَّه ما أملَى لعاصِيه مع جَبَروتِه إلَّا للعَجزِ عنه -سُبحانَه وتعالى- [477] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/206). .
9- قال الله تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السلامُ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا إنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لإمعانِه في الإخلاصِ لم يذكُرْ مِن جناياتِ الشَّيطانِ إلَّا كَونَه عاصيًا لله تعالى، ولم يَذكُرْ مُعاداتَه لآدمَ عليه السَّلامُ، كأنَّ النَّظَرَ في عِظَمِ ما ارتكبَه من ذلك العِصيانِ غَمَّى فِكرَه، وأطبَقَ على ذِهنِه. وأيضًا فإنَّ مَعصيةَ اللهِ تعالى لا تَصدُرُ إلَّا عن ضَعيفِ الرَّأي، ومَن كان كذلك كان حقيقًا ألَّا يُلتفَتَ إلى رأيِه، ولا يُجعَلَ لِقَولِه وَزنٌ [478] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/544). .
10- قال الله تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السلامُ: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا كلُّ مَن كان الشَّيطانُ يُزَيِّنُ له الكُفرَ والمعاصيَ فيَتَّبِعُه في ذلك في الدنيا، فلا وليَّ له في الآخرةِ إلَّا الشَّيطانُ [479] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/426). .
11- قال الله تعالى حكايةً عن والدِ إبراهيمَ: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا بيَّنَ الله جلَّ وعلا هنا أنَّ إبراهيمَ لَمَّا نصَح أباه النَّصيحةَ المذكورةَ، مع ما فيها مِن الرِّفقِ واللِّينِ، وإيضاحِ الحَقِّ، والتحذيرِ مِن عبادةِ ما لا يَسمَعُ ولا يُبصِرُ، ومِن عذابِ الله تعالى ووَلايةِ الشَّيطانِ- خاطَبَه هذا الخِطابَ العَنيفَ، وسمَّاه باسمِه لا بلَفظِ البُنُوَّة المذكِّرِ بالشَّفقةِ والعَطفِ؛ زيادةً في الإشارةِ إلى المقاطعةِ وتَوابِعِها، فلم يقُلْ له: (يا بُنَيَّ) في مقابلةِ قولِه له: يَا أَبَتِ، وأنكَر عليه أنَّه راغِبٌ عن عبادةِ الأوثانِ [480] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/207)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي(3/427). !
12- لمَّا كان في قولِه: لَأَرْجُمَنَّكَ فظاظةٌ وقساوةُ قلْبٍ، قابَلَه إبراهيمُ عليه السلامُ بالدُّعاءِ له بالسَّلامِ والأمْنِ، ووعَدَه بالاستغفارِ؛ قضاءً لحقِّ الأُبوَّةِ، وإنْ كان قد صدَرَ منه إغلاظٌ [481] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/272). .
13- في قولِ الله تعالى حاكيًا عن إبراهيمَ: عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا إشارةٌ إلى أنَّهم شَقُوا بعبادةِ الأصنامِ؛ لأنَّها لا تنفَعُهم، ولا تجيبُ دُعاءَهم [482] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (14/260). .
14- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا دَلالةٌ على أنَّ طاعةَ المؤمنِ تُثمِرُ له الثَّوابَ في الدُّنيا والآخرةِ [483] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/244). .
15- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا دَلالةٌ على أنَّ الشَّيءَ إذا سُمِّيَ به شيءٌ، جاز أن يُنقلَ إلى غيرِه؛ لِسَعةِ اللِّسانِ؛ إذِ اللسانُ المعروفُ عند العامَّةِ هو الذي يُنطَقُ به، وقد نُقِلَ في هذا الموضِعِ إلى الثَّناءِ الحَسَنِ [484] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/246). .
16- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا دَلالةٌ على أنَّ الثَّناءَ الحَسَنَ حِليةٌ جميلةٌ يُلبِسُ اللهُ عبدَه المؤمِنَ التقيَّ؛ لأنَّ لِسَانَ صِدْقٍ في هذا الموضِعِ هو الثناءُ الحَسَنُ، وإذا كان اللهُ بجودِه جعَلَه في عِداد النِّعَم، ومَدَحَ به مَن جعَلَه فيه، لم يَجُزْ للمؤمِنِ أنْ يكرَهَه، وكان له أن يفرحَ به، ويَعُدَّه مِن كِبارِ نِعَمِ اللهِ عليه [485] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/246). .
17- قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا المرادُ باللِّسانِ هاهنا: الثَّناءُ الحَسَنُ. فلمَّا كان الصِّدقُ باللِّسانِ، وهو محَلُّه، أطلَقَ اللهُ سُبحانَه ألسِنةَ العبادِ بالثَّناءِ على الصَّادقِ؛ جزاءً وِفاقًا، وعبَّرَ به عنه [486] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/260). .
18- مِن أعظَمِ نِعَمِ اللهِ على العَبدِ: أن يَرفَعَ له بينَ العالَمينَ ذِكرَه، ويُعلِيَ قَدْرَه؛ ولهذا خَصَّ أنبياءَه ورُسُلَه مِن ذلك بما ليس لِغَيرِهم، كما قال تعالى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص: 45، 46]، أي: خصَصْناهم بخَصيصةٍ، وهو الذِّكرُ الجَميلُ الذي يُذكَرونَ به في هذه الدَّارِ -وهذا على قَولٍ في الآيةِ- وهو لِسانُ الصِّدقِ الذي سأله إبراهيمُ الخَليلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ حيث قال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ [الشعراء: 84]، وقال سُبحانَه وتعالى عنه وعن بنيه: وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 50] ، وقال لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4] ؛ فأتباعُ الرُّسُلِ لهم نَصيبٌ مِن ذلك بحَسَبِ مِيراثِهم مِن طاعتِهم ومُتابعتِهم، وكُلُّ مَن خالفَهم فإنَّه بَعيدٌ مِن ذلك بحسَبِ مُخالفتِهم ومَعصيتِهم [487] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 80). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا
- في قولِه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ قُدِّمَ ذِكْرُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّه لمَّا كان قد جاء بالحَنيفيَّةِ وخالَفَها العربُ بالإشراكِ، وهم ورثةُ إبراهيمَ، كان لتَقديمِ ذِكْرِه على بقيَّةِ الأنبياءِ الموقعُ الجليلُ مِن البلاغةِ. وفي ذلك تَسليةٌ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما لقِيَ من مُشرِكي قومِه؛ لمُشابهةِ حالِهم بحالِ قومِ إبراهيمَ [488] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/111). .
- وجُملةُ: إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا استئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ مُوجبِ الأمرِ؛ فإنَّ وصْفَه -عليه السَّلامُ- بذلك مِن دواعي ذِكْرِه [489] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/266). . وهو تعليلٌ للاهتمامِ بذكْرِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ في التِّلاوةِ [490] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/112). .
- وفيه تأكيدُ هذا الخبرِ بحرفِ التَّوكيدِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ بتَحقيقِه زيادةً في الثَّناءِ عليه [491] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/112). .
- وقولُه: نَبِيًّا خبرٌ آخرُ لـ (كان) مُقيِّدٌ للأوَّلِ مُخصِّصٌ له، ولعلَّ هذا التَّرتيبَ للمُبالغةِ في الاحترازِ عن توهُّمِ تَخصيصِ الصِّدِّيقيَّةِ بالنُّبوَّةِ؛ فإنَّ كلَّ نَبيٍّ صِدِّيقٌ [492] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/266). .
2- قوله تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا
- قولُه: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ فيه افتتاحُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ خِطابَه أباهُ بندائِه يَا أَبَتِ، مع أنَّ الحضرةَ مُغنيةٌ عن النِّداءِ؛ قصدًا لإحضارِ سمْعِه وذِهْنِه لتلقِّي ما سيُلْقِيه إليه [493] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/113). .
- وقد كُرِّرتْ يَا أَبَتِ أربعَ مرَّاتٍ؛ لأنَّه ذكَرَها للاستعطافِ [494] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/11)، ((تفسير أبي حيان)) (7/268). ، وقيل: تَكرارُ النِّداءِ أربَعَ مرَّاتٍ اقتضاهُ مَقامُ استنزالِه إلى قَبولِ الموعظةِ؛ لأنَّها مقامُ إطنابٍ [495] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/114). .
- قولُه: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا استفهَمَ إبراهيمُ عليه السَّلامُ عن السَّببِ الحاملِ لأبيه على عِبادةِ الصَّنمِ، وهو مُنتفٍ عنه السَّمعُ والبصرُ، والإغناءُ عنه شيئًا؛ تَنبيهًا على شُنْعةِ الرَّأيِ، وقُبْحِه وفسادِه في عِبادةِ مَن انتفَتْ عنه هذه الأوصافُ [496] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/268). .
- قولُه: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا كِنايةٌ عن التَّعجيزِ عن إبداءِ المسؤولِ عنه؛ فهو مِن التَّوريةِ في مَعنيينِ يَحتمِلُهما الاستفهامُ [497] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/114). .
