موسوعة التفسير

سورةُ المُزَّمِّلِ
الآيات (10-14)

ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ

غريب الكلمات:

وَذَرْنِي: أي: دَعْني، بوَزْنِ وَدَعَ الشَّيءَ يَدَعُه وَدْعًا، ومَعْناه، والمُضارِعُ منه: يَذَرُ، والأمْرُ منه: ذَرْ، ولم يَرِدْ في اللُّغةِ اسْتِعْمالُ ماضِيه ولا مَصْدَرِه [97] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/381)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 160)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/368). .
النَّعْمَةِ: أي: الغِنى، وكَثرةِ الأموالِ، وحُسْنِ العَيْشِ، ولِينِه ورَغَدِه، والنِّعْمةُ -بكَسرِ النُّونِ- أعمُّ مِن هذا؛ لأنَّها بمعنى المِنَّةِ والعَطاءِ، فالنَّعْمةُ -بالفَتحِ- هي مِن جُملةِ النِّعْمةِ -بالكَسرِ-، وأصلُ (نعم): يدُلُّ على تَرَفُّهٍ وطِيبِ عَيشٍ وصلاحٍ [98] يُنظَر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/446)، ((البسيط)) للواحدي (20/109) و (22/371)، ((تفسير البغوي)) (7/231)، ((تفسير ابن عطية)) (5/73)، ((تفسير القرطبي)) (16/138). .
أَنْكَالًا: أي: قُيودًا وأغلالًا، وأصلُ (نكل): يدُلُّ على مَنعٍ، وأصلُ ذلك النِّكْلُ: القيْدُ؛ لأنَّه يَنْكُلُ: أيْ: يَمْنَعُ [99] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 85)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/473)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 424)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 432). .
وَجَحِيمًا: أي: نارًا، والجُحْمةُ: شِدَّةُ تأجُّجِ النَّارِ، والجاحِمُ: المكانُ الشَّديدُ الحرِّ، وبذلك سُمِّيت الجحيمُ، وأصْلُ (جحم): الحرارةُ وشِدَّتُها [100] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 372)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/429)، ((مجمل اللغة)) لابن فارس (ص: 177)، ((المفردات)) للراغب (ص: 187). .
غُصَّةٍ: أي: لا يَسُوغُ في الحَلْقِ، والغُصَّةُ: ما يَغَصُّ به الإنسانُ، و(غصص): أصلٌ ليس فيه إلَّا الغَصَصُ بالطَّعامِ [101] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 494)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/384)، ((البسيط)) للواحدي (22/373)، ((المفردات)) للراغب (ص: 607). .
تَرْجُفُ: أي: تَتزَلْزَلُ وتَتحَرَّكُ وتَضْطَرِبُ بمَنْ عليها، والرَّجفةُ: حَرَكةُ الأرضِ، أو الزَّلزلةُ الشَّديدةُ، والرَّجْفُ: الاضْطِرابُ الشَّديدُ، وأصلُ (رجف): يدُلُّ على اضطرابٍ [102] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 237)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/491)، ((البسيط)) للواحدي (22/375)، ((تفسير السمعاني)) (6/82)، ((المفردات)) للراغب (ص: 344)، ((تفسير البغوي)) (5/170)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 119)، ((تفسير القرطبي)) (19/47). .
