موسوعة التفسير

سورةُ مَريمَ
الآيات (22-26)

ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ

غريب الكلمات:

قَصِيًّا: أي: نائيًا بَعيدًا، وأصلُ (قصو): يدُلُّ على بُعدٍ وإبعادٍ [218] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/491)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 376)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/94)، ((المفردات)) للراغب (ص: 788)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 222)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 741). .
فَأَجَاءَهَا: أي: ألجَأها واضْطرَّها، يُقالُ: جاء بها وأجاءَها: بمعنًى [219] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 273)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 68)، ((البسيط)) للواحدي (14/219)، ((المفردات)) للراغب (ص: 212)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 222)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 52). .
الْمَخَاضُ: أي: وجَعُ الوِلادةِ، وهو الطَّلْقُ، وسُمِّي مخاضًا مِن المَخْضِ، وهو الحركةُ الشَّديدةُ؛ لشدَّةِ تحرُّكِ الجنينِ في بطنِها إذا أرادَ الخروجَ، وأصلُ المخضِ: تحريكُ سقاءِ اللبنِ وهزُّه؛ ليجتمِعَ زُبدُه وسَمنُه [220] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 273)، ((البسيط)) للواحدي (14/219)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 222)، ((تفسير الشوكاني)) (3/388)، ((حاشية الشهاب علي تفسير البيضاوي)) (6/151)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 52)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/390). .
نَسْيًا مَنْسِيًّا: أي: شَيئًا حَقيرًا لا يُؤبَهُ له، وأصلُ (نسي): يدُلُّ على تَركِ الشَّيءِ وإغفالِه [221] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 273)، ((تفسير ابن جرير)) (15/499)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 477)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/421)، ((المفردات)) للراغب (ص: 804)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 916). .
سَرِيًّا: أي: جَدولًا ونَهرًا صغيرًا، وسُمِّيَ النَّهرُ سَرِيًّا؛ لأنَّ الماءَ يسري فيه، أي: يمُرُّ جاريًا. وقيل: بل ذلك من السَّرْوِ، أي: الرِّفعةِ، والإشارةُ بذلك إلى عيسى عليه السَّلامُ [222] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 274)، ((تفسير ابن جرير)) (15/510)، ((الغريبين)) للهروي (3/892)، ((المفردات)) للراغب (ص: 409)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 223). .
جَنِيًّا: أي: مَجْنيًّا غَضًّا طَرِيًّا، وجَنَى الشَّجرةِ: ما جُنِيَ منها، وأصلُ (جني): يدُلُّ على أخْذِ الثَّمرةِ مِن شَجَرِها [223] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 176)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/482)، ((البسيط)) للواحدي (14/230)، ((المفردات)) للراغب (ص: 208)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/88). .
وَقَرِّي عَيْنًا: أي: طِيبي نَفسًا، وأصلُه من القُرِّ، أي: البَردِ، فَقَرَّتْ عينه، أي: بَرَدَت، وقيل: هو من القَرارِ؛ لأنَّ اللهَ أعطاها ما تَسكُنُ به عينُها فلا تطمَحُ إلى غيرِه [224] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/7)، ((البسيط)) للواحدي (14/231)، ((المفردات)) للراغب (ص: 663). .
صَوْمًا: أي: صَمتًا، والصَّوْمُ في الأصلِ: الإمساكُ عن الفِعلِ مَطعمًا كان أو كلامًا أو مَشيًا [225] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 274)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 299)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/323)، ((المفردات)) للراغب (ص: 500)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 223)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 543). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ الله تعالى عن مشهدٍ آخرَ مِن مشاهدِ تلك القصةِ العجيبةِ، حينَ حمَلت مريمُ بعيسى عليه السلامُ، وعندما جاءَها المخاضُ، فيقولُ تعالى: فحَمَلت مريمُ بعيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فتباعَدَت به إلى مَكانٍ بعيدٍ عن النَّاسِ، فألجأها طَلْقُ الحَملِ ووجعُ الولادةِ إلى جِذعِ النَّخلةِ، فقالت: يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا اليومِ، وكنتُ شيئًا لا يُعرَفُ ولا يُذكَرُ! فناداها مولودُها عيسى مِن تحتِها عندما وضَعتْه: أنْ لا تَحزني، قد جعل ربُّكِ تحت قَدَميك جَدْولَ ماءٍ، وحَرِّكي جِذعَ النَّخلةِ تُسَاقِطْ عليك النَّخلةُ رطبًا طريًّا طيِّبًا، فكُلي من الرُّطَب، واشرَبي من الماءِ، وطِيـبي نفسًا، ولا تحزني، فإنْ رأيتِ مِن النَّاسِ أحدًا فسَألَكِ عن أمْرِك، فقولي له: إني أوجَبْتُ على نفسي لله سُكوتًا، فلن أكَلِّمَ اليومَ أحدًا من النَّاسِ.

