موسوعة التفسير

سورةُ مَريمَ
الآيات (27-36)

ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ

غريب الكلمات:

فَرِيًّا: أي: عظيمًا عجيبًا مُنكَرًا، وأصلُ (فري): يدلُّ على قطعِ الشَّيءِ، كأنَّه مِمَّا يخرِقُ العادةَ، أو يُقطَعُ بكونِه عجيبًا نادرًا [274] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 274)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 362)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/496)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 223)، ((تفسير الشوكاني)) (3/391)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 699). .
الْمَهْدِ: المَهدُ: ما يُهيَّأُ للصَّبيِّ، والمَهدُ: الحِجْرُ، وأصلُ (مهد): يدلُّ على التَّوطئةِ للشَّيءِ وتَسهيلِه [275] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/527)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/280)، ((البسيط)) للواحدي (14/240)، ((المفردات)) للراغب (ص: 780). .
يَمْتَرُونَ: أي: يَشُكُّونَ ويختَلِفونَ، والمِريَةُ: التَّردُّدُ في الأمرِ، وهي أخصُّ مِن الشَّكِّ، والامتراءُ والمُماراةُ: المحاجَّةُ فيما فيه مِريةٌ [276] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/536)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/314)، ((المفردات)) للراغب (ص: 766)، ((تفسير القرطبي)) (11/106). .

مشكل الإعراب:

1- قَولُه تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا
وَبَرًّا: معطوفٌ على مُبَارَكًا مَنصوبٌ، أي: جعلني مباركًا وبَرًّا. أو مَنصوبٌ بإضمارِ فعلٍ، أي: وجعلني برًّا. واختِير هذا على الأوَّلِ؛ لأنَّ فيه فَصلًا كثيرًا بجُملةِ (أوصانِي) ومُتعلِّقِها [277] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/259)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/873)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/596). .
2- قوله تعالى: ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ
قَوْلَ الْحَقِّ في نصبِه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه مَصدرٌ مؤكِّدٌ لِمَضمونِ الجملةِ، مفعولٌ مُطلَقٌ لفِعلٍ مَحذوفٍ، أي: أقولُ قولَ الحق، وهو مِنْ إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه، أي: القولَ الحَقَّ، كقولِك: هو عبدُ اللهِ حَقًّا، والحَقَّ لا الباطِلَ. وتكونُ جملتُه على هذا التقدير اعتراضًا بين الصِّفةِ والموصوف؛ لأنَّ التقديرَ: ذلك عيسى بنُ مريمَ الذي فيه يمترون. والثاني: أن يكونَ مَنصوبًا على المدحِ إذا أُريد بـ قَوْلَ الْحَقِّ كلمةُ اللهِ. وسُمِّي عيسى قولًا كما سُمِّي كلمةً؛ لأنَّه عنها نشأ. والثالث: أن يكونَ منصوبًا على الحالِ من عيسَى. وقُرئَ قَوْلَ الْحَقِّ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مُبتدأٍ محذوفٍ، أي: هو قَولُ الحَقِّ. أو خبَرٌ ثانٍ لـ ذَلِكَ. وقيل: صفةٌ لعيسى أو بدلٌ منه. وقيل: عيسَى بدلٌ أو عطفٌ بيان، و قَوْلَ الْحَقِّ خَبَرٌ لـ ذَلِكَ [278] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (1/155)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/329)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/455)، ((البسيط)) للواحدي (14/245)، ((تفسير الزمخشري)) (1/1486)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/874)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/598). .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى ما حدَث عندما جاءَتْ مريمُ بوليدِها إلى قومِها، فيقولُ سبحانه: فأتت مريمُ قَومَها تَحمِلُ مَولودَها، فلمَّا رأَوها كذلك قالوا لها: يا مَريمُ، لقد فَعلتِ مُنكَرًا عَظيمًا! يا أختَ الرَّجُلِ الصَّالحِ هارونَ، ما كان أبوكِ رجُلَ سَوءٍ يرتكِبُ الفواحِشَ، وما كانت أمُّكِ امرأةَ سَوءٍ تأتي الفاحشةَ! فأشارت مَريمُ إلى مَولودِها عيسى ليُكلِّموه، فقالوا مُنكِرينَ عليها: كيف نكَلِّمُ طِفلًا رَضيعًا لا يزالُ في مَهدِه؟! فنطَق عيسى قائلًا: إنِّي عبدُ اللهِ، قضى بإعطائي الإنجيلَ وجَعْلِي نبيًّا، وجعَلَني عظيمَ الخَيراتِ وكثيرَ النفعِ للناسِ حيثُما وُجِدْتُ، وأوصاني بالمُحافَظةِ على الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ ما بَقِيتُ حَيًّا، وجعَلني بارًّا بوالِدتي، ولم يجعَلْني مُتكَبِّرًا، ولا شَقيًّا عاصيًا لرَبِّي، والتحيةُ والسَّلامةُ والأمانُ عليَّ مِن اللهِ يومَ وُلِدتُ، ويومَ أموتُ، ويومَ أُبعَثُ حيًّا يومَ القيامةِ.
ثم يقولُ الله تعالى لرسولِه محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم: ذلك هو عيسى بنُ مريمَ، وتلك حقيقتُه، قولَ الحَقِّ الذي شَكَّ فيه اليهودُ والنَّصارى. لا يليقُ بالله تعالى أن يتَّخِذَ مِن عبادِه وخَلْقِه ولَدًا، تنزَّه وتقدَّسَ عن ذلك، إذا قضى أمرًا فإنَّما يقولُ له: «كُنْ»، فيكونُ كما شاءه وأرادَه.
ويخبرُ تعالى أنَّ عيسى عليه السلامُ قال لِقَومِه أيضًا وهو في مهدِه: إنَّ اللهَ ربِّي وربُّكم، فاعبدُوه وَحدَه لا شريكَ له، هذا طريقٌ قَويمٌ لا اعوِجاجَ فيه، مَن سلَكَه اهتَدَى.

تفسير الآيات:

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27).
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ.
أي: فجاءت مَريمُ إلى قَومِها وهي تَحمِلُ عيسى دونَ أن تُخفِيَه، مُطمَئِنَّةً إلى أمرِ اللهِ، غيرَ مُكتَرِثةٍ بما سيقولُه النَّاسُ عنها [279] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/520)، ((تفسير القرطبي)) (11/99)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/94)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/413). .
قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا.
أي: فلمَّا رآها قَومُها وهي تَحمِلُ مولودًا، قالوا: يا مريمُ، لقد فَعلتِ مُنكَرًا عَظيمًا [280] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/521)، ((تفسير القرطبي)) (11/99)، ((تفسير ابن كثير)) (5/226)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/413). قال الشنقيطي في المرادِ بقولِهم: فَرِيًّا: (يَعنونَ به الزِّنا؛ لأنَّ ولَدَ الزِّنا كالشَّيءِ المُفترَى المُختَلَقِ؛ لأنَّ الزانيةَ تدَّعي إلحاقَه بمن ليس أباه، ويدُلُّ على أنَّ مُرادَهم بقولِهم: فَرِيًّا الزِّنا، قَولُه تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [النساء: 156] ؛ لأنَّ ذلك البُهتانَ العظيمَ هو ادِّعاؤُهم أنَّها زنَتْ). ((أضواء البيان)) (3/413). !
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28).
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ.