- ومعمولُ يَسْمَعُ ويُبْصِرُ مَنسيٌّ ولا يُنْوَى، أي: ما ليس به استماعٌ ولا إبصارٌ؛ لأنَّ المقصودَ نفْيُ هاتينِ الصِّفتينِ دونَ تَقييدٍ بمُتعلِّقٍ [498] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/268). .
3- قوله تعالى: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا
- قولُه: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ في إعادةِ نِدائِه بوصْفِ الأُبُوَّةِ: تأكيدٌ لإحضارِ الذِّهنِ، ولإمحاضِ النَّصيحةِ المُستفادِ من النِّداءِ الأوَّلِ [499] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/115). .
- وقال: مِنَ الْعِلْمِ على سَبيلِ التَّبعيضِ، أي: شيء من العلْمِ ليس معك [500] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/268-269). .
4- قوله تعالى: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا
- قولُه: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ فيه إعادةُ النِّداءِ في قولِه: يَا أَبَتِ؛ لزيادةِ تأكيدِ ما أفادهُ النِّداءُ الأوَّلُ والثَّاني. وفيه: إيجازٌ بالحذفِ؛ حيث إنَّ الكلامَ معناهُ: لا تعبُدِ الأصنامَ؛ لأنَّ اتِّخاذَها مِن تَسويلِ الشَّيطانِ للَّذين اتَّخذوها ووضَعُوها للنَّاسِ، وعِبادتَها مِن وَساوسِ الشَّيطانِ للَّذين سَنُّوا سننَ عِبادتِها، ومِن وَساوسِه للنَّاسِ الَّذين أطاعوهم في عِبادتِها، فمَن عبَدَ الأصنامَ فقد عبَدَ الشَّيطانَ، وكفَى بذلك ضَلالًا معلومًا. وفي هذا تَبغيضٌ لعبادةِ الأصنامِ؛ لأنَّ في قرارةِ نُفوسِ النَّاسِ بُغْضَ الشَّيطانِ، والحذَرَ من كيْدِه [501] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/116). .
- قولُه: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا تعليلٌ لمُوجِبِ النَّهيِ، فهو تَعليلٌ للنَّهيِ عن عبادتِه وعبادةِ آثارِ وَسوستِه بأنَّه شديدُ العصيانِ للرَّبِّ واسعِ الرَّحمةِ. وتأكيدٌ له ببَيانِ أنَّه مُستعصٍ على ربِّك الَّذي أنعَمَ عليك بفُنونِ النِّعمِ، ولا ريبَ أنَّ المُطيعَ للعاصي عاصٍ، وكلُّ مَن هو عاصٍ حقيقٌ بأنْ يَسترِدَّ منه النِّعمَ، وينتقِمَ منه [502] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/267)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/117). .
- وفي قولِه: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا بعدَ قولِه: لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ إظهارُ اسمِ الشَّيطانِ في مَقامِ الإضمارِ؛ إذ لم يقُلْ: (إنَّه كان للرَّحمنِ عصيًّا)؛ لإيضاحِ إسنادِ الخبرِ إلى المُسنَدِ إليه، ولزيادةِ التَّنفيرِ من الشَّيطانِ؛ لأنَّ في ذِكْرِ صَريحِ اسْمِه تَنبيهًا إلى النُّفرةِ منه، ولتكونَ الجُملةُ موعظةً قائمةً بنفْسِها [503] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/267)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/117). .
- وجاء لفظُ (الرَّحمنِ) هنا؛ تَنبيهًا على سَعةِ رحمتِه، وأنَّ مَن هذا وصْفُه هو الَّذي يَنْبغي أنْ يُعبَدَ ولا يُعْصى، ولإظهارِ كَمالِ شَناعةِ عصيانِه؛ حيث عصى مَن هذه صِفَتُه، وارتكَبَ من ذلك ما طرَدَه مِن هذه الرَّحمةِ [504] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/269)، ((تفسير أبي السعود)) (5/267). .
- والاقتصارُ على ذِكْرِ عصيانِه من بينِ سائرِ جِناياتِه؛ لأنَّه مِلاكُها، أو لأنَّه نَتيجةُ مُعاداتِه لآدمَ عليه السَّلامُ وذُرِّيتِه؛ فتَذكيرُه داعٍ لأبيه إلى الاحترازِ عن مُوالاتِه وطاعتِه [505] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/12)، ((تفسير أبي السعود)) (5/267)، ((تفسير الألوسي)) (8/415). .
