موسوعة التفسير

سورةُ الفُرقانِ
الآيات (35-40)

ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ

غريب الكلمات:

وَزِيرًا: أي: عَونًا، مِن الوِزرِ: وهو الحِملُ الثَّقيلُ، كأنَّ الوَزيرَ يحمِلُ عَن السُّلطانِ الثِّقلَ والشُّغلَ، وأصلُ (وزر): يدُلُّ على الثِّقلِ في الشَّيءِ [544] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 278)، ((تفسير ابن جرير)) (16/55)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 483)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/108)، ((المفردات)) للراغب (ص: 868). .
فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا: أي: أهلَكْناهم بالعذابِ إهلاكًا، والدَّمارُ: الهلاكُ، والتَّدْميرُ: إدخالُ الهلاكِ على الشَّيءِ، وأصلُ (دمر): يَدُلُّ على الدُّخولِ في البيتِ وغَيرِه [545] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/300)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (2/651)، ((البسيط)) للواحدي (16/500)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 318). .
وَأَعْتَدْنَا: أي: أعدَدْنا، قيل: هو أفْعَلْنا مِن العَتادِ، وهو ادِّخارُ الشَّيءِ قبْلَ الحاجةِ إليه، كالإعدادِ. وقيل: العَتادُ: المُعَدُّ الثابتُ اللازمُ. وأصلُ (عتد): يدُلُّ على حُضورٍ وقُرْبٍ [546] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/451)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/216)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (4/1223)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 545). قال الراغب: (وقيل: أصْلُه: أعددنا، فأُبدِلَ مِن إحدَى الدَّالينِ تاءٌ). ((المفردات)) (ص:545). .
الرَّسِّ: أي: البئرِ العَظيمةِ، أو الأُخدودِ، أو الوادي، وقيل: الرَّسُّ: كلُّ محفورٍ، مِثلُ البئرِ والقبرِ ونحوِ ذلك، وأصلُ (رسس): يدُلُّ على ثباتٍ، وقيل: أصلُه: الأثرُ القليلُ الموجودُ في الشَّيءِ [547] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/453) و(21/415)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/372)، ((المفردات)) للراغب (ص: 352)، ((تفسير القرطبي)) (13/33)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 316). .
وَقُرُونًا: القرونُ: جمعُ قَرْنٍ، وهو: الأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ، أو القَومُ المُقترِنونَ في زَمنٍ واحدٍ غيرِ مُقَدَّرٍ بمدَّةٍ مُعَيَّنةٍ. وقيلَ: مدَّةُ القرنِ مئةُ سنةٍ. وقيل: ثمانونَ. وقيل: ثلاثون. وقيل غيرُ ذلك. والاقترانُ هو اجتِماعُ شيئينِ أو أشياءَ في معنًى مِن المعاني، وأصلُ (قرن): يدُلُّ على جَمعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ [548] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 150)، ((معاني القرآن)) للنحاس (2/400)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/76، 77)، ((المفردات)) للراغب (ص: 667)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 155)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 729). .
تَبَّرْنَا: أي: أهلَكْنا ودمَّرْنا، وأصلُ (تبر): يدُلُّ على كَسرٍ وإهلاكٍ [549] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 313)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 151)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/362)، ((المفردات)) للراغب (ص: 162)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 264)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 319). .
نُشُورًا: أي: مَعادًا وبَعثًا، وأصلُ (نشر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وتشعُّبِه [550] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/458)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/430)، ((تفسير القرطبي)) (13/34)، ((تفسير ابن كثير)) (6/112)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 25). .

المعنى الإجمالي:

يَذكُرُ الله تعالى أحوالَ الذين كذَّبوا أنبياءَهم، فكانت عاقبتُهم الإهلاكَ والتدميرَ، فيقولُ: ولقد آتَيْنا موسى التَّوراةَ، وجعَلْنا معه أخاه هارونَ مُعينًا له في أمرِ الرِّسالةِ، فقُلْنا لهما: اذهَبا إلى فِرعَونَ وقَومِه، فكذَّبوهما فأهلَكْناهم بالغَرقِ، وأغرَقْنا كذلك قومَ نوحٍ لَمَّا كذَّبوا نوحًا، وجعَلْناهم عِظةً وعِبرةً للنَّاسِ، وأعدَدْنا للظَّالمين عذابًا موجِعًا مُؤلِمًا، وأهلَكْنا كذلك عادًا وثمودَ وأصحابَ الرَّسِّ؛ لكُفرِهم وتكذيبِهم، وأُمَمًا غيرَهم كثيرينَ لا يعلَمُهم إلَّا اللهُ، وكلًّا مِن هؤلاء المهلَكينَ وضَّحْنا له الأدلَّةَ على وحدانيَّتِنا، وكلًّا منهم أهلَكْنا إهلاكًا كاملًا.
