موسوعة التفسير

سورةُ مَريمَ
الآيات (85-95)

ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ

غريب الكلمات:

وَفْدًا: أي: رُكبانًا، واحِدُهم وافِدٌ، فالوافدُ في الغالبِ يكونُ راكِبًا، يُقالُ: وَفَدتُ على فُلانٍ: إذا قَدِمتَ عليه، وأصلُ (وفد): يدُلُّ على إشرافٍ وطُلوعٍ [905] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 275)، ((تفسير ابن جرير)) (15/629)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 482)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/129)، ((المفردات)) للراغب (ص: 877)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 226)، ((تفسير القرطبي)) (11/151)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 950). .
وِرْدًا: أي: مُشاةً عِطاشًا، وأصلُه: الورودُ على الماءِ، والواردُ على الماءِ يكونُ عطشانَ، وأصلُ (ورد): يدلُّ على المُوافاةِ إلى الشَّيءِ [906] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 488)، ((تفسير السمرقندي)) (2/387)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/105)، ((الغريبين)) للهروي (6/1987)، ((البسيط)) للواحدي (14/331). .
إِدًّا: أي: عَظيمًا مُنكَرًا، وأصلُ (أدد): يدُلُّ على عِظَمِ الشَّيءِ وشِدَّتِه [907]  يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 276)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/11)، ((المفردات)) للراغب (ص: 69)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 226). .
يَتَفَطَّرْنَ: أي: يتشَقَّقْنَ ويَتصدَّعْنَ، وأصلُ (فطر): يدلُّ على فَتحِ شَيءٍ، وإبرازِه [908] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 276، 391)، ((تفسير ابن جرير)) (9/176)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/510)، ((تفسير القرطبي)) (11/156)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 991). .
وَتَخِرُّ: أي: تَسقُطُ، وأصلُ (خرر): يدلُّ على اضطرابٍ، وسُقوطٍ مع صَوتٍ [909] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 355)، ((تفسير ابن جرير)) (15/638)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 211)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/149). .
هَدًّا: الهَدُّ: الهدمُ له وقعٌ، وسُقوطُ شَيءٍ ثَقيلٍ، وأصلُ (هدد): يدُلُّ على كَسرٍ وهَدمٍ [910] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 276)، ((تفسير ابن جرير)) (15/638)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/7)، ((المفردات)) للراغب (ص: 834). .

المعنى الإجمالي:

يبيِّنُ الله سبحانَه عاقبةَ المتقينَ، وعاقبةَ المجرمينَ يومَ القيامةِ، فيقول: اذكُرْ -يا مُحمَّدُ- يومَ نَجمَعُ المتَّقينَ إلى الرَّحمنِ وإلى دارِ كرامتِه راكبينَ مُكَرَّمينَ، ونسوقُ الكافرينَ إلى النَّارِ مُشاةً عِطاشًا، لا يملِكُ هؤلاء الكُفَّارُ الشَّفاعةَ لأنفُسِهم ولا لأحدٍ، إنَّما يَملِكُها مَنِ اتخَذَ عند الرَّحمنِ عَهدًا بذلك، وهم المؤمِنونَ باللهِ ورُسُلِه.
ثمَّ يحكي الله تعالى أقوالًا أخرى، مِن أقوالِ الكافرينَ الباطلةِ، فيقولُ: وقال هؤلاء الكُفَّارُ: اتخذَ الرَّحمنُ ولَدًا! لقد جِئتمُ شَيئًا عظيمًا مُنكرًا، تكاد السَّمواتُ يتشقَّقْنَ مِن فظاعةِ ذلكم القَولِ، وتتصَدَّعُ الأرضُ، وتَسقُطُ الجبالُ سُقوطًا سريعًا فتتَفتَّتْ؛ غضبًا لله وإجلالًا له سُبحانَه؛ لِنسبَتِهم إليه الولدَ -تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا- وما يصِحُّ للرَّحمنِ ولا يليقُ بعَظَمتِه أن يتَّخِذَ ولَدًا، فما مِن أحدٍ مِن أهلِ السَّمواتِ، ومِن أهل الأرضِ، إلَّا سيأتي الرَّحمنَ يومَ القيامةِ ذَليلًا خاضِعًا مُقِرًّا له بالعبوديَّةِ، لقد أحصى اللهُ سُبحانه وتعالى خَلْقَه كُلَّهم، وعَلِمَ عَدَدَهم، فلا يخفَى عليه أحَدٌ منهم، وسوف يأتي كُلُّ فَردٍ مِن الخَلقِ رَبَّه يومَ القيامةِ وَحدَه، لا مالَ له ولا ولَدَ معه ولا نصيرَ.

