موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيات (17-20)

ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ

غريب الكلمات:

الطَّاغُوتَ: الطَّاغوتُ هو كُلُّ ذِي طُغْيانٍ على الله، فكلُّ معبودٍ مِن دُونِ الله إذا لم يَكُنْ كارِهًا لذلك: طاغوتٌ؛ إنسانًا كان ذلك المعبودُ، أو شيطانًا، أو وَثَنًا، أو صَنمًا، كائِنًا ما كان مِن شَيءٍ، والمُطاعُ في معصيةِ اللهِ طاغوتٌ، وكذلك السَّاحِرُ والكاهِنُ، واشتِقاقُه مِن الطُّغيانِ: وهو الظُّلْمُ والبَغْيُ، وأصلُه: يدُلُّ على مُجاوَزةِ الحَدِّ في العِصيانِ [402] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 128)، ((تفسير ابن جرير)) (4/558)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 316)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/412)، ((المفردات)) للراغب (ص: 520)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 37)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 113). .
وَأَنَابُوا: أي: تابوا ورَجعوا، وأصلُ (نوب): يدُلُّ على الرُّجوعِ [403] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/184)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/367)، ((المفردات)) للراغب (ص: 827)، ((تفسير القرطبي)) (15/244)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 202). .
حَقَّ: أي: وجَب ولَزِمَ، والحَقُّ في أصلِه: المُطابَقةُ والموافَقةُ، وأصلُ (حَقق): يدُلُّ على إحكامِ الشَّيءِ وصِحَّتِه [404] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/15)، ((المفردات)) للراغب (ص: 246، 247)، ((تحفة الأريب)) لأبي حيان (ص: 107)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 536). .
غُرَفٌ: أي: مَنازِلُ عاليةٌ في الجنَّةِ، جمْعُ غُرفةٍ: وهي العُلِّيَّةُ [405] العُلِّيَّةُ: الغُرفةُ في الطبقةِ الثانيةِ مِن الدَّارِ وما فوقَها. يُنظر: ((المعجم الوسيط)) (2/625). المُشرِفةُ [406] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/418)، ((المفردات)) للراغب (ص: 605)، ((تفسير القرطبي)) (13/359)، ((تفسير ابن كثير)) (6/292). .

المعنى الإجمالي:

 يقولُ تعالى مبَيِّنًا ما أعدَّه للمتَّقينَ: والَّذين ابتَعدوا عن عبادةِ كُلِّ ما يُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ تعالى، ورجَعوا إلى اللهِ تعالى: لهم البُشرى في الدُّنيا والآخِرةِ؛ فبَشِّرْ -يا مُحمَّدُ- عباديَ الَّذين يَستَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعونَ أحسَنَ ما فيه، أولئك هم الَّذين أرشَدَهم اللهُ ووفَّقَهم، وأولئك هم أصحابُ العُقولِ الصَّحيحةِ.
ثمَّ يقولُ تعالى مسَلِّيًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم: أفمَنْ وجَبَ عليه العذابُ في سابقِ عِلمِ الله لكُفرِه، أفأنت -يا محمَّدُ- تَستطيعُ إنقاذَه مِن النَّارِ؟!
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى حُسنَ عاقبةِ المتَّقينَ، فيقولُ: لكِنِ الَّذين اتَّقوا ربَّهم لهم في الجنَّةِ غُرَفٌ عاليةٌ، بَعضُها فَوقَ بَعضٍ، تجري مِن تحتِها الأنهارُ، وعَدَهم اللهُ تعالى بذلك وعْدًا لا يَتخَلَّفُ؛ فهو سُبحانَه لا يُخلِفُ ما وعَدَ به عِبادَه.

تفسير الآيات:

وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى وَعيدَ عَبَدةِ الأصنامِ والأوثانِ؛ ذكَرَ وعْدَ مَنِ اجتنَبَ عِبادتَها، واحتَرَز عن الشِّركِ؛ لِيَكونَ الوَعدُ مَقرونًا بالوعيدِ أبدًا، فيَحصُلَ كمالُ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ [407] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/434). .
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى.
أي: والَّذين ابتَعَدوا عن عبادةِ الطَّاغوتِ [408] قيل: هو الشَّيطانُ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ جرير، والسمعاني، والزمخشري. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/183)، ((تفسير السمعاني)) (4/463)، ((تفسير الزمخشري)) (4/120). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ، والسُّدِّيُّ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/183). قال الرازي: (اخْتَلَفوا في أنَّ المرادَ مِن الطَّاغوتِ هاهنا الشَّيطانُ أم الأوثانُ، فقيل: إنَّه الشَّيطانُ، فإنْ قِيل: إنَّهم ما عَبَدوا الشَّيطانَ وإنَّما عَبَدوا الصَّنمَ، قُلْنا: الدَّاعي إلى عِبادةِ الصَّنمِ لَمَّا كان هو الشَّيطانَ كان الإقدامُ على عِبادةِ الصَّنَمِ عِبادةً للشَّيطانِ). ((تفسير الرازي)) (26/435). وقال ابن عطية: (الطَّاغوت: كُلُّ ما يُعبَدُ مِن دونِ الله. والطَّاغوتُ أيضًا: الشَّيطانُ، وبه فسَّر هنا مجاهِدٌ، والسُّدِّيُّ، وابنُ زَيدٍ، وأوقعه هنا على جماعةِ الشَّياطينِ؛ ولذلك أنَّث الضَّميرَ بعدُ). ((تفسير ابن عطية)) (4/525). وقيل: الطَّاغوتُ: الأوثانُ. وممَّن قال بهذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/673)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 931). قال الشنقيطي: (الأصنامُ تدخُلُ في الطَّاغوتِ دُخولًا أوَّلِيًّا). ((أضواء البيان)) (5/255). فإن قِيلَ: لِمَ سُمِّيت بذلك مع أنَّه لا فعلَ لها، والطُّغاةُ هم الَّذينَ يَعْبُدونَها؟ أُجيبَ عن ذلك: بأنَّه لَمَّا حَصَل الطُّغيانُ عندَ مُشاهَدَتِها والقُربِ منها، وُصِفتْ بهذه الصِّفةِ؛ إطلاقًا لاسمِ المُسَبَّبِ على السَّبَبِ بحَسَبِ الظَّاهرِ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/435). وقيل: الطَّاغوتُ: الكاهِنُ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/243)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/364). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ السَّائبِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/11). وقيل: الطَّاغوتُ: اسمٌ لكلِّ ما عُبِدَ مِن دُونِ الله؛ فكُلُّ مُشركٍ إلهُه طاغوتُه. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ القيِّم، والسعديُّ. يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/447)، ((تفسير السعدي)) (ص: 721). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 142، 143). قال ابنُ القَيِّم: (الطَّاغوتُ: كُلُّ ما تَجاوَزَ به العبدُ حَدَّه مِن معبودٍ أو مَتبوعٍ أو مُطاعٍ). ((إعلام الموقعين)) (1/40). ، وتابوا إلى اللهِ تعالى مِنَ الشِّركِ والعِصيانِ، وأقبلوا على طاعةِ الرَّحمنِ: لهم البُشرى بالخَيرِ في الدُّنيا والآخِرةِ [409] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/183، 184)، ((تفسير القرطبي)) (15/243، 244)، ((تفسير ابن كثير)) (7/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 721)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 142-145). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالبُشرى هنا: عُمومُ البُشرى في الدُّنيا والآخرةِ: الزمخشريُّ، وابن كثير، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/120)، ((تفسير ابن كثير)) (7/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 721)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 144، 145). قال السعدي: (لَهُمُ الْبُشْرَى الَّتي لا يُقادِرُ قَدْرَها ولا يَعلَمُ وَصْفَها إلَّا مَن أكرمَهم بها، وهذا شامِلٌ للبُشرى في الحياةِ الدُّنيا بالثَّناءِ الحَسَنِ، والرُّؤيا الصَّالحةِ، والعنايةِ الرَّبانيَّةِ مِن الله، الَّتي يَرَون في خِلالِها أنَّه مُريدٌ لإكرامِهم في الدُّنيا والآخرةِ، ولهم البُشرَى في الآخرةِ عندَ الموتِ، وفي القبرِ، وفي القيامةِ، وخاتمةُ البُشْرى ما يُبشِّرُهم به الرَّبُّ الكريمُ مِن دَوامِ رِضوانِه وبِرِّه وإحسانِه، وحلولِ أمانِه في الجنَّةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 721). وقيل: المرادُ أنهم يُبشَّرون في الدُّنيا بالفوزِ بالجنَّةِ في الآخرةِ. وممَّن قال بهذا: ابنُ جرير، والثعلبي، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/183، 184)، ((تفسير الثعلبي)) (8/227)، ((تفسير القرطبي)) (15/244). وقيل: البُشرى المرادُ بها: الجنَّةُ. وممَّن اختاره: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنِين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/673)، ((تفسير السمرقندي)) (3/181)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/108). .
كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] .
فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ...
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا أخبَرَ الله تعالى أنَّ لهم البُشرى أمَرَ نبيَّه ببِشارتِهم، وذكَرَ الوَصفَ الَّذي استحَقُّوا به البِشارةَ [410] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 721). .
فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ  ...
أي: فبَشِّرْ -يا محمَّدُ- عِباديَ الَّذين يَستَمِعونَ القَولَ [411] قال السمين الحلبي: (قولُه: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ: الظَّاهرُ أنه نعتٌ لـ «عبادي»، أو بدَلٌ منه، أو بيانٌ له. وقيل: يجوزُ أنْ يكونَ مبتدأً). ((الدر المصون)) (9/419). فيَتَّبِعونَ أحسَنَ ما فيه [412] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/184)، ((تفسير ابن عطية)) (4/525)، ((تفسير ابن كثير)) (7/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 721)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/365 - 367). قيل: المرادُ بقولِه: فَبَشِّرْ عِبَادِ: هم المُجتنِبونَ الطَّاغوتَ، المُنيبون إلى الله. وممَّن اختاره: الزمخشريُّ، والرازي، وأبو حيان، والسمين الحلبي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/120)، ((تفسير الرازي)) (26/436)، ((تفسير أبي حيان)) (9/192)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/419). وقيل: المرادُ بالعِبادِ هنا العمومُ؛ فيدخُلُ المَوصوفونَ بالاجتِنابِ والإنابةِ إليه دُخولًا أوَّليًّا. وممَّن اختاره: الشوكاني. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/523). واختلف المفسِّرون أيضًا في معنى قولِه: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ؛ على أقوالٍ: القولُ الأوَّلُ: أنَّ المرادَ بالقولِ: عمومُ الكلام، وجميعُ الأقوالِ حسَنِها وسَيِّئِها. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، وابن عطية، وأبو حيَّان، والثعالبي، والبِقاعي، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/184)، ((تفسير ابن عطية)) (4/525)، ((تفسير أبي حيان)) (9/192)، ((تفسير الثعالبي)) (5/85)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/479)، ((تفسير السعدي)) (ص: 721)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/365). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جزي)) (2/219). قال ابنُ الجوزي في بيانِ هذا القولِ: (أنَّه الرَّجُلُ يَجلِسُ مع القَومِ فيَسْمَعُ كلامَهم، فيَعمَلُ بالمَحاسِنِ ويُحدِّثُ بها، ويَكُفُّ عن المَساوئِ ولا يُظهِرُها، قاله ابنُ السَّائبِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/12). وقال ابن عطية: (وقَولُه تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ كلامٌ عامٌّ في جميعِ الأقوالِ، وإنَّما القَصدُ الثَّناءُ على هؤلاءِ ببَصائِرَ هي لهم، وقَوامٍ في نَظَرِهم؛ حتى إنَّهم إذا سَمِعوا قَولًا مَيَّزوه واتَّبَعوا أحسَنَه. واختلَف المفَسِّرون في العبارةِ عن هذا؛ فقالت فِرقةٌ: أحسَنُ القَولِ كِتابُ اللهِ، أي: إذا سَمِعوا الأقاويلَ وسَمِعوا القرآنَ اتَّبَعوا القُرآنَ. وقالت فِرقةٌ: القَولُ هو القُرآنُ، وأحسَنُه: ما فيه مِن عَفْوٍ وصَفحٍ واحتِمالٍ على صَبرٍ، ونحوِ ذلك. وقال قَتادةُ: أحسَنُ القَولِ طاعةُ اللهِ. وهذه أمِثلةٌ، وما قُلْناه أوَّلًا يَعُمُّها). ((تفسير ابن عطية)) (4/525). وقال السَّعدي: (وأحسَنُه على الإطلاقِ كَلامُ اللهِ وكَلامُ رَسولِه، كما قال في هذه السُّورةِ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر: 23] الآيةَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 721). وخصَّه ابنُ عُثيمينَ بالقَولِ الحَسَنِ لا بكُلِّ قَولٍ، أي: إنَّ هؤلاء العِبادَ يَستَمِعونَ القَولَ الحَسَنَ فيَتَّبِعونَ أحسَنَه، فأمَّا القَولُ السَّيِّئُ أو اللَّغوُ فإنَّهم يُعرِضونَ عنه، ولا يَستَمِعونَ إليه أصلًا، كما قال تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان: 72] ، وقال تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص: 55] ؛ فإذا كانوا لا يَستَمِعونَ إلى الكَلامِ الَّذي لا فائِدةَ منه فهُم أبعَدُ عن الاستِماعِ إلى الكَلامِ المحَرَّمِ مِن بابِ أَولى. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 146، 147). القولُ الثَّاني: أنَّ المرادَ بالقولِ هاهنا: ما قاله اللهُ ورسوله. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ القيم، والشنقيطي. يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (4/1525)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/356 - 358). قال الشنقيطي موضِّحًا هذا القولَ الَّذي اختاره: (المراد بالقولِ ما جاء به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مِن وحيِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ومِن إطلاقِ القولِ على القرآنِ قولُه تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون: 68] ... وقولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي: يُقَدِّمون الأحسَنَ، الَّذي هو أشدُّ حُسنًا... وأمَّا كَوْنُ القرآنِ فيه الأحسَنُ والحسَنُ، فقد دلَّتْ عليه آياتٌ مِن كتابِه. واعلَمْ أوَّلًا أنَّه لا شكَّ في أنَّ الواجبَ أحسَنُ مِن المندوبِ، وأنَّ المندوبَ أحسَنُ مِن مُطلَقِ الحسَنِ، فإذا سمِعوا مثلًا قولَه تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77] قدَّموا فِعلَ الخَيرِ الواجبِ على فعلِ الخَيرِ المندوبِ، وقدَّموا هذا الأخيرَ على مُطلَقِ الحسَنِ الَّذي هو الجائزُ؛ ولذا كان الجزاءُ بخصوصِ الأحسَنِ الَّذي هو الواجبُ والمندوبُ، لا على مُطلَقِ الحسَنِ، كما قال تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] ... ومِن أمثلةِ التَّرغيبِ في الأخذِ بالأحسَنِ وأفْضَليَّتِه مع جوازِ الأخذِ بالحسَنِ قولُه تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126] ... وكقولِه جلَّ وعلا مُثْنيًا على مَن تَصَدَّق فأبدَى صدَقتَه: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [البقرة: 271] ، ثمَّ بيَّن أنَّ إخفاءَها وإيتاءَها الفقراءَ خيرٌ مِن إبدائِها في قولِه: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 271] . وكقولِه في نِصفِ الصَّداقِ اللَّازمِ للزَّوجةِ بالطَّلاقِ قبْلَ الدُّخولِ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة: 237] ، ولا شكَّ أنَّ أخْذَ كلِّ واحدٍ مِن الزَّوجَينِ النِّصْفَ حسَنٌ؛ لأنَّ اللهَ شرَعه في كتابِه في قولِه: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة: 237] ، مع أنَّه رغَّب كلَّ واحدٍ منهما أن يَعفوَ للآخَرِ عن نِصفِه، وبيَّن أنَّ ذلك أقرَبُ للتَّقْوى، وذلك في قولِه بعدَه: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة: 237] . وقد قال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] ، ثمَّ أرشدَ إلى الأحسَنِ بقولِه: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] . وقال تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة: 45] ، ثمَّ أرشد إلى الأحسَنِ في قولِه: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة: 45] ). ((أضواء البيان)) (6/356 - 358). وقال ابنُ القيِّمِ: (القولُ هاهنا ما قاله اللهُ ورسولُه، واتِّباعُ أحسَنِه هو الاقتداءُ به؛ فهذا أحسَنُ مِن قولِ كلِّ قائلٍ عَداه). ((الصواعق المرسلة)) (4/1525). القولُ الثَّالثُ: أنَّ المرادَ: القرآنُ. وممَّن اختاره: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، ويحيى بنُ سلام -ونسَبَه إليه الماوَرْديُّ -، وابنُ تيميَّةَ، ونسَبَه ابنُ الجوزيِّ إلى الجمهورِ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/673)، ((تفسير الماوردي)) (5/120)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/5)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/12). قال مقاتلُ بنُ سُليمانَ: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ يعني: القرآنَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ يعني: أحسَنَ ما في القرآنِ مِن طاعةِ الله عزَّ وجلَّ، ولا يَتَّبِعون المعاصيَ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/673). وقال ابن تيميَّةَ: (والمرادُ بالقولِ القرآنُ، كما فسَّره بذلك سلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها، كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 68] ، واللَّامُ لتعريفِ القولِ المعهودِ؛ فإنَّ السُّورةَ كلَّها إنَّما تضمَّنتْ مدْحَ القرآنِ واستِماعِه). ((مجموع الفتاوى)) (16/5). وتقدَّم في كلام ابنِ عطيَّةَ والشِّنقيطيِّ بيانُ معنَى فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ بِناءً على هذا القولِ. ويُنظر ما في قولِه تعالى: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ مِن أوجُهٍ أخرى في: ((تفسير الماوردي)) (5/120). .