أي: يا أُختَ الرجُلِ الصَّالحِ هارونَ [281] قال الواحدي: (يَا أُخْتَ هَارُونَ قال ابنُ عباس، وقتادة: هارونُ رجلٌ صالحٌ مِن بني إسرائيل، يُنسَبُ إليه مَن عُرِفَ بالصَّلاحِ، والمعنى: يا شبَيهتَه فِي العِفَّةِ، وعلى هذا يدُلُّ حديثُ المغيرةِ بنِ شُعبةَ). ((الوسيط)) للواحدي (3/182). ويُنظر: ((تفسير الرسعني)) (4/413). وقال الشنقيطي: (وإطلاقُ اسمِ الأخِ على النَّظيرِ المُشابهِ مَعروفٌ في القرآنِ، وفي كلامِ العَربِ؛ فمِنه في القرآنِ قَولُه تعالى: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا [الزخرف: 48] ، وقَولُه تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء: 27] ، وقولُه تعالى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف: 202]). ((أضواء البيان)) (3/415). وقال ابن جرير: (والصوابُ مِن القَولِ في ذلك ما جاء به الخبَرُ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي ذكرناه، وأنَّها نُسِبَت إلى رجلٍ مِن قَومِها). ((تفسير ابن جرير)) (15/525). قال الشنقيطي: (وبهذا الحديثِ الصَّحيحِ... تعلَمُ أنَّ قَولَ من قال: إنَّ المرادَ هارونُ أخو موسى- باطِلٌ، سواءٌ قيل: إنَّها أختُه، أو: إنَّ المرادَ بأنَّها أختُه أنَّها من ذريَّتِه، كما يقال للرَّجُلِ: يا أخا تميمٍ، والمرادُ: يا أخا بني تميم؛ لأنَّه مِن ذريَّةِ تَميمٍ). ((أضواء البيان)) (3/414). وذهب ابنُ عاشور إلى أنَّ القَولَ باحتمالِ أنَّها مِن ذريَّةِ هارون أخي موسى ليس فيه ما يُنافي حديثَ المغيرةِ بنِ شُعبةَ، وذكَرَ احتِمالًا آخَرَ أن يكونَ لمريمَ أخٌ اسمُه هارون، كان صالحًا في قَومِه. واستظهر هذا الاحتِمالَ السعدي، ونَفَى أن يكونَ المرادُ هارونَ بنَ عمرانَ أخا موسَى؛ لأنَّ بينَهما قُرونًا كثيرةً. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 492)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/95، 96). ، لم يكُنْ أبوك رجلًا يقارِفُ الفاحِشةَ [282] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/525)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 679)، ((تفسير القرطبي)) (11/100، 101)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/68، 69)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/413، 414). !
عن المُغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((لَمَّا قَدِمتُ نَجرانَ سَألوني فقالوا: إنَّكم تقرؤونَ يَا أُخْتَ هَارُونَ، وموسى قبلَ عيسى بكذا وكذا، فلمَّا قَدِمتُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سألتُه عن ذلك، فقال: إنَّهم كانوا يُسَمُّونَ بأنبيائِهم والصَّالحينَ قَبلَهم )) [283] رواه مسلم (2135). قال الشوكاني: (وهذا التَّفسيرُ النَّبَويُّ يُغني عن سائرِ ما رُوي عن السَّلفِ في ذلك). ((تفسير الشوكاني)) (3/393). .
وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا.
أي: ولم تكُنْ أمُّك -يا مَريمُ- زانيةً فتَتأسَّيْ بها، فكيف قارفتِ ذلك وأنتِ مِن أولئك القَومِ الصَّالحينَ [284] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/525)، ((البسيط)) للواحدي (14/239)، ((تفسير السمعاني)) (3/289)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/129)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/192)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492). قال الرسعني: (ولم أرَ أحدًا مِن أربابِ المعاني تعرَّض لمقصودِهم بذِكرِ الأبوَينِ ونَفيِ الزِّنا عنهما. ويلوحُ لي فيه معنيان: أحدهما: أن يكونَ مقصودُهم من ذلك التعجُّبَ منِ تلبُّسِها بالفُجورِ -على ظنِّهم- مع طهارةِ أعراقِها، وطِيبِ مَنبتِها... الثاني: زيادةُ توبيخِها، والمبالغةُ في لَومِها باجتراحِها السيئةَ التي لم تُلْفِ عليها أمًّا ولا أبًا؛ فإنَّ مَن فَعَل فِعلَ أصلِه لم يُلَمْ، ومن أشبَه أباه فما ظَلَم). ((تفسير الرسعني)) (4/414). ؟!
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29).
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ.
أي: فلم تُكَلِّمْ مَريمُ قَومَها، وأشارت إلى ابنِها عيسى أنْ كَلِّموه؛ لِيُجيبَهم بدلًا منها [285] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/526)، ((تفسير ابن جزي)) (1/480)، ((تفسير ابن كثير)) (5/228)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/97)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/415). .
قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا.
أي: قال قَومُ مَريمَ مُنكِرينَ عليها: كيف نكَلِّمُ رَضيعًا لا يزالُ في فِراشِه، وليس في استطاعتِه الكَلامُ [286] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/526)، ((تفسير السمرقندي)) (2/373)، ((تفسير ابن كثير)) (5/228)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/97). قال ابنُ القيم: (وتأمَّلْ... قوله تعالى: قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا كيف تجِدُ معنى الشَّرطية فيه، حتى وقعَ الفِعلُ بعد مَنْ بلَفظِ الماضي والمرادُ به المُستقبَلُ، وأنَّ المعنى: من كان في المهدِ صبيًّا، فكيف نكلِّمُه؟). ((بدائع الفوائد)) (1/136). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/328)، ((تفسير الرسعني)) (4/415). وقيل: (كان) زائدةٌ أي: كيف نُكَلِّمُ مَنْ في المهدِ صبيًّا. وقيل: إنها تامةٌ بمعنى حَدَث ووُجد. والتقديرُ: كيف نكلِّم مَنْ وُجِد صبيًّا؟! وقيل: إنَّها بمعنى (صار)، أي: كيف نُكَلِّم مَنْ صار في المهد صَبِيَّا؟! يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/594). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بـ الْمَهْدِ: فراشُه ونحو ذلك: الكرماني، وابنُ جزي، والشوكاني، وابنُ عاشور. يُنظر: ((غرائب التفسير وعجائب التأويل)) للكرماني (2/695)، ((تفسير ابن جزي)) (1/480)، ((تفسير الشوكاني)) (3/392)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/97). قال ابنُ جريرٍ: (المهدُ: ... يعني به مضجِعَ الصبيِّ في رضاعِه). ((تفسير ابن جرير)) (5/412). وقيل: المرادُ به: حجرُ أمِّه. وممَّن اختار ذلك: السمرقندي، وابنُ أبي زمنين، والثعلبي، والواحدي، والعليمي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/373)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (2/54)، ((تفسير الثعلبي)) (6/213)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 679)، ((الوسيط)) للواحدي (3/182)، ((تفسير العليمي)) (4/249). وقيل: المعنَى: كيفَ نكلِّمُ مَن سبيلُه أن ينوَّمَ في المهدِ لصغرِه؟! يُنظر ((تفسير القرطبي)) (11/102)، ((تفسير الشوكاني)) (3/392). ؟!
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30).
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ.
أي: فنطَقَ عيسَى وهو صبيٌّ في المَهدِ، فقال: إنِّي عبدُ اللهِ؛ فهو الذي يستَحِقُّ العبادةَ وَحْدَه، لا شَريكَ له [287] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/528)، ((تفسير ابن كثير)) (5/228)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492). .
آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا.