- وذكْرُ وصْفِ عَصِيًّا الَّذي هو من صِيَغِ المُبالغةِ في العصيانِ، مع زيادةِ فعْلِ (كان)؛ للدَّلالةِ على أنَّه لا يُفارِقُ عِصيانَ ربِّه، وأنَّه مُتمكِّنٌ منه، فلا جرَمَ أنَّه لا يأمُرُ إلَّا بما يُنافي الرَّحمةَ، أي: بما يُفْضي إلى النِّقمةِ، ولذلك اخْتِيرَ وصْفُ الرَّحمنِ من بينِ صفاتِ اللهِ تعالى؛ تَنبيهًا على أنَّ عِبادةَ الأصنامِ تُوجِبُ غضَبَ اللهِ، فتُفْضي إلى الحرمانِ من رَحمتِه، فمَن كان هذا حالَهُ فهو جديرٌ بألَّا يُتَّبَعَ [506] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/117). .
5- قوله تعالى: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا خوَّفَه إبراهيمُ سُوءَ العاقبةِ، وتأدَّبَ معه؛ إذ لم يُصرِّحْ بلُحوقِ العذابِ به، بل أخرَجَ ذلك مَخرجَ الخائفِ، وأتى بلفظِ (المَسِّ) الَّذي هو ألطَفُ من المُعاقبةِ، ونكَّرَ (العذابَ)، ورتَّبَ على مَسِّ العذابِ ما هو أكبرُ منه، وهو ولايةُ الشَّيطانِ، كما قال في مُقابلِ ذلك: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] . وقيل: في الكلامِ تَقديمٌ وتأخيرٌ، والتَّقديرُ: إنِّي أخافُ أنْ تكونَ وليًّا في الدُّنيا للشَّيطانِ، فيمسَّكَ في الآخرةِ عذابٌ من الرَّحمنِ. وقيل: لا يتعيَّنُ أنَّ العذابَ يكونُ في الآخرةِ، بل يَحْتَمِلُ أنْ يُحمَلَ العذابُ على الخِذلانِ من اللهِ، فيَصيرَ مُواليًا للشَّيطانِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ مَسُّ العذابِ في الدُّنيا بأنْ يُبْتَلى على كُفرِه بعذابٍ في الدُّنيا، فيكون ذلك العذابُ سببًا لِتَماديه على الكُفرِ، وصَيرورتِه إلى ولايةِ الشَّيطانِ إلى أنْ يُوافى على الكُفْرِ [507] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/269). .
- وكلمةُ (مِن) مُتعلِّقةٌ بمُضمرٍ وقَعَ صِفةً للعذابِ، مُؤكِّدةٌ لِما أفادهُ التَّنكيرُ في (عذاب) من الفخامةِ الذَّاتيَّةِ بالفخامةِ الإضافيَّةِ [508] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/267). .
- وذِكْرُ الخوفِ والمَسِّ وتَنكيرُ العذابِ؛ إمَّا للمُجامَلةِ، وإبرازِ الاعتناءِ بأمْرِه، أو لخفاءِ العاقبةِ [509] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/12)، ((تفسير أبي السعود)) (5/267-268). .
- قولُه: أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ عبَّرَ عن الجلالةِ بوصْفِ (الرَّحمنِ)؛ للإشارةِ إلى أنَّ حُلولَ العذابِ ممَّن شأْنُه أنْ يَرْحَمَ إنَّما يكونَ لفظاعةِ جُرمِه إلى حدِّ أنْ يَحرِمَه مِن رَحمتِه مَن شأْنُه سَعةُ الرَّحمةِ [510] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/267)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/117-118). .
- قولُه: فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا كُنِّي بالولايةِ عن المُقارَنةِ في المصيرِ [511] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/118). .