تفسير الآيات:

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) .
أي: اذكُرْ -يا محمَّدُ- يومَ القيامةِ حين نجمعُ الذين اتَّقَوا اللهَ بامتثالِ ما أمرَ، واجتنابِ ما نهى، فنقودُهم إلى الرَّحمنِ راكبينَ في رِفعةٍ وعلوٍّ، فيَقدَمونَ إلى جنَّتِه، ومحَلِّ ضِيافتِه، ودارِ كرامتِه ورِضوانِه [911] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/628)، ((البسيط)) للواحدي (14/327)، ((تفسير القرطبي)) (11/151)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/45)، ((تفسير ابن كثير)) (5/263)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/247)، ((تفسير السعدي)) (ص: 500)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/168)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/512). .
كما قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر: 73] .
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما يدُلُّ على كرامةِ أوليائِه؛ أتبَعَه ما يدُلُّ على إهانةِ أعدائِه، فقال [912] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/247). :
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) .
أي: ونسوقُ الكُفَّارَ والعُصاةَ إلى جَهنَّمَ عِطاشًا مُشاةً؛ إذلالًا لهم [913] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/631)، ((تفسير القرطبي)) (11/152، 154)، ((تفسير ابن كثير)) (5/263)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/645)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/247)، ((تفسير السعدي)) (ص: 500). .
عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا كان يومُ القيامةِ أذَّنَ مُؤذِّنٌ: تتبَعُ كُلُّ أمَّةٍ ما كانت تعبُدُ، فلا يبقَى مَن كان يعبُدُ غيرَ اللهِ، مِن الأصنامِ والأنصابِ إلَّا يتساقطونَ في النَّارِ، حتى إذا لم يبقَ إلَّا مَن كان يعبُدُ اللهَ، بَرٌّ أو فاجِرٌ وغُبَّراتُ [914] غُبَّراتُ: أي: بقايا. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/161). أهلِ الكِتابِ، فيُدعَى اليهودُ فيُقالُ لهم: مَن كنتم تعبُدونَ؟ قالوا: كنَّا نعبُدُ عزيرَ ابنَ اللهِ! فيُقالُ لهم: كذبتُم؛ ما اتخذَ اللهُ مِن صاحبةٍ ولا ولدٍ، فماذا تَبغونَ؟ فقالوا: عَطِشْنا رَبَّنا فاسْقِنا، فيُشارُ ألا تَرِدونَ؟ فيُحشَرونَ إلى النَّارِ كأنَّها سرابٌ يَحطِمُ [915] يحطِمُ بَعضُها بَعضًا: أي: يَكسِرُ؛ لشِدَّةِ اتِّقادِها، وتلاطُمِ أمواجِ لهَبِها. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (7/82). بَعضُها بعضًا، فيتَساقَطونَ في النَّارِ، ثم يُدعَى النَّصارى، فيُقالُ لهم: مَن كنتُم تعبُدونَ؟ قالوا: كنَّا نعبُدُ المسيحَ ابنَ الله! فيُقالُ لهم: كذبتُم، ما اتخذَ اللهُ مِن صاحبةٍ ولا ولدٍ، فيُقالُ لهم: ماذا تبغونَ؟ فكذلك مِثل الأوَّلِ ...)) [916] رواه البخاري (4581) واللفظ له، ومسلم (183). .
لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) .