كما قال تعالى عن موسى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف: 145] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: 55] .
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ.
أي: أولئك العِبادُ العالو المَنزِلةِ والرُّتبةِ: هم الَّذين أرشَدَهم اللهُ ووفَّقَهم لِمَعرفةِ الحَقِّ والعَمَلِ به [413] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/185)، ((تفسير السمعاني)) (4/464)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/480)، ((تفسير السعدي)) (ص: 721)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 147، 148). .
عن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ((أنَّه كان إذا قامَ إلى الصَّلاةِ، قال: وَجَّهْتُ وجهِيَ لِلَّذي فَطَر السَّمواتِ والأرضَ حَنيفًا، وما أنا مِن المشركينَ، إنَّ صَلاتي، ونُسُكِي، ومَحْيايَ، ومَماتي للهِ رَبِّ العالَمينَ، لا شريكَ له، وبذلك أُمِرْتُ وأنا مِن المسلمينَ، اللَّهُمَّ أنت المَلِكُ لا إلهَ إلَّا أنت، أنت ربِّي، وأنا عبْدُكَ، ظَلَمْتُ نفْسي، واعتَرَفْتُ بذَنْبي، فاغفِرْ لي ذُنوبي جميعًا، إنَّه لا يَغفِرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ، واهْدِني لأحسَنِ الأخلاقِ لا يَهدي لأحسَنِها إلَّا أنت، واصْرِفْ عنِّي سَيِّئَها لا يَصْرِفُ عنِّي سَيِّئَها إلَّا أنت، لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخَيرُ كلُّه في يدَيكَ، والشَّرُّ ليس إليكَ، أنا بك وإليكَ، تبارَكْتَ وتَعالَيْتَ، أستغفِرُك وأتوبُ إل يكَ ...)) [414] أخرجه مسلم (771). .
وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا استفتَحَ الصَّلاةَ كبَّرَ، ثمَّ قال: إنَّ صَلاتي ونُسُكي ومَحْيايَ ومَماتي للهِ رَبِّ العالَمينَ، لا شَريكَ له، وبذلك أُمِرتُ وأنا مِنَ المُسلِمينَ، اللَّهُمَّ اهدني لأحسَنِ الأعمالِ وأحسَنِ الأخلاقِ، لا يَهدي لأحسَنِها إلَّا أنتَ، وقِنِي سَيِّئَ الأعمالِ وسَيِّئَ الأخلاقِ، لا يَقِي سَيِّئَها إلَّا أنت )) [415] أخرجه النَّسائي (896) واللَّفظُ له، والطبراني في ((الدعاء)) (499)، والدارقطني (1/298). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (896)، وقوَّى إسنادَه الذهبيُّ في ((تنقيح التحقيق)) (1/141)، ووثَّق رجالَه ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/411). .
وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ.
أي: وأولئك هم أصحابُ العُقولِ الصَّحيحةِ، الَّذين انتَفَعوا بها في مَعرِفةِ الحقِّ واتِّباعِه [416] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/185)، ((تفسير القرطبي)) (15/244)، ((تفسير ابن كثير)) (7/90)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/480)، ((تفسير السعدي)) (ص: 722)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 147، 148). .
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا خَصَّ سُبحانَه البِشارةَ بالمُحسِنينَ، عُلِمَ أنَّ غَيْرَهم قد حُكِمَ بشَقاوتِه، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -لِما جُبِلَ عليه مِن عَظيمِ الرَّحمةِ، ومَزيدِ الشَّفَقةِ- جَديرًا بالأسَفِ على مَن أعرَضَ؛ سَبَّبَ عن أسَفِه عليهم قَولَه [417] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/480). :
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19).
أي: أفمَنْ وَجَب عليه العَذابُ في سابقِ عِلمِ الله لِكُفرِه تَقدِرُ -يا محمَّدُ- على هدايتِه في الدُّنيا، وإنقاذِه مِن النَّارِ يومَ القيامةِ [418] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/186)، ((تفسير السمرقندي)) (3/181)، ((تفسير القرطبي)) (15/244، 245)، ((تفسير ابن كثير)) (7/91)، ((تفسير السعدي)) (ص: 722). قال الخازن: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ قال ابنُ عبَّاسٍ: سبَق في عِلمِ الله تعالى أنَّه في النَّارِ. وقيل: كَلِمَةُ الْعَذَابِ قولُه: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ. وقيل: قولُه: «هؤلاءِ في النَّارِ ولا أُبالي»). ((تفسير الخازن)) (4/54). ويُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/464). ممَّن اختار نحوَ القولِ الأوَّلِ: ابنُ جرير، وابن الجوزي، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/186)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 330)، ((تفسير ابن كثير)) (7/91). وقيل: المرادُ بكلمةِ العذابِ هي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96، 97]، وممن اختاره: ابنُ عثيمين، قال: (الصَّحيحُ أنَّ المرادَ بكلمةِ العذابِ هي ما ذكَره الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أنَّهم مِن أهلِ النَّارِ، هؤلاء لا يُمكِنُ أن يُؤمِنوا). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 153). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ -أي: أنَّ المرادَ قولُه: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ...-: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمعانيُّ، وجلال الدين المحلي، والشوكاني، والألوسي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/674)، ((تفسير السمعاني)) (4/464)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 609)، ((تفسير الشوكاني)) (4/524)، ((تفسير الألوسي)) (12/243). وممَّن اختار القولَ الثَّالثَ: العُلَيمي. يُنظر: ((تفسير العليمي)) (6/61). قال ابن الجوزي: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ إنْ قيل: كيف اجتمَع في هذه الآيةِ استِفهامانِ بلا جوابٍ؟ قيل: أمَّا الفَرَّاءُ فإنَّه يقولُ: هذا ممَّا يُرادُ به استِفهامٌ واحدٌ، فسبق الاستِفهامُ إلى غيرِ مَوضِعِه، فرُدَّ إلى مَوضِعِه الَّذي هو له، فيَكونُ المعنى: أفأنتَ تُنقِذُ مَن في النَّارِ مَن حقَّتْ عليه كَلِمةُ العذابِ؟ ومِثلُه: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون: 35] فردَّ أَنَّكُمْ مرَّتَينِ، والمعنى: أيَعِدُكم أنَّكم مُخرَجون إذا مِتُّمْ؟ ومِثلُه: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا [آل عمران: 188]، ثمَّ قال: فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ [آل عمران: 188]، فردَّ «تَحسَبَنَّ» مرَّتَينِ، والمعنى: لا تَحسَبَنَّ الَّذين يَفرَحون بمَفازةٍ مِن العذابِ. وقال الزَّجَّاجُ: يجوزُ أن يكونَ في الكلامِ محذوفٌ، تقديرُه: أفمَنْ حقَّ عليه كَلِمةُ العذابِ فيَتخلَّصُ منه أو يَنجو، أفأنتَ تُنقِذُه؟ قال المفسِّرون: أفأنتَ تُخَلِّصُه ممَّا قُدِّر له فتَجعَله مؤمنًا؟ والمعنى: ما تَقدِرُ على ذلك). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/12). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/418)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/349، 350). ؟!
كما قال تعالى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: 7] .
وقال سُبحانَه: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [فصلت: 40] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّما مَثَلي ومَثَلُ النَّاسِ كمَثَلِ رَجُلٍ استَوقَدَ نارًا، فلمَّا أضاءتْ ما حَوْلَه جَعَل الفَراشُ وهذه الدَّوابُّ الَّتي تَقَعُ في النَّارِ يَقَعْنَ فيها، فجعَل يَنزِعُهنَّ ويَغلِبْنَه فيَقتَحِمْنَ [419] فيَقتَحِمْنَ: أي: فيَدخُلْنَ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (9/277). فيها، فأنا آخِذٌ بحُجَزِكم [420] بحُجَزِكُم: جَمعُ حُجْزةٍ، وهي مَعقِدُ الإزارِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (9/277). عن النَّارِ، وهم يَقتَحِمونَ فيها )) [421] رواه البخاري (6483) واللفظ له، ومسلم (2284). .