كَثِيبًا مَهِيلًا: أي: رَمْلًا سائِلًا مَنثورًا، والكَثيبُ: القِطعةُ العَظيمةُ مِنَ الرَّملِ، وسُمِّيَ الكثيبُ كَثيبًا؛ لأنَّ تُرابَه دُقاقٌ، كأنَّه مكثوبٌ مَنثورٌ بَعضُه على بَعضٍ لرَخاوتهِ. والمهيلُ: السَّائلُ الذي قد سُيِّلَ، وهو اسمُ مفعولٍ مِن هالَ الشَّيءَ هَيلًا: إذا نَثَره وصبَّه، يُقالُ: تُرابٌ مَهيلٌ، أي: مَصْبوبٌ مُسيَّلٌ، ويُقالُ: أهَلْتُ الرَّملَ: إذا حرَّكْتَ أسفَلَه حتَّى انهالَ مِن أعلاه، وأصلُ (كثب): يدُلُّ على تجمُّعٍ وعلى قُربٍ، وأصلُ (هيل): يدُلُّ على دَفْعِ شيءٍ [103] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 494)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/162)، ((البسيط)) للواحدي (22/375)، ((تفسير البغوي)) (8/256)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/272). ومَهِيلٌ أصلُه مَهْيُولٌ، اسْتُثْقِلَت الضَّمَّةُ على الياءِ، فنُقِلَتْ إلى السَّاكِنِ قبْلَها، فالْتَقَى ساكِنانِ، فحُذِفَت الواوُ؛ لأنَّها زائِدةٌ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/272). .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ اللهُ تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بالصَّبرِ على أذى قَومِه، وهَجرِهم، فيقولُ: واصبِرْ -يا محمَّدُ- على ما يَقولُه مُشرِكو قَومِك؛ مِن التَّكذيبِ والاستِهزاءِ بك، واهجُرْهم هَجْرًا جميلًا لا عِتابَ معه ولا أذى.
 ثمَّ يقولُ تعالى متوعِّدًا ومهدِّدًا الكافِرين: ودَعْني -يا مُحمَّدُ- والمكَذِّبينَ بالحَقِّ أهلَ التَّنَعُّمِ والتَّرَفُّهِ في الدُّنيا، ولا تهتَمَّ بهم، وأمهِلْهم وَقتًا قليلًا.
ثمَّ يَذكُرُ سُبحانَه ما عندَه مِن العِقابِ، فيقولُ: إنَّ عِندَنا في الآخِرةِ لهم قُيودًا وأغلالًا، ونارًا حاميةً، وطعامًا غَيرَ سائغٍ، وعَذابًا مُؤلِمًا؛ يومَ تتزَلْزَلُ الأرضُ والجِبالُ، وتصيرُ الجِبالُ رَمْلًا سائِلًا مُتناثِرًا!

تفسير الآيات:

وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ مُهِمَّاتِ العِبادِ مَحصورةٌ في أمْرَينِ: كيفيَّةِ معامَلتِهم مع الله، وكيفيَّةِ مُعاملتِهم مع الخَلْقِ، والأوَّلُ أهَمُّ مِنَ الثَّاني، فلمَّا ذكَرَ تعالى في أوَّلِ هذه السُّورةِ ما يتعلَّقُ بالقِسمِ الأوَّلِ؛ أتْبَعَه بما يتعَلَّقُ بالقِسمِ الثَّاني [104] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/689). .
وأيضًا لَمَّا أمَرَ اللهُ نبيَّه عليه السَّلامُ بالصَّلاةِ خُصوصًا، وبالذِّكرِ عُمومًا، وبذلك يحصلُ للعبدِ مَلَكةٌ قَوِيَّةٌ في تحمُّلِ الأثقالِ، وفِعلِ الثَّقيلِ مِن الأعمالِ- أمَرَه بالصَّبرِ على ما يقولُ فيه المعانِدونَ له ويسُبُّونَه ويَسُبُّونَ ما جاء به، وأن يَمضيَ على أمرِ اللهِ، لا يَصُدُّه عنه صادٌّ، ولا يرُدُّه رادٌّ، وأن يَهجُرَهم هَجرًا جميلًا [105] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 893). .
وأيضًا فهو عطْفٌ على قولِه: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9] ، والمُناسَبةُ أنَّ الصَّبرَ على الأذَى يُستعانُ عليه بالتَّوكُّلِ على الله [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/268). .
وأيضًا لَمَّا كانت الوكالةُ لا تكونُ إلَّا فيما يُعجِزُ، وكان الأمرُ بها مشيرًا إلى أنَّه لا بدَّ أن يكونَ عن هذا القَولِ الثَّقيلِ خُطوبٌ طِوالٌ، وزلازِلُ وأهوالٌ؛ قال [107] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/18). :
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ.
