موسوعة التفسير

سورةُ الفُرقانِ
الآيات (41-44)

ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ

غريب الكلمات:

هَوَاهُ: أي: ما تَميلُ إليه نفْسُه، والهَوى: مَيلُ النَّفسِ إلى الشَّهوةِ، قيل: سُمِّي بذلك؛ لأنَّه يَهوِي بصاحِبِه في الدُّنيا إلى كلِّ داهيةٍ، وفي الآخرةِ إلى الهاويةِ [605] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 134)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/16)، ((المفردات)) للراغب (ص: 849)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 91). .
وَكِيلًا: أي: مانِعًا وحافِظًا، وأصلُ (وكل): يدُلُّ على اعتمادِ غَيرِك في أمرِك [606] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 313)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/136)، ((المفردات)) للراغب (ص: 882)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 206). .

المعنى الإجمالي:

يخبِرُ الله تعالى عن استِهزاءِ المشركينَ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وما كانوا يقولونَه عندَ رؤيتِهم له، فيقولُ تعالى: وإذا رآك -يا محمَّدُ- كُفَّارُ قرَيشٍ، يَسخَرون منك، ويَستَهزِئون بك، قائِلينَ: أهذا الذي يزعُمُ أنَّ اللهَ أرسلَه إلينا رَسولًا؟! لقد أوشَكَ أن يَصرِفَنا عن عبادةِ أصنامِنا لولا أن تمسَّكْنا بها وردَدْنا دعوتَه. ثمَّ يقولُ الله تعالى مهدِّدًا لهم: وسوف يعلَمُ هؤلاء الكُفَّارُ حينَ يرَونَ العذابَ مَن أبعَدُ طريقًا عن الحَقِّ، أهُم أمْ أنت؟!
ثمَّ يقولُ تعالى مسلِّيًا نبيَّه، ومبَيِّنًا حقيقةَ حالِ هؤلاء المشركينَ: أرأيتَ -يا محمَّدُ- مَنِ اتَّبَع هواهُ وانقاد له، أفأنت تكونُ عليه حَفيظًا؛ تمنَعُه مِنَ الضَّلالِ، وتَهديه إلى الحَقِّ؟! بل أتظُنُّ أنَّ أكثَرَ هؤلاء المُشرِكين يَسمَعون ما تُرشِدُهم إليه سماعَ تدَبُّرٍ وتعَقُّلٍ، أو يَعقِلونَه، حتى تطمَعَ في إيمانِهم؟! كلَّا، إنَّهم ليسوا كذلك؛ فما هؤلاء المُشرِكون في عدَمِ انتفاعِهم بما يقرَعُ قلوبَهم وأسماعَهم إلَّا كالبهائِمِ، بل هم أسوأُ حالًا منهم!

تفسير الآيات:

وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّنَ سُبحانَه مُبالَغةَ المُشرِكين في إنكارِ نبوَّتِه، وفي إيرادِ الشُّبُهاتِ في ذلك؛ بَيَّنَ بعْدَ ذلك أنَّهم إذا رأوُا الرسولَ اتَّخَذوه هُزُوًا، فلم يقتَصِروا على ترْكِ الإيمانِ به، بل زادوا عليه بالاستِهزاءِ والاستِحقارِ [607] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/461). .
وأيضًا فإنَّ ما تقَدَّمتْ حكايتُه مِن صنوفِ أذاهم الرسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كانت أقوالًا في مَغيبِه، فعَطَفَ عليها في هذه الآيةِ أذًى خاصًّا، وهو الأذَى حينَ يرَونَه [608] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/31). .
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا.
أي: وإذا رآك -يا محمَّدُ- كُفَّارُ قُرَيشٍ، لا يتَّخِذونَك إلَّا سُخريةً، فهم دائِبونَ على الاستِهزاءِ والسُّخريةِ بك [609] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/458)، ((تفسير ابن كثير)) (6/113)، ((تفسير السعدي)) (ص: 583)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/32). .
أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا.
أي: ويقولُ كُفَّارُ قُرَيشٍ احتقارًا للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: أهذا الذي يزعُمُ أنَّ اللهَ أرسَلَه إلينا رسولًا مِن بينِ خَلقِه [610] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/483)، ((تفسير ابن جرير)) (17/458)، ((تفسير القرطبي)) (13/35)، ((تفسير ابن كثير)) (6/113)، ((تفسير السعدي)) (ص: 583). قال السعدي: (وقالوا -على وجه الاحتقارِ والاستصغارِ-: أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا أي: غيرُ مناسبٍ ولا لائقٍ أن يبعَثَ الله هذا الرجُلَ! وهذا مِن شِدَّةِ ظُلمِهم وعنادِهم وقَلبِهم الحقائِقَ؛ فإنَّ كلامَهم هذا يُفهِمُ أنَّ الرَّسولَ -حاشاه- في غايةِ الخِسَّةِ والحقارةِ، وأنَّه لو كانت الرِّسالةُ لغيره لكان أنسَبَ!). ((تفسير السعدي)) (ص: 583). ؟!
كما قال تعالى: وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ [الأنبياء: 36] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] .
وقال سُبحانَه حاكيًا قولَهم: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [ص: 8] .
إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا.
إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا.
أي: يقولُ كُفَّارُ قُرَيشٍ: لقد أوشَكَ هذا الرَّسولُ أن يَصرِفَنا ويَصُدَّنا عن عبادةِ أصنامِنا بحُجَجِه وأدِلَّتِه، لولا أن ثبَتْنا على عبادةِ آلهتِنا فتمسَّكْنا بها ولم نَقبَلْ دَعْوتَه [611] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/458)، ((تفسير الماتريدي)) (8/28)، ((تفسير ابن كثير)) (6/113)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/391، 392)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/33). !