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا ذَكَر حالَ الكُفَّارِ في النَّارِ وأنَّ الخاسِرينَ لهم ظُلَلٌ؛ ذكَرَ حالَ المؤمِنينَ، وناسَبَ الاستِدراكَ هنا؛ إذ هو واقِعٌ بينَ الكافِرينَ والمؤمِنينَ؛ فقال [422] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/193). :
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ.
أي: لكِنِ الَّذين اتَّقَوا رَبَّهم في الدُّنيا، بامتِثالِ أمْرِه، واجتِنابِ نَهْيِه: لهم في الجنَّةِ بِناياتٌ عاليةٌ، بَعضُها فَوقَ بَعضٍ [423] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/187)، ((تفسير ابن كثير)) (7/91)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/482)، ((تفسير السعدي)) (ص: 722)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 162-165). .
كما قال تعالى: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا [الفرقان: 75] .
وقال سُبحانَه: إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ [سبأ: 37] .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أهلَ الجنَّةِ لَيَتراءَوْنَ أهلَ الغُرَفِ مِن فَوقِهم، كما تَتراءَونَ الكوكَبَ الدُّرِّيَّ [424] الدُّرِّيَّ: أي: الشَّديدَ الإضاءةِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (5/285). الغابِرَ مِن الأُفُقِ [425] الغابرَ: أي: الباقِيَ في الأفُقِ بعدَ انتِشارِ ضَوءِ الفَجرِ، وإنَّما يَستنيرُ في ذلك الوقتِ الكوكبُ الشَّديدُ الإضاءةِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (5/285). ، مِن المَشرِقِ أو المَغرِبِ؛ لِتَفاضُلِ ما بيْنَهم. قالوا: يا رسولَ اللهِ، تلك مَنازِلُ الأنبياءِ لا يَبلُغُها غَيرُهم. قال: بلى، والَّذي نَفْسي بيَدِه، رِجالٌ آمَنوا باللهِ، وصَدَّقوا المُرسَلينَ )) [426] رواه البخاري (3256)، ومسلم (2831) واللَّفظ له. .
وعن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أهلَ الجنَّةِ لَيَتراءَونَ الغُرفةَ في الجنَّةِ كما تَراءَونَ الكوكَبَ في السَّماءِ )) [427] رواه البخاري (6555)، ومسلم (2830) واللَّفظ له. .
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا كانت المنازِلُ لا تَطيبُ إلَّا بالماءِ، وكان الجاري أشرَفَ وأحسَنَ؛ قال [428] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/482). :
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: تَجري مِن تحتِ تلك الغُرَفِ الأنهارُ المُتدَفِّقةُ [429] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/40)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/482)، ((تفسير الشوكاني)) (4/524)، ((تفسير السعدي)) (ص: 722). .
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا ذَكَر يومَ القيامةِ وما يكونُ فيه؛ بَيَّن أنَّه أمرٌ لا بُدَّ منه، فقال [430] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/482). :
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ.
أي: وَعَدَهم اللهُ تلك الغُرَفَ والمَنازِلَ وعْدًا مؤكَّدًا لا يُخلِفُه؛ فاللهُ لا يُخلِفُ ما وَعَد به عِبادَه، بل يُوفِي به سُبحانَه [431] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/187)، ((تفسير ابن كثير)) (7/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 722). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ أنَّ رأسَ السَّعاداتِ، ومَركزَ الخَيراتِ، ومَعدِنَ الكَراماتِ: هو الإعراضُ عن غَيرِ اللهِ تعالى، والإقبالُ بالكُلِّيَّةِ على طاعةِ اللهِ [432] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/437). .
2- قال تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ فإذا رأيتَ مِن نَفْسِك الحرصَ على استِماعِ قَولِ الخَيرِ واتِّباعِ أحْسَنِه فاعلَمْ أنَّ هذا مِن هدايةِ اللهِ لك؛ لأنَّه قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ، وإذا رأيتَ مِن نَفْسِك كراهةَ الاستِماعِ إلى القولِ الحَسَنِ فاتَّهِم نَفْسَك؛ لأنَّ اللهَ جَعَل الهِدايةَ في هؤلاء القَومِ، فإذا لم يَحصُلْ لك هذا فاتَّهِمْ نفْسَك، وصَحِّحِ الخطأَ، وأقبِلْ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ [433] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 150). .
3- قَولُه تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ فيه حضٌّ على التَّقْوَى [434] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/193). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى أنَّ التَّوحيدَ لا يَتِمُّ إلَّا باجتِنابِ الطَّاغوتِ، والإخلاصِ للهِ تعالى [435] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 149). .
2- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا هذا مِن أحسَنِ الاحترازِ مِن الحَكيمِ العَليمِ؛ لأنَّ المدحَ إنَّما يَتناوَلُ المجتَنِبَ لها في عِبادتِها [436] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 721). .
3- قال تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، فدَلَّ ثَناءُ اللهِ على عِبادِه المُؤمِنينَ الكُمَّلِ بأنَّهم أحرَزوا صِفةَ اتِّباعِ أحسَنِ القَولِ الَّذي يَسمَعونَه، على شَرَفِ النَّظَرِ والاستِدلالِ؛ لِلتَّفرِقةِ بيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، وللتَّفرِقةِ بيْنَ الصَّوابِ والخَطَأِ، ولِغَلقِ المَجالِ في وَجهِ الشُّبهةِ، ونَفيِ تَلَبُّسِ السَّفسَطةِ [437] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/367). .
4- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ حَثُّ أهلِ الكِتابِ على اتِّباعِ هذا القُرآنِ العَظيمِ؛ فإنَّ كُتُبَ اللهِ كُلَّها حَسَنةٌ، وهذا القُرآنُ أحسَنُها كَلامًا ومَعانيَ ونِظامًا؛ لا يَشُكُّ في هذا أحَدٌ له أَدنَى ذَوقٍ [438] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/480). .
5- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ حُجَّةٌ على المُقَلِّدِينَ؛ إذِ القولُ المسموعُ لا يَخلو مِن أنْ يكونَ قولَ مَن يكونُ قولُه حُجَّةً، أو قولَ مَن لا يكونُ قولُه حُجَّةً، فلمَّا كان قولُ مَن يكونُ حُجَّةً حسَنًا كلُّه لا تزييفَ فيه؛ عُلِمَ أنَّه المُتَّبَعُ دونَ قولِ مَن لا يكونُ حُجَّةً [439] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/21، 22). .
6- هنا سُؤالٌ مَشهورٌ، وهو أنَّه تعالى قال: يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، فقد قَسَّم القَولَ إلى حَسَنٍ وأحسَنَ، والقُرآنُ كُلُّه مُتَّبَعٌ. وهذا على أنَّ المرادَ بالقولِ القرآنُ.
فيقال: الجواب من أوجه:
منها: أنَّ هذا مِثلُ قَولِه تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: 55] ، ومِثلُ قَولِه: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف: 145] ؛ فقد أمَرَ المُؤمِنينَ باتِّباعِ أحسَنِ ما أُنزِلَ إليهم مِن رَبِّهم، وأمَرَ بني إسرائيلَ أن يأخُذوا بأحسَنِ التَّوراةِ، وهذا أبلَغُ مِن تلك الآيةِ؛ فإنَّ تلك إنَّما فيها مدْحٌ باتِّباعِ الأحسَنِ، ولا رَيبَ أنَّ القُرآنَ فيه الخَبَرُ والأمرُ بالحَسَنِ والأحسَنِ، واتِّباعُ القَولِ إنَّما هو العَمَلُ بمُقتضاه، ومُقتضاه فيه حَسَنٌ وأحسَنُ، ليس كُلُّه أحسَنَ، وإنْ كان القُرآنُ في نَفْسِه أحسَنَ الحديثِ؛ ففَرْقٌ بيْن حُسنِ الكلامِ بالنِّسبةِ إلى غَيرِه مِن الكَلامِ، وبيْنَ حُسنِه بالنِّسبةِ إلى مُقتضاه المأمورِ والمُخبَرِ عنه.