ولقد مرَّ كفَّارُ قُريشٍ على قريةِ قَومِ لوطٍ الذين أمطر اللهُ عليهم حِجارةً مِن السَّماءِ، أفلمْ يَكونوا يرَونَ في أسفارِهم آثارَ إهلاكِنا هذه القريةَ، فيعتَبِروا ويتَّعظوا بما حلَّ بهم بسَبَبِ كُفرِهم وتكذيبِهم؟! بل كانوا يَرونَ عاقِبةَ أهلِ تلك القريةِ التي أهلَكْناها، ولكِنَّهم كانوا لا يُؤمِّلونَ وُقوعَ البَعثِ بعْدَ المَوتِ، فلا يَرجونَ ثوابًا، ولا يخافونَ عذابًا.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
 بعْدَ أنْ تكلَّمَ سُبحانَه وتعالى في التَّوحيدِ، ونَفيِ الأندادِ، وإثباتِ النبوَّةِ، والجَوابِ عن شُبُهاتِ المنكِرِينَ لها، وفي أحوالِ القيامةِ- شرَعَ في ذِكرِ القَصَصِ على السُّنَّةِ المعلومةِ [551] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/458). .
وأيضًا لَمَّا تقَدَّمَ تكذيبُ قُريشٍ والكفَّارِ لِمَا جاء به رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ذَكرَ تعالى ما فيه تسليةٌ للرَّسولِ، وإرهابٌ للمُكذِّبينَ، وتذكيرٌ لهم أنْ يصيبَهم ما أصاب الأُممَ السَّابقةَ مِن هلاكِ الاستِئصالِ لَمَّا كذَّبوا رسُلَهم، فناسَبَ أنْ ذَكرَ أوَّلًا مَن نزَلَ عليه كتابُه جُملةً واحدةً؛ ومع ذلك كفَروا وكذَّبوا به، فكذلك هؤلاء: لو نَزَلَ عليه القرآنُ دَفعةً لكَذَّبوا وكَفَروا كما كَذَّبَ قَومُ موسى [552] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/105). .
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ.
أي: ولقد آتَينا موسى التَّوراةَ [553] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/451)، ((تفسير السمرقندي)) (2/538)، ((تفسير القرطبي)) (13/30). .
وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا.
أي: وجعَلْنا مع موسى أخاه هارونَ مُعينًا له يُقَوِّيه ويؤَيِّدُه [554] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/451)، ((تفسير ابن كثير)) (6/110)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/25). .
كما قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم: 53] .
وقال سُبحانَه: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 25 - 36] .
فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا.
فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا.
أي: فقُلْنا لموسى وهارونَ: اذهَبا إلى فِرعَونَ وقَومِه القِبطِ الذين كذَّبوا بأدِلَّتِنا وبراهينِنا [555] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/451)، ((تفسير القرطبي)) (13/31)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/25). قال البقاعي: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أي: المرئيَّةِ والمسموعةِ مِن الأنبياءِ الماضينَ قبْلَ إتيانِكما في عِلمِ الشَّهادةِ، والمرئيَّةِ والمسموعةِ منكما بعْدَ إتيانِكما في عِلمِنا). ((نظم الدرر)) (13/384). .
فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا.
أي: فكذَّب فِرعَونُ وقَومُه موسى وهارونَ، فأهلَكْناهم بالغَرقِ إهلاكًا [556] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/451)، ((البسيط)) للواحدي (16/500)، ((تفسير القرطبي)) (13/31). .
كما قال تعالى: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 136، 137].
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
 لَمَّا هَدَّدَ سُبحانَه المكذِّبِينَ بإهلاكِ الأوَّلينَ الذين كانوا أقوَى منهم وأكثَرَ، وقَدَّمَ قصَّةَ موسى عليه السَّلامُ- أتبَعَه أوَّلَ الأُممِ؛ لأنَّهم أوَّلُ، ولِمَا في عذابِهم مِن الهَولِ، ولِمناسبةِ ما بيْنَه وبيْنَ عذابِ القِبطِ، فقال [557] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/385). :
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً.