أي: واصبِرْ -يا محمَّدُ- على ما يقولُه مُشرِكو قَومِك؛ مِن التَّكذيبِ أو الاستِهزاءِ بك [108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/380)، ((تفسير القرطبي)) (19/45)، ((تفسير ابن كثير)) (8/256). .
وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا.
النَّاسِخُ والمَنسوخُ:
هذه الآيةُ مُحكَمةٌ غَيرُ مَنسوخةٍ [109] وممَّن ذهب إلى ذلك: الرازيُّ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/689). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جرير)) (23/380)، ((المصفى بأكف أهل الرسوخ)) لابن الجوزي (ص: 58). قال الرازي: (قال المفسِّرون: هذه الآيةُ إنَّما نزلتْ قبْلَ آيةِ القتالِ، ثمَّ نُسِخَت بالأمرِ بالقتالِ. وقال آخَرونَ: بل ذلك هو الأخْذُ بإذنِ الله فيما يكونُ أدعى إلى القَبولِ، فلا يَرِدُ النَّسخُ في مِثْلِه، وهذا أصَحُّ). ((تفسير الرازي)) (30/689). .
وقيل: هي مَنسوخةٌ بآيةِ السَّيفِ في سورةِ التَّوبةِ [110] وممَّن ذهب إلى ذلك: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ حزم، والواحديُّ، وابنُ عطية، وابنُ الفَرَس، ونسَبَ ابنُ الجوزيِّ إلى الأكثَرِ أنَّها منسوخةٌ بآيةِ السَّيفِ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/476)، ((الناسخ والمنسوخ)) لابن حزم (ص: 62)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1145)، ((تفسير ابن عطية)) (5/388)، ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/601)، ((المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ)) لابن الجوزي (ص: 58). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، وابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/380)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/318). ومِن أهلِ العلمِ مَن ذهب إلى أنَّ آيةَ السَّيفِ ناسخةٌ لجميع الآياتِ الَّتي فيها الصَّفحُ والكَفُّ عمَّن لم يقاتِلْ مِن المشركين، ومنهم مَن ذهب إلى أنَّها ليست ناسخةً، ولكنَّ الأحوالَ تختلِفُ؛ فإذا قوِيَ المسلمونَ وصارت لهم السُّلطةُ والقُوَّةُ والهَيبةُ استَعمَلوا آيةَ السَّيفِ وما جاء في معناها وعمِلوا بها، وإذا ضَعُفَ المسلمونَ ولم يَقْوَوا على قتالِ الجميعِ فلا بأسَ أن يُقاتِلوا بحسَبِ قُدرتِهم، ويَكُفُّوا عمَّن كفَّ عنهم إذا لم يَستطيعوا ذلك، فيكونُ الأمرُ إلى وليِّ الأمرِ؛ إن شاء قاتَلَ، وإن شاء كفَّ، وإن شاء قاتلَ قومًا دون قومٍ، على حسَبَ القوَّةِ والقدرةِ والمصلحةِ للمسلمينَ، لا على حسَبِ هواه وشَهوتِه، ولكنْ يَنظُرُ لحالِ المسلمينَ وقوَّتِهم. قال ابن باز: (وهذا القولُ أظهَرُ وأبْيَنُ في الدَّليلِ؛ لأنَّ القاعدةَ الأصوليَّةَ أنَّه لا يُصارُ إلى النَّسخِ إلَّا عندَ تعذُّرِ الجمعِ بيْنَ الأدِلَّةِ، والجمعُ هنا غيرُ متعَذِّرٍ). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (3/194). وقال الزَّرْكَشيُّ بعدَ أنْ بيَّنَ ضَعفَ القولِ بأنَّ الآيَّاتِ الآمِرةَ بالتَّخفيفِ منسوخةٌ بآيةِ السَّيفِ، وأنَّها ليست كذلك فـ: (كلُّ أمرٍ ورد يجبُ امتِثالُه في وقتٍ ما لعلَّةٍ توجِبُ ذلك الحُكمَ، ثمَّ يُنتقَلُ بانتِقالِ تلك العلَّةِ إلى حُكمٍ آخَرَ، وليس بنَسخٍ، إنَّما النَّسخُ الإزالةُ حتَّى لا يجوزَ امتثالُه أبدًا). ((البرهان في علوم القرآن)) (2/42). ويُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 221). .
وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا.
أي: واهجُرْ -يا مُحمَّدُ- قَومَك المُشرِكينَ في ذاتِ اللهِ هَجْرًا جميلًا لا عِتابَ معه ولا أذًى، وأعرِضْ عن الانتِقامِ منهم، فلا تُقابِلْهم بمِثلِ ما يقولونَ ويَفعَلونَ [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/380)، ((تفسير القرطبي)) (19/45)، ((تفسير ابن كثير)) (8/256)، ((تفسير السعدي)) (ص: 893)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/268، 269). .
كما قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النساء: 63] .
وقال سُبحانَه: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] .
وقال الله عزَّ وجَلَّ: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النجم: 29] .
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11).
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ.
أي: ودَعْني -يا مُحمَّدُ- والمكَذِّبينَ بالحَقِّ ذوي الغِنى والثَّراءِ، وأهلَ التَّنَعُّمِ والتَّرَفُّهِ في الدُّنيا، فاترُكْ شَأنَ عُقوبتِهم إلَيَّ، ولا تهتَمَّ بتَكذيبِهم، ولا تنشَغِلْ بالانتِقامِ منهم [112] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/381)، ((الوسيط)) للواحدي (4/375)، ((تفسير القرطبي)) (19/45)، ((تفسير ابن كثير)) (8/256)، ((تفسير السعدي)) (ص: 893)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/269). قال علَمُ الدِّينِ السَّخاويُّ: (وقولُه عزَّ وجلَّ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ الآيةَ، قالوا: نُسِخَتْ بآيةِ السَّيفِ. وهذا تهديدٌ ووعيدٌ غيرُ منسوخٍ بها). ((جمال القراء وكمال الإقراء)) (2/885). .
كما قال تعالى: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم: 84] .
وقال سُبحانَه وتعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف: 35] .
وقال عزَّ وجلَّ: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6، 7].
وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا.
أي: وانتَظِرْ -يا مُحمَّدُ- وَقتًا قليلًا؛ ليأتيَ مِيعادُ عَذابِهم، وننتَصِرَ لك منهم؛ فلا تَستَعجِلْ عِقابَهم [113] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/381)، ((تفسير الرازي)) (30/689)، ((تفسير القرطبي)) (19/46)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/270). قال الرازي: (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا فيه وجْهانِ؛ أحدُهما: المرادُ مِن القليلِ: الحياةُ الدُّنيا. والثَّاني: المرادُ مِن القليلِ: تلك المدَّةُ القليلةُ الباقيةُ إلى يومِ بَدرٍ؛ فإنَّ اللهَ أهلكهم في ذلك اليومِ). ((تفسير الرازي)) (30/689). وقال البِقاعي: (قَلِيلًا أي: مِنَ الزَّمانِ، والإمهالُ: إلى مَوتِهم، أو الإيقاعِ بهم قَبْلَه). ((نظم الدرر)) (21/19). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 23، 24].
وقال سُبحانَه: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم: 44، 45].
وقال تبارك وتعالى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق: 17].
إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12).
أي: إنَّ عِندَنا في الآخِرةِ للمُكَذِّبينَ بآياتِنا قُيودًا وأغلالًا ثقيلةً، ونارًا حاميةً شديدةَ الاتِّقادِ [114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/382، 384)، ((الوسيط)) للواحدي (4/375)، ((تفسير ابن كثير)) (8/256)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/20). !
كما قال تعالى: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ [إبراهيم: 49] .
وقال سُبحانَه: وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا [سبأ: 33] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ *  فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر: 71، 72].
وقال الله تبارك وتعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا [الإنسان: 4].
وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أتَمَّ ما يُقابِلُ تَكذيبَهم؛ أتْبَعَه ما يقابِلُ النَّعمةَ، فقال [115] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/21). :
وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ.