ومنها: أن يُقالَ: إنَّه قال: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ، والقُرآنُ تضَمَّنَ خَبرًا وأمرًا؛ فالخَبرُ عن الأبرارِ والمقَرَّبينَ، وعن الكُفَّارِ والفُجَّارِ؛ فلا رَيبَ أنَّ اتِّباعَ الصِّنفَينِ (الأبرارِ والمقَرَّبينَ) حَسَنٌ، واتِّباعَ المقَرَّبينَ أحسَنُ، والأمرُ يتَضَمَّنُ الأمرَ بالواجِباتِ والمُستحَبَّاتِ، ولا رَيبَ أنَّ الاقتِصارَ على فِعلِ الواجِباتِ حَسَنٌ، وفِعلَ المُستحَبَّاتِ معها أحسَنُ، ومَنِ اتَّبَع الأحسَنَ فاقتدى بالمقَرَّبينَ وتقَرَّب إلى اللهِ بالنَّوافِلِ بعدَ الفرائِضِ كان أحَقَّ بالبُشرى. وعلى هذا فقَولُه تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: 55] ، وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف: 145] : هو أيضًا أمرٌ بذلك؛ لكِنَّ الأمرَ يَعُمُّ أمرَ الإيجابِ والاستِحبابِ؛ فهم مأمورونَ بما في ذلك مِن واجبٍ أمرَ إيجابٍ، وبما فيه مِن مُستحَبٍّ أمْرَ استحبابٍ، كما هم مأمورونَ مِثلَ ذلك في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل: 90] ، وقَولِه: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [الأعراف: 157] ، والمعروفُ يتناوَلُ القِسمَينِ، وقَولِه: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77] ، وهو يَعُمُّ القِسمَينِ، وقَولِه: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج: 77] ، وأمثالِ ذلك [440] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/5-7). .
7- قال الله تعالى: وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ أي: أصحابُ العُقولِ؛ لأنَّ الإنسانَ كُلَّما كان للحَقِّ أتْبَعَ كان أكمَلَ عَقلًا، وكُلَّما نَقَص اتِّباعُه للحَقِّ كان أدَلَّ على قِلَّةِ عَقلِه؛ فأعقَلُ النَّاسِ أتْبَعُهم لدِينِ اللهِ لا شَكَّ؛ لأنَّهم هم الَّذين عِندَهم الحَزمُ وانتِهازُ الفُرَصِ وحِفظُ الوَقتِ [441] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 148). .
8- أنَّه لا تلازُمَ بيْن الذَّكاءِ والعَقلِ؛ فالذَّكاءُ شَيءٌ والعَقلُ شَيءٌ آخَرُ، حتَّى في عَقلِ الإدراكِ لا تلازُمَ بيْن الذَّكاءِ وعَقلِ الإدراكِ؛ لأنَّ مِن النَّاسِ مَن تَجِدُه ذَكيًّا شديدَ الملاحظةِ، يَفهَمُ الشَّيءَ بسُرعةٍ، ويُعطي الجوابَ بسرعةٍ، لكِنَّه في التَّصَرُّفِ أحمقُ ليس عندَه عَقلٌ! ومِن النَّاسِ مَن يكونُ بالعَكسِ؛ عندَه شيءٌ مِن البلادةِ، ولكِنَّه في التَّصرُّفِ عاقِلٌ مُتَأَنٍّ، ولكنَّ أعقلَ النَّاسِ أطْوَعُهم للهِ تعالى؛ ولهذا قال تعالى: وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [442] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 151). .
9- في قَولِه تعالى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ أنَّ الإنقاذَ أُطلِقَ على الإلحاحِ في الإنذارِ -مِن إطلاقِ اسمِ المُسَبَّبِ على السَّبَبِ- وأنَّ مَنْ فِي النَّارِ مَن هو صائِرٌ إلى النَّارِ، فلا مُتمَسَّكَ للمُعتَزِلةِ في الاستِدلالِ بالآيةِ على نَفيِ الشَّفاعةِ المُحمَّديَّةِ لأهلِ الكبائِرِ، على أنَّنا لو سَلَّمْنا أنَّ الآيةَ مَسوقةٌ في غَرَضِ الشَّفاعةِ فإنَّما نَفَت الشَّفاعةَ لأهلِ الشِّركِ؛ لأنَّ مَنْ فِي النَّارِ يَحتمِلُ العَهدَ -وهم المُتحَدَّثُ عنهم في هذه الآيةِ- ولا خِلافَ في أنَّ المُشرِكينَ لا شَفاعةَ فيهم؛ قال تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48] ، على أنَّ المنفيَّ هو أن يكونَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُنقِذًا لِمَن أراد اللهُ عَدَمَ إنقاذِه، فأمَّا الشَّفاعةُ فهي سؤالُ اللهِ أن يُنقِذَه [443] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/372). .
10- في قَولِه تعالى: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يستطيعُ أنْ يُنقِذَ مَن في النَّارِ، وإذا كان هذا للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم فغَيْرُه مِن بابِ أَولى [444] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 161). .
11- في قَولِه تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بيانُ عُلُوِّ مَنزلةِ المتَّقينَ؛ لأنَّ الاستِدراكَ هنا كأنَّه انتِشالٌ لهم ممَّا سَبَق ذِكرُه مِن الوَعيدِ الشَّديدِ لهؤلاء الَّذين حَقَّت عليهم كَلِمةُ العَذابِ [445] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 167). .
12- في قَولِه تعالى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ دَقيقةٌ شَريفةٌ، وهي أنَّه تعالى في كثيرٍ مِن آياتِ الوَعدِ صَرَّح بأنَّ هذا وعْدُ الله، وأنَّه لا يُخلِفُ وَعْدَه، ولم يَذكُرْ في آياتِ الوَعيدِ ألبتَّةَ مِثلَ هذا التَّأكيدِ والتَّقويةِ؛ وذلك يدُلُّ على أنَّ جانِبَ الوَعدِ أرجَحُ مِن جانبِ الوَعيدِ، بخِلافِ ما يقولُه المُعتَزِلةُ [446] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/439). .
13- قَولُه تعالى: لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ إنَّما كان كذلك؛ لِكَمالِ صِدقِه، وكَمالِ قُدرتِه؛ لأنَّ إخلافَ الميعادِ إمَّا أن يكونَ لكَذِبِ الواعِدِ، وإمَّا أن يكونَ لِعَجزِه، واللهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن هذا وهذا؛ فهو كامِلُ الصِّدقِ، كامِلُ القُدرةِ [447] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 167). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ لَمَّا انتَهى تَهديدُ المُشرِكينَ، ومَوعِظةُ الخَلائِقِ أجمَعينَ؛ ثُنيَ عِنانُ الخِطابِ إلى جانِبِ المُؤمِنينَ فيما يَختَصُّ بهم مِنَ البِشارةِ مُقابَلةً لِنِذارةِ المُشرِكينَ [448] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/363). .
- قولُه: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فيه التَّعبيرُ عن المُؤمِنينَ بالَّذين اجتَنَبوا الطَّاغوتَ؛ لِمَا في الصِّلةِ مِنَ الإيماءِ إلى وَجهِ بِناءِ الخَبَرِ، وهو لَهُمُ الْبُشْرَى، وهذا مُقابِلُ قَولِه: ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ [449] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/364). [الزمر: 16] .
- وأيضًا في قَولِه: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا تَشبيهُ الشَّيطانِ بالطَّاغوتِ -على أحدِ الأقوالِ-، وفيه وُجوهٌ ثَلاثةٌ مِنَ المُبالَغةِ: تَسميَتُه بالمَصدَرِ، كأنَّه نَفْسُ الطُّغيانِ. وبِناؤُه على (فَعَلوتٌ)، وهي صِيغةُ مُبالَغةٍ، كالرَّحَموتِ، وهي الرَّحمةُ الواسِعةُ، والمَلَكوتِ وهو المُلْكُ الواسِعُ. والثَّالثُ: تَقديمُ لامِه على عَينِه؛ لِيُفيدَ اختِصاصَه بهذه التَّسميةِ [450] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- حاشية ابن المُنَيِّر)) (4/118، 120)، ((تفسير أبي السعود)) (7/248)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/403). قال السمين: (وأصلُ الطاغوت... «طغووت» أو «طغيوت» فقُلِبت الكلمةُ بأنْ أُخِّرتْ عينُها إلى موضعِ لامِها، ولامُها إلى موضعِ عينِها، فصارت طغيوتًا أو طيغوتًا، فتحرَّك حرفُ العلةِ، وانفتَح ما قبلَه، فقُلِبت الفاءُ؛ فوزنُه بعدَ القلبِ «فلعوت»). ((عمدة الحفاظ)) (2/407). .
- قَولُه: لَهُمُ الْبُشْرَى فيه تَقديمُ المُسنَدِ (لهم)؛ لِإفادةِ القَصرِ، وهو قَصرُ صِفةٍ على مَوصوفٍ، وهو قَصرٌ إضافيٌّ قَصرَ تَعيينٍ [451] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/365). والقصر تقدَّم تعريفُه (ص: 36). .
- ولم يُبَيِّنِ اللهُ وقتَ البُشرى؛ فهو شاملٌ للبُشْرى في الدُّنيا وفي الآخرةِ [452] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 149). .
