موسوعة التفسير

سورةُ طه
الآيات (105-110)

ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ

غريب الكلمات:

يَنْسِفُهَا: أي: يَقلَعُها مِن أُصولِها، ويُقالُ: يُذريها ويُطَيِّرُها، يُقالُ: نَسَفَت الريحُ الشَّيءَ: أي: اقتلَعَتْه وأزالَتْه [908] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 515)، ((تفسير ابن جرير)) (16/163)، ((المفردات)) للراغب (ص: 802)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 232). .
قَاعًا: أي: سهلةً مُستويةً، والقاعُ والقِيعُ: المستوي مِن الأرضِ، والموضعُ المنكشفُ، وأصلُ (قوع): يدلُّ على تبسُّطٍ في مكانٍ [909] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 282)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 377)، ((الغريبين)) للهروي (4/1084)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/275) و(5/42)، ((المفردات)) للراغب (ص: 688)، ((تفسير القرطبي)) (11/246)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/307). .
صَفْصَفًا: أي: خاليةً، مَلساءَ، لا نباتَ فيها، ولا بِناءَ ولا ارتفاعَ ولا انْحِدارَ، والصَّفْصَفُ: المستوي مِن الأرضِ، كأنَّه على صفٍّ واحدٍ، وأصلُ (صفف): يدلُّ على استواءٍ [910] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/191)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 282)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 377)، ((الغريبين)) للهروي (4/1084)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/275) و(5/42)، ((المفردات)) للراغب (ص: 486)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/283). .
عِوَجًا: أي: هبوطًا أو مَيلًا، وأصل (عوج): يدلُّ على مَيلٍ في الشَّيءِ [911] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 69)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/179)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 233)، ((تفسير القرطبي)) (11/246). .
أَمْتًا: أي: ارتفاعًا، والأمتُ: المكانُ المُرتَفِعُ، وأصلُ الأمتِ: أن يَغلُظَ مكانٌ، ويَرِقَّ مكانٌ [912] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 282)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 69)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/137)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 233)، ((تفسير القرطبي)) (11/246). .
هَمْسًا: أي: صَوتًا خَفيفًا، وقيل: هو الوَطءُ الخَفيُّ؛ وطءُ الأقدامِ، وأصلُ (همس): يدُلُّ على خَفاءِ صَوتٍ وحِسٍّ [913] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 282)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 492)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/66)، ((المفردات)) للراغب (ص: 846)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 233)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 964). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا أحوالَ الجبالِ، وأحوالَ الناسِ يومَ القيامةِ: ويسألُك -يا محمَّدُ- قَومُك عن مصيرِ الجِبالِ يَومَ القيامةِ، فقُلْ لهم: يُزيلُها ربِّي عن أماكِنِها فيَجعَلُها هباءً مُنبَثًّا، فيترُكُ مواضِعَ الجبالِ حينئذٍ مُستويةً مَلساءَ، لا نباتَ فيها ولا بناءَ. لا يرى النَّاظِرُ إليها مَيْلًا ولا ارتِفاعًا ولا انخِفاضًا.
في ذلك اليومِ يَتبَعُ النَّاسُ صَوتَ الدَّاعي إلى مَوقِفِ القيامةِ، لا يَنحَرِفونَ عنه ولا يَزيغونَ. وسَكَنَت الأصواتُ؛ خُضوعًا للرَّحمنِ وخَوفًا، فلا تسمَعُ منها إلَّا صوتًا خفيًّا. في ذلك اليومِ لا تنفعُ الشَّفاعةُ أحدًا من الخَلقِ، إلَّا مَن أَذِنَ له الرَّحمنُ أن يَشفَعَ أو يُشفَعَ له، ورَضِيَ اللهُ قَولَ الشافعِ والمشفوعِ له، يعلَمُ اللهُ ما يَستَقبِلُه النَّاسُ مِن أمرِ القيامةِ، وما خَلْفَهم مِن أمرِ الدُّنيا، وهم لا يحيطُيون بما بينَ أيديهم، ولا بما خلفَهم عِلمًا.

تفسير الآيات:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى عن بعضِ ما سبق، ثمَّ عن بعضِ ما يأتي من أحوالِ المُعرِضينَ عن هذا الذِّكرِ فيما يُنتِجُه لهم إعراضُهم عنه، وختَم ذلك باستقصارِهم مُدَّةَ لُبثِهم في هذه الدَّارِ؛ أخبَرَ عن بعضِ أحوالِهم في الإعراضِ، فقال [914] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/344). :
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ.