- وهذه الآياتُ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ إلى قولِه: فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا بلغَتْ ذِروةَ البلاغةِ، وانطوَتْ على معاجزَ تُذهِلُ العُقولَ؛ فمنها الاستدراجُ [512] الاستدراجُ لُغةً: الترقيةُ والإدناءُ على التدريجِ، والأخْذُ قليلًا قليلًا وعدَمُ المُباغَتةِ. أو التوصُّلُ إلى حُصولِ المقصودِ من غيرِ إشعارٍ مِن أوَّلِ وهلةٍ. واصطلاحًا: هو الكلامُ المشتمِلُ على إسماعِ الحقِّ على وجهٍ لا يُورِثُ مزيدَ غضَبِ المخاطَبِ، سواء كان فيه تعريضٌ أو لا، كقولِه تعالى عن مُؤمِنِ (يس): وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس: 22] ، أي: ما لكم -أيُّها الكَفرةُ- لا تَعبُدون الذي خلَقَكم، ثم قال: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ؛ ففيه تعريضٌ لهم بأنَّهم على الباطلِ، ولم يُصرِّحْ بذلك؛ لئلَّا يزيدَ غضبُهم، حيثُ يُريدُ المتكلِّمُ لهم ما يُريدُ لنَفْسِه، وسمَّاه بعضهم: «المُنصِف من الكلام»، ومنه قولُ الخليل عليه السَّلامُ لأبيه: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم: 42] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (5/559- 560)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/111)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/110). ، وحسنُ التَّرتيبِ والاتِّساق، وكلُّ هذا ظاهرٌ في هذه الآياتِ: فحين أراد إبراهيمُ أنْ ينصَحَ أباهُ ويَعِظَه فيما كان مُتورِّطًا فيه من الخطَأِ العظيمِ، والارتكابِ الشَّنيعِ؛ رتَّبَ الكلامَ معه في أحسنِ اتِّساقٍ، مع استعمالِ المُجامَلةِ واللُّطفِ والرِّفقِ، والأدبِ الجميلِ والخُلقِ الحسنِ؛ وذلك أنَّه طلَبَ منه أوَّلًا: العلَّةَ في خطئِه؛ لأنَّ المعبودَ لو كان حيًّا مُميزًا سميعًا بصيرًا، مُقتدِرًا على الثَّوابِ والعقابِ، نافعًا ضارًّا، إلَّا أنَّه بعضُ الخلْقِ: لاسْتُخِفَّ عقْلُ مَن أهَّلَه للعبادةِ، ووصَفَه بالرُّبوبيةِ، ولسُجِّلَ عليه بالغيِّ المُبينِ، والظُّلمِ العظيمِ، وإنْ كان أشرَفَ الخلْقِ، وأعلاهم منزلةً، فما ظنُّك بمَن وجَّهَ عِبادتَه إلى جمادٍ ليس به حسٌّ ولا شُعورٌ؟! ثمَّ ثَنَّى بدعوتِه إلى الحقِّ مُترفِّقًا به مُتلطِّفًا، ثمَّ ثلَّثَ بتَثبيطِه ونهْيِه عمَّا كان عليه بأنَّ الشَّيطانَ الَّذي استعصى على ربِّك الرَّحمنِ، الَّذي جميعُ ما عندَك مِن النِّعمِ مِن عندِه، وهو عدُوُّك الَّذي لا يُريدُ بك إلَّا كلَّ هلاكٍ وخزْيٍ ونكالٍ، هو الَّذي ورَّطَك في هذه الضَّلالةِ، وزيَّنَها لك، فأنت إنْ حقَّقتَ النَّظرَ عابدٌ الشَّيطانَ، ثمَّ ربَّعَ بتخويفِه سُوءَ العاقبةِ، وبما يجُرُّه ما هو فيه مِن التَّبعةِ والوبالِ، ولم يخْلُ ذلك مِن حُسنِ الأدبِ؛ حيث لم يُصرِّحْ بأنَّ العقابَ لاحقٌ له، وأنَّ العذابَ لاصقٌ به، ولكنَّه قال: أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ [513] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/20-22)، ((تفسير البيضاوي)) (4/11-12)، ((تفسير أبي حيان)) (7/267)، ((تفسير أبي السعود)) (5/267)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/110). .
6- قولُه تعالى: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا استئنافٌ مَبنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ من صدْرِ الكلامِ، كأنَّه قيلَ: فماذَا قال أبوهُ عندما سمِعَ منه عليه السَّلامُ هذه النَّصائحَ الواجبةَ القَبولِ؟ فقيل: قال مُصِرًّا على عِنادِه: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ، بتَوجيهِ الإنكارِ إلى نفْسِ الرَّغبةِ، مع ضرْبٍ مِن التَّعجُّبِ؛ كأنَّ الرَّغبةَ عنها ممَّا لا يَصدُرُ عن العاقلِ، فضْلًا عن تَرغيبِ الغيرِ عنها [514] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/268). .