- وفُرِّعَ على قَولِه: لَهُمُ الْبُشْرَى قَولُه: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 17، 18]، وهمُ الَّذين اجتَنَبوا الطَّاغوتَ؛ فعُدِلَ عن الإتيانِ بضَميرِهم بأنْ يُقالَ: فبَشِّرْهم، إلى الإظهارِ باسمِ العِبادِ مُضافًا إلى ضَميرِ اللهِ تعالى، وبالصِّلةِ؛ لِزيادةِ مَدحِهم بصِفتَينِ أُخرَيَينِ، وهُما: صِفةُ العُبوديَّةِ للهِ، أيْ: عُبوديَّةِ التَّقرُّبِ، وصِفةُ استِماعِ القَولِ واتِّباعِ أحسَنِه [453] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/120)، ((تفسير البيضاوي)) (5/39)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/362)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/365). .
2- قولُه تعالَى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ
- قولُه: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ همُ المَوصوفونَ بالاجتِنابِ والإنابةِ بأعيانِهم، لكنْ وُضِعَ مَوضِعَ ضَميرِهمُ الظَّاهِرُ؛ تَشريفًا لهم بالإضافةِ، ودَلالةً على أنَّ مَدارَ اتِّصافِهم بالوَصفَينِ الجَليلَينِ كَونُهم نُقَّادًا في الدِّينِ؛ يُمَيِّزونَ الحَقَّ مِنَ الباطِلِ، ويُؤْثِرونَ الأفضَلَ فالأفضَلَ، ولِيَترَتَّبَ على الظَّاهِرِ الوَصفُ، وهو الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ [454] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/192)، ((تفسير أبي السعود)) (7/248). .
- وأيضًا في المَوصولِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ إيماءٌ إلى أنَّ اتِّباعَ أحسَنِ القَولِ سَبَبٌ في حُصولِ هِدايةِ اللهِ إيَّاهم [455] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/366). .
- وقولُه: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ثَناءٌ عليهم بنُفوذِ بَصائِرِهم وتَمييزِهمُ الأحسَنَ، فإذا سَمِعوا قَولًا تَبَصَّروه، واسمُ التَّفضيلِ (أحْسَن) ليس مُستَعمَلًا في تَفاوُتِ المَوصوفِ به في الفَضلِ على غَيرِه؛ فهو لِلدَّلالةِ على قُوَّةِ الوَصفِ [456] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/192)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/365، 366). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وجُملةُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ مُستَأنَفةٌ لِاستِرعاءِ الذِّهنِ لِتَلَقِّي هذا الخَبَرِ، وأُكِّدَ هذا الاستِرعاءُ بجَعلِ المُسنَدِ إليه اسمَ إشارةٍ؛ لِيَتمَيَّزَ المُشارُ إليهم أكمَلَ تميُّزٍ، مع التَّنبيهِ على أنَّهم كانوا أحْرياءَ بهذه العِنايةِ الرَّبَّانيَّةِ لِأجْلِ ما اتَّصَفوا به مِنَ الصِّفاتِ المَذكورةِ قبْلَ اسمِ الإشارةِ [457] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/366). .
- وما في اسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ مِن مَعنى البُعدِ؛ لِلإيذانِ بعُلوِّ رُتبَتِهم، وبُعدِ مَنزِلَتِهم في الفَضلِ [458] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/248). .
- وقد أفادَ تَعريفُ الجُزأيْنِ في قَولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ قَصْرَ الهِدايةِ عليهم، وهو قَصرُ صِفةٍ على مَوصوفٍ، وهو قَصرٌ إضافيٌّ قَصرَ تَعيينٍ، أيْ: دُونَ الخاسِرينَ الَّذين خَسِروا أنفُسَهم وأهليهم [459] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/366). .
- وفي قولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ فإنَّه لَمَّا كان في هؤلاء المُجْتَبَينَ العالُو الرُّتبةِ جدًّا وغيرُهم، أبرَزَ المفعولَ فقال مُحوِّلًا الأسلوبَ إلى الاسمِ الأعظَمِ؛ إشارةً إلى عَظيمِ هِدايتِهم؛ فقال: هَدَاهُمُ اللَّهُ بما له مِن صِفاتِ الكَمالِ؛ فبيَّن سُبحانه أنْ لا وُصولَ إليه إلَّا به، وهذا بخِلافِ آيةِ (الأنعامِ)؛ حيثُ ذكَرَ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [الأنعام: 90]، فحذَفَ المفعولَ؛ لِتَصيرَ هِدايتُهم مُكرَّرةً بوُجوبِ تَسليطِ العاملِ على المَوصولِ الَّذي أعادَ عليه الضَّميرَ في هذه الآيةِ [460] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/480). .
- وأشارَتْ جُملةُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ إلى مَعنى تَهَيُّئِهم لِلاهتِداءِ بما فَطَرَهمُ اللهُ عليه مِن عُقولٍ كامِلةٍ، وأصْلُ الخِلقةِ مَيَّالةٌ لِفَهمِ الحَقائِقِ، غَيرُ مُكتَرِثةٍ بالمَألوفِ، ولا مُراعاةِ الباطِلِ، على تَفاوُتِ تلك العُقولِ في مَدى سُرعةِ البُلوغِ لِلاهتِداءِ. وأُشيرَ إلى رُسوخِ هذه الأحوالِ في عُقولِهم بذِكرِ ضَميرِ الفَصلِ هُمْ، مع كَلِمةِ أُولُو الدَّالَّةِ على أنَّ المَوصوفَ بها مُمسِكٌ بما أُضيفَتْ إليه كَلِمةُ أُولُو، وبما دَلَّ عليه تَعريفُ الْأَلْبَابِ مِن مَعنى الكَمالِ [461] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/367). .
- وأشارَ إعادةُ اسمِ الإشارةِ وَأُولَئِكَ إلى تَمَيُّزِهم بهذه الخَصلةِ مِن بَينِ نُظَرائِهم وأهلِ عَصرِهم [462] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/367). .
- وقد أفادَ تَعريفُ الجُزأيْنِ في قَولِه: وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ قَصْرَ العقْلِ عليهم، وهو قَصرُ صِفةٍ على مَوصوفٍ، وهو قَصرٌ إضافيٌّ قَصرَ تَعيينٍ، أيْ: دونَ مَسْلوبي العُقولِ [463] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/367). .
3- قولُه تعالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ لَمَّا أفادَ الحَصرُ في قَولِه: لَهُمُ الْبُشْرَى [الزمر: 17] ، والحَصرانِ اللَّذانِ في قَولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18] ؛ أنَّ مَن سِواهم -وهمُ المُشرِكونَ- لا بُشْرى لهم، ولم يَهدِهمُ اللهُ، ولا ألبابَ لهم؛ لِعَدَمِ انتِفاعِهم بعُقولِهم، وكان حاصِلُ ذلك أنَّ المُشرِكينَ مَحرومونَ مِن حُسنِ العاقِبةِ بالنَّعيمِ الخالِدِ؛ لِحِرمانِهم مِنَ الطَّاعةِ الَّتي هي سَبَبُه -فُرِّعَ على ذلك استِفهامٌ إنكاريٌّ مُفيدٌ التَّنبيهَ على انتِفاءِ الطَّماعيةِ في هِدايةِ الفَريقِ الَّذي حَقَّتْ عليه كَلِمةُ العَذابِ، وهمُ الَّذين قُصِدَ إقصاؤُهم عن البُشرى، والهِدايةِ، والانتِفاعِ بعُقولِهم، بالقصْرِ المَصوغةِ عليه صِيغُ القصْرِ الثَّلاثِ المتقدِّمةِ [464] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/368). .
- وقولُه: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ... بيانٌ لأحوالِ أضْدادِ المذكورينَ على طَريقةِ الإجمالِ، وتسجيلٌ عليهم بحِرمانِ الهِدايةِ، وهم عَبَدةُ الطَّاغوتِ، ومُتَّبِعو خُطواتِها، كما يُلَوِّحُ به التَّعبيرُ عنهم بـ (مَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ) [465] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/248). .
- وفي هذه الآيةِ جاء نَظمُ الكلامِ على طَريقةٍ مُبتَكَرةٍ في الخَبَرِ المُهتَمِّ به؛ بأنْ يُؤكَّدَ مَضمونُه الثَّابِتُ لِلخَبَرِ عنه، بإثباتِ نَقيضِ -أو ضِدِّ- ذلك المَضمونِ لِضِدِّ المُخبَرِ عنه؛ لِيَتقَرَّرَ مَضمونُ الخَبَرِ مَرَّتَينِ: مَرَّةً بأصْلِه، ومَرَّةً بنَقيضِه أو ضِدِّه، لِضِدِّ المُخبَرِ عنه، فبعْدَ أنْ أُشِيرَ إلى المَوصوفِينَ مرَّتينِ، فُرِّعَ عليه بعْدَه إثباتُ ضِدِّ حُكمِهم لِمَن هم مُتَّصِفون بضِدِّ حالِهم. وبهذا يَظهَرُ حُسنُ مَوقِعِ الفاءِ؛ لِتَفريعِ هذه الجُملةِ على جُملةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18] ؛ لِأنَّ التَّفريعَ يَقتَضي اتِّصالًا وارتِباطًا بيْن المُفَرَّعِ والمُفَرَّعِ عليه [466] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/368، 369). .