أي: ويسألُك قَومُك عن الجِبالِ -يا محمَّدُ- ما حالُها يومَ القيامةِ [915] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/163)، ((تفسير القرطبي)) (11/245)، ((تفسير ابن كثير)) (5/316). ؟!
فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا.
أي: فقُلْ لهم: يُزيلُ اللهُ الجبالَ يومَ القيامةِ مِن أماكِنِها، ويَدُكُّها دكًّا، ويُفَتِّتُها ثمَّ يُطَيِّرُها في الهواءِ [916] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/163)، ((تفسير القرطبي)) (11/245)، ((تفسير ابن كثير)) (5/316)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/345)، ((تفسير السعدي)) (ص: 513)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/97). .
كما قال تعالى: وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ [المرسلات: 10] .
فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106).
أي: فيَترُكُ اللهُ مواضِعَ الجبالِ أرضًا سهلةً مُستويةً، لا نباتَ فيها ولا بناءَ ولا ارتفاعَ [917] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/163)، ((تفسير القرطبي)) (11/245، 246)، ((تفسير ابن كثير)) (5/316)، ((تفسير السعدي)) (ص: 513)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/307). وذهَب القرطبي وابنُ كثيرٍ إلى أنَّ المعنى واحدٌ في القاعِ والصفصفِ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/246)، ((تفسير ابن كثير)) (5/316). .
لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107).
أي: لا ترى -أيُّها النَّاظِرُ- في الأرضِ يوم القيامةِ مَيلًا عن الاستواءِ؛ لا ارتفاعًا ولا انخفاضًا، ولو كان ذلك يسيرًا [918] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/164، 166، 167)، ((تفسير ابن كثير)) (5/316)، ((تفسير السعدي)) (ص: 513)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/308)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/99). .
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108).
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ.
أي: في ذلك اليومِ الذي تقَعُ فيه تلك الأحواُل والأهوالُ يتَّبِعُ النَّاسُ -حين يَخرُجونَ مِن قُبورِهم- صوتَ المَلَكِ الذي يدعوهم جميعًا بلا استثناءٍ إلى مَوقِفِ القيامةِ، فيَقصِدونَه مِن كُلِّ ناحيةٍ، لا يَنحَرِفونَ ولا يَزيغونَ عنه، بل يتوجَّهونَ صَوبَ ناحيتِه وصَوتِه [919] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/167)، ((تفسير ابن عطية)) (4/64)، ((تفسير القرطبي)) (11/246، 247)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 201)، ((تفسير ابن كثير)) (5/316)، ((تفسير السعدي)) (ص: 513)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/309)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/100). .
كما قال تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر: 6 - 8].
وقال سُبحانَه: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق: 41 - 44] .
وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا.
أي: وسكَنَت أصواتُ الخلائِقِ يومَ القيامةِ للرَّحمنِ خُضوعًا له وخَوفًا وهَيبةً منه، مُنتَظِرينَ لحُكمِه، فلا تَسمَعُ لهم -أيُّها السَّامِعُ [920] قال ابن عاشور: (الخطابُ بقولِه: لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وقولِه: فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا خطابٌ لغيرِ معينٍ، أي: لا يرى الرائي، ولا يسمعُ السامعُ). ((تفسير ابن عاشور)) (16/310). - إلَّا صَوتًا خَفيضًا لوطءِ أقدامِهم، أو لحديثِهم الخافِتِ [921] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/167، 168)، ((تفسير ابن عطية)) (4/64)، ((تفسير القرطبي)) (11/247)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/516)، ((تفسير ابن كثير)) (5/317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 513)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/309، 310)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/100). .
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109).