أي: ليس للكافرينَ مِن الشَّفاعةِ شَيءٌ يومَ القيامةِ، فلا يَشفَعونَ لأحَدٍ، ولا يستَحِقُّونَ أن يشفَعَ لهم أحدٌ، لكنْ من كان مؤمِنًا بالله موحِّدًا ومطيعًا له؛ فإنَّه يشفعُ لِغَيرِه، وينتَفِعُ بشَفاعةِ غَيرِه له [917] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/632، 634)، ((تفسير القرطبي)) (11/153، 154)، ((تفسير ابن كثير)) (5/264، 265)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/247)، ((تفسير السعدي)) (ص: 500)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/168، 169)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/515 - 517). .
كما قال تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر: 18] .
وقال سُبحانه: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48] .
وقال تعالى: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 86] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه: 109] .
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا قَرَّر تعالى في هذه السورةِ الشَّريفةِ عُبوديَّةَ عيسى عليه السَّلامُ، وذكَرَ خَلْقَه مِن مريمَ بلا أبٍ؛ شرَع في مقامِ الإنكارِ على من زعمَ أنَّ له ولدًا، تعالى وتقَدَّسَ وتنَزَّه عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا [918] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/265). .
وأيضًا لما ردَّ الله تعالى على عبدةِ الأوثانِ؛ عاد إلى الردِّ على مَن أثبتَ له ولدًا [919] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢١/٥٦٦). .
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) .
أي: وقال هؤلاء الكافِرونَ: اتَّخذَ الرَّحمنُ ولدًا له [920] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/635)، ((تفسير ابن كثير)) (5/265)، ((تفسير السعدي)) (ص: 501)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/169). قال السعدي: (كقَولِ النَّصارى: المسيحُ ابنُ اللهِ، واليهودِ: عزيرٌ ابنُ اللهِ، والمُشركين: الملائِكةُ بناتُ الله -تعالى اللهُ عن قَولِهم عُلُوًّا كَبيرًا). ((تفسير السعدي)) (ص: 501). !
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) .
أي: لقد قلتُم قولًا عَظيمًا مُنكَرًا، بافترائِكم على اللهِ أنَّ له ولدًا [921] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/635)، ((الوسيط)) للواحدي (3/196)، ((تفسير ابن كثير)) (5/265). قال الواحدي: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا عظيمًا، في قولِ الجميعِ). ((الوسيط)) (3/196). .
كما قال تعالى: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [الإسراء: 40] .
وقال سُبحانه: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف: 4-5] .
تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) .
تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ .
أي: تكاد السَّمواتُ على عَظَمتِها وإحكامِها تتشَقَّقُ قِطَعًا عند سماعِها ذلك القَولَ العَظيمَ المنكَرَ؛ إعظامًا للرَّبِّ، وإجلالًا له سُبحانَه [922] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/637)، ((تفسير ابن كثير)) (5/266)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/248)، ((تفسير السعدي)) (ص: 501). .
وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ.
أي: وتكادُ الأرضُ تتصَدَّعُ؛ تعظيمًا لله سُبحانَه [923] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/638)، ((تفسير ابن كثير)) (5/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 501). .
وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا.
أي: وتكادُ الجِبالُ على صلابتِها تسقُطُ سَريعًا، فتندَكُّ وتتفَتَّتُ [924] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/638)، ((تفسير السعدي)) (ص: 501)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/171). .
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) .
أي: من أجلِ أنَّ المُشرِكينَ نَسَبوا للرَّحمنِ ولَدًا [925] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/639، 640)، ((تفسير السعدي)) (ص: 501)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/171). .
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) .
أي: وما يصِحُّ ولا يليقُ بالرَّحمنِ أن يتَّخِذَ ولَدًا؛ فلا مِثلَ له مِن خَلقِه، ولا احتياجَ له إليهم؛ فجميعُ الخلائقِ عَبيدٌ له، وهو الغنيُّ الحميدُ [926] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/640، 641)، ((تفسير القرطبي)) (11/158)، ((تفسير ابن كثير)) (5/267)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/248)، ((تفسير السعدي)) (ص: 501). .
كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة: 116] .
وقال سُبحانه: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ [مريم: 35] .
وقال عزَّ وجَلَّ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1 - 4] .
وعنِ ابنِ عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال اللهُ: كَذَّبني ابنُ آدَمَ، ولم يكنْ له ذلك، وشتَمَني، ولم يكنْ له ذلك! فأمَّا تكذيبُه إيَّاي فزَعَم أنِّي لا أقدِرُ أن أُعيدَه كما كان، وأمَّا شَتمُه إيَّاي فقولُه: لي ولدٌ، فسُبحاني أن أتخِذَ صاحِبةً أو ولدًا !)) [927] رواه البخاري (4482). .
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) .
أي: ما مِن أحدٍ مِن أهلِ السَّمواتِ ومَن أهلِ الأرضِ إلَّا سيأتي إلى الرَّحمنِ يومَ القيامةِ ذَليلًا خاضِعًا، مقِرًّا له بعبوديَّتِه، فكيف يكونُ أحدٌ مِن خَلقِه ولدًا له، والحالُ أنَّ الجميعَ مِلكُه وعَبيدُه، يتصَرَّفُ فيهم كما يشاءُ؟ أمَّا هم فليس لهم من المُلكِ والتصَرُّفِ شيءٌ [928] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/641)، ((تفسير القرطبي)) (11/159)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/44)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/249)، ((تفسير السعدي)) (ص: 501). !
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) .
أي: لقد أحصى الرَّحمنُ عَدَدَ خَلْقِه كُلِّهم؛ ذَكَرِهم وأُنثاهم، وصَغيرِهم وكبيرِهم، فلا يخفَى عليه أحَدٌ منهم [929] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/641)، ((تفسير القرطبي)) (11/160)، ((تفسير ابن كثير)) (5/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 501). .
وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) .
أي: وكُلُّ واحدٍ مِن الخلائِقِ سيأتي إلى اللهِ يومَ القيامةِ بعدَ بَعثِه مِن الموتِ وَحيدًا، لا أولادَ معه، ولا مالَ له، ولا أنصارَ، ليس معه إلا عَمَلُه، فيقضي اللهُ فيه بحُكمِه، ويُجازيه، ويوَفِّيه حسابَه، فكيف يُتصوَّرُ في بالٍ أو يَقَعُ في خيالٍ أن يكونَ شَيءٌ مِن خَلْقِه وعَبيدِه له ولدًا، أو معه شريكًا [930] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/641)، ((تفسير القرطبي)) (11/160)، ((تفسير ابن كثير)) (5/267)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/250)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/174). قال ابنُ عاشور: (معنى وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا إبطالُ ما لأجْلِه قالوا: اتَّخَذَ اللهُ ولدًا؛ لأنَّهم زَعَموا ذلك مُوجِبَ عِبادتِهم للمَلائكةِ والجِنِّ؛ لِيَكونوا شُفَعاءَهم عندَ الله، فأيأَسَهم اللهُ مِن ذلك بأنَّ كُلَّ واحدٍ يأتي يومَ القيامةِ مُفرَدًا لا نَصيرَ له). ((تفسير ابن عاشور)) (16/174). ؟!
كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام: 94] .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- في قَولِه تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا رَدٌّ على مَن يقولُ: إنَّ اللهَ -جلَّ جلالُه- بنَفسِه في كلِّ مكانٍ، ولو كان -جَلَّ وتعالى- كذلك، ما كان لِحَشْرِهم إليه معنًى؛ إذ هو معهم حيثُ يكونونَ [931] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/279). !
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا يدُلُّ على أنَّهم يُساقُونَ إلى النَّارِ بإهانةٍ واستخفافٍ، كأنَّهم نَعَمٌ عطاشٌ تُساقُ إلى الماءِ [932] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢١/٥٦٥). !