أي: قضى اللهُ وقَدَّرَ مِن قبلُ أنَّه سيُؤتيني الإنجيلَ، وسيَجعَلُني نَبيًّا [288] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/529)، ((تفسير الرازي)) (21/535)، ((تفسير القرطبي)) (11/103)، ((تفسير الشوكاني)) (3/392)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/98)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/416). قال الشنقيطي: (وقولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، التَّحقيقُ فيه إنْ شاءَ اللَّهُ: أنَّه عَبَّر بالماضي عمَّا سيَقَعُ في المستقبلِ؛ تنزيلًا لتحَقُّقِ الوقوعِ منزلةَ الوقوعِ، ونظائِرُه في القرآنِ كثيرةٌ، كقولِه تعالَى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1]، وقولِه تعالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ... إلى قولِه: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الزمر: 68 - 71] ، وقولِه تعالَى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [الزمر: 73]  ... وهذا الَّذي ذَكَرْنا مِن أنَّ الأفعالَ الماضيةَ في قولِه تعالَى: آَتَانِيَ الْكِتَابَ ... إلخ، بمعنَى المستقبلِ هو الصَّوابُ إِن شاءَ اللَّهُ، خلافًا لمَن زَعَم أنَّه نُبِّئ وأُوتيَ الكتابَ في حالِ صِباهُ لظاهِرِ اللَّفظِ). ((أضواء البيان)) (3/416). .
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قال عيسى عليه السَّلامُ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا فأخبَرَهم بأنَّه عبدُ الله، وأنَّ اللهَ عَلَّمَه الكتابَ، وجَعَله من جملةِ أنبيائِه، فهذا مِن كَمالِه لنَفسِه؛ ذكَرَ بَعدَه تكميلَه لِغَيرِه، فقال [289] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:492). :
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ.
أي: وجعَلَني ذا برَكاتٍ، كثيرَ الخَيراتِ، ومِن ذلك أن أكونَ نفَّاعًا للخَلقِ، مُعَلِّمًا للخيرِ في أيِّ مكانٍ وزَمانٍ أكونُ فيه [290] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/530، 531)، ((تفسير البغوي)) (3/233)، ((تفسير القرطبي)) (11/103)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 168)، ((تفسير ابن كثير)) (5/229)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/99)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/416). قال مجاهدٌ، وعمرُو بنُ قيسٍ، والثوريُّ في معنى وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا: أي: جعَلَني مُعلِّمًا للخيرِ. وفي روايةٍ عن مجاهدٍ: نفَّاعًا. وقال عطاءٌ: أدعو إلى اللهِ وإلى توحيدِه وعبادتِه. وقيل: مُباركًا على مَن تَبِعَني. وقيل: وجعلني آمُرُ بالمعروفِ، وأنهى عن المنكَرِ، وأرشُدُ الضالَّ، وأنصُرُ المظلومَ، وأُغيثُ الملهوفَ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/233)، ((تفسير القرطبي)) (11/103)، ((تفسير ابن كثير)) (5/229). قال ابنُ جزي: (واللفظُ أعمُّ مِن ذلك). ((تفسير ابن جزي)) (1/480). وقال ابن القيم: (قال المسيحُ: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ قال غيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ: مُعلِّمًا للخيرِ أينَما كنتُ، وهذا جزءُ المسمَّى؛ فالمبارَكُ كثيرُ الخيرِ في نَفسِه، الذي يحصِّلُه لغيرِه: تعليمًا وإقدارًا، ونُصحًا وإرادةً واجتهادًا؛ ولهذا يكونُ العبدُ مُباركًا لأنَّ الله بارَك فيه وجعَله كذلك). ((جلاء الأفهام)) (ص: 168). وقال ابنُ عاشور: (ذلك أنَّ الله أرسَلَه برَحمةٍ لبني إسرائيل؛ لِيُحِلَّ لهم بعضَ الذي حُرِّمَ عليهم، ولِيَدعوَهم إلى مكارمِ الأخلاق بعدَ أن قَسَت قلوبُهم وغَيَّروا مِن دينِهم، فهذه أعظَمُ بَرَكةٍ تُقارِنُه، ومِن بركتِه أن جعَل اللهُ حُلولَه في المكانِ سَببًا لخيرِ أهلِ تلك البُقعةِ؛ مِن خِصبِها، واهتداءِ أهلِها، وتوفيقِهم إلى الخير). ((تفسير ابن عاشور)) (16/99). .
‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا.
أي: وأوصاني اللهُ أن أحافِظَ على الصَّلاةِ والزَّكاةِ في مُدَّةِ حياتي [291] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/531)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/328)، ((معاني القرآن)) للنحاس (4/329)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 680)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (2/144). قال ابنُ جرير: (وفي الزَّكاة معنيان: أحدُهما: زكاةُ الأموال أن يُؤدِّيَها. والآخَرُ: تطهيرُ الجسَدِ مِن دَنَسِ الذُّنوبِ). ((تفسير ابن جرير)) (15/531). وممَّن ذهَب إلى أنَّ المرادَ بالزكاةِ هنا: زكاةُ المالِ: السمرقندي، والقرطبي، والبقاعي، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/374)، ((تفسير القرطبي)) (11/103)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/193)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/99). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بها: التطهيرُ مِن الذُّنوبِ: الزجَّاج، والنحاس، والواحدي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/328)، ((معاني القرآن)) للنحاس (4/329)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 680). قال ابن جرير: (قولُه: مَا دُمْتُ حَيًّا يقولُ: ما كنتُ حيًّا في الدنيا موجودًا، وهذا يُبِينُ عن أنَّ معنى الزكاةِ في هذا الموضِعِ: تطهيرُ البدَنِ مِن الذنوبِ؛ لأنَّ الذي يُوصَفُ به عيسى صلواتُ الله وسلامُه عليه أنَّه كان لا يدَّخِرُ شَيئًا لغدٍ؛ فتَجِبَ عليه زكاةُ المالِ، إلَّا أن تكونَ الزكاةُ التي كانت فُرِضَت عليه الصَّدَقةَ بكُلِّ ما فَضَل عن قُوتِه، فيكونَ ذلك وجهًا صحيحًا). ((تفسير ابن جرير)) (15/531). وقال القرطبي: (رُوِيَ أنَّ عيسى عليه السَّلامُ إنَّما تكلَّمَ في طفولتِه بهذه الآية، ثم عاد إلى حالةِ الأطفالِ، حتى مشى على عادةِ البَشَرِ إلى أن بلغ مبلغَ الصِّبيانِ، فكان نطقُه لإظهارِ براءةِ أمِّه لا أنَّه كان ممَّن يَعقِلُ في تلك الحالة، وهو كما يُنطِقُ اللهُ تعالى الجوارحَ يوم القيامة. ولم يُنقَلْ أنَّه دام نُطقُه، ولا أنَّه كان يصلِّي وهو ابنُ يومٍ أو شهرٍ، ولو كان يدوم نُطقُه وتسبيحُه ووَعظُه وصلاتُه في صِغَرِه مِن وَقتِ الوِلادِ، لكان مثلُه ممَّا لا ينكَتِمُ). ((تفسير القرطبي)) (11/103). .
كما قال تعالى لنَبيِّه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] .
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32).
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي.
أي: وجعَلَني اللهُ بارًّا بوالِدتي مريمَ، مُطيعًا لها، محسنًا إليها غايةَ الإحسانِ [292] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/532)، ((البسيط)) للواحدي (14/243)، ((تفسير البغوي)) (3/233)، ((تفسير الخازن)) (3/187)، ((تفسير ابن كثير)) (5/229)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492). .
وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا.