كما قال تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ [ص: 6، 7].
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا وَصفُوه بالإضلالِ في قَولِهم: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا؛ بَيَّن تعالى أنَّه سيَظهَرُ لهم مَنِ المُضِلُّ ومَنِ الضَّالُّ عندَ مُشاهَدةِ العذابِ الذي لا مَخلَصَ لهم منه، فقال [612] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (14/539). :
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا.
أي: وسوف يعلَمُ الكُفَّارُ حين يرَونَ عذابَ اللهِ النَّازِلَ بهم [613] قيل: المرادُ: عذابُ الآخرةِ. وممَّن قال بهذا: مقاتلُ بن سليمان، وابن أبي زمنين، والواحدي، وابن الجوزي، وجلال الدين المحلي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/235)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/261)، ((الوسيط)) للواحدي (3/341)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/322)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 475)، ((تفسير الشوكاني)) (4/90). وقيل: المرادُ به: ما وقع لهم يومَ بدرٍ. وممَّن قال بهذا: القرطبيُّ، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/35)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/34). قال ابن عاشور: (الأظهرُ أنَّ المرادَ عذابُ السَّيفِ النازِلُ بهم يومَ بدرٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/34). وقيل: يرونَ العذابَ في الدُّنيا والآخرةِ. وممَّن قال بذلك: البقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (13/392). وقيل: يرون العذابَ في الآخرةِ وعندَ الموتِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 170). مَن أخطأَ طريقَ الهُدى: هم أم محمَّدٌ الذي دعاهم إلى توحيدِ اللهِ [614] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/458)، ((الوسيط)) للواحدي (3/341)، ((تفسير القرطبي)) (13/35)، ((تفسير الألوسي)) (10/23، 24)، ((تفسير السعدي)) (ص: 584). ؟!
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا.
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ.
أي: أرأيتَ -يا مُحمَّدُ- مَنِ اتَّبعَ هواه، وانقاد إليه وأطاعَه [615] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/459)، ((تفسير الزمخشري)) (3/282)، ((تفسير ابن عطية)) (4/212)، ((تفسير القرطبي)) (13/35)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/592)، ((تفسير ابن كثير)) (6/113)، ((تفسير السعدي)) (ص: 584)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/35)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/58). قال ابنُ تيميَّةَ: (أَتْبَاعُ الهوى دَرَجاتٌ: فمنهم المُشرِكون والذين يَعبُدون مِن دونِ اللهِ ما يَستحسِنون بلا عِلمٍ ولا بُرهانٍ، كما قال: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان: 43]، أي: يتَّخِذُ إلهَه الذي يعبُدُه وهو ما يهواه من آلهةٍ، ولم يقُلْ: إنَّ هواه نفْسُ إلهِه، فليس كلُّ مَن يهوى شيئًا يَعبُده؛ فإنَّ الهوى أقسامٌ، بل المرادُ: أنَّه جعَلَ المعبودَ الذي يعبُدُه هو ما يهواه، فكانت عبادتُه تابعةً لهوى نفْسِه في العبادةِ؛ فإنَّه لم يَعبُدْ ما يجِبُ أن يُعبَدَ، ولا عبَدَ العبادةَ التي أُمِرَ بها. وهذه حالُ «أهلِ البدَعِ»؛ فإنَّهم عبَدوا غيرَ الله، وابتَدَعوا عباداتٍ زَعَموا أنَّهم يَعبُدون الله بها!). ((مجموع الفتاوى)) (10/592). وقال البقاعي: (أي: أنَّهم حقَّروا الإلهَ بإنزاله إلى رتبةِ الهوى، فهم لا يَعبُدون إلَّا الهوى، وهو مَيلُ الشهوةِ، ورميُ النفْسِ إلى الشَّيءِ، لا شبهةَ لهم أصلًا في عبادةِ الأصنام يرجِعون عنها إذا جَلَت، فهم لا يَنفكُّون عن عبادتِها ما دام هواهم موجودًا... فالمعنى: أنَّ هذا المذمومَ قصَر نفْسَه على تألُّهِ الهوى، فلا صلاحَ له ولا رشادَ، وقد يتألَّهُ لهوَى غيرِه. ولو قيل: مَنِ اتخذَ هواه إلهَه؛ لكان المعنى أنَّه قصَر هواه على الإلهِ، فلا غَيَّ له؛ لأنَّ هواه تابِعٌ لأمرِ الإلهِ، وقد يُشاركُه في تألُّهِ الإلهِ غيرُه. قال أبو حيَّان: والمعنى أنَّه لم يتخِذْ إلهًا إلَّا هواه. انتهى. فلو عُكِس لقيل: لم يتَّخِذ هوًى إلَّا إلهَه، وهو إذا فعل ذلك فقد سلَبَ نفْسَه الهوى فلم يعمَلْ به إلَّا فيما وافَقَ أمرَ إلهِه، ومما يوضِّحُ لك انعكاسَ المعنى بالتقديمِ والتأخيرِ أنَّك لو قلتَ: فلانٌ اتَّخَذ عبدَه أباه؛ لكان معناه أنَّه عظَّم العبدَ، ولو قيل: إنه اتَّخَذ أباه عبدَه؛ لكان معناه أنَّه أهان الأبَ، وسواءٌ في ذلك إتيانُك به هكذا على وِزانِ ما في القرآنِ أو نكَّرْت أحدَهما، فإنَّك لا تجِدُ ذَوقَك فيه يختلِفُ في أنه إذا قدَّم الحقيرَ شَرَّفه، وإذا قدَّم الشريفَ حَقَّره، وكذا لو قلتَ: اتَّخَذ إصطبلَه مَسجِدًا، أو صديقه أبًا، أو عكسْتَ، ولو كان التقديمُ بمجرَّدِ العنايةِ مِن غيرِ اختلافٍ في الدَّلالةِ قُدِّم في «الجاثية» الهوى؛ فإنَّ السياقَ والسباقَ له، وحاصِلُ المعنى أنَّه اضمحلَّ وَصفُ الإلهِ، ولم يبقَ إلا الهوى، فلو قُدِّم الهوى