3- نسبةُ الولدِ إلى الله مسبَّةٌ له تبارَك وتعالَى؛ لذا أخبَرَ الله تعالى أنَّه: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا وما ذاك إلا لتضَمُّنِه شَتْمَ الربِّ تبارك وتعالى؛ والتنَقُّصَ به، ونسبةَ ما يمنعُ كمالَ رُبُوبيَّتِه وقُدرتِه وغناه إليه [933] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/153). .
4- العبوديَّةُ نوعانِ: عامَّةٌ وخاصَّةٌ؛ فالعبوديَّةُ العامَّةُ عبوديَّةُ أهلِ السَّمواتِ والأرضِ كُلِّهم لله؛ بَرِّهم وفاجِرِهم، مؤمِنِهم وكافِرِهم، فهذه عبوديَّةُ القَهرِ والمِلك؛ قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم: 88 - 93] فهذا يدخُلُ فيه مؤمِنُهم وكافِرُهم. وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ [الفرقان: 17] فسَمَّاهم عبادَه مع ضلالِهم، لكنَّها تسميةٌ مُقَيَّدةٌ بالإشارةِ، وأمَّا المُطلقةُ فلم تجئْ إلَّا لأهلِ النَّوعِ الثاني الآتي.
وأمَّا النوع الثاني: فعبوديَّةُ الطَّاعةِ والمحبَّة، واتباع الأوامِرِ؛ قال تعالى: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف: 68] ، وقال: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 17-18] ، وقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63] ، وقال تعالى عن إبليسَ: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: 39-40] ، فقال تعالى عنهم: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [934] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/125). [الحجر: 42] .
5- قَولُ اللهِ تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا، لَمَّا كان مِن العبيدِ مَن يعصَى على سيدِه، عبَّر بالإتيانِ في قولِه: آَتِي الرَّحْمَنِ، أي: منقادٌ له طوعًا أو كرهًا، في كلِّ حالةٍ، وكلِّ وقتٍ، عَبْدًا: مُسخَّرًا مقهورًا خائفًا راجيًا، فكيف يكونُ العبدُ ابنًا أو شريكًا؟! فدلَّت الآيةُ على التنافي بينَ العبوديةِ والولِديَّةِ؛ فلا يجتمعانِ في حالٍ واحدةٍ؛ فهي مِن الدَّليلِ على أنَّ مَن مَلَكَ ابنَه عَتَق عليه؛ لأنَّ الولدَ لا يكونُ عبدًا لأبيه في حُكْمِ هذه الآيةِ [935] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/280)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/249). ؛ فالولادةُ والمِلكُ لا يجتَمِعانِ [936] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 175). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا
- قولُه: يَوْمَ منصوبٌ على الظَّرفيَّةِ بفعْلٍ مُؤخَّرٍ قد حُذِفَ؛ للإشعارِ بضيقِ العبارةِ عن حصْرِه وشرْحِه؛ لكَمالِ فَظاعةِ ما يقَعُ فيه من الطَّامَّةِ التَّامَّةِ، والدَّواهي العامَّةِ. وقيل: منصوبٌ على المفعوليَّةِ بمُضمرٍ مُقدَّمٍ خُوطِبَ به النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: اذكُرْ لهم بطريقِ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ يومَ نحشُرُ... إلخ. وقيل: على الظَّرفيَّةِ لقولِه تعالى: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ. والَّذي يَقْتضيه مقامُ التَّهويلِ، وتَسْتدعيه جزالةُ التَّنزيلِ: أنْ يَنتصِبَ بأحدِ الوجهينِ الأوَّلينِ، ويكونَ هذا استئنافًا مُبيِّنًا لبعضِ ما فيه من الأُمورِ الدَّالَّةِ على هولِه [937] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/281-282). . وقيل: الظَّرفُ وما أُضِيفَ الظَّرفُ إليه: إدماجٌ بُيِّنَت به كرامةُ المُؤمِنين، وإهانةُ الكافرينَ [938] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/167). .