أي: ولم يجعَلْني اللهُ مُستَكبرًا عن عبادتِه وبِرِّ أمِّي، ولا غليظًا في مُعاملةِ النَّاسِ مُترَفِّعًا عليهم، بل جعَلَني خاضِعًا خاشِعًا مُتذَلِّلًا له، متواضِعًا لعبادِه، سَعيدًا في الدُّنيا والآخرةِ [293] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/532)، ((تفسير ابن كثير)) (5/229)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/100). .
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33).
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ.
أي: والتحيَّةُ مِنَ اللهِ عليَّ، والسَّلامةُ والأمانُ لي يومَ وُلِدتُ، ومِن ذلك السلامةُ مِن طَعنِ الشَّيطانِ عندَ الولادةِ [294] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/533)، ((تفسير السمعاني)) (3/291)، ((تفسير البغوي)) (3/233)، ((تفسير ابن كثير)) (5/230)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/194)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492). نسب ابن الجوزي إلى المفسرين أن المعنى: السلامة عليَّ من الله يوم وُلدتُ حتى لم يضرَّني شيطان. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/130). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الشوكاني)) (3/392). وقال السمعاني: (قوله تعالَى: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ معناهُ: التَّحيَّة وَالحفظُ مِن الله لي يَوْمَ ولدتُ). ((تفسير السمعاني)) (3/291). وَذكر الشنقيطي القولين (أي أنَّ معنَى السلامِ: التحيةُ، والثاني أنَّ معناه الأمانُ) في قوله تعالى: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ وأنَّ مرجِعَهما إلى شيءٍ واحدٍ؛ لأنَّ معنَى سلامِ التَّحِيَّة: الأمانُ، والسَّلامةُ ممَّا يكرهُ. يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/381). .
عن أبي هُريرةَ رضِي اللهُ عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((ما مِن بَني آدمَ مَولودٌ إلَّا يَمَسُّه الشَّيطانُ حين يُولَدُ، فيَستَهِلُّ [295] استهَلَّ الصَّبيُّ: صاح عند الولادةِ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 327). صارِخًا مِن مَسِّ الشَّيطانِ، غيرَ مَريمَ وابنِها) )، ثمَّ يقولُ أبو هريرةَ: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران: 36] )) [296] رواه البخاري (3431) واللفظ له، ومسلم (2366). .
وفي روايةٍ: ((كُلُّ بني آدمَ يَطْعُنُ الشَّيطانُ فِي جنبَيْه بإِصبعِه حينَ يُولَدُ غيرَ عيسى بنِ مريمَ؛ ذَهَب يَطْعُنُ فطَعَن في الحجابِ [297] الحجابِ: أي: المشيمةِ التي فيها الولدُ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/470). قال الحافظ ابن حجر: (قال القرطبي: هذا الطعنُ مِن الشيطانِ هو ابتداءُ التسليطِ، فحفِظ الله مريمَ وابنَها منه ببركةِ دعوةِ أمِّها؛ حيثُ قالت: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران: 36] ولم يكُنْ لمريمَ ذريةٌ غير عيسى). ((المصدر السابق)). ) [298] رواه البخاري (3286). .
وَيَوْمَ أَمُوتُ.
أي: وتحيةٌ مِن اللهِ يومَ أموتُ وسَلامةٌ وأمانٌ لي مِن كُلِّ سُوءٍ؛ ككُرَبِ الموتِ، وسُوءِ الخاتمةِ، وعذابِ القَبرِ وفِتنَتِه [299] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/291)، ((تفسير البغوي)) (3/233)، ((تفسير القرطبي)) (11/104، 105)، ((تفسير الإيجي)) (2/479)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492). .
وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا.
أي: وتحيةٌ مِنَ اللهِ وسَلامةٌ وأمانٌ لي يومَ القيامةِ حينَ يَبعَثُني حيًّا فيُؤَمِّنُني مِن الفزَعِ والأهوالِ، وعذابِ النَّارِ [300] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/533)، ((تفسير السمعاني)) (3/291)، ((تفسير البغوي)) (3/233)، ((تفسير القرطبي)) (11/105)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492). .
ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34).
أي: ذلك العَظيمُ القَدرِ، العالي المَنزِلة الذي أخبَرتُكم بشأنِه هو عيسى بنُ مَريمَ، فهذه صِفتُه، وتلك حقيقةُ نَشأتِه، قَولَ الحَقِّ، الذي فيه يختلفُ النَّاسُ ويشُكُّون، فكذلك فاعتَقِدوا، لا كما يظنُّ اليهودُ أنَّه ابنُ زِنا، ولا كما يظُنُّ النَّصارى أنَّه اللهُ أو ابنُ اللهِ أو ثالثُ ثلاثةٍ [301] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/534-536)، ((تفسير القرطبي)) (11/105-106)، ((تفسير ابن كثير)) (5/230)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/195-196)، ((تفسير السعدي)) (ص: 493)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/101، 102). قال الشنقيطي: (اعلمْ أنَّ لَفظةَ الْحَقِّ في قَولِه هنا: قَوْلَ الْحَقِّ فيها للعلماء وجهان: الأول: أنَّ المرادَ بالحَقِّ ضِدُّ الباطِلِ، بمعنى الصِّدقِ والثُّبوتِ، كقَولِه: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الأنعام: 66] . الوجه الثاني: أنَّ المرادَ بالحَقِّ في الآيةِ: اللهُ جلَّ وعلا؛ لأنَّ مِن أسمائِه «الحَقَّ»، كقَولِه: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور: 25] ، وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ [الحج: 6] ). ((أضواء البيان)) (3/417-418). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/105). !!
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالَى أنَّه خَلَقه عبدًا نَبِيًّا، نَزَّه نفسَه المُقدَّسةَ، فقالَ [302] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/230). :
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ.
أي: ما ينبغي لله أن يَجعلَ له ولَدًا، تنزَّه اللهُ عن الوَلَدِ والنَّقصِ، وعن كلِّ ما لا يليقُ بكَمالِه [303] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/538)، ((تفسير القرطبي)) (11/107)، ((تفسير ابن عادل)) (13/64)، ((تفسير السعدي)) (ص: 493)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/419). .
كما قال تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النساء: 171] .
وقال سُبحانه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ [الأنعام: 100] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم: 92] .
إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
أي: إذا أراد اللهُ إحداثَ شَيءٍ فإنَّما يقولُ له: كُنْ، فيَصيرُ مَوجودًا كما يشاءُ بلا كُلفةٍ ولا مَشقَّةٍ، كما خلقَ عيسى بنَ مَريمَ بكَلِمةِ (كُنْ)، فصار مخلوقًا بدونِ أبٍ [304] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/539)، ((تفسير ابن كثير)) (5/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 493)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/419). .
كما قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] .
وقال سُبحانه: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] .
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36).
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ.
أي: قال عيسى لِقَومِه وهو في مَهدِه: ولأنَّ اللهَ رَبِّي ورَبُّكم فاعبُدوه وَحدَه لا شريكَ له [305] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/540)، ((تفسير ابن جزي)) (1/480)، ((تفسير ابن كثير)) (5/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 493). .
هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ.
أي: هذا الذي جئتُكم به مِن عندِ اللهِ هو طريقٌ قويمٌ، لا اعوِجاجَ فيه، فمَن سلَكَه اهتَدَى، ومَن خالفَه ضلَّ وغوَى [306] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/541)، ((تفسير القرطبي)) (11/108)، ((تفسير ابن كثير)) (5/231)، ((تفسير السعدي)) (ص: 493)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/105). .