أي: وعِندَنا لهم طعامٌ غَيرُ سائغٍ، يَعلَقُ في حَلْقِ آكِلِه، فلا يَنزِلُ عنه، ولا يَخرُجُ منه [116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/384)، ((تفسير القرطبي)) (19/46، 47)، ((تفسير ابن كثير)) (8/256)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/21)، ((تفسير السعدي)) (ص: 893). !
وَعَذَابًا أَلِيمًا.
أي: وعِندَنا لهم عَذابٌ مُؤلِمٌ مُوجِعٌ شَديدٌ [117] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/477)، ((تفسير ابن جرير)) (23/385)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/21)، ((تفسير السعدي)) (ص: 893). .
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى هذا العذابَ؛ ذكَرَ ظَرْفَه [118] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/21). .
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ.
أي: ذلك واقِعٌ بهم يومَ تتزَلْزَلُ الأرضُ والجِبالُ وتَضطَرِبُ [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/385)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/242)، ((تفسير القرطبي)) (19/47)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/524)، ((تفسير ابن كثير)) (8/256)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/21)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/271). قال ابنُ عاشور: (المرادُ: الرَّجفُ المتكَرِّرُ المستَمِرُّ، وهو الَّذي يكونُ به انفراطُ أجزاءِ الأرضِ وانحلالُها). ((تفسير ابن عاشور)) (29/271). .
كما قال تعالى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الحاقة: 14، 15].
وقال سُبحانَه: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا [الفجر: 21].
وقال الله عزَّ وجلَّ: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا [الزلزلة: 1، 2].
وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا.
أي: وتصيرُ الجِبالُ رَمْلًا مجتَمِعًا مُنصَبًّا رِخْوًا مُتناثِرًا [120] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/385)، ((تفسير القرطبي)) (19/47)، ((تفسير ابن كثير)) (8/256)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/21-23)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/272). .
كما قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [طه: 105 - 107].
وقال سُبحانَه: وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ [المرسلات: 10] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا جَمَع الله سُبحانَه كلَّ ما يُحتاجُ إليه مِن كيفيَّةِ المُعامَلةِ معَ الخَلْقِ في هاتينِ الكَلِمتَينِ؛ وذلك لأنَّ الإنسانَ إمَّا أن يكونَ مخالِطًا للنَّاسِ، أو مجانِبًا عنهم؛ فإنْ خالطَهم فلا بدَّ له مِن المصابَرةِ على إيذائِهم وإيحاشِهم، فإنَّه إنْ كان يطمَعُ منهم في الخَيرِ والرَّاحةِ لم يجِدْ، فيَقَعُ في الغُمومِ والأحزانِ، فثَبَت أنَّ مَن أراد مُخالَطةً مع الخَلْقِ فلا بُدَّ له مِن الصَّبرِ الكثيرِ، فأمَّا إن ترَكَ المخالطةَ فذاك هو الهَجرُ الجَميلُ؛ فثَبتَ أنَّه لا بُدَّ لكُلِّ إنسانٍ مِن أحَدِ هذَينِ الأمْرَينِ [121] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/689). .
2- قال اللهُ تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا فيه بِشارةٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالبقاءِ بعدَ أخْذِهم كما كان، وأنَّه ليس محتاجًا في أمرِهم إلى غيرِ وَكْلِهم إليه سُبحانَه وتعالى بإلقائِهم عن بالِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتفريغِ ظاهِرِه وباطِنِه لِما هو مأمورٌ به مِنَ الله سُبحانَه وتعالى مِن الإقبالِ على اللهِ سُبحانَه؛ ففي الآيةِ أنَّ مَن اشتَغَل بعَدُوِّه وَكَلَه اللهُ إلى نَفْسِه، فكان ذلك كالمانعِ مِن أخْذِ اللهِ له، فإذا توكَّلَ عليه فقد أزال ذلك المانِعَ [122] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/19). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا الهجْرُ الجَميلُ: هو الَّذي يَقتصِرُ صاحبُه على حَقيقةِ الهجْرِ، وهو ترْكُ المُخالَطةِ فلا يَقرِنُها بجَفاءٍ آخَرَ أو أذًى، ولَمَّا كان الهجْرُ يَنشَأُ عن بُغضِ المهجورِ، أو كَراهيةِ أعمالِه؛ كان مُعرَّضًا لأنْ يَتعلَّقَ به أذًى؛ مِن سَبٍّ، أو ضرْبٍ، أو نحْوِ ذلك، فأمَرَ اللهُ رسولَه بهَجْرِ المشرِكين هجْرًا جَميلًا، أي: أنْ يَهجُرَهم ولا يَزيدَ على هَجْرِهم سبًّا أو انتقامًا [123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/268، 269). .