- قولُه: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ معنى (حقَّ) هنا تحقَّق، وحقُّ كلمةِ العذابِ عليهم ضِدُّ هدْيِ الله الآخَرينَ، وكَوْنُهم في النَّارِ ضِدُّ كَونِ الآخَرينَ لهم البُشْرى، وترتيبُ المُتضادَّينِ جرَى على طريقةٍ شِبهِ اللَّفِّ والنَّشرِ المعكوسِ [467] اللَّف والنَّشْر: هو ذِكرُ شيئَينِ أو أشياءَ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ-، أو إجمالًا -بأن يُؤتَى بلفظٍ يَشتمِلُ على مُتعدِّدٍ- ثمَّ تُذكَرُ أشياءُ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضُ إلى عقلِ السَّامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتَى به أوَّلًا، والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الَّذي يَتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ. مثل قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا النَّصارى. وهذا لَفٌّ ونَشْرٌ إجماليٌّ. واللَّفُّ المُفصَّلُ يأتي النَّشرُ اللَّاحقُ له على وجهَينِ؛ الوجهُ الأوَّلُ: أنْ يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِّ، ويُسَمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ المُرَتَّبَ». الوجهُ الثَّاني: أنْ يأتيَ النَّشرُ على غيرِ تَرتيبِ اللَّفِّ، ويُسمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ غيرَ المُرتَّبِ»، وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّفِّ والنَّشرِ المُشَوَّشِ»، أو «المعكوس». يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/403). ، وهو مِثلُ قولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6، 7] بعدَ قولِه: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 4، 5]؛ فإنَّ قولَه: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ضدٌّ لقولِه: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ، وقولَه: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ضدُّ قولِه: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [468] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/369). .
- وقَولُه: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ يُفيدُ أنَّ اللهَ تعالى هو الَّذي يَقدِرُ على الإنقاذِ مِنَ النَّارِ وَحْدَه، لا يَقدِرُ على ذلك أحَدٌ غَيرُه، فكما لا تَقدِرُ أنتَ أنْ تُنقِذَ الدَّاخِلَ في النَّارِ مِنَ النَّارِ، لا تَقدِرُ أنْ تُخَلِّصَه ممَّا هو فيه مِنِ استِحقاقِ العَذابِ بتَحصيلِ الإيمانِ فيه؛ فتَقديمُ الفاعلِ المعنويِّ على الفِعلِ، وإيلاؤُه همزةَ الإنكارِ؛ يدُلُّ على أنَّ الكلامَ في الفاعلِ لا في الفعلِ، أي: لَسْتَ أنت الفاعلَ لهذا الفعلِ، بل فاعِلُه غيرُك، وهو اللهُ وحْدَه [469] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/121)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/465). .
- و(مَن) مِن قولِه تعالى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ قيل: المرادُ بها أبو لهبٍ وولَدُه، ومَن تخلَّفَ عن الإيمانِ مِن عَشيرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فيكونُ (مَن) مُبتدأً حُذِفَ خبَرُه. والتَّقديرُ: تُنقِذُه مِن النَّارِ، كما دلَّ عليه ما بَعْدَه، وتكونُ جُملةُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ تَذييلًا، أي: أنت لا تُنقِذُ الَّذين في النَّارِ. والهمزةُ للاستِفهامِ الإنكاريِّ، والهمزةُ الثَّانيةُ كذلك، وهي تأكيدٌ للَّتي قبْلَها؛ للاهتِمامِ بشَأنِ هذا الاستِفهامِ الإنكاريِّ.
ويجوزُ أنْ تكونَ (مَن) في قولِه: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ شرطيَّةً، بِناءً على أنَّ الفاءَ في قولِه: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ يَحسُنُ أنْ تكونَ لِمَعنًى غيرِ معنَى التَّفريعِ المستفادِ مِن الَّتي قبْلَها، وإلَّا كانت مُؤكِّدةً للأُولى، وذلك يَنقُصُ معنًى مِن الآيةِ.
ويجوزُ أنْ تكونَ (مَن) الأُولى موصولةً مُبتدأً، وخبرُه أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ، وتكونَ الفاءُ في قوله: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ مؤكِّدةً للفاءِ الأُولى في قولِه: أَفَمَنْ حَقَّ ... إلخ؛ فتكونَ الهَمْزةُ والفاءُ معًا مُؤكِّدتَينِ للهمْزةِ الأُولى والفاءِ الَّتي معها؛ لاتِّصالِهما، ولأنَّ جُملةَ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ صادقةٌ على ما صدَقَت عليه جُملةُ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، ويكونَ الاستفهامُ الإنكاريُّ جاريًا على غالِبِ استعمالِه؛ مِن تَوجُّهِه إلى كلامٍ لا شرْطَ فيه. وأصلُ الكلامِ -على اعتبارِ (مَن) شرطيَّةً-: أمَنْ تَحْقُقُ عليه كلمةُ العذابِ في المستقبَلِ، فأنت لا تُنقِذُه منه؛ فتكونُ همزةُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ للاستِفهامِ الإنكاريِّ، وتكونُ همزةُ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ افتُتِحَ بها الكلامُ المُتضمِّنُ الإنكارَ؛ للتَّنبيهِ مِن أوَّلِ الأمْرِ على أنَّ الكلامَ يَتضمَّنُ إنكارًا. وأصلُ الكلامِ على اعتبارِ (مَن) الأُولى مَوصولةً: الَّذين تَحِقُّ عليهم كلمةُ العذابِ أنت لا تُنقِذُهم مِن النَّارِ، فتكونُ الهمزةُ في قولِه: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ للاستِفهامِ الإنكاريِّ، وتكونُ همزةُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ تأْكيدًا للهمزةِ الأُولى [470] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/121)، ((تفسير البيضاوي)) (5/40)، ((تفسير أبي حيان)) (9/193)، ((تفسير أبي السعود)) (7/248)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/369، 370). .
- وتَجريدُ فِعلِ حَقَّ مِن تاءِ التَّأنيثِ، مع أنَّ فاعِلَه مُؤنَّثُ اللَّفظِ -وهو كَلِمَةُ-؛ لأنَّ الفاعلَ اكتسَبَ التَّذكيرَ ممَّا أُضِيفَ هو إليه، نظرًا لإمكانِ الاستِغناءِ عن المُضافِ بالمُضافِ إليه، فكأنَّه قِيل: أفمَن حقَّ عليه العذابُ. وفائِدةُ إقْحامِ كَلِمَةُ؛ لِلإشارةِ إلى أنَّ ذلك أمْرُ اللهِ ووَعيدُه [471] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/371). .
- ومَنْ فِي النَّارِ هم مَن حَقَّ عليهم كَلِمةُ العَذابِ؛ لِأنَّ كَلِمةَ العَذابِ هي أنْ يَكونوا مِن أهلِ النَّارِ، فوَقَع إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ، والأصلُ: (أفأنتَ تُنقِذُه مِنَ النارِ)، وفائِدةُ هذا الإظهارِ: تَهويلُ حالَتِهم؛ لِمَا في الصِّلةِ مِن حَرفِ الظَّرفيَّةِ المُصوِّرِ لِحالةِ إحاطةِ النَّارِ بهم، مع ما فيه مِن تَشهيرٍ بحالِهم، وإظهارٍ لِخِسَّةِ مَنازِلِهم، أيْ: أفأنتَ تُريدُ إنقاذَهم مِنَ الوُقوعِ في النَّارِ وهمُ الآنَ في النَّارِ؛ لِأنَّه مُحقَّقٌ مَصيرُهم إلى النارِ، فشَبَّهَ تَحقُّقَ الوُقوعِ في المُستَقبَلِ بتَحقُّقِه في الحالِ [472] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/193)، ((تفسير أبي السعود)) (7/248)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/370، 371). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ إليه على الخَبَرِ الفِعليِّ في قَولِه: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ مُفيدٌ لِتَقَوِّي الحُكمِ؛ وهو إنكارُ أنْ يَكونَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتَكريرِ دَعوَتِه يُخَلِّصُهم مِن تَحقُّقِ الوَعيدِ، أو يُحصِّلُ لهمُ الهِدايةَ إذا لم يُقَدِّرْها اللهُ لهم [473] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/371). .