لكان المعنى أنَّه زال وغَلَبت عليه صِفةُ الإلهِ، ولم يكُنْ ينظُرُ إلَّا إليه، ولا حُكمَ إلَّا له، كما في الطينِ بالنسبة إلى الخَزفِ سواءٌ، والله أعلم). ((نظم الدرر)) (13/392-394). وقال ابن عاشور: (قوله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ إذا أُجرِيَ على الترتيب كان معناه: جعَلَ إلهَه الشيءَ الذي يهوى عبادتَه، أي: ما يُحبُّ أن يكونَ إلهًا له، أي: لمجرَّدِ الشهوةِ، لا لأنَّ إلهَه مستحِقٌّ للإلهيَّةِ، فالمعنى: مَن اتَّخَذ ربًّا له محبوبَه؛ فإن الذين عبدوا الأصنامَ كانت شهوتُهم في أن يعبدوها، وليست لهم حُجَّةٌ على استِحقاقِها العبادةَ. فإطلاقُ إلهِه على هذا الوجهِ إطلاقٌ حقيقيٌّ. وهذا يناسِبُ قَولَه قبْلَه: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا [الفرقان: 42] ...، وإذا أُجريَ على اعتبار تقديمِ المفعولِ الثاني كان المعنى: مَنِ اتَّخَذ هواه قدوةً له في أعمالِه، لا يأتي عملًا إلَّا إذا كان وِفاقًا لشهوتِه؛ فكأنَّ هواه إلهَه ... وهذا المعنى أشمَلُ في الذمِّ؛ لأنَّه يشمَلُ عبادتَهم الأصنامَ، ويشملُ غيرَ ذلك مِن المنكَراتِ والفواحشِ مِن أفعالِهم. ونحا إليه ابنُ عباس، وإلى هذا المعنى ذهب صاحِبُ «الكشاف»، وابنُ عطية. وكِلا المعنيينِ يَنبغي أن يكونَ مَحملًا للآية). ((تفسير ابن عاشور)) (19/35). وقال ابن عثيمين: (الصوابُ أنَّ الآية على ظاهرها، وأنَّ الإلهَ هو الهوى، ومعنى ذلك: أنَّه جعل المتبوعَ الهوى، وكونُ الإنسان يتبَعُ غيرَه، سواءٌ هوى نفْسِه أو كونُه يتبَعُ غَيرَه، هذا مِن اتخاذِه إلهًا... فإذَنْ نقولُ: الآيةُ على ظاهرِها، يعني: أنَّ الإلهَ هو الهوى نفْسُه، والهوى يقودُه إلى عبادة الشجَرِ والحجَرِ، ويقودُه إلى استحلالِ الزنا، وإلى استحلالِ الرِّبا، وإلى غيرِ ذلك؛ فعليه الأَولى جَعْلُ الآيةِ على ظاهرِها، وألَّا تُصرَفَ إلى المعبودِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 176). وقال الماوَرْديُّ: (قولُه تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ فيه ثلاثةُ أقاويلَ: أحدُها: أنَّهم قَومٌ كان الرجُلُ منهم يَعبُدُ حجَرًا يَستحسِنُه، فإذا رأى أحسَنَ منه عبَدَه وترَك الأوَّلَ. قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثَّاني: أنَّه الحارثُ بنُ قَيسٍ، كان إذا هوى شيئًا عبَدَه. حكاه النقاشُ.    الثَّالثُ: أنَّه الذي يتَّبعُ هواه في كلِّ ما دعا إليه. قاله الحسَنُ، وقَتادةُ). ((تفسير الماوردي)) (4/146). ؟!
كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23] .
أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا.
أي: أفأنت -يا مُحمَّدُ- تكونُ على مَنِ اتَّبع هواه حَفيظًا تمنَعُه مِن الضَّلالِ، وتَهديه إلى الحَقِّ؟! كلَّا؛ فليست الهدايةُ والضَّلالةُ موكولتَينِ إليك، وإنَّما عليك البلاغُ [616] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/459)، ((تفسير القرطبي)) (13/36)، ((تفسير البيضاوي)) (4/125)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/59). .
كما قال تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [النحل: 37] .
وقال سُبحانَه: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر: 8] .
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا.
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ.
أي: بل [617] قال الشنقيطي: (أَمْ في هذه الآيةِ الكريمةِ هي المنقَطِعةُ، وأشهَرُ معانيها أنَّها جامعةٌ بين معنى «بل» الإضرابيَّةِ، واستفهامِ الإنكار معًا، والإضرابُ المدلولُ عليه بها هنا إضرابٌ انتقاليٌّ. والمعنى: بل أتحسَبُ أنَّ أكثَرَهم يسمَعون أو يَعقِلون؟! أي: لا تعتَقِدْ ذلك ولا تظُنَّه؛ فإنَّهم لا يسمعون الحَقَّ ولا يعقِلونَه، أي: لا يُدرِكونه بعُقولِهم). ((أضواء البيان)) (6/59). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 180). أتظُنُّ -يا مُحمَّدُ- أنَّ أكثَرَ هؤلاء المُشرِكين يَسمَعون الحَقَّ أو يَعقِلونَه، حتى تطمَعَ في إيمانِهم؟! فليسوا كذلك [618] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/459، 460)، ((تفسير القرطبي)) (13/36)، ((تفسير الشوكاني)) (4/90)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/59)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 180-182). قال القرطبي: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ سماعَ قَبولٍ، أو يفكِّرون فيما تقولُ فيعقلونه؛ أي: هُم بمنزلةِ مَن لا يعقلُ ولا يسمعُ. وقيل: المعنى: أنَّهم لمَّا لم يَنتفعوا بما يَسمعون فكأنَّهم لم يَسْمعوا). ((تفسير القرطبي)) (13/36). وقال ابن عاشور: (المرادُ مِن نفيِ أنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ نفيُ أثرِ السماعِ، وهو فَهْمُ الحقِّ؛ لأنَّ ما يُلقيه إليهم الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَرتابُ فيه إلَّا مَن هو كالذي لم يسمعْه، وهذا كقولِه تعالى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل: 80] ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/37). .
كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 10، 11].
إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا.
أي: ما المُشرِكون إلَّا كالبهائِمِ، بل هم أسوأُ حالًا منهم [619] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/460)، ((تفسير البغوي)) (3/447)، ((تفسير القرطبي)) (13/36)، ((تفسير ابن كثير)) (6/113)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/59). !
كما قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179].
وقال سُبحانَه: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 22، 23].
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنفال: 55].
وقال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد: 12] .
وقال جلَّ جلالُه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة: 6] .

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ والواجِبُ الذي يلزَمُ العمَلُ به: هو أن تكونَ جَميعُ أفعالِ المكَلَّفِ مُطابِقةً لِما أمَرَه به معبودُه جَلَّ وعلا، فإذا كانت جميعُ أفعالِه تابعةً لِما يَهواه، فقد صرفَ جميعَ ما يستحِقُّه عليه خالِقُه من العبادةِ والطاعةِ إلى هواه [620] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/58). .
2- أصلُ الطريقِ هو الإرادةُ والقَصدُ والعملُ، وذلك يَتضمَّنُ الحُبَّ، وكثيرًا ما يَعمَلُ السالكُ بمُقتضى ما يَجِدُه في قَلبِه مِنَ المَحبَّةِ، وما يُدرِكُه بذَوقِه مِن طَعمِ العِبادةِ، وهذا إذا لم يكُنْ موافِقًا لأمرِ الله ورسولِه فصاحِبُه في ضَلالٍ، وهو مِمَّنِ اتَّبَع هواه، قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان: 43] ، وقال: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50] ؛ فجَعَل كلَّما خالَفَ الأمرَ فصاحِبُه مُتَّبِعٌ هواه، فما ثَمَّ واسِطةٌ، بل إمَّا الأمرُ وإمَّا الهوى [621] يُنظر: ((الكلام على مسألة السماع)) لابن القيم (1/162). .
3- قال الله تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا جعَلَ الأكثرينَ أضَلَّ سبيلًا مِنَ الأنعامِ؛ لأنَّ البهيمةَ يَهديها سائقُها فتَهْتدي وتَتَّبِعُ الطَّريقَ، فلا تَحيدُ عنها يمينًا ولا شِمالًا، والأكثرونَ يَدْعوهم الرسُلُ ويَهْدونهم السَّبيلَ فلا يَستجيبونَ ولا يَهتدونَ، ولا يُفَرِّقون بيْن ما يَضُرُّهم وبيْن ما يَنفَعُهم، والأنعامُ تُفَرِّقُ بيْن ما يَضُرُّها مِن النَّباتِ والطَّريقِ فتَجتنِبُه، وما يَنفَعُها فتُؤْثِرُه، واللهُ تعالى لم يَخلُقْ للأنعامِ قُلوبًا تَعقِلُ بها، ولا أَلْسِنةً تَنطِقُ بها، وأَعطى اللهُ ذلك لهؤلاء، ثمَّ لمْ يَنتفِعوا بما جعل لهم مِن العقولِ والقلوبِ والألْسِنةِ والأسماعِ والأبصارِ؛ فهُم أضَلُّ من البهائم، فإنَّ مَن لا يَهتدي إلى الرُّشْدِ وإلى الطَّريقِ -مع الدَّليلِ إليه- أضَلُّ وأسْوَأُ حالًا مِمَّن لا يَهتدي حيثُ لا دليلَ معه [622] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/122). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أخبَرَ عن المشركين أنَّهم متى رأوُا الرسولَ أتَوا بنوعَينِ مِن الأفعالِ:
أحدُهما: أنَّهم يَستهزئون به، وفسَّرَ ذلك الاستهزاءَ بقَولِه: أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا، وذلك جهلٌ عَظيمٌ؛ لأنَّ الاستهزاءَ إمَّا أن يقعَ بصورتِه أو بصِفتِه: أمَّا الأولُ فباطِلٌ؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان أحسَنَ منهم صورةً وخِلقةً، وبتقديرِ أنَّه لم يكُنْ كذلك لكنَّه عليه السَّلامُ ما كان يدَّعي التمييزَ عنهم بالصورةِ بل بالحُجَّةِ. وأمَّا الثَّاني فباطِلٌ؛ لأنَّه عليه السَّلامُ ادَّعى التميُّزَ عنهم في ظهورِ المعجِزِ عليه دونَهم، وأنَّهم ما قدَروا على القَدحِ في حُجَّتِه ودَلالتِه، ففي الحقيقةِ هم الذين يستحقُّون أن يُهزأَ بهم، ثم إنَّهم لوقاحتِهم قلبوا القضيَّةَ، واستَهزؤوا بالرَّسولِ عليه السلام، وذلك يدُلُّ على أنه ليس للمُبطِلِ في كلِّ الأوقاتِ إلَّا السفاهةُ والوقاحةُ.