- وعُدِّيَ نَحْشُرُ بـ إِلَى الرَّحْمَنِ تَعظيمًا لهم وتَشريفًا. وذكَرَ صِفَةَ الرَّحمانيَّةِ إِلَى الرَّحْمَنِ الَّتي خصَّهم بها كرامةً؛ إذ لفْظُ (الحشرِ) فيه: جمْعٌ مِن أماكنَ مُتفرِّقةٍ، وأقطارٍ شاسعةٍ على سَبيلِ القهْرِ، فجاءت لفظةُ (الرَّحمن) مُؤذنةً بأنَّهم يُحْشرون إلى مَن يرحَمُهم، ولفظُ (السَّوقِ) فيه إزعاجٌ، وعُدِّيَ بـ إِلَى جَهَنَّمَ؛ تَفظيعًا لهم، وتَبشيعًا لحالِ مَقرِّهم. ولفظةُ (الوفدِ) مُشعِرةٌ بالإكرامِ والتَّبجيلِ [939] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/298). ؛ فذُكِرَ المُتَّقونَ بلفظِ التَّبجيلِ، وهو أنَّهم يُجْمَعون إلى ربِّهم الَّذي غمَرَهم برحْمتِه، وخَصَّهم برضوانِه وكرامتِه، كما يفِدُ الوفَّادُ على المُلوكِ، مُنتظرينَ للكرامةِ عندَهم، وذُكِرَ الكافرونَ بأنَّهم يُساقونَ إلى النَّارِ بإهانةٍ واستخفافٍ، كأنَّهم نَعَمٌ عِطاشٌ تُساقُ إلى الماءِ [940] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/42-43). .
- وقولُه: وِرْدًا حالٌ قُصِدَ منها التَّشبيهُ؛ فلذلك جاءت جامدةً؛ لأنَّ معنى التَّشبيهِ يجعَلُها كالمُشتَقِّ؛ حيث شَبَّههم بالأنعامِ الَّتي تُساقُ قُدَّامَ رُعاتِها، يجعلونَها أمامَهم؛ لِتَرْهَبَ زجْرَهم وسِياطَهم، فلا تتفلَّتْ عليهم [941] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/168). .
- ولما كان مَن يرِدُ الماءَ لا يردُه إلَّا لعطشٍ، أُطلِق الوردُ على العطاشِ؛ تسميةً للشيءِ بسببِه [942] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (٧/٢٩٨). .
2- قولُه تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا عطْفٌ على جُملةِ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ [مريم: 66] ، أو على جُملةِ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً [مريم: 81] ؛ إتمامًا لحكايةِ أقوالِهم، وهو القولُ بأنَّ للهِ ولدًا، وهو قولُ المُشرِكين: الملائكةُ بناتُ اللهِ؛ فصريحُ الكلامِ رَدٌّ على المُشرِكين، وكِنايتُه تعريضٌ بالنَّصارى الَّذين شابَهوا المُشرِكين في نِسبةِ الولدِ إلى اللهِ؛ فهو تَكملةٌ للإبطالِ الَّذي في قولِه تعالى آنفًا: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ ... إلخ. والضَّميرُ عائدٌ إلى المُشرِكين، فيُفْهَمُ منه: أنَّ المقصودَ من حكايةِ قولِهم ليس مُجرَّدَ الإخبارِ عنهم، أو تعليمَ دينِهم، ولكنْ تفظيعُ قولِهم وتَشنيعُه [943] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/169). .