أي: في يَومِ القيامةِ لا تَنفَعُ الشَّفاعةُ أحدًا مِن الناسِ لا الشَّافِعَ ولا المشفوعَ له، إلَّا شفاعةَ مَن أذِنَ له الرَّحمنُ أن يَشفَعَ أو يُشفَعَ له، ورَضِيَ اللهُ قَولَ الشَّافِعِ والمشفوعِ له [922] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/170)، ((تفسير البغوي)) (3/275)، ((تفسير ابن عطية)) (4/64، 65)، ((تفسير القرطبي)) (11/247)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/387 - 395)، ((تفسير ابن كثير)) (5/317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 513)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/310). ممن اختار أنَّ الإذنَ والرضا للشافعِ: ابن جرير، والبغوي، والقرطبي، والخازن، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/170)، ((تفسير البغوي)) (3/275)، ((تفسير القرطبي)) (11/247)، ((تفسير الخازن)) (3/213)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/310). قال ابنُ عاشور: (واستثناءُ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ مِن عمومِ الشَّفاعةِ باعتبارِ أنَّ الشَّفاعةَ تقْتَضي شافعًا؛ لأنَّ المصدرَ فيه معنَى الفعلِ، فيقْتَضي فاعلًا، أي: إلَّا أنْ يشفَعَ مَن أذِن له الرحمنُ في أنْ يشفَعَ... وقولُه وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا عائدٌ إلى مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وهو الشَّافعُ). ((تفسير ابن عاشور (16/310). وممن اختار أنَّ الإذنَ ورضا القول للمشفوعِ له: الواحدي، وابن الجوزي، والرازي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 706)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/176)، ((تفسير الرازي)) (22/101). وذكر الرازي ثلاثة أوجه في ترجيح هذا القولِ، ومنها: (أنَّ مِن المعلومِ بالضَّرورةِ أنَّ درجةَ الشَّافعِ درجةٌ عظيمةٌ؛ فهي لا تحصُلُ إلَّا لمَنْ أذِنَ اللَّه له فيها وكان عندَ اللَّه مَرْضِيًّا، فلو حَمَلْنا الآيةَ على ذلك صارَتْ جاريةً مجرَى إيضاحِ الواضحاتِ، أمَّا لو حَمَلْنا الآيةَ على المشفوعِ له لم يَكُنْ ذلك إيضاحَ الواضحاتِ؛ فكان ذلك أولَى). ((تفسير الرازي)) (22/101). وممن اختار أن الإذن للشافع، ورضا القول للمشفوع له: ابن الجوزي، وابن القيم، والعليمي. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/176)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/221)، ((تفسير العليمي)) (4/327). قال ابن القيم: (وقال: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا فأخبر اللهُ تعالى أنه لا يحصُلُ يومئذٍ شفاعةٌ تَنفَعُ إلَّا بعدَ أن يرضَى اللهُ سُبحانَه قَولَ المَشفوعِ له، ويأذَنَ للشَّافِعِ فيه ... فإنَّه سبحانه علَّقها بأمرين: رضاه عن المشفوعِ له، وإذنِه للشافعِ، فما لم يوجدْ مجموعُ الأمرينِ لم تُوجدِ الشفاعةُ). ((إغاثة اللهفان)) (1/220). وممَّن جمَع بين المعاني السَّابقةِ: ابنُ تيميَّةَ، فقال: (الشَّفاعةُ مَصدرٌ لا بدَّ لها من شافعٍ ومَشفوعٍ له. والشَّفاعةُ: تعُمُّ شَفاعةَ كُلِّ شافعٍ، وكُلَّ شفاعةٍ لِمَشفوعٍ له؛ فإذا قال: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ نفى النوعينِ: شفاعةَ الشُّفَعاءِ، والشَّفاعةَ للمُذنِبينَ؛ فقَولُه: إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ يتناولُ النَّوعينِ: مَن أذِنَ له الرَّحمنُ ورَضِيَ له قَولًا مِن الشُّفعاءِ، ومَن أذِنَ له الرحمنُ ورَضِيَ له قولًا من المشفوعِ له، وهي تنفعُ المشفوعَ له فتُخَلِّصُه من العذابِ، وتنفَعُ الشَّافِعَ فتُقبَلُ منه ويُكرَمُ بقَبولِها ويثابُ عليها، والشَّفاعةُ يومَئذٍ لا تنفَعُ لا شافِعًا ولا مشفوعًا له إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ: 38] ؛ فهذا الصِّنفُ المأذونُ لهم المرضِيُّ قولُهم: هم الذين يحصُلُ لهم نَفعُ الشَّفاعةِ، وهذا مُوافِقٌ لسائرِ الآياتِ). ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/392). .
كما قال تعالى: وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26] .