وثانيهما: أنَّهم كانوا يقولون فيه: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا، وذلك يدُلُّ على أمورٍ:
الأوَّل: أنَّهم سَمَّوا ذلك إضلالًا، وذلك يدُلُّ على أنَّهم كانوا مُبالِغين في تعظيمِ آلهتِهم، وفي استعظامِ صَنيعِه صلَّى الله عليه وسلَّم في صَرفِهم عنه، وذلك يدُلُّ على أنَّهم كانوا يعتقدون أنَّ هذا هو الحقُّ، وقولُهم: لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا يدُلُّ أيضًا على ذلك.
الثَّاني: يدُلُّ هذا القَولُ منهم على جِدِّ الرَّسولِ عليه السَّلامُ واجتهادِه في صَرفِهم عن عبادةِ الأوثانِ، ولولا ذلك لَما قالوا: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وهكذا كان عليه السَّلامُ؛ فإنَّه في أوَّلِ الأمرِ بالَغَ في إيرادِ الدَّلائِلِ والجوابِ عن الشُّبُهاتِ، وتحمَّلَ ما كانوا يفعلونَه مِن أنواعِ السَّفاهةِ وسُوءِ الأدَبِ.
الثَّالث: أنَّ هذا يدُلُّ على اعترافِ القَومِ بأنَّهم لم يعتَرِضوا البتَّةَ على دلائِلِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وما عارَضوها إلَّا بمَحضِ الجُحودِ والتقليدِ؛ لأنَّ قَولَهم: لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا إشارةٌ إلى الجُحودِ والتَّقليدِ [623] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/461). .
2- قولُه تعالى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا فيه وعيدٌ ودَلالةٌ على أنَّهم لا يَفوتُونَه وإنْ طالَتْ مدَّةُ الإمهالِ، ولا بدَّ للوعيدِ أن يَلحَقَهم؛ فلا يَغُرَّنَّهمُ التَّأخيرُ [624] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/281)، ((تفسير البيضاوي)) (4/125)، ((تفسير أبي حيان)) (8/109)، ((تفسير أبي السعود)) (6/220). .
3- عبادةُ اللهِ تعالى إنَّما هي بطاعتِه وطاعةِ رُسُلِه، فإذا أمرَ اللهُ على ألْسِنةِ رُسُلِه بشَيءٍ، فعدَلَ عنه العبدُ إلى ما يُحبُّه هو؛ كان عابدًا لهواه، لا عابِدًا للهِ؛ قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [625] يُنظر: ((نظرية العقد)) لابن تيمية (1/7). ، فالآيةُ فيها دَلالةٌ على أنَّ كُلَّ مَن قَدَّمَ هوى نفْسِه على هُدى ربِّه، فهو قد اتَّخذَه إلهًا؛ ولهذا يمكِنُنا أن نقولَ: إنَّ جميعَ المعاصي داخِلةٌ في الشِّركِ بهذا المعنى؛ حيث إنَّه قدَّمَها على مَرضاةِ اللهِ تعالى وطاعتِه، فجَعَلَ هذا شريكًا لله عزَّ وجلَّ في تعبُّدِه له، واتِّباعِه إيَّاه [626] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 136). ، ولا يعني ذلك أنَّ العاصيَ مشركٌ خرَج مِن المِلَّةِ بمعصيتِه.
4- الإنسانُ إذا اعتبَرَ وتعَرَّف نفْسَه والنَّاسَ، رأى الواحِدَ يريدُ نفْسَه أن تُطاعَ وتَعلوَ بحسَبِ الإمكانِ، والنفوسُ مَشحونةٌ بحُبِّ العلُوِّ والرئاسةِ بحسَبِ إمكانِها، فتَجِدُه يوالي مَن يوافِقُه على هواه، ويُعادي مَن يخالِفُه في هواه، وإنَّما معبودُه ما يَهواه ويُريدُه؛ قال الله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [627] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/218). .
5- في قَولِه تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ سؤالٌ: أنَّه سُبحانَه لَمَّا نفى عنهمُ السَّمعَ والعقلَ، فكيف ذَمَّهم على الإعراضِ عن الدِّينِ؟! وكيف بَعَثَ الرسولَ إليهم؛ فإنَّ مِن شرطِ التَّكليفِ العقلَ؟
الجوابُ: ليس المرادُ أنَّهم لا يَعقِلون، بل إنَّهم لا يَنتَفِعون بذلك العَقلِ، فهو كقَولِ الرجُلِ لغيرِه إذا لم يَفهَمْ: إنَّما أنت أعمى وأصَمُّ [628] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/463). !
6- في قَولِه تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا سؤالٌ؛ لِمَ جُعِلوا أضَلَّ مِن الأنعامِ؟
الجوابُ مِن وجوهٍ:
أحدها: أنَّ الأنعامَ تَنقادُ لأربابِها وللَّذي يَعْلِفُها ويَتَعَهَّدُها، وتُمَيِّزُ بيْنَ مَن يُحْسِنُ إليها وبيْن مَن يُسيءُ إليها، وتَطلبُ ما يَنفعُها، وتَجتنبُ ما يضُرُّها، وهؤلاء لا يَنقادون لربِّهم، ولا يُميِّزونَ بيْنَ إحسانِه إليهم، وبيْن إساءةِ الشيطانِ إليهم الذي هو عدوٌّ لهم، ولا يَطلبون الثوابَ الذي هو أعظَمُ المنافعِ، ولا يَحترِزونَ مِن العقابِ الذي هو أعظَمُ المَضارِّ!
ثانيها: أنَّ قلوبَ الأنعامِ كما أنَّها تكونُ خاليةً عن العِلمِ فهي خاليةٌ عن الجهلِ الذي هو اعتِقادُ المعتقَدِ على خلافِ ما هو عليه مع التصميمِ، وأمَّا هؤلاء فقلوبُهم كما خَلَتْ عن العِلمِ فقد اتصفَتْ بالجهلِ؛ فإنَّهم لا يَعلمونَ، ولا يَعلمون أنهم لا يَعلمون، بل هم مُصِرُّون على أنَّهم يَعلمون.