2- الهجرُ الشَّرعيُّ نَوعانِ:
الأوَّلُ: هجرُ تَركٍ، وقد دلَّ عليه قولُه تعالى: وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا، وقولُه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء: 140] . فهذا يُرادُ به أنَّه لا يَشهَدُ المُنكَراتِ لغيرِ حاجةٍ، مثلَ قومٍ يَشرَبونَ الخمرَ يَجلِسُ عندَهم، وقومٍ دَعَوْا إلى وليمةٍ فيها خمرٌ وزَمرٌ لا يُجيبُ دعوتَهم، وأمثال ذلك. بخِلافِ مَن حضَر عندَهم للإنكارِ عليهم، أو حضر بغيرِ اختيارِه. ومِن هذا البابِ: هِجرةُ المسلمِ مِن دارِ الحربِ. فالمقصودُ بهذا أن يَهجُرَ المسلمُ السَّيِّئاتِ، ويَهجُرَ قُرناءَ السُّوءِ الَّذين تَضُرُّه صُحبتُهم، إلَّا لحاجةٍ، أو مصلحةٍ راجحةٍ.
الثَّاني: هجرةٌ بمعنى العقوبةِ والتَّعزيرِ على وجهِ التَّأديبِ، وهو هَجْرُ مَن يُظهِرُ المُنكَراتِ، فيُهجَرُ حتَّى يَتوبَ منها، مِثلُ هجرِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابِه الثَّلاثةَ الَّذين خُلِّفوا، وذلك حينَ ظهَر منهم تركُ الجهادِ المُتعيِّنِ عليهم بغيرِ عذرٍ [124] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/216). ويُنظر ما أخرجه البخاريُّ (4418)، ومسلمٌ (2769) من حديث كعبِ بنِ مالكٍ رضيَ الله عنه. .
3- قال اللهُ تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا جَعْلُهم ذَوي النَّعمةِ للإشارةِ إلى أنَّ قُصارَى حَظِّهم في هذه الحياةِ هي النَّعمةُ -أي: الانطلاقُ في العَيشِ بلا ضيقٍ، والاستِظلالُ بالبيوتِ والجنَّاتِ، والإقبالُ على لَذيذِ الطُّعومِ، ولَذائذِ الانبساطِ إلى النِّساءِ والخمْرِ والمَيسرِ- وهم مُعرِضون عن كَمالاتِ النَّفْسِ، ولَذَّةِ الاهتداءِ والمعرفةِ؛ قال تعالَى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [125] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/270). [الفرقان: 44] .
4- بيَّن الله جلَّ وعلا الأحوالَ الَّتي تصيرُ إليها الجبالُ يومَ القيامةِ في آياتٍ مِن كتابِه:
فبيَّن أنَّه يَنزِعُها مِن أماكِنِها، ويَحمِلُها فيَدُكُّها دَكًّا، وذلك في قولِه: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [الحاقة: 13، 14].
ثمَّ بيَّن أنَّه يُسَيِّرُها في الهواءِ بيْن السَّماءِ والأرضِ، وذلك في قولِه تبارك وتعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً الآيةَ [الكهف: 47]، وقولِه عزَّ وجلَّ: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير: 3] ، وقولِه تعالى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ: 20] ، وقولِه تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور: 9، 10].