الفوائد التربوية :

1- في قوله تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا إشارةٌ إلى أنَّ الإنسانَ إذا زنى؛ فقد يُبْتَلَى نسْلُه بالزِّنا، والعياذُ بالله [307] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/71). .
2- قوله تعالى: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فيه تَنبيهٌ على أنَّ الفواحشَ من أولادِ الصَّالحينَ أفحَشُ [308] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/10)، ((تفسير أبي السعود)) (5/263). .
3- في قوله تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا تنبيهٌ على أَثَرةِ المرأةِ ذاتِ الأصلِ الطاهرِ، والمنبتِ الطيبِ، واجتنابِ ذواتِ المنابتِ الخبيثةِ [309] يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (4/414). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا إن قيل: (أَتَتْ بِهِ) يُغني عن تَحْمِلُهُ فما فائدةُ التَّكريرِ؟
فالجوابُ: أنَّه لَمَّا ظَهَرت منه آياتٌ، جاز أن يتوهَّمَ السَّامِعُ من فَأَتَتْ بِهِ أن يكونَ ساعيًا على قَدَميه، فيكونَ سَعيُه آيةً كنُطقِه، فقطع ذلك التوهُّمَ، وأعلَمَ أنَّه كسائرِ الأطفالِ، وهذا مِثلُ قَولِ العَرَبِ: نظَرْتُ إلى فُلانٍ بعَيني، فنَفَوا بذلك نظَرَ العَطفِ والرَّحمةِ، وأثبَتوا أنَّه نظَرُ عَينٍ [310] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/128). .
2- جُملةُ: تَحْمِلُهُ حالٌ من تاءِ فَأَتَتْ، وهذه الحالُ للدَّلالةِ على أنَّها أتَتْ مُعلِنةً به غيرَ ساترةٍ؛ لأنَّها قد علِمَتْ أنَّ اللهَ سيُبرِّئُها ممَّا يُتَّهمُ به مثْلُ مَن جاء في حالتِها [311] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/94). .
3- في قَولِه تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ دلالةٌ على أنَّ الإشارةَ وإنْ قامتْ في الإفهامِ مَقامَ الكلامِ فليستْ بكَلامٍ؛ لأنَّ مَريمَ كانت نَذَرتْ ألَّا تُكَلِّمَ أحدًا، فلم تُخرِجْها الإشارةُ إلى ابنِها عيسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن النَّذر، ولا عَدَّتْ كلامَها مما يُخرِجُها منه [312] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/238). .
4- قوله تعالى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا إنَّما أشارَتْ إليه؛ لِما تقدَّم لها مِن وعدِه أنَّه يجيبُهم عنها، ويُغنيها عن الكلامِ، وقيل: بوحيٍ مِن الله إليها [313] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/258). .
5- قال الله تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا الذُّريَّةُ -في الغالِبِ- بَعضُها مِن بعضٍ، في الصَّلاحِ وضِدِّه [314] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:492). .
6- في قَولِه تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ردٌّ على الغُلاةِ في المَسيحِ، وعلى الجُفاةِ النَّافينَ عنه ما أنعَمَ اللهُ به عليه [315] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/230). .
7- قال الله تعالى حِكايةً عن عيسى حينَ تكلَّمَ في المهدِ صَبيًّا: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أنطقَه اللهُ تعالى به أوَّلًا؛ لأنَّه أوَّلُ المقاماتِ، وللرَّدِّ على مَن يَزعُمُ رُبوبيَّتَه [316] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/10). ، ففي ذلك أعظمُ زجرٍ للنَّصارَى عن دعواهم أنَّه الله أو ابنُه أو إلهٌ معه [317] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/416). . قال مُقاتِلٌ: (أقَرَّ على نفسِه بالعُبوديَّةِ لله عزَّ وجَلَّ أوَّلَ ما تكَلَّمَ؛ لِئَلَّا يُتَّخَذَ إلهًا) [318] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/232). .
8- قال الله تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا كلامُ عيسى هذا مِمَّا أهمَلَتْه أناجيلُ النَّصارى؛ لأنَّهم طَوَوا خبَرَ وُصولِها إلى أهلِها بعد وَضعِها، وهو طَيٌّ يُتعَجَّبُ منه، ويدُلُّ على أنَّها كُتِبَت في أحوالٍ غيرِ مَضبوطةٍ، فأطلَعَ اللهُ تعالى عليه نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [319] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/98). .
9- قال الله تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا هذه الكَلِمةُ التي نَطقَ بها عيسى في أوَّلِ خِطابِه لهم، ذكرها اللهُ جَلَّ وعلا عنه في مواضِعَ أُخَرَ، كقولِه تعالى: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 72] ، وقَولِه: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران: 51] ، وقَولِه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف: 63-64] ، وقال هنا: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم: 36] ، وقَولِه: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 117] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ [320] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/416). .
10- قال الله تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا مع أنَّ الذي اشتَدَّت الحاجةُ إليه في ذلك الوَقتِ إنَّما هو نفيُ تُهمةِ الزِّنا عن مَريمَ عليها السَّلامُ، إلَّا أنَّ عيسى عليه السلامُ لم يَنُصَّ على ذلك، وإنَّما نَصَّ على إثباتِ عُبوديَّةِ نَفسِه، كأنَّه جَعَل إزالةَ التُّهمةِ عن اللهِ تعالى أَولى من إزالةِ التُّهمةِ عن الأمِّ؛ فلهذا أوَّلَ ما تكَلَّمَ إنَّما تكَلَّمَ بها [321] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/531). .
11- قولُه تعالى: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ...: فيه تنبيهٌ على بَراءةِ أُمِّه ممَّا اتُّهِمَتْ به؛ لأنَّه تعالى لا يخُصُّ بولدٍ موصوفٍ بالنُّبوَّةِ والخلالِ الحميدةِ إلَّا مُبرَّأةً مُصطفاةً [322] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/258). .
12- قال المسيحُ عليه السَّلامُ: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ، فبَرَكاتُ أولياءِ الله الصَّالحينَ باعتبارِ نَفعِهم للخَلقِ بدُعائِهم إلى طاعةِ اللهِ، وبدُعائِهم للخَلقِ، وبما يُنزِلُ اللهُ مِن الرَّحمةِ ويَدفَعُ من العذابِ بسَبَبِهم- حقٌّ موجودٌ [323] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/114). .
13- في قولِ الله تعالى: ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا إنْ قلْتَ: كيف أُمِرَ بذلك مع أنَّه كان طِفلًا، وخِطابُ التَّكليفِ إنَّما يكونُ بعدَ البُلوغِ والتَّمييزِ؟
فالجوابُ: أنَّ ذلك لا يدُلُّ على أنَّه أوصاهُ بأداءِ ذلك في الحالِ، بل أوصاهُ في الحالِ بالأداءِ بعدَ البُلوغِ والتَّمييزِ. وقيل: إنَّ اللهَ صَيَّره عقِبَ وِلادتِه بالغًا مُميِّزًا؛ بدليلِ قولِه تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ [آل عمران: 59] ، فكما أنَّه تعالى خلَقَ آدمَ تامًّا كاملًا دَفعةً، فكذا القولُ في عيسى عليهما السَّلامُ، وهو أقرَبُ إلى ظاهرِ قولِه: مَا دُمْتُ حَيًّا، فما أوصاهُ بذلك إلَّا بعدَ بُلوغِه وتَمييزِه.