أي: وأغرَقْنا قَومَ نوحٍ لَمَّا كذَّبوا نوحًا، وجعَلْنا إغراقَهم بالطُّوفانِ عِبرةً للنَّاسِ وعِظةً [558] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/451)، ((تفسير القرطبي)) (13/31)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/386)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/26)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 136). قال القرطبي: (وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً أي: علامةً ظاهرةً على قدرتِنا). ((تفسير القرطبي)) (13/31). .
كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [الحاقة: 11، 12].
وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا.
أي: وأعدَدْنا في الآخرةِ للظَّالِمينَ مِن قَومِ نُوحٍ وغَيرِهم عذابًا مُؤلِمًا مُوجِعًا؛ جزاءً على ظُلمِهم [559] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/235)، ((تفسير ابن جرير)) (17/451)، ((تفسير السمرقندي)) (2/539)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/27)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 140، 141). .
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
 لَمَّا ذَكَر سُبحانَه آخِرَ الأُمَمِ المهلَكةِ بعامَّةٍ وأوَّلَها، وكان إهلاكُهما بالماءِ- ذكَرَ مَن بيْنَهما ممَّن أُهلِكَ بغيرِ ذلك؛ إظهارًا للقُدرةِ والاختيارِ، وطوَى خبرَهم بغيرِ العذابِ؛ لأنَّه في سياقِ الإنذارِ، فقال [560] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/386، 387). :
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ.
أي: وأهلَكْنا أيضًا عادًا قَومَ هُودٍ، وثمودَ قَومَ صالحٍ، وأصحابَ الرَّسِّ، ودمَّرْناهم لكُفرِهم وتَكذيبِهم [561] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/451)، ((تفسير الماتريدي)) (8/27)، ((تفسير القرطبي)) (13/32)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/53). قال ابنُ جريرٍ في التعريفِ بأصحابِ الرسِّ: (الصَّوابُ مِن القولِ في ذلك قولُ مَن قال: هم قومٌ كانوا على بئرٍ؛ وذلك أنَّ الرَّسَّ في كلام العربِ: كُلُّ محفورٍ، مِثلُ البئرِ والقبرِ ونحوِ ذلك. ولا أعلَمُ قومًا كانت لهم قصَّةٌ بسببِ حُفرةٍ ذكَرَهم اللهُ في كتابِه إلَّا أصحابَ الأُخدودِ،... وإن يكونوا غيرَهم فلا نعرفُ لهم خبرًا إلَّا ما جاء مِن جملةِ الخبرِ عنهم أنَّهم قومٌ رَسُّوا نبيَّهم في حفرةٍ). ((تفسير ابن جرير)) (17/453، 454). وقال ابن عاشور: (اتَّفقوا على أنَّ الرَّسَّ بئرٌ عظيمةٌ، أو حَفيرٌ كبيرٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/27). وقال الشنقيطي: (وأمَّا أصحابُ الرَّسِّ فلم يأتِ في القرآنِ تفصيلُ قِصَّتِهم ولا اسمُ نبيِّهم، وللمفسِّرينَ فيهم أقوالٌ كثيرةٌ ترَكْناها؛ لأنَّها لا دليلَ على شَيءٍ منها). ((أضواء البيان)) (6/54). وتُنظَرُ أقوالُ المفسِّرينَ في أصحابِ الرَّسِّ في: ((تفسير الماوردي)) (4/145)، ((البسيط)) للواحدي (16/504)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/321). .
كما قال تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [العنكبوت: 38].
وقال سُبحانَه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق: 12 - 14] .
وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا.