تفسير الآيات:

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22).
فَحَمَلَتْهُ.
أي: فحَمَلَت مريمُ بعيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [226] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/490)، ((تفسير ابن كثير)) (5/221)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/389، 390). قال ابنُ تيميةَ: (إنَّما حَمَلت به بعدَ النَّفخِ، لم تَحمِلْ به مُدَّةً بلا نفخٍ ثم نُفِخَت فيه روحُ الحياة كسائر الآدميِّين، ففَرْقٌ بين النَّفخِ للحَملِ، وبين النفخِ لرُوحِ الحياةِ). ((مجموع الفتاوى)) (17/267). .
فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا.
أي: فتنحَّت بحَمْلِها إلى مكانٍ بعيدٍ عن النَّاسِ [227] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/491)، ((تفسير القرطبي)) (11/92)، ((تفسير ابن كثير)) (5/222). قال الشنقيطي: (الجمهورُ على أنَّ المكانَ المذكورَ بيتُ لحمٍ). ((أضواء البيان)) (3/389). .
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23).
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ.
أي: فألجأَها ألمُ الطَّلْقِ إلى جِذعِ نَخلةٍ [228] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/492، 493)، ((تفسير القرطبي)) (11/92)، ((تفسير ابن كثير)) (5/223)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/85)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/389، 390). قال الرسعني: (إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ الجذعُ: ساقُ النخلةِ، كأنَّها عليها السلامُ قصَدت الاسترواحَ مِن ألمِ الولادةِ بالاتكاءِ إليه، والاعتمادِ عليه). ((تفسير الرسعني)) (4/406). قال الواحدي: (قال المفسرون: وكان جذعَ نخلةٍ يابسةٍ ليس لها سعفٌ، ولهذا قال الله تعالى: إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ولم يقُلْ «إلى النخلةِ»؛ لأنَّها لم يبقَ منها إلا الجذعُ). ((البسيط)) (14/220). .
قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا.
أي: قالت: يا ليتني مِتُّ قبل أن أحمِلَ هذا الغلامَ مِن غيرِ زَوجٍ، وكنتُ شَيئًا حقيرًا يُترَكُ ويُنسَى فلا يَخطُرُ على بالٍ [229] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/498، 499)، ((تفسير القرطبي)) (11/92)، ((تفسير ابن كثير)) (5/223)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/188)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/85، 86)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/391). وقال السَّعدي: (فلمَّا آلَمَها وَجَعُ الولادةِ، ووجَعُ الانفرادِ عن الطَّعامِ والشراب، ووَجَعُ قَلبِها مِن قالةِ النَّاس،ِ وخافت عدَمَ صَبرِها؛ تمنَّت أنَّها ماتت قبل هذا الحادثِ، وكانت نَسيًا مَنسيًّا فلا تُذكَرُ. وهذا التمنِّي بناءٌ على ذلك المُزعِج، وليس في هذه الأمنيةِ خيرٌ لها ولا مَصلحةٌ، وإنما الخيرُ والمصلحةُ بتقديرِ ما حصل). ((تفسير السعدي)) (ص: 492). وقال ابنُ عاشور: (المشارُ إليه في قولِها قَبْلَ هَذَا هو الحملُ. أرادَتْ أن لا يُتطرَّقَ عرضُها بطعنٍ، ولا تجُرَّ على أهلِها معرةً. ولم تتمَنَّ مريم أنْ تكونَ ماتت بعدَ بُدوِّ الحمْلِ؛ لأنَّ الموتَ حينئذٍ لا يَدفَعُ الطَّعنَ في عرْضِها بعدَ موتِها ولا المعرَّةَ على أهلِها؛ إذ يُشاهِدُ أهْلُها بطْنَها بحمْلِها وهي ميتةٌ، فتَطرُقُها القالةُ). ((تفسير ابن عاشور)) (16/85-86). !
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24).
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي.