فإنْ قلْتَ: الزَّكاةُ إنَّما تجِبُ على الأغنياءِ، وعيسى لم يزَلْ فقيرًا، لابِسًا كِساءً مُدَّةَ مُكثِه في الأرضِ، مع علْمِه تعالى بحالِه؛ فكيف أوصاهُ بها؟!
فالجواب: المُرادُ بالزَّكاةِ هنا: تزكيةُ النَّفسِ وتطهيرُها من المعاصي، لا زكاةُ المالِ [324] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 354-355). . وقيل: بلْ على حقيقتِها، وهذا أمْرٌ خاصٌّ به، وقرينةُ الخُصوصِ قولُه: مَا دُمْتُ حَيًّا؛ لدلالتِه على استغراقِ مُدَّةِ حياتِه بإيقاعِ الصَّلاةِ والصَّدقةِ، أي: أنْ يُصلِّيَ ويتصدَّقَ في أوقاتِ التَّمكُّنِ من ذلك؛ فالاستغراقُ المُستفادُ من قولِه: مَا دُمْتُ حَيًّا استغراقٌ عُرفيٌّ مُرادٌ به الكثرةُ [325] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/100). .
14- عن عبدِ اللهِ بنِ واقدٍ أبي رجاء، عن بعضِ أهلِ العِلمِ، قال: (لا تجِدُ عاقًّا إلَّا وجَدْتَه جبَّارًا شقيًّا، ثمَّ قرأ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) [326] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/533). .
15- قال اللهُ تعالى عن المسيحِ عليه السَّلامُ: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا فبيَّنَ أنَّ اللهَ هو الذي جعله بَرًّا بوالِدتِه، ولم يَجعَلْه جبَّارًا شَقيًّا، وهذا صريحُ قولِ أهلِ السُّنةِ في أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خالقُ أفعالِ العِبادِ [327] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (3/111). .
16- قوله: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي قد خَصَّه اللهُ تعالى بذلك بينَ قومِه، قيل: لأنَّ بِرَّ الوالدينِ كان ضعيفًا في بني إسرائيلَ يومئذٍ، وبخاصَّةٍ الوالدة؛ لأنَّها تُستضعَفُ؛ لأنَّ فرطَ حنانِها وشفقَتِها قد يُجرِّئانِ الولَدَ على التَّساهُلِ في البِرِّ بها [328] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/100). .
17- قولُه تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي إشارةٌ إلى تنزيهِ أُمِّه عن الزِّنا؛ إذْ لو كانت زانيةً لَمَا كانَ الرَّسولُ المعصومُ مأمورًا بتعظيمِها [329] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/536). .
18- قولهُ تعالى حكايةً عن عيسى عليه السلامُ: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ... احتَجَّ مالِكٌ -رحمه الله- بهذه الآيةِ على القَدَريَّةِ، فقال: (ما أشَدَّها على أهلِ القَدَرِ! أخبَرَ عيسى عليه السَّلامُ بما قُضِيَ مِن أمْرِه، وبما هو كائِنٌ إلى أن يموتَ) [330] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/103)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/417). .
19- قال تعالى حكايةً عن عيسى عليه السلامُ: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا أعظَمُ أحوالِ الإنسانِ احتياجًا إلى السَّلامةِ هي هذه الأحوالُ الثَّلاثةُ، وهي يومُ الوِلادةِ، ويومُ الموتِ، ويَومُ البَعثِ؛ فجَميعُ الأحوالِ التي يُحتاجُ فيها إلى السَّلامةِ واجتِماعِ السَّعادةِ مِن قِبَلِه تعالى طَلَبَها؛ لِيَكونَ مَصونًا عن الآفاتِ والمخافاتِ في كلِّ الأحوالِ [331] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/536). .
20- القضاءُ في قَولِه تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ هو القضاءُ الكونيُّ، ويقابلُه القضاءُ الدينيُّ، كما في قَولِه تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23] أي: أمَرَ [332] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/268). .
21- قَولُه تعالى: فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فيه إثباتُ القَولِ لله [333] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/21). .
22- في قَولِه تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ دَلالةٌ على أنَّ قولَ اللهِ يكونُ بصَوتٍ مَسموعٍ؛ لِقَولِه تعالى: فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، ولَهُ صريحةٌ في توجيهِ القَولِ للمَقولِ له، ولولا أنه يَسمَعُه لَمَا صار في توجيهِه له فائدةٌ؛ ولهذا يَسمَعُه المُوَجَّهُ إليه الأمرُ، فيَمتثِلُ ويكونُ [334] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/21). .
23- في قَولِه تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ دَلالةٌ على أنَّ قَولَ اللهِ يكونُ بحروفٍ؛ لِقَولِه تعالى: كُنْ، وهي كلمةٌ بحرفينِ، فإن قال قائل: كيف يمكِنُ أن نتصَوَّرَ هذا ونحن نقولُ: ليس كمِثْلِه شَيءٌ، وأنتم تقولون: إنَّه بحروفٍ؟
فالجوابُ: نعم، الحروفُ هي الحروفُ، لكِنَّ كيفيَّةَ الكلامِ وحقيقةَ النُّطقِ بها أو القَولِ، لا يُماثِلُ نُطقَ المَخلوقِ وقَولَه، ومِن هنا نَعرِفُ أنَّنا لا نكونُ مُمَثِّلةً إذا قلنا: إنَّه بحرفٍ وصَوتٍ مَسموعٍ؛ لأننا نقول: صَوتٌ ليس كأصواتِ المخلوقينَ، بل هو حَسَبَ ما يليقُ بعَظَمتِه وجلالِه [335] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/21). .
24- في قولِه تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ دَلالةٌ على أنَّه ليس بينَ أمْرِ اللهِ بالتَّكوينِ وتكوُّنِه تراخٍ، بل يكونُ على الفوريَّةِ؛ وذلك لقَولِه تعالى: فَيَكُونُ بالفاءِ، والفاءُ تدلُّ على الترتيبِ والتَّعقيبِ [336] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/22). .
25- قولُ الله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ يدُلُّ على أنَّ مُدبِّرَ النَّاسِ ومُصلِحَ أمورِهم هو اللهُ تعالى، على خِلافِ قَولِ المنَجِّمينَ: إنَّ مُدَبِّرَ النَّاسِ ومُصلِحَ أمورِهم في السَّعادةِ والشَّقاوةِ هي الكواكِبُ [337] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/539). !
26- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فيه الإقرارُ بتَوحيدِ الرُّبوبيَّةِ وتوحيدِ الإلهيَّةِ، والاستِدلالُ بالأوَّلِ على الثَّاني [338] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:493). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا دلَّتِ الفاءُ في فَأَتَتْ على أنَّ مريمَ جاءت أهْلَها عقِبَ انتهاءِ الكلامِ الَّذي كلَّمَها ابنُها [339] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/94). .
- قولُه: قَالُوا يَا مَرْيَمُ الجُملةُ مُستأنفةٌ استئنافًا بَيانيًّا. وقال قومُها هذه المقالةَ توبيخًا لها [340] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/95). ، وفي الكلامِ إيجازٌ بالحذفِ؛ أي: فلمَّا رأَوْها وابنَها قالوا: ... [341] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/257). .
- قولُه: شَيْئًا فَرِيًّا، أي: فعَلْتِ شيئًا عظيمًا بديعًا مُنكَرًا، من: فرَى الجلدَ، أي: قطَعَه، أو جئتِ مجيئًا عجيبًا؛ عُبِّرَ عنه بالشَّيءِ؛ تحقيقًا للاستغرابِ [342] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/263). .
2- قولُه تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا استئنافٌ لتجديدِ التَّعييرِ، وتأكيدِ التَّوبيخِ [343] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/263). .