وقال تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء: 28] .
وقال سُبحانه: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ: 38] .
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110).
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.
أي: يعلَمُ الله ما يَستَقبِلُه الخلائِقُ [923] ممن اختار أنَّ الضميرَ في قولِه:   أَيْدِيهِمْ وخَلْفَهُمْ يعودُ إلى الخلائقِ: ابنُ كثيرٍ، والبقاعي، والشربيني، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/318)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/348)، ((تفسير الشربيني)) (2/381)، ((تفسير الشوكاني)) (3/457). وقيل: الضميرُ يعودُ إلى الذين يتَّبعون الدَّاعي. وممن اختاره: ابنُ جريرٍ، وابنُ الجوزي، والرازي. يُنظر ((تفسير ابن جرير)) (16/170)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/176)، ((تفسير الرازي)) (22/102). ممَّا يكونُ في الآخرةِ، ويعلَمُ ما مضَى وراءَهم مِن أمورِ الدُّنيا وأعمالِهم فيها [924] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/170)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/377)، ((تفسير السمرقندي)) (2/413)، ((تفسير السمعاني)) (3/356)، ((تفسير القرطبي)) (11/248)، ((تفسير الشوكاني)) (3/457). قال الرازي: (ذكروا في قولَه تعالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وجوهًا: أحدُها: قال الكلبيُّ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِن أمرِ الآخرةِ وَمَا خَلْفَهُمْ مِن أمرِ الدُّنيا. وثانيها: قال مجاهدٌ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَن أمرِ الدُّنيا والأعمالِ، وَمَا خَلْفَهُمْ مِن أمرِ الآخرةِ والثَّوابِ والعقابِ. وثالثُها: قال الضَّحَّاكُ: يعلمُ ما مضَى وما بَقِي، ومتى تكونُ القيامةُ). ((تفسير الرازي)) (22/102). وقيل: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: هو كلُّ ما يعلمونَه وَمَا خَلْفَهُمْ: هو كلُّ ما غابَ عنهم علمُه. وذهَب إليه البقاعي في ((نظم الدرر)) (12/348). وقيل: المرادُ بقولِه: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: الأعمالُ الظاهرةُ، وبقولِه: وَمَا خَلْفَهُمْ: السرائرُ. وذهب إليه ابن عاشور في ((تفسيره)) (16/311). .
وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا.
أي: وهم لا يحيطُون [925] قال السمعاني: (الإحاطةُ بالشَّيءِ: هي العلمُ بالشَّيءِ مِن كلِّ جهةٍ يجوزُ أن يُعلمَ). ((تفسير السمعاني)) (3/356). بما بينَ أيديهم، ولا بما خلفَهم علمًا [926] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/102)، ((تفسير الرسعني)) (4/569)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/88). قال ابنُ القيِّم: (وقد اختُلِف في تفسيرِ الضَّميرِ في بِهِ فقيل: هو اللهُ سُبحانَه، أي: ولا يُحيطونَ باللهِ عِلمًا. وقيل: هو مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ فعلى الأوَّلِ يَرجِعُ إلى العالِمِ، وعلى الثَّاني يرجِعُ إلى المعلومِ، وهذا القَولُ يَستلزِمُ الأوَّلَ مِن غيرِ عَكسٍ؛ لأنَّهم إذا لم يُحيطوا ببَعضِ مَعلوماتِه المتعَلِّقةِ بهم فألَّا يُحيطوا عِلمًا به سُبحانه أَولى). ((الصواعق المرسلة)) (4/1372). وممن اختار أنَّ الضمير يعودُ إلى (مَا) في قولِه: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ: الواحدي، والرازي،  والرسعني، وابنُ تيمية. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (14/532)، ((تفسير الرازي)) (22/102)، ((تفسير الرسعني)) (4/569)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/88). وذكر الرازي أن هذا القول أولى (لوجهينِ: أحدُهما: أنَّ الضَّميرَ يجبُ عودُه إلى أقربِ المذكوراتِ، والأقربُ هاهنا قولُه: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ. وثانيهما: أنَّه تعالَى أوْرَد ذلك موردَ الزَّجرِ لِيُعْلَمَ أنَّ سائرَ ما يُقْدِمونَ عليه وما يستحِقُّونَ به المجازاةَ معلومٌ للَّه تعالَى). ((تفسير الرازي)) (22/102). وقال ابن تيمة: (الراجحُ... أن الضميرَ عائدٌ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، وإذا لم يحيطوا بهذا علمًا وهو بعض مخلوقاتِ الرَّبِّ فألَّا يحيطوا علمًا بالخالق أولى وأحرى! قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] ، وقال: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ [إبراهيم: 9] ). ((مجموع الفتاوى)) (16/88). وممن اختار أنَّ الضميرَ في بِهِ يرجعُ إلى الله: مقاتلُ بنُ سليمان، وابنُ جريرٍ، والسمعاني، والقرطبيُّ، وابنُ جُزي، والشوكاني، والألوسي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/42)، ((تفسير ابن جرير)) (16/171)، ((تفسير السمعاني)) (3/356)، ((تفسير القرطبي)) (11/248)، ((تفسير ابن جزي)) (2/15)، ((تفسير الشوكاني)) (3/457)، ((تفسير الألوسي)) (8/573). .