أي: فناداها مولودُها عيسَى مِن تَحتِها عندما وضَعَتْه [230] قال البغوي: (لم يُرِدْ به أنَّه تحتَها وهي قاعدةٌ عليه! بل أراد: بينَ يدَيْها). ((تفسير البغوي)) (2/411). وقال الشنقيطي: (وأمَّا على القَولِ بأنَّ المناديَ هو عيسى، فالمعنى على القراءةِ الأولى [أي: قراءةِ مِنْ تَحْتِهَا]: فناداها هو -أي: المولودُ الذي وضعَتْه- مِن تحتِها؛ لأنَّه كان تحتَها عند الوَضعِ، وعلى القراءة الثانية: فَنَادَاهَا مَنْ تَحْتَهَا أي: الذي تحتَها، وهو المولودُ المذكورُ الكائِنُ تحتَها عند الوضعِ). ((أضواء البيان)) (3/394). قائِلًا لها: لا تَحزَني [231] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/500، 505)، ((تفسير ابن عطية)) (4/11، 12)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/86، 87)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/394). وممَّن قال بأنَّ المناديَ لها هو عيسَى: ابنُ جريرٍ، وابنُ عطيةَ، وابنُ عاشور، والشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. وممن قال مِن السلفِ أنَّ المناديَ كان عيسى عليه السلامُ: أُبيُّ بنُ كعبٍ، ومجاهدٌ، والحسنُ، ووهبُ بنُ مُنبِّهٍ، وسعيدُ بنُ جبير في روايةٍ عنه، وابنُ زيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/503)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2404). قال الشنقيطي: (أظهَرُ القولينِ عندي أنَّ الذي ناداها هو ابنُها عيسى، وتدُلُّ على ذلك قرينتان: الأولى: أنَّ الضميرَ يرجِعُ إلى أقرب مذكور إلَّا بدليلٍ صارفٍ عن ذلك يجِبُ الرجوعُ إليه، وأقربُ مذكورٍ في الآيةِ هو عيسى لا جبريلُ؛ لأنَّ الله قال: فَحَمَلَتْهُ، يعني: عيسى فَانْتَبَذَتْ بِهِ، أي: بعيسى. ثمَّ قال بعده: فَنَادَاهَا فالذي يظهرُ ويتبادَرُ مِن السياقِ أنَّه عيسى. والقرينة الثانية: أنَّها لَمَّا جاءت به قَومَها تَحمِلُه، وقالوا لها ما قالوا، أشارت إلى عيسى ليكلِّموه، كما قال تعالى عنها: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، وإشارتُها إليه ليكَلِّموه قرينةٌ على أنَّها عَرَفت قبل ذلك أنَّه يتكلَّمُ على سبيلِ خَرقِ العادةِ؛ لندائِه لها عندما وضعَتْه). ((أضواء البيان)) (3/394). وقيل: المنادي لها هو المَلَكُ. وممن اختار ذلك: السمعاني، والقرطبي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/286)، ((تفسير القرطبي)) (11/93، 94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492). وممن قال مِن السلفِ أنَّ المناديَ كان مَلكًا: ابنُ عباس، والبراءُ، وعمرُو بنُ ميمون الأودي، وسعيدُ بنُ جبيرٍ في روايةٍ عنه، والضحَّاكُ، وقتادةُ، والسُّدِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/501)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2404). .
قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا.
أي: قد أجرى ربُّك تحت قَدَميك نهرًا صغيرًا؛ لتَشربي منه [232] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/510)، ((الوسيط)) للواحدي (3/181)، ((تفسير ابن كثير)) (5/224، 225)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/87)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/395، 396). وممن اختار أنَّ السَّريَّ هنا هو الجدولُ والنَّهرُ الصغير: ابنُ جرير، والواحدي، وابنُ كثير، والسعدي، وابنُ عاشور، والشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. قال الزجاج: (لا اختلاف بين أهلِ اللغة أنَّ السَّرِيَّ النَّهرُ بمنزلةِ الجَدولِ). ((معاني القرآن)) (3/325). وقال الشوكاني: (قال جمهورُ المفسِّرينَ: السريُّ: النهرُ الصغيرُ). ((تفسير الشوكاني)) (3/388). ويُنظر: ((تفسير الرسعني)) (4/408). وقيل: السَّرِيُّ: أي: السَّيدُ الشَّريفُ، وهو عيسى عليه السَّلامُ. وممَّن ذهب إلى ذلك: الحسنُ البصري-وقيل: رجَع عن هذا القولِ- وابنُ زيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/509، 510)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/325)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/463). .
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25).
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ.
أي: وحَرِّكي جِذعَ النَّخلةِ [233] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/510، 512)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 679)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/189)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/88). قال ابن عطية: (والظاهِرُ من الآيةِ أنَّ عيسى هو المكَلِّمُ لها). ((تفسير ابن عطية)) (4/11-12). .
تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا.