ثالثها: أنَّ عدمَ عِلمِ الأنعامِ لا يَضُرُّ بأحدٍ، أمَّا جهلُ هؤلاء فإنَّه منشأٌ للضررِ العظيمِ؛ لأنَّهم يَصُدُّون الناسَ عن سبيلِ اللهِ، ويبغونها عِوَجًا.
رابعها: أنَّ البهائمَ لا تَستحقُّ عقابًا على عدمِ العِلمِ، أمَّا هؤلاء فإنَّهم يَستحقُّون عليه أعظمَ العقابِ.
خامسها: أنَّ البهائمَ تُسبِّحُ اللهَ تعالى، على ما قال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] ، وقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ إلى قولِه: وَالدَّوَابُّ [الحج: 18] ، وقال: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور: 41] ، وإذا كان كذلك؛ فضلالُ الكفارِ أشَدُّ وأعظَمُ مِن ضلالِ هذه الأنعامِ [629] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/463). .
سادسها: أن البهائمَ لم يَعرفوا، ولم يَكونوا أُعطوا آلهَ المعرفةِ، وأمَّا الكفارُ فلم يَعرفوا وقد أُعطوا آلةَ المعرفةِ؛ فهم أضَلُّ [630] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/22). . والمحرومُ عن طلبِ المراتبِ العاليةِ إذا عَجَزَ عنه لا يكونُ في استحقاقِ الذَّمِّ كالقادر عليه التاركِ له لسوءِ اختيارِه [631] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/463). !
 سابعها: أنَّ البهائمَ لم تُفسِدْ ما لها مِن المعارفِ؛ فإنَّ الله تعالى أعطاها قدْرًا مِن المعارفِ فهي تَستعمِلُها، وأمَّا الكفارُ فقد أفسَدوا ما لهم مِن المعارفِ؛ فهم أضَلُّ وأقَلُّ مِن البهائمِ [632] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/22). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا
- قولُه: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا الوصفُ بـ هُزُوًا للمُبالَغةِ في استِهزائِهم به، حتَّى كأنَّه نفْسُ الهُزُؤِ؛ لأنَّهم مَحَّضُوه لذلك. وإسنادُ يَتَّخِذُونَكَ إلى ضميرِ الجَمعِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ جَماعاتِهم يَستهزِئون به إذا رأَوْه وهُم في مَجالِسِهم ومُنتَدياتِهم. وصِيغةُ الحَصرِ (إنْ... إلَّا)؛ للتَّشنيعِ عليهم بأنَّهمُ انحَصَر اتِّخاذُهم إيَّاه في الاستِهزاءِ به، يُلازِمونه ويَدْأبون عليه، ولا يَخلِطون معه شيئًا مِن تَذكُّرِ أقوالِه ودَعوتِه؛ فالاستِثناءُ مِن عُمومِ الأحوالِ المَنفيَّةِ، أيْ: لا يَتَّخِذونك في حالةٍ إلَّا في حالةِ الاستِهزاءِ [633] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/32). .
- قولُه: أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا مَقُولُ قَولٍ مَحذوفٍ، أي: يَقولون. والإشارةُ بـ (هذا) للاستِحقارِ منهم، وإبرازِ بَعثِ اللهِ رَسولًا في مَعرِضِ التَّسليمِ بجَعْلِه صِلةً للمَوصولِ الَّذي هو صِفَتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع كَونِهم في غايةِ النَّكيرِ لبَعْثِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بطريقِ التَّهكُّمِ والاستِهزاءِ والإنكارِ [634] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/281)، ((تفسير البيضاوي)) (4/125)، ((تفسير أبي حيان)) (8/109)، ((تفسير أبي السعود)) (6/220)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/32). .
2- قوله تعالى: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا
- قولُهم: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا أَسنَدوا مُقاربةَ الإضلالِ إلى الرَّسولِ دُونَ أنفسِهم؛ تَرفُّعًا على أن يَكونوا قارَبوا الضَّلالَ عن آلهتِهم، مع أنَّ مُقارَبَتَه إضلالَهم تَستلزِمُ اقتِرابَهم مِنَ الضَّلالِ [635] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/33). .
- وجوابُ (لولا) في قولِهم: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ ما قَبلَ (لولا) عليه، وهو إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا؛ وفائدةُ نَسجِ الكلامِ على هذا المِنوالِ دُونَ أن يُؤْتَى بأداةِ الشَّرطِ ابتِداءً مَتْلوَّةً بجوابِها: قَصْدُ العِنايةِ والاهتِمامِ بالخَبرِ ابتِداءً بأنَّه حاصِلٌ، ثمَّ يؤْتَى بالشَّرطِ بعْدَه تَقييدًا لإطلاقِ الخَبرِ بعْدَ إطلاقِه [636] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/33، 34). .
- قولُه: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ... هذا جَوابُ قولِهم: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا المُتضمِّنِ أنَّهم على هُدًى في دِينِهم، وكان الجوابُ بقطْعِ مُجادلتِهم، وإحالَتِهم على حينِ رؤْيتِهمُ العذابَ يَنزِلُ بهم، فتَضمَّنَ ذلك وعيدًا بعذابٍ [637] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/281، 282)، ((تفسير البيضاوي)) (4/125)، ((تفسير أبي السعود)) (6/220)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/34). . ولَمَّا كان الجوابُ بالإعراضِ عنِ المُحاجَّةِ عبَّر بأُسلوبِ التَّهكُّمِ، بجعْلِ ما يَنكشِفُ عنه المستقبَلُ هو معرفةَ مَن هو أشدُّ ضلالًا مِنَ الفَريقَينِ، على طريقةِ المُجاراةِ، وإرخاءِ العِنانِ للمُخطئِ إلى أن يَقِفَ على خطَئِه [638] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/34). .