- ولمَّا أطلَعَه على سَماجةِ صُورةِ أمْرِه، وهدَمَ مذهبَه بالحُججِ القاطعةِ، وناصَحَه المُناصحةَ العجيبةَ، مع تلك المُلاطفاتِ، فقابَلَ استعطافَه ولُطفَه في الإرشادِ بفظاظةِ الكُفرِ وغِلظةِ العنادِ؛ فناداهُ باسْمِه، ولم يُقابِلْ: (يا أَبَتِ) بـ (يا بُنَيَّ). وقدَّمَ الخبرَ على المُبتدأِ في قولِه: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ؛ لأنَّه كان أهمَّ عنده، وهو عنده أعْنى. وصَدَّرَه بالهمزةِ؛ لإنكارِ نفْسِ الرَّغبةِ عن آلهتِه على ضرْبٍ من التَّعجُّبِ، وأنَّ آلهتَه ما يَنْبغي أنْ يَرْغَبَ عنها أحدٌ، كأنَّها ممَّا لا يرغَبُ عنها عاقلٌ. وفي هذا سُلوانٌ وثلْجٌ لصدْرِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عمَّا كان يَلْقَى مِن مثْلِ ذلك من كُفَّارِ قومِه [515] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/20)، ((تفسير البيضاوي)) (4/12). ؛ فالاستفهامُ في للإنكارِ؛ إنكارًا لِتَجافي إبراهيمَ عن عِبادةِ أصنامِهم. وإضافةُ الآلهةِ إلى ضَميرِ نفْسِه إضافةَ ولايةٍ وانتسابٍ إلى المُضافِ؛ لقصْدِ تَشريفِ المُضافِ إليه. وقد جاء في جوابِه دعوةَ ابْنِه بمُنتهَى الجفاءِ والعُنْجُهيَّةِ بعكْسِ ما في كلامِ إبراهيمَ من اللِّينِ والرِّقَّةِ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّه كان قاسيَ القلْبِ، بعيدَ الفَهمِ، شديدَ التَّصلُّبِ في الكُفرِ [516] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/118). .
- والنِّداءُ في قولِه: يَا إِبْرَاهِيمُ تَكملةٌ لجُملةِ الإنكارِ والتَّعجُّبِ؛ لأنَّ المُتعجَّبَ مِن فعْلِه مع حُضورِه يُقْصَدُ بندائِه تَنبيهُه على سُوءِ فعْلِه، كأنَّه في غَيبةٍ عن إدراكِ فعْلِه؛ فالمُتكلِّمُ يُنزِّلُه منزلةَ الغائبِ، فيُناديه لإرجاعِ رُشدِه إليه، فيَنْبغي الوقْفُ على قولِه: يَا إِبْرَاهِيمُ [517] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/118). .
- وجُملةُ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ مُستأنفةٌ، واللَّامُ في قولِه: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ مُوطِّئةٌ للقسمِ؛ تأكيدًا لكونِه راجِمَه إنْ لم يَنْتهِ عن كُفرِه بآلهتِهم [518] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/118). ، وهو تَهديدٌ وتحذيرٌ عمَّا كان عليه من العِظَةِ والتَّذكيرِ، أي: واللهِ لئِن لمْ تَنتهِ عمَّا كنْتَ عليه من النَّهيِ عن عِبادتِها، لَأرجُمنَّك [519] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/12)، ((تفسير أبي السعود)) (5/268). .
- ومُتعلِّقُ تَنْتَهِ محذوفٌ، ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ: عن مُخاطَبتي بما خاطبْتَني به، ودَعَوتني إليه، وأنْ يكونَ: لئنْ لم تَنتهِ عن الرَّغبةِ عن آلِهَتي [520] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/270). .
- قولُه: لَأَرْجُمَنَّكَ الرَّجمُ: الرَّميُ بالحجارةِ، وهو كِنايةٌ مَشهورةٌ في معنى القتْلِ بذلك الرَّميِ [521] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/120). ، وهذا على قولٍ في التفسيرِ.
- وجُملةُ: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا عطْفٌ على جُملةِ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ؛ وذلك أنَّه هدَّدَه بعُقوبةٍ آجلةٍ إنْ لم يُقلِعْ عن كُفرِه بآلهتِهم، وبعُقوبةٍ عاجلةٍ، وهي طردُه من مُعاشرتِه، وقطْعِ مُكالمتِه. وإنَّما أمَرَ أبو إبراهيمَ ابْنَه بهِجرانِه، ولم يُخْبِرْه بأنَّه هو يهجُرُه؛ ليدُلَّ على أنَّ هذا الهِجرانَ في معنى الطَّردِ والخلْعِ؛ إشعارًا بتَحقيرِه [522] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/120). . وقيل: عطَفَ وَاهْجُرْنِي على معطوفٍ عليه مَحذوفٍ، يدُلُّ عليه لَأَرْجُمَنَّكَ، أي: فاحْذَرْني واهجُرْني؛ لأنَّ لَأَرْجُمَنَّكَ تَهديدٌ وتقريعٌ [523] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/21)، ((تفسير البيضاوي)) (4/12). .
7- قوله تعالى: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا
- قولُه: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي جُملةٌ مُستأنفةٌ، وعلامةُ الاستقبالِ والفعْلُ المُضارعُ في قولِه: سَأَسْتَغْفِرُ مُؤذنانِ بأنَّه يُكرِّرُ الاستغفارَ في المُستقبلِ [524] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/121). .