كما قال تعالى: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة: 255] .
وقال سُبحانه: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] .
وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: 109] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- بيَّنَ الله تعالى الأحوالَ التي تصيرُ إليها الجِبالُ يومَ القيامةِ في آياتٍ مِن كتابِه، فبَيَّنَ أنَّه ينزِعُها مِن أماكِنِها، ويحمِلُها فيدُكُّها دكًّا، وذلك في قَولِه: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [الحاقة: 13- 14] ، ثمَّ بيَّنَ أنَّه يُسَيِّرُها في الهواءِ بينَ السَّماءِ والأرضِ، وذلك في قَولِه: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير: 3] ... ثمَّ بَيَّنَ أنَّه يُفتِّتُها ويَدقُّها، كقَولِه: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا [الواقعة: 5] ... ثمَّ بيَّنَ أنَّه يصَيِّرُها كالرَّملِ المتهايلِ، وكالعِهنِ المنفوشِ، وذلك في قَولِه: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا [المزمل: 14] ، وقولِه تعالى: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [المعارج: 8، 9]... ثمَّ بَيَّنَ أنَّها تَصيرُ كالهباءِ المنبَثِّ في قَولِه: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة: 5- 6]، ثمَّ بَيَّنَ أنَّها تصيرُ سرابًا، وذلك في قولِه: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ: 20] ... وبيَّنَ أنَّه يَنسِفُها نسفًا في قولِه هنا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [927] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/97). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا هذه الآيةُ مِن أقوى الدَّلائِلِ على ثُبوتِ الشَّفاعةِ في حَقِّ الفُسَّاقِ؛ لأنَّ قَولَه: وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يكفي في صدقِه أن يكونَ الله تعالى قد رضي له قولًا واحدًا من أقوالِه، والفاسقُ قد ارتضى اللهُ تعالى قولًا واحدًا مِن أقوالِه وهو: شهادةُ أن لا إله إلا الله، فوجَب أن تكونَ الشفاعةُ نافعةً له؛ لأنَّ الاستثناءَ مِن النفيِ إثباتٌ، وذلك بناءً على أنَّ الآيةَ محمولةٌ على المشفوعِ له [928] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/102). .
3- في قَولِه تعالى: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا دليلٌ على أنَّ الشفاعةَ مأذونٌ فيها لخصوصٍ مِن النَّاسِ، وأنَّ غيرَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَشفَعُ فيُشَفَّعُ، وإنْ كانت الشَّفاعةُ العُظمى له [929] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/295). .
4- في قَولِه تعالى: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أخبر اللهُ تعالى أنه لا يحصُلُ يومئذٍ شفاعةٌ تَنفَعُ إلَّا بعد أن يرضى اللهُ -سُبحانَه- قَولَ المَشفوعِ له، ويأذَنَ للشَّافِعِ فيه، على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ، فأمَّا المشركُ فإنَّه لا يَرتَضيه ولا يرضَى قولَه، فلا يَأذَنُ للشُّفَعاءِ أنْ يَشفَعوا فيه؛ فإنَّه سُبحانَه علَّقَها بأمرَينِ: رِضاه عن المشفوعِ له، وإذْنِه للشَّافعِ، فما لم يُوجَدْ مجموعُ الأمرينِ لم تُوجَدِ الشَّفاعةُ [930] يُنظر: ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) لابن القيم (1/221). .