أي: ودمَّرْنا بين تلك الأُمَمِ الكافرةِ -التي سمَّيْناها- أُمَمًا أُخرى كثيرةً لا يعلَمُها إلَّا اللهُ [562] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/455)، ((تفسير القرطبي)) (13/34)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/29). قال ابنُ كثير: (الأظهرُ: أنَّ القرنَ هم الأمَّةُ المتعاصِرون في الزَّمنِ الواحد، فإذا ذهبوا وخلَفَهم جيلٌ آخَرُ، فهم قرنٌ ثانٍ، كما ثبت في الصحيحينِ عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: «خيرُ [الناسِ] قَرني، ثمَّ الذين يلونَهم، ثمَّ الذين يلونَهم...» الحديثَ). ((تفسير ابن كثير)) (6/112). وقال الشنقيطي: (والأظهرُ أنَّ القرونَ الكثيرَ: المذكورُ بعْدَ قومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ، وقبْلَ أصحابِ الرَّسِّ، وقد دلَّت آيةٌ من سورة «إبراهيم» على أنَّ بعْدَ عادٍ وثمودَ خَلْقًا كفَروا وكذَّبوا الرسُلَ، وأنَّهم لا يعلَمُهم إلَّا اللهُ جلَّ وعلا. وتصريحُه بأنَّهم بعد عادٍ وثمودَ يوضِّحُ ما ذكَرْنا). ((أضواء البيان)) (6/53). .
كما قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ [الأنعام: 6].
وقال سُبحانَه: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ [إبراهيم: 9] .
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
 لَمَّا قَدَّمَ سُبحانَه أنَّه يأتي في هذا الكتابِ بما هو الحقُّ في جوابِ أمثالِهم؛ بَيَّنَ أنَّه فعَلَ بالجَميعِ نحوًا مِن هذا، فقال تسليةً لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وتأسيةً وبيانًا لتشريفِه بالعَفوِ عن أمَّتِه [563] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/388). ، وعدمِ استِئْصالِها بالعذابِ:
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ.
أي: وكلُّ الأُمَمِ الكافرةِ التي أهلَكْناها أقَمْنا عليها الحُجَّةَ، ووَضَّحْنا لها الأدِلَّةَ بذِكرِ الأمثالِ؛ لِيَعتبِروا بها ويتَّعِظوا [564] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/455)، ((تفسير القرطبي)) (13/34)، ((تفسير ابن كثير)) (6/112)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/29)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/54، 55). قال ابن عاشور: (والمَثَلُ: النَّظيرُ والمُشابِه، أي: بَيَّنَّا لهم الأشباهَ والنظائِرَ في الخيرِ والشَّرِّ؛ لِيَعرِضوا حالَ أنفُسِهم عليها). ((تفسير ابن عاشور)) (19/29). وقال ابن عثيمين: (يعني: بيَّنَّا له الأمثالَ، يعني: الوقائعَ التي أوقعَها الله تعالى بمَن قبْلَهم، كلُّ أمَّةٍ تُنذَرُ بمَن قبْلَها، ويُضرَبُ لها المثَلُ، يقالُ: هذا مَثَلُ المكذِّبين، حصَلَ عليهم كَيْتَ وكَيْتَ، فكُلُّ أمَّةٍ أنذرَها اللهُ تمامَ الإنذارِ، بحيثُ لا يبقَى لها حُجَّةٌ؛ أمَّةُ محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وغيرُها). ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 149). .
وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا.
أي: وكُلُّ الأُمَمِ الكافرةِ الماضيةِ دمَّرْناها تدميرًا كامِلًا، واستأصَلْناها بالعذابِ [565] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/456)، ((تفسير القرطبي)) (13/34)، ((تفسير ابن كثير)) (6/112)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/55). .
كما قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا * وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 15 - 17] .
وقال سُبحانَه: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء: 11 - 15] .
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان سَوقُ خبرِ قَومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ وأصحابِ الرَّسِّ وما بيْنَهما مِنَ القرونِ مقصودًا لاعتِبارِ قريشٍ بمصائِرِهم؛ نُقِل نَظْمُ الكلامِ هنا إِلى إضاعَتِهم الاعتِبارَ بذلك وبما هو أظهَرُ منه لأنظارِهم، وهو آثارُ العذابِ الَّذي نَزَل بقريةِ قومِ لوطٍ [566] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/29). .
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ.
أي: ولقد مرَّ كُفَّارُ قُرَيشٍ على قَريةِ قَومِ لُوطٍ الذين أهلَكَهم اللهُ بالحِجارةِ التي أمطَرَها عليهم [567] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/457)، ((تفسير القرطبي)) (13/34)، ((تفسير ابن كثير)) (6/112)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/30). .
كما قال تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [الشعراء: 173] .
وقال سُبحانَه: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الحجر: 74 - 76] .
أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا.