3- قوله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا استِئنافٌ خوطِبَ به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيما يَخطُرُ بنفْسِه مِنَ الحُزنِ على تَكرُّرِ إعراضِهم عن دَعْوتِه؛ إذْ كان حَريصًا على هُداهُم، والإلحاحِ في دَعْوتِهم، فأَعلَمَه بأنَّ مِثلَهم لا يُرجَى اهتداؤُه؛ لأنَّهم جَعَلوا هواهُم إلهَهُم، فالخِطابُ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [639] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/34، 35). .
- وقولُه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ فيه -على قَولٍ- تقديمُ المفعولِ الثَّاني إِلَهَهُ على الأوَّلِ هَوَاهُ؛ للعنايةِ به، والأصلُ: اتَّخَذ الهوَى إلهًا [640] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/282)، ((تفسير البيضاوي)) (4/125)، ((تفسير أبي السعود)) (6/221)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 404)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/19). . وفيه -إلى جانبِ هذه النُّكتةِ- نُكتةٌ ثانيةٌ، وهي إفادةُ الحَصرِ؛ فإنَّ الكلامَ قبْلَ دُخولِ أَرَأَيْتَ مُبتدَأٌ وخَبرٌ، المبتدَأُ (هَوَاهُ) والخبرُ (إِلَهَهُ)، وتَقديمُ الخبرِ -كما علِمْتَ- يُفيدُ الحَصرَ، فكأنَّه قال: أرأيتَ مَن لمْ يتَّخِذْ مَعبودَه إلَّا هَواهُ؛ فهو أبلَغُ في ذمِّه وتَوبيخِه [641] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/19). .
- قولُه أيضًا: اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، أيْ: مَنِ اتَّخَذ هَواه قُدوةً له في أعمالِه، لا يأتي عمَلًا إلَّا إذا كان وِفاقًا لشَهوتِه، فكأنَّ هَواهُ إلِهُه. وعلى هذا يكونُ معنَى إلهِه شبيهًا بإلهِه في إطاعتِه على طريقةِ التَّشبيهِ البَليغِ، وهذا المعنى أَشمَلُ في الذَّمِّ؛ لأنَّه يَشملُ عبادتَهمُ الأصنامَ، ويَشملُ غَيرَ ذلك مِنَ المُنكَراتِ والفَواحشِ مِن أفعالِهم [642] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/35). .
- قولُه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ قيل: الاستِفهامُ للتَّقريرِ، والتَّعجيبِ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن شَناعةِ حالِهم بعْدَ حِكايةِ قَبائِحِهم مِنَ الأقوالِ والأفعالِ، وبيانِ ما لهم مِنَ المَصيرِ والمآلِ، والتَّنبيهِ على أنَّ ذلك مِنَ الغَرابةِ بحيث يَجِبُ أن يُرى ويُتعجَّبَ منه [643] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/125)، ((تفسير أبي حيان)) (8/110)، ((تفسير أبي السعود)) (6/220، 221). .
- قولُه: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا إنكارٌ واستِبعادٌ لكَونِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حفيظًا عليه يَزجُرُه عمَّا هو عليه مِنَ الضَّلالِ، ويُرشِدُه إلى الحقِّ طَوعًا أو كَرهًا. والفاءُ في أَفَأَنْتَ لتَرتيبِ الإنكارِ على ما قبْلَه مِنَ الحالةِ المُوجِبةِ له [644] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/125)، ((تفسير أبي السعود)) (6/221). .
- وإنْ كان مَجموعُ جُملَتَيْ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا كلامًا واحدًا متَّصِلًا ثانيهِ بأوَّلِه اتِّصالَ المفعولِ بعامِلِه؛ تَعيَّنَ فِعلُ «رأيْتَ» لأنْ يَكونَ فِعلًا قلْبيًّا بمعنَى العِلمِ، وكان الاستِفهامُ الَّذي في الجملةِ الأُولى بقولِه: أَرَأَيْتَ إنكاريًّا كالثَّاني في قولِه: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا، وكان مجموعُ الجُملتَينِ كلامًا على طريقةِ الإجمالِ، ثمَّ التَّفصيلِ. والمعنَى: أَرأيْتَكَ تكونُ وَكيلًا على مَنِ اتَّخَذ إلهَه هَواهُ؟ وتكونُ الفاءُ في قولِه: أَفَأَنْتَ فاءَ الجوابِ للمَوصولِ؛ لمُعاملَتِه مُعاملةَ الشَّرطِ، وهمزةُ الاستِفهامِ الثَّانيةُ تأكيدٌ للاستِفهامِ الأوَّلِ، كقولِه: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الإسراء: 49] على قِراءةِ إعادةِ همزةِ الاستِفهامِ، وتَكونُ جُملةُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا عِوَضًا عنِ المفعولِ الثَّاني لفِعلِ أَرَأَيْتَ، والفِعلُ مُعلَّقٌ عنِ العملِ فيه؛ بسببِ الاستِفهامِ، على نحْوِ قولِه تعالى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر: 19] ، وعليه لا يُوقَفُ على قوله: هَوَاهُ، بلْ يوصَلُ الكلامُ. وإنْ كانتْ كلُّ جملةٍ مِنَ الجُملتَينِ مُستقِلَّةً عنِ الأُخرى في نظْمِ الكلامِ، كان الاستِفهامُ الَّذي في الجُملةِ الأُولى مُستعمَلًا في التَّعجيبِ مِن حالِ الَّذين اتَّخَذوا إلهَهم هَواهُم تَعجيبًا مَشوبًا بالإنكارِ، وكانتِ الفاءُ في الجُملةِ الثَّانيةِ للتَّفريعِ على ذلك التَّعجيبِ والإنكارِ، وكان الاستِفهامُ الَّذي في الجُملةِ الثَّانيةِ مِن قَولِه: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا بمعنَى: أنَّك لا تَستطيعُ قَلْعَه عن ضَلالِه، كما أشار إليه قَولُه قبْلَه: مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [645] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/35، 36). [الفرقان: 42] .