5- قَولُه تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ فيه إثباتُ عِلْمِ الله تعالى؛ وأنَّه عامٌّ في الماضي والحاضرِ والمُستقبَلِ، وفيه ردٌّ على القدريَّةِ الغُلاةِ؛ فإثباتُ عُمومِ العِلْمِ يَرُدُّ عليهم؛ لأنَّ القَدَريَّةَ الغُلاةَ أنكروا عِلْمَ اللهِ بأفعالِ خَلقِه إلَّا إذا وَقَعَت [931] يُنظر: ((تفسير الفاتحة والبقرة)) لابن عثيمين (3/260). .
6- في قَولِه تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ دلالةٌ على نفيِ الإحاطةِ بالله عِلمًا -وذلك بناءً على أنَّ الضميرَ يرجِعُ إلى الله- وهذا شاملٌ للإحاطةِ بذاتِه وصفاتِه، فلا يَعلَمُ حقيقةَ ذاتِه وكُنْهَها إلَّا هو سُبحانه وتعالى، وكذلك صِفاتُه، فاللهُ تعالى أجَلُّ وأعظَمُ مِن أن تُحيطَ به الأفكارُ [932] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (4/176)، (5/157). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا
- قولُه: فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا الفاءُ للمُسارَعةِ إلى إلْزامِ السَّائلينَ [933] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/42). ، لأنَّ مقصودَهم مِن هذا السؤالِ الطعنُ في الحشرِ والنشرِ، فلا جَرَمَ أمَره بالجوابِ مقرونًا بفاءِ التعقيبِ [934] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/100). . وأكَّدَ يَنْسِفُها بـ نَسْفًا؛ لإثباتِ أنَّه حقيقةٌ لا استعارةٌ [935] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/307). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ فجَمِيعُ ما جاء في القُرآنِ من السُّؤالِ أُجِيبَ عنه بـ «قُلْ» بلا فاءٍ، إلَّا في قولِه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا، فإنَّهُ أُجِيبَ بالفاءِ. قيل: وجْهُه: أنَّ الأجوبةَ في الجميعِ كانتْ بعدَ السُّؤالِ، وهنا قبْلَ وُقُوعِ السُّؤالِ؛ فكأنَّهُ قيل: إنْ سُئِلْتَ عنِ الجِبالِ، فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي [936] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 83 - 84)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/153)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 54)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/307). .
2- قولُه تعالى: لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا حالٌ مُؤكِّدةٌ لمَعنى قَاعًا صَفْصَفًا؛ لزِيادةِ تَصويرِ حالةٍ، فيَزِيدُ تَهويلُها [937] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/307). ، وقيل: استئنافٌ مُبيِّنٌ للحالينِ [938] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/39)، ((تفسير أبي السعود)) (6/42). .
- وفيه تَقديمُ الجارِّ والمجرورِ فِيهَا على المفعولِ الصَّريحِ عِوَجًا؛ للاهتمامِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ، مع ما فيه من طُولٍ رُبَّما يُخِلُّ تَقديمُه بتجاوُبِ أطرافِ النَّظمِ الكريمِ [939] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/42). .