- وفي تكرُّرِ اسمِ (الرَّحمنِ) في هذه الآياتِ أربَعَ مرَّاتٍ في قولِه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، وقولِه: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وقولِه: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، وقولِه: إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا: إيماءٌ إلى أنَّ وَصْفَ الرَّحمنِ الثَّابتَ للهِ، والَّذي لا يُنْكِرُ المُشرِكون ثُبوتَ حقيقتِه للهِ، وإنْ أنْكَروا لفظَهُ، يُنافي ادِّعاءَ الولدِ له؛ لأنَّ (الرَّحمنَ) وصْفٌ يدُلُّ على عُمومِ الرَّحمةِ وتكثُّرِها. ومعنى ذلك: أنَّها شامِلةٌ لكلِّ موجودٍ؛ فذلك يَقْتضي أنَّ كلَّ موجودٍ مُفتقِرٌ إلى رحمةِ اللهِ تعالى، ولا يتقوَّمُ ذلك إلَّا بتحقُّقِ العُبوديَّةِ فيه؛ لأنَّه لو كان بعضُ الموجوداتِ ابنًا للهِ تعالى، لاسْتَغنَى عن رَحمتِه؛ لأنَّه يكونُ بالبُنوَّةِ مُساويًا له في الإلهيَّةِ المُقتضيةِ الغِنى المُطلَقَ، ولأنَّ اتِّخاذَ الابنِ يتطلَّبُ به مُتَّخِذُه بِرَّ الابنِ به ورَحمتَه له، وذلك يُنافي كونَ اللهِ مُفيضَ كلِّ رحمةٍ؛ فذِكْرُ هذا الوصفِ عندَ قولِه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، وقولِه: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا: تَسجيلٌ لغَباوتِهم، وذِكرُه عندَ قولِه: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا: إيماءٌ إلى دليلِ عدَمِ لياقةِ اتِّخاذِ الابنِ باللهِ، وذِكرُه عندَ قولِه: إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا: استدلالٌ على احتياجِ جميعِ الموجوداتِ إليه، وإقرارِها له بملْكِه إيَّاها [944] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/173)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/158). . وقيل: لاختيارِ هذا الاسمِ في هذه السُّورةِ شأنٌ؛ ولعلَّه لأنَّ مَساقَ هذا الكلامِ فيها لتَعدادِ نِعَمِه الجِسامِ، وشرْحِ حالِ الشَّاكرين لها، والكافرينَ بها [945] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/20). . وأيضًا في اختصاصِ (الرَّحمنِ) وتَكريرِه مرَّاتٍ من الفائدةِ: أنَّه هو الرَّحمنُ وحْدَه، لا يَستحِقُّ هذا الاسمَ غيرُه، من قِبَلِ أنَّ أُصولَ النِّعمِ وفُروعَها منه؛ فمَن أضاف إليه ولدًا، فقد جعَلَه كبعضِ خلْقِه، وأخرَجَه بذلك عن استحقاقِ اسمِ الرَّحمنِ [946] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/45)، ((تفسير أبي حيان)) (7/303). .
3- قولُه تعالى: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا جُملةٌ مُستأنفةٌ لبَيانِ ما اقتضَتْه جُملةُ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا من التَّشنيعِ والتَّفظيعِ [947] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/170). . وهو رَدٌّ لمقالتِهم الباطلةِ، وتَهويلٌ لأمْرِها بطريقِ الالتفاتِ المنْبِئِ عن كَمالِ السَّخطِ، وشدَّةِ الغضبِ، المُفصِحِ عن غايةِ التَّشنيعِ والتَّقبيحِ، وتَسجيلٌ عليهم بنهايةِ الوقاحةِ والجهلِ والجراءةِ [948] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/45)، ((تفسير البيضاوي)) (4/20)، ((تفسير أبي حيان)) (7/300)، ((تفسير أبي السعود)) (5/282)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/170)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/158). .
- وإنَّما قيل: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا وهو خِطابٌ للحاضِرِ، بعدَ قَولِه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا وهو خِطابٌ للغائِبِ؛ لفائدةٍ حَسَنةٍ، وهي زيادةُ التَّسجيلِ عليهم بالجَراءةِ على الله تعالى، والتعَرُّضِ لسَخَطِه، وتنبيهٌ لهم على عِظَمِ ما قالوه، كأنَّه يُخاطِبُ قَومًا حاضِرينَ بينَ يديه مُنكِرًا عليهم، ومُوَبِّخًا لهم [949] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (2/5). .
4- قوله تعالى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا
- قولُه: تَكَادُ السَّمَوَاتُ ... إلخ صِفَةٌ لـ إِدًّا، أو استئنافٌ ببَيانِ عظيمِ شأْنِه في الشِّدَّةِ والهولِ [950] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/282). .