- و(مَن) في قَولِه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ صادِقةٌ على الجَمْعِ المُتحدَّثِ عنه في قَولِه: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [الفرقان: 42] ، ورُوعيَ في ضَمائرِ الصِّلةِ لفْظُ (مَن)؛ فأُفرِدَتِ الضَّمائرُ [646] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/36). .
- وفي قَولِه: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا تَقديمُ المُسنَدِ إليه (أَنْت) على الخَبرِ الفِعليِّ؛ للتَّقوِّي؛ إشارةً إلى إنكارِ ما حَمَّل الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ نفْسَه مِنَ الحِرصِ والحُزنِ في طلَبِ إقلاعِهم عنِ الهوَى [647] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/36) . ولَمَّا كان مُرادُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -حِرْصًا عليهم، ورَحمةً لهم- ردَّهُم عنِ الغَيِّ ولا بدَّ؛ عَبَّر بأداةِ الاستِعلاءِ في قَولِه: عَلَيْهِ وَكِيلًا [648] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/394). .
4- قوله تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا
- قولُه: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إضرابٌ انتِقاليٌّ عنِ التَّأْييسِ مِن اهتِدائِهم؛ لغلَبةِ الهوَى على عُقولِهم، إلى التَّحذيرِ مِن أن يُظَنَّ بهم إدراكُ الدَّلائلِ والحُجَجِ، وهذا تَوجيهٌ ثانٍ للإعراضِ عن مُجادلَتِهمُ الَّتي أَنبأَ عنها قَولُه تعالى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 42] ، فـ (أَمْ) مُنقطِعةٌ للإضرابِ الانتِقاليِّ مِن إنكارٍ إلى إنكارٍ، وهي مؤْذِنةٌ باستِفهامٍ عطَفَتْه على الاستِفهامِ الَّذي قبْلَها. والتَّقديرُ: أَمْ أَتَحسَبُ أنَّ أَكثرَهم يَسمَعون أو يَعقِلون [649] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/282)، ((تفسير البيضاوي)) (4/125)، ((تفسير أبي حيان)) (8/110)، ((تفسير أبي السعود)) (6/221)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/37). ؟
- وأيضًا في قولِه: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ نُفيَ فَهمُ الأدِلَّةِ السَّمعيَّةِ والعَقليَّةِ عن (أكثَرِهم) دُونَ جميعِهم؛ لأنَّ هذا حالُ دَهْمائِهم ومُقَلِّدِيهم فقطْ، ومِنهم مَن عَقَل الحَقَّ وكابَرَ استِكبارًا، وخَوفًا على الرِّئاسةِ؛ ففيهم مَعشَرٌ عُقلاءُ يَفهَمون ويَستَدِلُّون بالكائناتِ، ولكنَّهم غَلَبَ عليهم حُبُّ الرِّئاسةِ، وأَنِفوا مِن أن يَعُودوا أتْباعًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومُساوِينَ للمؤْمنِينَ مِن ضُعفاءِ قُرَيشٍ وعَبيدِهم مِثْلِ: عَمَّارٍ وبِلالٍ. وأيضًا تَخصيصُ الأَكثَرِ؛ لأنَّه كان مِنهم مَن آمَنَ [650] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/282)، ((تفسير البيضاوي)) (4/125)، ((تفسير أبي حيان)) (8/110)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/37). .
- وضَميرُ أَكْثَرَهُمْ لـ (مَن)، وجمْعُه باعتِبارِ معناها، كما أنَّ الإفرادَ في الضَّمائرِ الأُوَلِ باعتِبارِ لفْظِها [651] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/221). .
- وعَطْفُ أَوْ يَعْقِلُونَ على يَسْمَعُونَ؛ لنفْيِ أن يَكونوا يَعقِلون الدَّلائلَ غَيرَ المَقاليَّةِ، وهي دَلائلُ الكائناتِ [652] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/37). .
- قولُه: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا جُملةٌ مُستأنَفةٌ مَسوقةٌ لتَقريرِ النَّكيرِ وتَأكيدِه، وحَسْمِ مادَّةِ الحُسبانِ بالمرَّةِ [653] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/221). . وقيل: مُستأنَفةٌ استِئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ ما تَقدَّمَ مِن إنكارِ أنَّهم يَسمَعون يُثيرُ في نفْسِ السَّامِعينَ سؤالًا عن نفْيِ فَهمِهم لِما يَسمَعون مع سلامةِ حَواسِّ السَّمعِ منهم؛ فكان تَشبيهُهم بالأنعامِ تَبيينًا للجَمعِ بيْن حُصولِ اختِراقِ أصواتِ الدَّعوةِ آذانَهم مع عدَمِ انتِفاعِهم بها؛ لعدَمِ تَهَيُّئِهم للاهتِمامِ بها؛ فالغرضُ مِنَ التَّشبيهِ التَّقريبُ والإمكانُ [654] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/37). .
- وقولُه: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا فيه تشبيهٌ لأكثرِ النَّاسِ بالأنعامِ، والجامعُ بيْن النوعينِ: التَّساوي في عدمِ قَبولِ الهدى والانقيادِ له [655] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/122). .