أي: تُسْقِطْ عليكِ النَّخلةُ رُطَبًا طَرِيًّا طيِّبًا نافعًا [234] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/513، 514)، ((تفسير البغوي)) (5/227)، ((تفسير القرطبي)) (11/95)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/189)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/88)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/400). وقال الشنقيطي: (الذي يُفهَمُ مِن سياقِ القُرآنِ: أنَّ الله أنبتَ لها ذلك الرُّطَبَ على سبيلِ خَرقِ العادةِ، وأجرى لها ذلك النَّهرَ على سبيلِ خَرقِ العادة، ولم يكُنِ الرُّطَبُ والنَّهرُ موجودينِ قبل ذلك، سواءً قلنا: إنَّ الجِذعَ كان يابِسًا أو نخلةً غيرَ مُثمِرةٍ، إلَّا أنَّ الله أنبت فيه الثَّمرَ، وجعَلَه رُطبًا جَنيًّا، ووجهُ دَلالةِ السِّياقِ على ذلك أنَّ قَولَه تعالى: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا يدُلُّ على أنَّ عينَها إنما تقَرُّ في ذلك الوقتِ بالأمورِ الخارقةِ للعادةِ؛ لأنَّها هي التي تُبَيِّنُ براءتَها مما اتَّهَموها به... وبذلك يكونُ قُرَّةَ عينٍ لها؛ لأنَّ مجرَّدَ الأكلِ والشُّربِ معَ بقاءِ التُّهمةِ التي تمنَّتْ بسبَبِها أن تكونَ قد ماتت مِن قَبلُ، وكانت نَسيًا مَنسيًّا، لم يكُنْ قُرَّةً لعينِها في ذلك الوقتِ، كما هو ظاهِرٌ). ((أضواء البيان)) (3/397). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/225). .
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26).
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا.
أي: فكُلي من الرُّطَبِ، واشرَبي مِن ماءِ النَّهرِ، وطيبي نفسًا، وافرَحي ولا تحزَني [235] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/515)، ((تفسير ابن كثير)) (5/225)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/89)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/397). .
فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا.
أي: فإنْ رأيتِ أحدًا من النَّاسِ يُريدُ أن يُكلِّمَكِ فقُولي [236] قيل: المرادُ بالقولِ هنا: التلفُّظُ بالكلامِ حقيقةً. وممَّن استظهر هذا: ابنُ عطية -ونسَبه للجمهورِ-، وأبو حيان، وهو ظاهرُ اختيارِ ابنِ القيِّمِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/13)، ((تفسير أبي حيان)) (7/256)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/218). قال ابنُ عطية: (ظاهِرُ الآيةِ أنَّها أُبيحَ لها أن تقولَ هذه الألفاظَ التي في الآيةِ، وهو قَولُ الجُمهورِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/13). وقال ابنُ القيم: (لم يكُنْ ما أخبَرَت به داخلًا تحت الخبرِ، وإلَّا كان قولُها هذا مخالفًا لِنَذرِها). ((بدائع الفوائد)) (4/218). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالقولِ هنا: الإشارةُ: ابنُ كثير، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/225)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/93). ويُنظر أيضًا: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/401). : إنِّي أوجبتُ على نفسي للرَّحمنِ أن أُمسِكَ عن الكلامِ [237] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/516)، ((تفسير ابن كثير)) (5/225)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/191)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/89، 90، 93). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالصومِ هنا: الصَّمتُ: ابنُ جرير، والرسعني، والقرطبي، والخازن، والبقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/516)، ((تفسير الرسعني)) (4/411)، ((تفسير القرطبي)) (11/97)، ((تفسير الخازن)) (3/186)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/191)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492). ونسَب الشنقيطي هذا القولَ للجمهورِ. يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/410). وممن قال بهذا القول مِن السلفِ: أنسُ بنُ مالكٍ في روايةٍ عنه، وابنُ عباسٍ، والضحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/516)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/128)، ((تفسير ابن كثير)) (5/225). وقيل: المرادُ: الصومُ عن الطعامِ والكلامِ معًا. وممَّن ذهَب إلى ذلك: ابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/93). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: أنسُ بنُ مالكٍ في روايةٍ عنه، وقتادةُ، وابنُ زيدٍ، والسدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/517)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/128)، ((تفسير ابن كثير)) (5/225). .
فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا.