- وفي قولِه: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ جمَعَ بينَ يَتَفَطَّرْنَ وبينَ وَتَنْشَقُّ تَفنُّنًا في استعمالِ المُترادفِ؛ لدفْعِ ثقَلِ تَكريرِ اللَّفظِ. والكلامُ جارٍ على المُبالغةِ في التَّهويلِ مِن فظاعةِ هذا القولِ، بحيثُ إنَّه يبلُغُ إلى الجماداتِ العظيمةِ، فيُغيِّرُ كيانَها [951] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/170-171). .
5- قوله تعالى: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا
- قولُه: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ فيه تأكيدُ ما أُفِيدَ من قولِه: مِنْهُ، وزيادةُ بَيانٍ لمعادِ الضَّميرِ المجرورِ في قولِه: ؛ اعتناءً ببَيانِه [952] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/171). .
6- قوله تعالى: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا
- لعلَّ تَرتيبَ الحُكمِ بصِفَةِ الرَّحمانيَّةِ، ووضْعَ (الرَّحمنِ) موضِعَ الضَّميرِ؛ للإِشعارِ بأنَّ كلَّ ما عداهُ نِعمةٌ ومُنْعَمٌ عليه، فلا يُجانِسُ مَن هو مبدَأُ النِّعمِ كلِّها، ومُولي أُصولِها وفُروعِها؛ فكيف يُمكِنُ أنْ يتَّخِذَه ولدًا؟! ثمَّ صرَّحَ به في قولِه: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ... [953] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/21)، ((تفسير أبي السعود)) (5/283). .
7- قوله تعالى: لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا
- جُملةُ: لَقَدْ أَحْصَاهُمْ عطْفٌ على جُملةِ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، مُستأنفةٌ ابتدائيَّةٌ؛ لتَهديدِ القائلينَ هذه المقالةَ، فضمائرُ الجمْعِ عائدةٌ إلى ما عاد إليه ضميرُ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا وما بعدَه، أي: لقد علِمَ اللهُ كلَّ مَن قال ذلك وعَدَّهم؛ فلا يَنفلِتُ أحدٌ منهم من عقابِه [954] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/174). .
- إنْ قيل: ما فائدةُ ذِكْرِ العدِّ بعدَ الِإحصاءِ، مع أنَّ الإحصاءَ هو العدُّ أو الحصرُ، والحصرُ لا يكونُ إلَّا بعدَ معرفةِ العددِ؟
والجوابُ: له معنًى ثالثٌ وهو العلمُ، كقولِه تعالى: وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 28] ، أي: علِمَ عدَدَ كلِّ شَيءٍ، فالمعنى هنا: لقد علِمَهم، وعَدَّهم عَدًّا [955] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 358). .
8- قوله تعالى: وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا
- قولُه: آَتِيهِ في صِيغَةِ الفاعلِ من الدَّلالةِ على إتيانِهم ما ليس في صِيغَةِ المُضارعِ لو قيل: يأْتِيه، فإذا كان شأنُه تعالى وشأنُهم كما ذُكِرَ؛ فأنَّى يُتَوهَّمُ احتمالُ أنْ يتَّخِذَ شيئًا منهم ولدًا [956] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/283). ؟! وفي ذلك تَعريضٌ بأنَّهم آتونَ لِما يَكْرهون مِن العذابِ والإهانةِ إتيانَ الأعزلِ إلى مَن يتمكَّنُ من الانتقامِ منه [957] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/174). .
- وأفردَ سُبحانَه آَتِيهِ لَمَّا كان المقصودُ الإشارةَ إلى أنَّهم وإنْ أتَوه جميعًا؛ فكلُّ واحدٍ منهم منفردٌ عن كلِّ فريقٍ مِن صاحبٍ أو قريبٍ أو رفيقٍ، بل هو وَحدَه منفردٌ، فكأنَّه إنما أتاه وَحدَه -وإنْ أتاه مع غيرِه- لانقطاعِ تبعيَّتِه للغيرِ، وانفرادِه بشأنِ نفْسِه [958] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/215). .