أي: أفلم يكُنْ كُفَّارُ قُرَيشٍ يَرَونَ في أسفارِهم آثارَ عَذابِ اللهِ على قريةِ قَومِ لوطٍ، فيَعتَبِروا ويتَّعِظوا بما حلَّ بأهلِها مِن العذابِ؛ بسبَبِ تكذيبِهم بالرَّسولِ، ومُخالفتِهم أوامِرَ اللهِ [568] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/457)، ((تفسير القرطبي)) (13/34)، ((تفسير ابن كثير)) (6/112). ؟
قال عزَّ وجلَّ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138].
بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا.
أي: ما كذَّب كفَّارُ قُرَيشٍ بمحمَّدٍ لكونِهم لم يَرَوا ما حلَّ بقومِ لوطٍ، وإنَّما كذَّبوا ولم يعتَبِروا؛ لأنَّهم لا يُؤمِّلون وقوعَ البَعثِ بعْدَ الموتِ، فلا يَرجونَ ثوابًا في الآخرةِ، ولا يخافونَ عذابًا فيها [569] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/458)، ((تفسير القرطبي)) (13/34)، ((تفسير ابن كثير)) (6/112)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/390). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا، وقَولُه في موضعٍ آخَرَ: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه: 24] لا يُنافي هذا؛ لأنَّهما إذا كانا مأمورَينِ فكُلُّ واحدٍ مأمورٌ، ويجوزُ أن يقالَ: أُمِرَ موسى أوَّلًا، ثمَّ لَمَّا قال: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي [طه: 29] قال: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ [570] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/31). [طه: 43] .
2- في قَولِه تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ إذا قيل: لماذا جُعِلَ قومُ نوحٍ مكذِّبِينَ للرسُلِ مع أنَّهم كذَّبوا رسولًا واحدًا؟
فالجوابُ مِن أوجهٍ:
منها: أنَّهم استَنَدوا في تكذيبِهم رسولَهم إلى إحالةِ أنْ يُرسِلَ اللهُ بشَرًا؛ لأنَّهم قالوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 24] ؛ فكان تكذيبُهم مستلزِمًا تكذيبَ عمومِ الرسُلِ.
ومنها: أنَّهم أوَّلُ مَن كَذَّبَ رسولَهم؛ فكانوا قدوةً للمكذِّبِين مِن بعْدِهم [571] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/26). .
ومنها: أنَّ تكذيبَه تكذيبٌ لباقي الرسلِ؛ لاشتراكِهم في المجيءِ بالتوحيدِ، فيكونُ هذا مِن بابِ الجنسِ؛ لأنَّ مَن كذَّب رسولًا فكأنَّما كذَّب جميعَ الرسُلِ؛ لأنَّ أعداءَ الرسلِ لا يُعادونَهم لشخصِهم، وإنَّما يعادونَهم لِما يَدْعونَ إليه، وما جاؤوا به، وهذا جنسٌ؛ فيكونُ تكذيبُهم لرسولٍ تكذيبًا لجميعِ الرسُلِ [572] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 137، 139). .
ومنها: أنَّ مَن كذَّب رسولًا فقد كذَّب جميعَ الرسُلِ؛ لأنَّهم لا يُفرَّقُ بيْنَهم في الإيمانِ، ولأنَّه ما مِن نبيٍّ إلَّا يُصدِّقُ سائرَ أنبياءِ الله، فمَن كذَّب منهم نبيًّا فقد كذَّب كلَّ مَن صدَّقه مِن النبِّيينَ [573] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/31). .
ومنها: أنَّه لطولِ مُكثِه في قومِه صار كأنَّه رسُلٌ كثيرونَ؛ لأنَّه لَبِث فيهم ألْفَ سَنةٍ إلَّا خمسينَ عامًا، وهذه مدَّةٌ تستوعبُ رسُلًا كثيرينَ، فكأنَّه لطولِ المُكثِ صار متعدِّدًا [574] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 137، 139). .
3- قال الله تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا فأخبرَ سُبحانَه أنَّه ضرَبَ الأمثالَ لجميعِ هؤلاء الذين أُرسِلَ إليهم وأهلَكَهم، فلم يعاقِبْهم إلَّا بعْدَ أنْ أقام عليهم الحُجَّةَ [575] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/382). .