أي: فلن أكلِّمَ اليومَ أحدًا من النَّاسِ [238] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/516)، ((تفسير القرطبي)) (11/98)، ((تفسير السعدي)) (ص: 492)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/93). قال ابنُ عطيةَ: (ومعنى هذه الآيةِ أنَّ الله تعالى أمَرها على لسانِ جبريلَ أو ابنِها على الخلافِ المتقَدِّمِ بأن تُمسِكَ عن مخاطبةِ البشَرِ، وتُحيلَ على ابنِها في ذلك؛ ليرتَفِعَ عنها خجَلُها، وتَبينَ الآيةُ فيقومَ عُذرُها... قال المفسِّرون: أُمِرَت مريمُ بهذا؛ ليكفيَها عيسى الاحتجاجَ). ((تفسير ابن عطية)) (4/13). وقال السعدي: (إنما لم تؤمَرْ بخِطابِهم في نفيِ ذلك عن نفسِها؛ لأنَّ النَّاسَ لا يصَدِّقونَها، ولا فيه فائدةٌ، ولتكونَ تبرئتُها بكلامِ عيسى في المهدِ أعظَمَ شاهدٍ على براءتِها؛ فإنَّ إتيانَ المرأةِ بولدٍ مِن دونِ زَوجٍ، ودعواها أنَّه مِن غيرِ أحدٍ: من أكبرِ الدَّعاوى التي لو أُقيم عِدَّةٌ مِن الشُّهودِ لم تُصَدَّقْ بذلك؛ فجُعِلَت بينةُ هذا الخارقِ للعادةِ أمرًا مِن جِنسِه، وهو كلامُ عيسى في حالِ صِغَرِه جِدًّا). ((تفسير السعدي)) (ص: 492). .

الفوائد التربوية :

1- قَولُ الله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فيه أمرٌ بالسَّبَبِ في الرزقِ، وتكَلُّفِ الكَسبِ [239] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 173). ، واستُدِلَّ مِن هذه الآيةِ على أنَّ الرِّزقَ وإن كان محتومًا، فإنَّ اللهَ تعالى قد وكلَ ابنَ آدمَ إلى سعيٍ ما فيه؛ لأنَّه أمَرَ مريمَ بهَزِّ النَّخلةِ؛ لترى آيةً، وكانت الآيةُ تكونُ بألَّا تَهُزَّ [240] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/95). ، فأخذ بعضُ العُلَماءِ مِن هذه الآيةِ أنَّ السَّعيَ والتسَبُّبَ في تحصيلِ الرِّزقِ أمرٌ مأمورٌ به شرعًا، وأنَّه لا ينافي التوكُّلَ على الله جلَّ وعلا، وهذا أمرٌ كالمعلومِ مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ: أنَّ الأخذَ بالأسبابِ في تحصيلِ المنافِعِ، ودَفعِ المضارِّ في الدُّنيا؛ أمرٌ مأمورٌ به شَرعًا لا ينافي التوكُّلَ على اللهِ بحالٍ؛ لأنَّ المكَلَّفَ يتعاطى السَّبَبَ امتِثالًا لأمرِ رَبِّه، مع عِلمِه ويقينِه أنَّه لا يقَعُ إلَّا ما يشاءُ اللهُ وُقوعَه، فهو متوكِّلٌ على اللهِ، عالمٌ أنَّه لا يُصيبُه إلَّا ما كتَبَ اللهُ له مِن خيرٍ أو شَرٍّ، ولو شاء الله تَخلُّفَ تأثيرِ الأسبابِ عن مُسَبِّباتِها، لتخلَّفَ [241] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/398). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أمَرَها اللهُ تعالى بأن تنذرَ الصَّومَ؛ لئلَّا تَشرعَ مع مَن اتَّهمها في الكلامِ لِمَعنيين:
أحدُهما: أنَّ كلامَ عيسى عليه السَّلامُ أقوى في إزالةِ التُّهمةِ مِن كلامِها، وفيه دَلالةٌ على أنَّ تفويضَ الأمرِ إلى الأفضَلِ أَولى.
والثاني: كراهةُ مُجادلةِ السُّفهاءِ، وفيه أنَّ السُّكوتَ عن السَّفيهِ واجِبٌ، ومِن أذَلِّ النَّاسِ سَفيهٌ لم يجِدْ مُسافِهًا [242] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/529). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى حكايةً عن مريمَ: وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا تمنَّتْ لو كانت شيئًا لا يُؤْبَهُ له، من شأْنِه وحقِّه أنْ يُنْسى في العادةِ، وقد نُسِيَ وطُرِحَ، فوُجِدَ فيه النِّسيانُ الَّذي هو حقُّه؛ وذلك لِما لحِقَها مِن فرطِ الحياءِ والخجلِ مِن النَّاسِ على حُكمِ العادةِ البشريَّةِ، لا كراهةً لحُكمِ اللهِ. أو لشدَّةِ التَّكليفِ عليها إذا بَهَتوها وهي عارفةٌ ببَراءةِ السَّاحةِ، وبضِدِّ ما عِيبَتْ به، مِن اختصاصِ اللهِ إيَّاها بغايةِ الإجلالِ والإكرامِ؛ لأنَّه مقامٌ دَحْضٌ، قلَّما تثبُتُ عليه الأقدامُ: أنْ تعرِفَ اغتباطَكَ بأمْرٍ عظيمٍ وفضْلٍ باهرٍ، تستحِقُّ به المدحَ وتستوجِبُ التَّعظيمَ، ثمَّ تراهُ عندَ النَّاسِ -لجَهْلِهم به- عيبًا يُعابُ به ويُعنَّفُ بسَببِه، أو لخوفِها على النَّاسِ أنْ يَعْصوا اللهَ بسببِها [243] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/11)، ((تفسير أبي حيان)) (7/253)، ((تفسير أبي السعود)) (5/261). .