- وجُملةُ: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا تقريرٌ لأنَّ ما جاءت به فَرِيٌّ [344] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/10)، ((تفسير أبي السعود)) (5/263). .
- قولُهم: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا لمَّا اتَّهموها بما اتَّهموها، نَفَوا عن أبويْها السُّوءَ لمُناسَبةِ الولادةِ، ولم ينُصُّوا على إثباتِ الصَّلاحِ -وإنْ كان نفيُ السُّوءِ يُوجِبُ الصَّلاحَ، ونفْيُ البغاءِ يُوجِبُ العِفَّةَ-؛ لأنَّهما بالنِّسبةِ إليهما نقيضانِ [345] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/257). ، وقَصدوا بهذا الكلامِ الكنايةَ عن كونِها أتتْ بأمْرٍ ليس من شأْنِ أهْلِها، أي: أتَتْ بسُوءٍ ليس من شأْنِ أبيها، وبِغاءٍ ليس من شأْنِ أُمِّها، وخالَفَتْ سيرةَ أبويْها؛ فكانت امرأةَ سَوءٍ، وكانت بَغيًّا، وما كان أبوها امرأَ سَوءٍ، ولا كانت أُمُّها بغيًّا؛ فكانت مُبتكِرةً الفواحشَ في أهْلِها، وهم أرادوا ذَمَّها؛ فأتَوا بكلامٍ صريحُه ثناءٌ على أبويها مُقتضٍ أنَّ شأْنَها أنْ تكونَ مثْلَ أبويْها [346] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/96). .
3- قوله تعالى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا
- قولُه: قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا لَمَّا كانت إشارتُها بمنزلةِ مُراجعةِ كلامٍ، حكَى حِوارَهم الواقعَ عقِبَ الإشارةِ بجُملةِ القولِ مفصولةً غيرَ معطوفةٍ [347] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/97). .
- قولُه: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا الفعلُ كَانَ لإيقاعِ مضمونِ الجُملةِ في زمانٍ ماضٍ مُبهَمٍ يصلُحُ لقريبِه وبَعيدِه، وهو هاهنا لقريبِه خاصَّةً، والدَّالُّ عليه مَبْنى الكلامِ، وأنَّه مسوقٌ للتَّعجُّبِ؛ فعلى هذا يكونُ: نُكَلِّمُ للحالِ الحاضرةِ [348] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/15)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/14)، ((تفسير أبي السعود)) (5/263). . أو يكونُ نُكَلِّمُ حكايةَ حالٍ ماضيةٍ، أي: كيفَ عُهِد قبلَ عيسَى أن يكلِّمَ النَّاسُ صبيًّا في المهدِ فيما سلَف مِن الزمانِ حتَّى نكلِّمَ هذا [349] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/15). ؟!
- قولُه: قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا إنكارٌ وتهكُّمٌ بها، أي: إنَّ مَن كان في المهدِ يُربَّى لا يُكلَّمُ [350] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/257). ؛ فالاستفهامُ للإنكارِ؛ أنْكَروا أنْ يُكلِّموا مَن ليس من شأْنِه أنْ يتكلَّمَ، وأنْكَروا أنْ تُحيلَهم على مُكالمتِه، أي: كيف نترقَّبُ منه الجوابَ، أو كيف نُلْقي عليه السُّؤالَ؛ لأنَّ الحالتينِ تَقتضيانِ التَّكلُّمَ [351] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/97). ؟!
- وزيادةُ فعْلِ الكونِ في مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِ المظروفيَّةِ في المهدِ مِن هذا الَّذي أُحيلوا على مُكالمتِه، وذلك مُبالغةٌ منهم في الإنكارِ، وتعجُّبٌ من استخفافِها بهم، ففعْلُ (كان) زائدٌ للتَّوكيدِ؛ ولذلك جاء بصِيغَةِ الماضي؛ لأنَّ (كان) الزَّائدةَ تكونُ بصِيغَةِ الماضي غالبًا [352] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/97). ، وهذا على أحدِ الأقوالِ في الآيةِ.
4- قوله تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا استئنافٌ مبنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ من سياقِ النَّظمِ الكريمِ؛ كأنَّه قيل: فماذا كان بعدَ ذلك؟ فقيل: قال عيسى عليه السَّلامُ... [353] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/264). .
- والتَّعبيرُ في آَتَانِيَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا بصِيغَةِ الماضي؛ إمَّا باعتبارِ ما سبَقَ في القضاءِ المحتومِ، أو بجعْلِ المُحقَّقِ وُقوعُه لا مَحالةَ واقعًا [354] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/15)، ((تفسير البيضاوي)) (4/10)، ((تفسير أبي حيان)) (7/258)، ((تفسير أبي السعود)) (5/264)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/98). .
5- قوله تعالى عن عيسى: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا
- قولُه: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا كونُه مُبارَكًا أعمُّ من كونِه نبيًّا عُمومًا وجْهِيًّا [355] أي: أنَّ كُلَّ كَلِمةٍ منهما أعمُّ مِن الأخرى مِن وَجهٍ، وأخَصُّ مِن آخَرَ؛ مثالُ ذلك: إنسانٌ، وأبيضُ، كُلُّ واحدٍ منهما أعَمُّ مِن الآخَرِ مِن وَجهٍ؛ فكَلِمةُ (إنسان) تعُمُّ الأبيضَ وغيرَ الأبيضِ، وكَلِمةُ (أبيض) تُطلَقُ على الإنسانِ وغيرِ الإنسانِ؛ فالأبيضُ إذَن أعَمُّ مِن الإنسانِ مِن وجهٍ؛ لأنَّها تُطلَقُ عليه وعلى غيرِه، والإنسانُ أعَمُّ من البَياضِ مِن وَجهٍ؛ لأنَّها تُطلَقُ على الأبيَضِ وغَيرِه. يُنظر: ((شرح مختصر التحرير)) لابن عثيمين (ص: 52). ؛ فلم يكُنْ في قولِه: وَجَعَلَنِي نَبِيًّا غُنْيةٌ عن قولِه: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا [356] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/99). .
- قولُه: أَيْنَ مَا كُنْتُ شرطٌ، وجزاؤُه محذوفٌ تقديرُه: جعَلني مُبارَكًا، وحُذِفَ؛ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه [357] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/258). .
- والتَّعميمُ الَّذي في قولِه: أَيْنَ مَا كُنْتُ تعميمٌ للأمكنةِ، فهو حيثُما حَلَّ تحُلُّ معه البركةُ [358] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/99). .
- قولُه: ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فيه استعمالُ صِيغَةِ الماضِي في (أوصاني)، باعتبارِ ما سبَقَ في القدَرِ المحتومِ، أي: قدَّرَ وصيَّتي بالصَّلاةِ والزَّكاةِ [359] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/99). .