- والخِطابُ في قولِه: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ تَهوينًا عليه بَعضَ حِرصِه على تَكريرِ دَعوَتِهم إلى الإسلامِ، وحُزنَه على إعراضِهم وضَلالِهم، وإلَّا فلم يَكُنِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالَّذي يَظُنُّ أنَّه يُنقِذُهم مِن وَعيدِ اللهِ؛ ولذلك اجتُلِبَ فِعلُ الإنقاذِ هنا؛ تَشبيهًا لِحالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حِرصِه على هَدْيِهم وبُلوغِ جهدِه في إقناعِهم بتَصديقِ دَعوَتِه، وحالِهم في انغِماسِهم في مُوجِباتِ وَعيدِهم؛ بحالِ مَن يُحاوِلُ إنقاذَ ساقِطٍ في النَّارِ قد أحاطَتِ النَّارُ بجَوانِبِه استِحقاقًا قَضى به مَن لا يُرَدُّ مُرادُه، فحالُهم تُشبِهُ حالَ وُقوعِهم في النَّارِ مِنَ الآنَ؛ لِتَحقُّقِ وُقوعِه [474] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/371). .
- وقد اشتَمَلَتْ هذه الآيةُ على نُكَتٍ بَديعةٍ مِنَ الإعجازِ؛ إذْ أفادَت أنَّ هذا الفَريقَ مِن أهلِ الشِّركِ الَّذين يَكمُنُ الكُفرُ في قُلوبِهم، حَقَّتْ عليهم كَلِمةُ اللهِ بتَعذيبِهم، فهم لا يُؤمِنونَ، وأنَّ حالَهمُ الآنَ كحالِ مَن وَقَع في النَّارِ، فهو هالِكٌ لا مَحالةَ، وأنَّ حالَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حِرصِه على هَديِهم كحالِ مَن رَأى ساقِطًا في النَّارِ فاندَفَع بدافِعِ الشَّفَقةِ إلى مُحاوَلةِ إنقاذِه، ولكِنَّه لا يَستَطيعُ ذلك؛ فلِذلك أُنكِرَتْ شِدَّةُ حِرصِه على تَخليصِهم، فكان إيداعُ هذا المَعنى في جُملَتَينِ نِهايةً في الإيجازِ، مع قَرنِه بما دَلَّ عليه تَأكيدُ الهَمزةِ والفاءِ في الجُملةِ الثَّانيةِ مِنَ الإطنابِ في مَقامِ الصَّراحةِ. وحاصِلُ نَظمِ هذا التَّركيبِ: أفمَنْ حَقَّ عليه كَلِمةُ العَذابِ فهو في النَّارِ؛ أفأنتَ تُنقِذُه وتُنقِذُ مَن في النَّارِ [475] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/372). ؟!
4- قولُه تعالَى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ
- في قولِه: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ... أُعيدَتْ بِشارةُ الَّذين اجتَنَبوا الطَّاغوتَ؛ تَفصيلًا لِلإجمالِ الواقِعِ مِن قَبْلُ. وافتُتِحَ الإخبارُ عنهم بحَرفِ الاستِدراكِ؛ لِزيادةِ تَقريرِ الفارِقِ بيْنَ حالِ المُؤمِنينَ وحالِ المُشرِكينَ والمُضادَّةِ بَيْنَهما، فحَرفُ الاستِدراكِ هنا لِمُجرَّدِ الإشعارِ بتَضادِّ الحالَيْنِ؛ لِيَعلَمَ السَّامِعُ أنَّه سيَتلَقَّى حُكمًا مُخالِفًا لِمَا سبَقَ، فحَصَل في قَضيةِ الَّذين اجتَنَبوا عِبادةَ الطَّاغوتِ تَقريرٌ على تَقريرٍ، ابتُدِئَ بالإشارَتَينِ في قَولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18] ، ثمَّ بما أُعقِبَ مِن تَفريعِ حالِ أضْدادِهم على ذِكرِ أحوالِهم، ثمَّ بالاستِدراكِ الفارِقِ بيْنَ حالِهم وحالِ أضْدادِهم [476] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/249)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/373). .
- والمُرادُ بـ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ همُ الَّذين اجتَنَبوا عِبادةَ الطَّاغوتِ، وأنابوا إلى الله، واتَّبَعوا أحسَنَ القَولِ، واهتَدَوْا بهَدْيِ الله، وكانوا أُولي الألبابِ؛ فعَدَلَ عن الإتيانِ بضَميرِهم هنا إلى المَوصولِ؛ لِقَصدِ مَدحِهم بمَدلولِ الصِّلةِ، ولِلإيماءِ إلى أنَّ الصِّلةَ سَبَبٌ لِلحُكمِ المَحكومِ به على المَوصولِ، وهو نَوالُهمُ الغُرَفَ [477] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/373). .
- وعُدِلَ أيضًا عن اسمِ الجَلالةِ إلى وَصْفِ الرَّبِّ المُضافِ إلى ضَميرِ المُتَّقينَ في قَولِه: اتَّقَوْا رَبَّهُمْ؛ لِمَا في تلك الإضافةِ مِن تَشريفِهم برِضا رَبِّهم عنهم [478] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/373). .
- وقولُه: لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ مُقابِلُ ما جُعِلَ لِأهلِ النَّارِ في قَولِه: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: 16] ، وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ خُولِفَ بيْنَ الحالَتَينِ: فجُعِل لِلمُتَّقينَ غُرَفٌ مَوصوفةٌ بأنَّها فَوقَها غُرَفٌ، وجُعِلتْ لِلمُشرِكينَ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وعُطِفَ عليها أنَّ مِن تَحتِهم ظُلَلًا؛ لِلإشارةِ إلى أنَّ المُتَّقينَ مُتَنعِّمونَ بالتَّنقُّلِ في تلك الغُرَفِ، وإلى أنَّ المُشرِكينَ مَحبوسونَ في مَكانِهم، وأنَّ الظُّلَلَ مِنَ النَّارِ مِن فَوقِهم ومِن تَحتِهم؛ لِتَتَظاهَرَ الظُّلَلُ بتَوجيهِ لَفحِ النَّارِ إليهم مِن جَميعِ جِهاتِهم [479] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/373). .
- وذِكرُ الغُرَفِ المَبنيَّةِ في قولِه: مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ؛ لِلدَّلالةِ على أنَّها غُرَفٌ حَقيقةً، ليستْ أشياءَ مُشابِهةً لِلغُرَفِ؛ فَرْقًا بَيْنَها وبيْنَ الظُّلَلِ الَّتي جُعِلتْ لِلَّذين خَسِروا يَومَ القِيامةِ؛ فإنَّ ظُلَلَهم كانتْ مِن نارٍ. وقيل: مَبْنِيَّةٌ مِثلَ المنازلِ اللَّاصقةِ للأرضِ؛ فذِكرُ الوصفِ تَمهيدٌ لقولِه: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ؛ لأنَّ المعروفَ أنَّ الأنهارَ لا تَجْري إلَّا تحتَ المنازلِ السُّفليَّةِ، أي: لم يَفُتِ الغُرَفَ شَيءٌ مِن مَحاسنِ المنازلِ السُّفليَّةِ. وقِيل: أُرِيدَ أنَّها مُهيَّأةٌ لهم مِنَ الآنَ، فهي موجودةٌ؛ لأنَّ اسمَ المفعولِ كاسمِ الفاعلِ في اقتِضائِه الاتِّصافَ بالوصفِ في زمَنِ الحالِ؛ فيكونُ إيماءً إلى أنَّ الجنَّةَ مَخلوقةٌ مِنَ الآنَ.
ويجوزُ أنْ يكونَ الوصفُ احترازًا عن نَوعٍ مِن الغُرَفِ تكونُ نَحتًا في الحَجَرِ في الجبالِ، مِثلُ غُرَفِ ثَمودَ، ويجوزُ أنْ يكونَ مَبْنِيَّةٌ وَصفًا للغُرَفِ باعتبارِ ما دلَّ عليه لَفْظُها مِن معنى المبنيِّ المُعْتَلي؛ فيكونَ الوصفُ دالًّا على تَمكُّنِ المعنى الموصوفِ، أي: مَبنيَّةٌ بِناءً بالغًا الغايةَ في نَوعِه، كقولِهم: لَيلٌ أَلْيَلُ (أي: شديدُ الظُّلمةِ)، وظِلٌّ ظَليلٌ [480] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/374، 375). .
- قولُه: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ إضافةُ وَعْدَ إلى اسمِ الجَلالةِ مُؤْذِنةٌ بأنَّه وعْدٌ مُوفًى به؛ فوَقَعتْ جُملةُ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ بَيانًا لِمَعنى وَعْدَ اللَّهِ [481] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/375). .