- قولُه: إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا تعليلٌ لِما يَتضمَّنُه الوعدُ بالاستغفارِ من رَجاءِ المغفرةِ؛ استجابةً لدعوةِ إبراهيمَ بأنْ يُوفِّقَ اللهُ أبا إبراهيمَ للتَّوحيدِ، ونبْذِ الإشراكِ [525] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/268)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/121). .
8- قوله تعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا
- جُملةُ: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عطْفٌ على جُملةِ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، أي: يقَعُ الاستغفارُ في المُستقبلِ، ويقَعُ اعتزالي إيَّاكم الآنَ؛ لأنَّ المُضارِعَ غالبٌ في الحالِ [526] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/122). .
- وضَميرُ جماعةِ المُخاطبينَ في وَأَعْتَزِلُكُمْ عائدٌ إلى أبي إبراهيمَ وقومِه؛ تَنزيلًا لهم منزلةَ الحُضورِ في ذلك المجلسِ؛ لأنَّ أباهُ واحدٌ منهم، وأمْرُهم سواءٌ، أو كان هذا المقالُ جَرى بمَحضرِ جماعةٍ منهم [527] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/122). .
- قولُه: وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عطَفَ على ضميرِ القومِ أصنامَهم؛ للإشارةِ إلى عداوتِه لتلك الأصنامِ؛ إعلانًا بتَغييرِ المُنكرِ، وعبَّرَ عن الأصنامِ بطريقِ الموصوليَّةِ بقولِه: وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ للإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الخبرِ، وعلَّةِ اعتزالِه إيَّاهم وأصنامَهم: بأنَّ تلك الأصنامَ تُعْبَدُ مِن دونِ اللهِ، وأنَّ القومَ يَعْبدونها، فذلك وجْهُ اعتزالِه إيَّاهم وأصنامَهم [528] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/122). .
- قولُه: وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا زاد على الإعلانِ باعتزالِ أصنامِهم الإعلانَ بأنَّه يَدْعو اللهَ؛ احتراسًا من أنْ يَحْسَبوا أنَّه نوَى مُجرَّدَ اعتزالِ عبادةِ أصنامِهم؛ فربَّما اقْتَنعوا بإمساكِه عنهم، ولذا بيَّنَ لهم أنَّه بعكْسِ ذلك؛ يَدْعو اللهَ الَّذي لا يَعْبدونه [529] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/123). .
- وعبَّر عن اللهِ بوصْفِ الرُّبوبيَّةِ المُضافِ إلى ضَميرِ نفْسِه رَبِّي؛ للإشارةِ إلى انفرادِه من بينِهم بعبادةِ اللهِ تعالى؛ فهو ربُّه وحدَه مِن بينِهم؛ فالإضافةُ هنا تُفيدُ معنى القصرِ الإضافيِّ، مع ما تضمَّنتْه الإضافةُ مِن الاعتزازِ برُبوبيَّةِ اللهِ إيَّاهُ، والتَّشريفِ لنفْسِه بذلك [530] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/123). .
- قولُه: عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا في إعلانِه هذا الرَّجاءَ بينَ ظهرانَيْهم تَعريضٌ بشقاوتِهم بدُعاءِ آلهتِهم، معَ التَّواضُعِ للهِ بكلمةِ (عَسى) وما فيه من هضْمِ النَّفسِ [531] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/22)، ((تفسير أبي حيان)) (7/272)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/123). ، والتَّنبيهِ على أنَّ الإجابةَ والإثابةَ تفضُّلٌ غيرُ واجبتينِ، وأنَّ العِبرةَ بالخاتمةِ، وذلك مِن الغيوبِ المُختصَّةِ بالعليمِ الخبيرِ [532] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/12)، ((تفسير أبي السعود)) (5/269). . وقيل: كأنَّه احتَرز بذلك عمَّا لا بدَّ للأولياءِ مِنه في الدُّنيا مِن البلاءِ [533] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/209). .
9- قوله تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا
- طُوِيَ ذِكْرُ اعتزالِه إيَّاهم بعدَ أنْ ذكَرَ عزْمَه عليه؛ إيجازًا في الكلامِ؛ للعلْمِ بأنَّ مثْلَه لا يعزِمُ أمرًا إلَّا نفَّذَ عزْمَه، واكتفاءً بذِكْرِ ما ترتَّبَ عليه من جعْلِ عزْمِه حدَثًا واقعًا قد حصَلَ جزاؤهُ عليه مِن ربِّه، فإنَّه لمَّا اعتزَلَ أباهُ وقومَه، واستوحَشَ بذلك الفراقِ، وهَبَه اللهُ ذُرِّيةً يأنَسُ بهم؛ إذ وهبَهُ إسحاقَ ابْنَه، ويعقوبَ ابنَ ابْنِه، وجعَلَهما نَبيَّينِ. وحسْبُك بهذه مَكرُمةً له عندَ ربِّه [534] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/123)، ((تفسير أبي حيان)) (7/272). .