6- قوله تعالى عن عيسى: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا
- في قولِه: وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا التَّعريفُ في (السَّلام) قيل: إنَّه للعهْدِ الذِّكري، والمعنى: ذلك السَّلامُ المُوجَّهُ إلى يحيى في المواطنِ الثَّلاثةِ مُوجَّهٌ إليَّ. وقيل: اللَّامُ للجنسِ والتَّعريضِ باللَّعنِ على أعدائِه، فإذا قال: جنْسُ السَّلامِ عليَّ خاصَّةً؛ فقد عَرَّضَ بأنَّ ضِدَّه عليكم، ونظيرُه قولُه تعالى: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه: 47] ، يعني: أنَّ العذابَ على مَن كذَّبَ وتولَّى، وكان المقامُ مَقامَ مُناكرةٍ وعِنادٍ، فهو مَئِنَّةٌ لنحوِ هذا من التَّعريضِ [360] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/16)، ((تفسير البيضاوي)) (4/10)، ((تفسير أبي حيان)) (7/259)، ((تفسير أبي السعود)) (5/264). . وقيل: جيءَ بالسَّلامِ هنا مُعرَّفًا باللَّامِ الدَّالَّةِ على الجنسِ؛ مُبالغةً في تعلُّقِ السَّلامِ به، حتَّى كأنَّ جنْسَ السَّلامِ بأجمَعِه عليه، وهذا مُؤذِنٌ بتفضيلِه على يحيى؛ إذ قيل في شأنِه: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ. ويجوزُ جعْلُ اللَّامِ للعهدِ، أي: سلامٌ إليه، وهو كنايةٌ عن تَكريمِ اللهِ عبْدَه بالثَّناءِ عليه في الملأِ الأعلى وبالأمْرِ بكَرامتِه، ومُؤذِنٌ أيضًا بتمهيدِ التَّعريضِ باليهودِ؛ إذ طَعَنوا فيه وشَتَموه في الأحوالِ الثَّلاثةِ، فقالوا: وُلِدَ مِن زِنًا، وقالوا: مات مَصلوبًا، وقالوا: يُحشَرُ مع الملاحدةِ والكفرةِ؛ لأنَّهم يَزعمون أنَّه كفَرَ بأحكامٍ من التَّوراةِ [361] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/100-101). !
7- قوله تعالى: ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ
- قولُه: ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ... اعتراضٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قبْلَه [362] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/264). ، أي: الَّذي تقدَّمَ نعْتُه هو عيسَى بنُ مريمَ لا ما يصِفُه النَّصارى، وهو تكذيبٌ لهم فيما يصِفونَه على الوجْهِ الأبلغِ والطَّريقِ البُرهانيِّ؛ حيث جعَلَه موصوفًا بأضدادِ ما يصِفونَه، ثمَّ عكَسَ الحُكمَ [363] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/10)، ((تفسير أبي السعود)) (5/264). ؛ فهو اعتراضٌ بين الجُملِ المقولةِ في قولِه: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: 30] مع قولِه: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [مريم: 36] ، أي: ذلك المذكورُ هو عيسى بنُ مريمَ لا كما تزعُمُ النَّصارى واليهودُ. والإشارةُ لتمييزِ المذكورِ أكمَلَ تَمييزٍ؛ تعريضًا بالرَّدِّ على اليهودِ والنَّصارى جميعًا؛ لأنَّهم لمَّا وصَفوه بغيرِ ما هو صِفَتُه جُعِلوا بمنزلةِ مَن لا يعرِفونَه، فاجْتُلِبَ اسمُ الإشارةِ؛ ليتميَّزَ الموصوفُ أكمَلَ تَمييزٍ عندَ الَّذين يُريدونَ أنْ يعرِفوهُ حقَّ معرفتِه. والمقصودُ بالتَّمييزِ تمييزُ صِفاتِه الحقيقيَّةِ عن الصِّفاتِ الباطلةِ الَّتي ألْصَقوها به، لا تمييزُ ذاتِه عن الذَّواتِ؛ إذ ليستْ ذاتُه بحاضرةٍ وقْتَ نُزولِ الآيةِ، أي: تلك حقيقةُ عيسى عليه السَّلامُ وصِفَتُه [364] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/101-102). . فقوله: ذَلِكَ إشارةٌ إلى من فُصِّلَت نُعوتُه الجليلةُ، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للدَّلالةِ على عُلوِّ مَرتبتِه، وبُعدِ مَنزلتِه، وامتيازِه بتلك المناقبِ الحميدةِ عن غيرِه، ونُزولِه منزلةَ المُشاهَدِ المحسوسِ [365] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/264). .
8- قوله تعالى: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
- جُملةُ: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ تقريرٌ لمعنى العُبوديَّةِ، أو تفصيلٌ لمضمونِ جُملةِ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ؛ فتكونُ بمنزلةِ بَدلِ البعضِ أو الاشتمالِ منها؛ اكتفاءً بإبطالِ قولِ النَّصارى بأنَّ عيسى ابنُ اللهِ؛ لأنَّه أهمُّ بالإبطالِ؛ إذ هو تقريرٌ لعُبوديَّةِ عيسى، وتنزيهٌ للهِ تعالى عمَّا لا يليقُ بجَلالِ الأُلوهيَّةِ مِن اتِّخاذِ الولدِ، ومن شائبةِ الشِّركِ، ولأنَّه القولُ النَّاشئُ عن الغُلوِّ في التَّقديسِ، فكان فيما ذُكِرَ من صفاتِ المدحِ لعيسى ما قد يُقوِّي شُبهتَهم فيه بخلافِ قولِ اليهودِ؛ فقد ظهَرَ بُطلانُه بما عُدِّدَ لعيسى من صفاتِ الخيرِ [366] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16 /103). .
- وصِيغَةُ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ تُفيدُ انتفاءَ الولدِ عنه تعالى بأبلغِ وجهٍ؛ لأنَّ لامَ الجُحودِ تُفيدُ مُبالغةَ النَّفيِ، وأنَّه ممَّا لا يُلاقي وُجودَ المنفيِّ عنه، ولأنَّ في قولِه: أَنْ يَتَّخِذَ إشارةً إلى أنَّه لو كان له ولدٌ، لكان هو خلَقَه واتَّخذَه، فلم يَعْدُ أنْ يكونَ من جُملةِ مخلوقاتِه. وجُملةُ: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بيانٌ لجُملةِ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ؛ لإبطالِ شُبهةِ النَّصارى [367] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16 /103). .
- ولَمَّا كان المقامُ يقتَضي النَّفيَ العامَّ، أكَّدَه بـ (مِن) فقال: مِنْ وَلَدٍ [368] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/196). .
9- قوله تعالى عن عيسى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
- قولُه: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ عُطِفَ على قولِه: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، فيكونُ محكيًّا، وقولُه: ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إلى يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ جُمَلَ اعتراضٍ، أخبَرَ اللهُ تعالى بها رسولَه عليه السَّلامُ [369] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/262). .
- وجُملةُ: هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ تذييلٌ وفذلكةٌ لِما سبَقَه. والإشارةُ إلى مضمونِ ما تقدَّمَ [370] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16 /105). ، والمُرادُ بالصِّراطِ المُستقيمِ: اعتقادُ الحقِّ، شُبِّهَ بالصِّراطِ المُستقيمِ على التَّشبيهِ البليغِ؛ شُبِّهَ الاعتقادُ الحقُّ في كونِه موصلًا إلى الهُدى بالصِّراطِ المُستقيمِ في إيصالِه إلى المكانِ المقصودِ باطمئنانِ بالٍ، وعُلِمَ أنَّ غيرَ هذا كبُنَيَّاتِ [371] بُنَيَّاتُ الطَّريقِ: هي الطُّرُقُ الصِّغارُ تتشَعَّبُ مِن الجادَّةِ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 40). الطَّريقِ، مَن سلَكَها ألْقَت به في المخاوفِ والمتالفِ [372] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16 /105). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وقال في الزُّخرفِ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [الزخرف: 64] بزيادةِ (هو)؛ لأنَّه تعالى ذكَرَ قصَّةَ عيسى عليه السَّلامُ هنا مُستوفاةً، فأغْنى ذلك عن التَّأكيدِ، بخلافِه ثَمَّ [373] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 355-356). .