2- قَولُ اللهِ تعالى إخبارًا عن مريمَ عليها السَّلامُ: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا فيه دَليلٌ على جوازِ تمنِّي الموتِ عندَ الفِتنةِ؛ فإنَّها عَرَفَت أنَّها ستُبتلَى وتُمتحَنُ بهذا المولودِ الذي لا يحمِلُ النَّاسُ أمرَها فيه على السَّدادِ، ولا يصَدِّقونها في خبرِها، وبعدما كانت عندَهم عابِدةً ناسِكةً تُصبِحُ عِندَهم -فيما يظنُّونَ- عاهرةً زانيةً [244] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/223). ، فمريمُ تمنَّت الموتَ مِن جهةِ الدِّينِ؛ إذ خافت أن يُظَنَّ بها الشَّرُّ في دينِها وتُعيَّرَ؛ فيَفتِنَها ذلك، وهذا مباحٌ، وعلى هذا الحَدِّ تمنَّاه جماعةٌ مِن الصالحينَ. ونَهيُ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن تمنِّي الموتِ [245] يُنظر ما أخرجه البخاري (5671)، ومسلم (2680) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. إنَّما هو لِضُرٍّ نَزَل بالبَدَنِ [246] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/10). .
3- قولُه تعالى: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا في هذا دليلٌ على مقامِ صبْرِها وصدْقِها في تلقِّي البَلوَى الَّتي ابتلاها اللهُ تعالى؛ فلذلك كانت في مقامِ الصِّدِّيقيَّةِ [247] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/85). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فيه أصلٌ لِما يقولُه الأطبَّاءُ: إنَّ الرُّطَبَ ينفَعُ النُّفَساءَ [248] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:173). ، وقال عمرُو بنُ مَيمونٍ: (ما من شَيءٍ خَيرٌ للنُّفَساءِ مِن التَّمرِ والرُّطَبِ، ثمَّ تلا هذه الآيةَ الكريمةَ: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) [249] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/225). .
5- قال الله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فأُعْطِيَت رُطبًا دونَ التَّمرِ؛ لأنَّ الرُّطبَ أشهَى للنَّفْسِ؛ إذ هو كالفاكهةِ، وأمَّا التَّمرُ فغِذاءٌ [250] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/87-88). .
6- إنْ قيل: ما كان حزنُها لفقْدِ الطَّعامِ والشَّرابِ حتَّى تُسلَّى بالسَّريِّ والرُّطبِ؟
فالجوابُ: لم تقَعِ التَّسليةُ بهما مِن حيثُ إنَّهما طعامٌ وشرابٌ، ولكنْ من حيثُ إنَّهما مُعجزتانِ تُريانِ النَّاسَ أنَّها من أهلِ العصمةِ، والبُعدِ من الرِّيبةِ، وأنَّ مثْلَها ممَّا قَرَفوها به بمَعزلٍ، وأنَّ لها أُمورًا إلهيَّةً خارجةً عن العاداتِ، خارقةً لِما ألِفُوا واعتادوا، حتَّى يتبيَّنَ لهم أنَّ وِلادَها من غيرٍ فحْلٍ ليس ببِدْعٍ مِن شأنِها [251] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/13)، ((تفسير أبي حيان)) (7/253). .
7- قصةُ مريمَ فيها كرامةٌ مِن عِدَّةِ أوجُهٍ:
الأول: أنَّه فقد قيلَ لها: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا وهي امرأةٌ نُفَساءُ، والمرأةُ النُّفَساءُ عادةً تكونُ ضعيفةً، والهَزُّ بجِذعِ النَّخلةِ لا يتأتَّى، بل إنَّه صَعبٌ؛ فإنَّ الرجُلَ القَويَّ إذا هزَّها مِن أسفَلَ لا تهتَزُّ، لكنَّ مَريمَ قيل لها: هُزِّي بجِذعِ النَّخلةِ، فهَزَّت؛ فاهتَزَّت النَّخلةُ، وهذه كرامةٌ.