- قولُه: وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا لعلَّ تَرتيبَ هِبَتِهما على اعتزالِه هاهنا؛ لبَيانِ كمالِ عِظَمِ النِّعمِ الَّتي أعطاها اللهُ تعالى إيَّاهُ، بمُقابَلةِ مَنِ اعتزَلَهم من الأهلِ والأقرباءِ؛ فإنَّهما شَجَرتا الأنبياءِ، لهما أولادٌ وأحفادٌ، أولو شأنٍ خطيرٍ، وذُو عددٍ كثيرٍ [535] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/269). .
- في قولِه: وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا خُصَّ إسحاقُ ويعقوبُ بالذِّكرِ؛ لأنَّهما شَجرتا الأنبياءِ، أو لأنَّه أراد أنْ يذكُرَ إسماعيلَ بفضْلِه على الانفرادِ [536] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/13). . وقيل: إنَّما اقتصَرَ على ذكْرِ إسحاقَ ويعقوبَ دونَ ذكْرِ إسماعيلَ، فلم يقُلْ: (وهَبْنا له إسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ)؛ لأنَّ إبراهيمَ لمَّا اعتزَلَ قومَه، خرَجَ بزوجِه سارةَ قريبتِه، فهي قد اعتزلَتْ قومَها أيضًا إرضاءً لربِّها ولزوجِها، فذكَر اللهُ الموهبةَ الشَّاملةَ لإبراهيمَ ولزوجِه؛ وهي أنْ وهَبَ لهما إسحاقَ وبعْدَه يعقوبَ، ولأنَّ هذه الموهبةَ لمَّا كانت كِفاءً لإبراهيمَ على مُفارقتِه أباهُ وقومَه، كانتْ مَوْهبةَ مَن يُعاشِرُ إبراهيمَ ويُؤنِسُه، وهما إسحاقُ ويعقوبُ. أمَّا إسماعيلُ فقد أراد اللهُ أنْ يكونَ بعيدًا عن إبراهيمَ في مكَّةَ؛ ليكونَ جارَ بيتِ اللهِ، وإنَّه لجوارٌ أعظمُ مِن جوارِ إسحاقَ ويعقوبَ أباهما [537] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/124). .
- والنُّكتةُ في ذِكْرِ يعقوبَ: أنَّ إبراهيمَ رآهُ حفيدًا وسُرَّ به؛ فقد وُلِدَ يعقوبُ قبْلَ موتِ إبراهيمَ، وأنَّ مِن يعقوبَ نشأَتْ أُمَّةٌ عظيمةٌ [538] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/125). .
- قولُه: وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا كُلًّا مفعولٌ أوَّلُ لقولِه تعالى: جَعَلْنَا نَبِيًّا؛ قُدِّمَ عليه للتَّخصيصِ، لكنْ لا بالنِّسبةِ إلى مَن عَدَاهم، بل بالنِّسبةِ إلى بعضِهم، أي: كلَّ واحدٍ منهم جعَلْنا نَبِيًّا لا بعضَهم دونَ بعضٍ [539] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/269). .
10- قوله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا
- قولُه: وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا فيه إضافةُ اللِّسانِ إلى الصِّدقِ، ووصْفُه بالعُلوِّ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم أحِقَّاءُ بما يُثْنون عليهم، وأنَّ مَحامِدَهم لا تَخْفَى على تباعُدِ الأعصارِ، وتحوُّلِ الدُّولِ، وتبدُّلِ المِلَلِ والنِّحلِ [540] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/13)، ((تفسير أبي السعود)) (5/269)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/125). .
- وقد رُتِّبَ جزاءُ اللهِ إبراهيمَ على نبْذِه أهْلَ الشِّركِ تَرتيبًا بديعًا؛ إذ جُوزِيَ بنعمةِ الدُّنيا وهي العقِبُ الشَّريفُ، ونِعمةِ الآخرةِ وهي الرَّحمةُ، وبأثَرِ تَيْنِك النِّعمتينِ وهو لسانُ الصِّدقِ؛ إذ لا يُذْكَرُ به إلَّا مَن حصَّلَ النِّعمتينِ [541] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/126). .