ثمَّ بيَّن أنَّه يُفتِّتُها ويَدُقُّها، كقولِه: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا [الواقعة: 5].
وبيَّن أنَّه يَنسِفُها نَسْفًا في قولِه تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه: 105] .
ثمَّ بيَّن أنَّه يُصَيِّرُها كالرَّملِ المُتهايِلِ، وكالعِهْنِ المَنفوشِ، وذلك في قولِه: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا، وقولِه تعالى: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [المعارج: 8، 9].
ثمَّ بيَّن أنَّها تصيرُ كالهباءِ المُنْبَثِّ، في قولِه: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة: 5، 6].
ثمَّ بيَّن أنَّها تصيرُ سَرابًا، وذلك في قولِه عزَّ وجلَّ: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ: 20] ، وقد بيَّن في موضعٍ آخَرَ أنَّ السَّرابَ لا شيءَ، وذلك قولُه تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [126] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/97). [النور: 39] .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا
- ضَميرُ يَقُولُونَ عائدٌ إلى المشركينَ، ولم يَتقدَّمْ له مُعادٌ، فهو مِن الضَّمائرِ الَّتي استُغْنِيَ عن ذِكرِ مُعادِها بأنَّه مَعلومٌ للسَّامِعينَ، ولأنَّه سَيَأتي عَقِبَه قولُه: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: 11] ، فيُبيِّنُ المرادَ مِن الضَّميرِ [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/268). .
- ومُناسَبةُ أمْرِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم بالصَّبرِ هنا: أنَّه قدْ مَضَى في السُّورِ الَّتي نَزَلَت قبْلَ سُورةِ (المُزمِّلِ) مَقالاتُ أذًى مِن المُشركين لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ففي سُورةِ (العلَقِ) [9، 10]: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى، وفيها: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6، 7]، وفي سُورةِ (القلَمِ) [2 - 15]: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ إلى قولِه: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ، وقولِه: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ إلى قولِه: قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ رَدًّا لمَقالاتِهم، وفي سُورةِ المدَّثِّرِ [11-25] -إنْ كانت نزَلَت قبْلَ سُورةِ المزمِّلِ- ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا إلى قولِه: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ؛ فلذلك أمَرَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالصَّبرِ على ما يقولونَ [128] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/268). .
2- قولُه تعالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا مِن بابِ الكِنايةِ، قَريبٌ مِن نحْوِ قولِك: لا أَرَيَنَّك هاهنا، يعني: أنَّه تعالَى أنْهَى إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه طَلَبَ منْعَه أنْ يُوقِعَ بالمُكذِّبِين، وأنَّه صَلواتُ اللهِ عليه ما طَلَبَ المنْعَ، بلْ شُوهِدَ منه ما نُزِّلَ مَنزِلةَ المنْعِ؛ مِن تَرْكِ الاستكفاءِ، وتَفويضِ الأمْرِ إليه تعالَى، المعْنى: ما لَكَ لا تَستكْفِينِيه، ولا تُفوِّضُ أمْرَك إلَيَّ حتَّى أستَكْفِيَكَه وأنْتقِمَ لكَ منه؟ ويَجوزُ أنْ يكونَ مِن بابِ التَّهييجِ والالتِفاتِ [129] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/640)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/97)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/269). .
- والمُكذِّبون همْ مَن عَناهم بضَميرِ يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ [المزمل: 10]، وهم المُكذِّبون للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أهلِ مكَّةَ؛ فهو إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لإفادةِ أنَّ التَّكذيبَ هو سَببُ هذا التَّهديدِ [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/269). .
- ووَصَفَ المُكذِّبين بوَصْفِ أُولِي النَّعْمَةِ تَوبيخًا لهم بأنَّهم كذَّبوا لغُرورِهم وبَطَرِهم بسَعةِ حالِهم، وتَهديدًا لهم بأنَّ الَّذي قال: (ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) سيُزِيلُ عنهم ذلك التَّنعُّمَ. وفي هذا الوصْفِ تَعريضٌ بالتَّهكُّمِ؛ لأنَّهم كانوا يَعُدُّون سَعةَ العيشِ ووَفرةَ المالِ كَمالًا، وكانوا يُعيِّرون الَّذين آمَنوا بالخَصاصةِ؛ قال تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ الآياتِ [المطففين: 29، 30]، وقال تعالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/269، 270). [محمد: 12].