- وفيه ما يُعْرَفُ بـ «التَّنكيتِ»، وهو أنْ يخُصَّ المُتكلِّمُ شيئًا بالذِّكرِ دونَ غيرِه، ممَّا يسُدُّ مَسدَّه وما يَقْتضيهِ ظاهِرُ الكلامِ؛ لأجْلِ نُكْتةٍ في المذكورِ تُرجِّحُ مَجِيئَه على سِواهُ [940] يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/306)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (2/55). ؛ فاختِيارُ (العِوَجِ) بالكَسْرِ في هذه الآيةِ له مَوضعٌ حسَنٌ بَديعٌ في استواءِ الأرضِ، ووصْفِها بالمَلاسةِ، وانتفاءِ الاعوجاجِ عنها على أبلَغِ وجْهٍ؛ وذلك أنَّه لو عُمِدَ إلى قطْعةٍ مِن الأرضِ، فسُوِّيَت وبُولِغَ في تَسويتِها على عَينِ مَن سوَّاها وعلى عُيونِ البُصراءِ بالأراضي، واتَّفقوا بالإجماعِ على أنَّه لم يبْقَ فيها اعوجاجٌ قطُّ، ثمَّ عمَدَ أهْلُ التَّخصُّصِ بالمقاييسِ المَبْنيَّةِ على العِلْمِ الدَّقيقِ: لَعُثِرَ فيها على عِوَجٍ في غيرِ مَوضعٍ، لا يُدْرَكُ ذلك بحاسَّةِ البصرِ، ولكن بالقياسِ الهندسيِّ الَّذي لا يَضِلُّ ولا يَعزُبُ عنه القليلُ النَّادِرُ؛ فنَفَى اللهُ سُبحانه ذلك العِوَجَ الَّذي دَقَّ ولطُفَ عن الإدراكِ والفَهْمِ، اللَّهُمَّ إلَّا بالقياسِ الَّذي يَعرِفُه صاحِبُ التَّقديرِ والهندسةِ، وذلك الاعوجاجُ لمَّا لم يُدْرَكْ إلَّا بالقياسِ دونَ الإحساسِ، ولَحِقَ بالمعاني، وسَمَا عن الأعيانِ؛ فقيل فيه: (عِوَج) بالكسْرِ [941] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/88)، ((تفسير البيضاوي)) (4/39)، ((تفسير أبي حيان)) (7/383- 384)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/251). .
3- قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا
- قولُه: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ قدَّمَ الظَّرفَ يَوْمَئِذٍ على عامِلِه يَتَّبِعُونَ؛ للاهتمامِ بذلك اليومِ، وليكونَ تَقديمُه قائمًا مَقامَ العطْفِ في الوصْلِ، أي: يتَّبِعون الدَّاعِيَ يومَ يَنسِفُ ربُّكَ الجِبالَ [942] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/308- 309). .
- وبينَ قولِه: لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا [طه: 107] وقولِه: لَا عِوَجَ لَهُ مُراعاةُ النَّظيرِ [943] مراعاة النَّظير: عبارةٌ عن الجمعِ بينَ المتشابِهات، أو الجَمعِ بينَ أمْرينِ أو أُمورٍ مُتناسِبةٍ، لا على جِهةِ التَّضادِّ، وذلك إمَّا بينَ اثنينِ، كقولِه تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ، وإمَّا بين أكثرَ، كقولِه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة: 16] . ويُلحَقُ بمراعاةِ النَّظيرِ: ما بُنِي على المناسَبةِ في المعنى بينَ طَرفيِ الكلامِ، وما بُني على المناسَبةِ في اللفظِ باعتِبارِ معنًى له غَيرِ المعنى المَقصودِ في العِبارةِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 424)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 304)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 323). ؛ فكما جعَلَ اللهُ الأرضَ يومئذٍ غيرَ مُعوجَّةٍ ولا ناتئةٍ، كما قال: فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 14] ، كذلك جعَلَ سَيْرَ النَّاسِ عليها لا عِوَجَ فيه ولا مُراوغةَ [944] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/308- 309). .
4- قوله تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا
- جُملةُ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مُستأنَفةٌ بَيانيَّةٌ لجوابِ سُؤالِ مَن قدْ يسأَلُ بَيانَ ما يُوجِبُ رِضَا اللهِ عن العبْدِ الَّذي يأْذَنُ بالشَّفاعةِ فيه؛ فبيَّنَ بَيانًا إجماليًّا بأنَّ الإذْنَ بذلك يَجْري على ما يَقْتضيه عِلْمُ اللهِ بسائرِ العبيدِ، وبأعمالِهم الظَّاهرةِ، فعبَّرَ عن الأعمالِ الظَّاهرةِ بـ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؛ لأنَّ شأْنَ ما بينَ الأيدي أنْ يكونَ واضِحًا، وعبَّرَ عن السَّرائرِ بـ وَمَا خَلْفَهُمْ؛ لأنَّ شأْنَ ما يُجْعَلُ خلْفَ المَرْءِ أنْ يكونَ مَحجوبًا؛ فهو كِنايةٌ عن الظَّاهراتِ والخَفيَّاتِ [945] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/311). ، على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.
- وجُملةُ: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا تَذييلٌ؛ للتَّعليمِ بعظَمَةِ عِلْمِ اللهِ تعالى، وضآلَةِ عِلْمِ البشَرِ [946] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/311). .