الثاني: تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، والعادةُ أنَّ الرُّطَبَ إذا تساقَطَ مِن فَوقِ النَّخلةِ، فإنَّه يَفسُدُ ويتفضَّخُ [252] فَضْخُ الرُّطَبةِ: شَدْخُها. والفَضخُ: كَسْرُ كلِّ شَيْءٍ. يُنظر: ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (5/44). ، لكِنَّه في شأنِها بَقِيَ رُطَبًا جَنيًّا، وهذه كرامةٌ!
الثالث: أنَّه ولَمَّا جاءت تحمِلُ الولَدَ فقالوا لها مُعرِّضينَ لها بالزِّنا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم: 28] ، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم: 29] فكلَّمَهم، وهذه كرامةٌ.
فهذه كراماتٌ، وهي في الحقيقةِ تُشبِهُ آياتِ الأنبياءِ، لكِنَّ الفَرقَ بينهما أنَّ آياتِ الأنبياءِ تأتي من النبيِّ، وكرامةَ الأولياءِ تأتي مِن وليٍّ مُتَّبِعٍ للنبيِّ [253] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/541). .
8- النكرةُ في سياقِ الشَّرطِ تَعُمُّ؛ يُستفاد ذلك مِن قولِه تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي ... [254] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/2). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا
- قولُه: فَحَمَلَتْهُ ... الفاءُ للتَّفريعِ والتَّعقيبِ، أي: فحمَلَتْ بالغُلامِ في فورِ تلك المُراجعةِ [255] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/84). . وفي الكلامِ إيجازٌ، والتَّقديرُ: فاطمأنَّتْ إلى قولِه، فدنا منها، فنفَخَ في جَيبِ درعِها، فوصَلَتِ النَّفخةُ إلى بطْنِها، فحمَلَتْ [256] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/10). .
2- قوله تعالى: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا
- قولُه: جِذْعِ النَّخْلَةِ التعريفُ فيه إمَّا أن يكونَ مِن تعريفِ الأسماءِ الغالبةِ؛ كتعريفِ النجمِ، كأنَّ تلك الصحراءَ كان فيها جذعُ نخلةٍ متعارَفٌ عندَ الناسِ، فإذا قيل: «جذع النخلة». فُهِمَ منه ذاك، وإمَّا أن يكونَ تعريفَ الجنسِ [257] يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (4/406). .
- وجُملةُ: قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ السَّامعَ يتشوَّفُ إلى معرفةِ حالِها عندَ إبَّانِ وضْعِ حمْلِها بعدما كان أمْرُها مُستتِرًا غيرَ مكشوفٍ بينَ النَّاسِ، وقد آنَ أنْ ينكشِفَ؛ فيُجابُ السَّامعُ بأنَّها تمنَّتِ الموتَ قبْلَ ذلك، فهي في حالةٍ من الحُزنِ ترى أنَّ الموتَ أهونُ عليها من الوُقوعِ فيها [258] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/85). .
3- قوله تعالى: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا
- قولُه: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا على القولِ بأنَّ قائلَ هذا هو عيسى عليه السَّلامُ؛ فهذا إرهاصٌ [259] إرهاصٌ: مُقَدِّمةٌ له وإيذانٌ به. يُنظر: ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (4/208). لعيسى، وكرامةٌ لأُمِّه عليهما السَّلامُ، وقُيِّدَ بقولِه: مِنْ تَحْتِهَا لتحقيقِ ذلك، ولإفادةِ أنَّه ناداها عندَ وضْعِه قبْلَ أنْ ترفَعَه؛ مُبادرةً للتَّسليةِ والبشارةِ، وتَصويرًا لتلك الحالةِ الَّتي هي حالةُ تَمامِ اتِّصالِ الصَّبيِّ بأُمِّه [260] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/87). .
- قولُه: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا جُملةٌ خبريَّةٌ مُرادٌ بها التَّعليلُ لانتفاءِ الحزْنِ المفهومِ من النَّهيِ عنه في قوله: أَلَّا تَحْزَنِي، أي: أنَّ حالتَك حالةٌ جديرةٌ بالمسرَّةِ دونَ الحزنِ؛ لِما فيها من الكرامةِ الإلهيَّةِ [261] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/262)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/87) . والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِها؛ لتَشريفِها، وتأكيدِ التَّعليلِ، وتكميلِ التَّسليةِ [262] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/262). .
4- قوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا
- الباءُ في قولِه: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ صلةٌ للتَّأكيدِ، كما في قولِه تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ... [263] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/13)، ((تفسير البيضاوي)) (4/9)، ((تفسير أبي السعود)) (5/262)، ((تفسير أبي حيان)) (7/254-255). [البقرة: 195] ، أو لإلصاقِ الفعْلِ بمدخولِها، أي: افْعَلي الهزَّ بجذْعِها، أو هُزِّي الثَّمرةَ بهَزِّه [264] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/13)، ((تفسير البيضاوي)) (4/9)، ((تفسير أبي السعود)) (5/262)، ((تفسير أبي حيان)) (7/254-255)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/88). .
- قولُه: رُطَبًا جَنِيًّا هو كِنايةٌ عن حَدثانِ سُقوطِه، أي: عن طَراوتِه، ولم يكُنْ من الرُّطبِ المخبوءِ من قبْلُ؛ لأنَّ الرُّطبَ متى كان أقرَبَ عهدًا بنخلتِه كان أطيبَ طعمًا [265] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/87-88). .
5- قوله تعالى: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا
- قولُه: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، جُملةُ فَكُلِي وما بعْدَها فذلكةٌ [266] الفَذْلكةُ: كلمةٌ منحوتةٌ كالبَسملةِ والحوقلةِ مِن قولِهم: (فذلك كذا)، أي: ذكرُ مُجمَلِ ما فُصِّل أولًا وخلاصتِه. وقد يُرادُ بالفذلكةِ النتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتفريعُ عليه، ومنها فذلكةُ الحساب، أي: مُجمَل تفاصيله، وإنهاؤه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قوله: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638 - 639). للجُمَلِ الَّتي قبْلَها مِن قولِه: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، أي: فأنتِ في بحبوحةِ عيشٍ [267] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/89). .
- وقدَّم الأكلَ على الشُّربِ؛ لأنَّ احتياجَ النُّفَساءِ إلى أكلِ الرُّطَبِ أشَدُّ مِن احتياجِها إلى شُربِ الماءِ؛ لِكَثرةِ ما سال منها مِنَ الدِّماءِ [268] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/528). . أو لأنَّه لَمَّا كانت العادةُ تقديمَ الأكلِ على الشُّربِ، تقدَّمَ في الآيةِ [269] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/256). ، وهذا هو المُطَّرِدُ في القُرآنِ الكريمِ في جَميعِ المواضِعِ.
- قولُه: وَقَرِّي عَيْنًا قُرَّةُ العينِ: كنايةٌ عن السُّرورِ، وهي كنايةٌ ناشئةٌ عن ضدِّها، وهو سُخْنةُ العينِ الَّتي هي أثرُ البكاءِ اللَّازمِ للأسفِ والحزنِ، فلمَّا كُنِّي عن الحزنِ بسُخْنةِ العينِ؛ أتْبَعوا ذلك بأنْ كنَّوْا عن السُّرورِ بضِدِّ هذه الكنايةِ فقالوا: قُرَّةُ عينٍ، وأقرَّ اللَّهُ عينَه، وقُرَّةُ العينِ تشمَلُ هناءَ العيشِ، وتشمَلُ الأُنسَ بالطِّفلِ المولودِ. وفي كونِه قُرَّةَ عينٍ كِنايةٌ عن ضمانِ سَلامتِه، ونَباهةِ شأْنِه [270] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/89)، (20/78). .
- قولُه: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا قيل: إنَّه مُرتَّبٌ على مُقدَّرٍ بينه وبينَ الشَّرطِ، تقديرُه: فإمَّا تريِنَّ مِن البشرِ أحدًا، فيسأَلْكِ الكلامَ، فقولي: إنِّي نذرْتُ... إلخ، وبهذا سقَطَ ما قيلَ مِن أنَّ قولَها: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا كلامٌ بعدَ النَّذرِ؛ إذ هو بهذا التَّقديرِ مِن تَمامِ النَّذرِ لا بعْدَه [271] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/256)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 354). . وقيل: المعنى: فانْذِري صومًا، وإنْ لقيتِ من البشرِ أحدًا، فقولي: إنِّي نذرْتُ صومًا، فحُذِفَتْ الجُملةُ للقرينةِ [272] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/93). .
- قولُه: إِنْسِيًّا نِكرةٌ في سياقِ النَّفيِ؛ فيُفيدُ العُمومَ، أي: لنْ أُكلِّمَ أحدًا، وعُدِلَ عن (أحدٍ) إلى إِنْسِيًّا؛ لرعايةِ فاصلةِ الياءِ [273] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/94). .