- قولُه: وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا وَعيدٌ لهم بسُرعةِ الانتقامِ منهم [132] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/316). . وهو مُترتِّبٌ في المعْنى على قولِه: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ، أي: وانتظِرْ أنْ نَنتصِرَ لك. وقَلِيلًا وصْفٌ لمَصدرٍ مَحذوفٍ، أي: تَمهيلًا قليلًا [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/270). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا تَعليلٌ لجُملةِ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: 11] ، أي: لأنَّ لَدَيْنا ما هو أشدُّ عليهم مِن رَدِّك عليهم، وهذا التَّعليلُ أفادَ تَهديدَهم بأنَّ هذه النِّقمَ أُعِدَّت لهم؛ لأنَّها لَمَّا كانتْ مِن خَزائنِ نِقمةِ اللهِ تعالَى كانتْ بحيثُ يَضَعُها اللهُ في المواضِعِ المُستأْهِلةِ لها، وهمُ الَّذين بدَّلوا نِعمةَ اللهِ كُفرًا، فأعَدَّ اللهُ لهم ما يكونُ عليهم في الحَياةِ الأبَديَّةِ ضِدًّا لأُصولِ النَّعمةِ الَّتي خُوِّلوها، فبَطِروا بها، وقابَلَوا المُنعِمَ بالكُفْرانِ؛ فالأنكالُ مُقابِلُ كُفرانِهم بنِعمةِ الصِّحَّةِ والمَقدِرةِ؛ لأنَّ الأنكالَ القُيودُ، والجحيمُ -وهو نارُ جَهنَّمَ- مُقابِلُ ما كانُوا عليه مِن لَذَّةِ الاستظلالِ والتَّبرُّدِ، والطَّعامُ ذُو الغُصَّةِ مُقابِلُ ما كانُوا مُنهمِكين فيه مِن أطعِمتِهم الهَنيئةِ؛ مِن الثَّمراتِ والمَطبوخاتِ والصَّيدِ، والعذابُ الأليمُ مُقابِلُ ما في النِّعمةِ مِن مَلاذِّ البشرِ، وقدْ جَمَعَ الأخيرُ جَميعَ ما يُضادُّ معْنى النَّعمةِ [134] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/51)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/271). .
- وتَنكيرُ هذه الأجناسِ الأربعةِ أَنْكَالًا، وَجَحِيمًا، وَطَعَامًا، وَعَذَابًا؛ لقصْدِ تَعظيمِها وتَهويلِها [135] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/271). .
4- قولُه تعالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا
- قولُه: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ يَوْمَ تَرْجُفُ يَتعلَّقُ بالاستِقرارِ الَّذي يتَضمَّنُه خبرُ (إنَّ) في قولِه: إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا. وقيلَ: هو مُتعلِّقٌ بمُضمَرٍ محذوفٍ، هو صِفةٌ لـ (عَذَابًا)، أي: عذابًا واقعًا يومَ ترجُفُ [136] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/52)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/271)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/262). .
- وجِيءَ بفِعلِ (كانت) في قولِه: وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا؛ للإشارةِ إلى تَحقيقِ وُقوعِه حتَّى كأنَّه وَقَعَ في الماضي. ووَجْهُ مُخالَفتِه لأُسلوبِ تَرْجُفُ أنَّ صَيرورةَ الجبالِ كُثبًا أمْرٌ عَجيبٌ غيرُ مُعتادٍ، فلَعلَّه يَستبْعِدُه السَّامعونَ، وأمَّا رَجْفُ الأرضِ فهو مَعروفٌ، إلَّا أنَّ هذا الرَّجفَ الموعودَ به أعظَمُ ما عُرِفَ مِن جِنسِه [137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/272). .