4- قَولُه تعالى: اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا في كلمةِ كَذَّبُوا إشكالٌ، وهو أنَّه يقتضي أنَّ التكذيبَ سابِقٌ للرِّسالةِ، فكيف يكونون مكَذِّبين مع أنَّهم لم يأتِ إليهم رَسولٌ؟!
والجواب من أوجُهٍ:
منها: أنَّ الفعلَ الماضيَ هنا بمعنى المستقبَلِ، بمعنى: الذين يكَذِّبون بآياتِنا؛ لأنَّ الآياتِ لم تصِلْ إليهم بَعْدُ؛ فمعنى الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أي: يُكَذِّبون بها في المستقبَلِ.
ومنها: أن يُقالَ: كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا بحسَبِ عِلمِ الله عزَّ وجَلَّ، يعني: قدَّرْنا أنَّهم يُكَذِّبون.
ومنها: أنَّهم قد أُرسِلَ إليهم رسولٌ فكذَّبوه، وهذا يؤيِّدُه قَولُ المؤمِنِ مِن آلِ فِرعَونَ: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غافر: 34] .
فإذا قيل: إنَّ يوسُفَ سابِقٌ جدًّا على موسى؟ فيُقالُ: لعلَّ آثارَ رسالتِه قد بَقِيت؛ ولهذا خاطبهم المؤمِنُ: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ، ولم يُنكِروا؛ ما قالوا: ما جاءَنا، فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ يعني: إلى الآنَ [576] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 133). وقيل: قولُه: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وصْفٌ للقَومِ، وليس هو مِنَ المَقولِ لموسى وهارونَ؛ لأنَّ التَّكذيبَ حينَئذٍ لَمَّا يقَعْ منهم، ولكنَّه وصْفٌ لإفادةِ قُرَّاءِ القُرآنِ أنَّ موسى وهارونَ بلَّغَا الرِّسالةَ، وأَظهَرَ اللهُ منهما الآياتِ، فكَذَّب بها قَومُ فِرعونَ، فاستَحقُّوا التَّدميرَ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/25، 26). .
5- في قَولِه تعالى: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا إيذانٌ بطولِ مُدَدِ هذه القُرونِ وكَثرتِها [577] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/29). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا
- قَولُه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى  ... جملةٌ مستأنَفةٌ سِيقَتْ لتأكيدِ ما مرَّ مِنَ التَّسليةِ والوعدِ بالهدايةِ والنَّصرِ في قولِه تعالى: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان: 31] بحِكايةِ ما جرَى بيْنَ مَن ذُكِر مِنَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وبيْنَ قَومِهم حكايةً إجماليَّةً كافيةً فيما هو المقصودُ، واللَّامُ جوابٌ لقَسَمٍ محذوفٍ، أي: وباللهِ لقد آتَيْنا موسى التَّوراةَ [578] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/217). .
- قَولُه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا حرْفُ التَّحقيقِ (قَدْ) ولامُ القسَمِ؛ لتأكيدِ الخَبرِ باعتِبارِ ما يَشتمِلُ عليه مِنَ الوعيدِ بتَدميرِهم. ولَمَّا جرَى الوعيدُ والتَّسليةُ بذِكرِ حالِ المكذِّبينَ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ عَطَف على ذلك تَمثيلَهم بالأُممِ المُكذِّبينَ رُسُلَهم؛ لِيَحصُلَ مِن ذلك موعظةُ هؤلاءِ، وزيادةُ تَسليةِ الرَّسولِ، والتَّعريضُ بوَعدِه بالانتِصارِ له [579] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/25). .
- والتَّعرُّضُ في مَطلَعِ القصَّةِ لإيتاءِ الكِتابِ مع أنَّه كان بعْدَ مَهلِكِ القَومِ، ولمْ يكنْ له مَدخَلٌ في هَلاكِهم كسائرِ الآياتِ؛ للإيذانِ مِن أوَّلِ الأمرِ ببُلوغِ نبيِّ الله موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غايةَ الكمالِ، ونَيْلِه نهايةَ الآمالِ، الَّتي هي إنجاءُ بَني إسرائيلَ مِن فِرعونَ، وإرشادُهم إلى الطَّريقِ الحقِّ بما في التَّوراةِ مِنَ الأحكامِ؛ إذْ به يَحصُلُ تأكيدُ الوَعدِ بالهدايةِ [580] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/218). .
- والتَّعرُّضُ هنا إلى تأييدِ موسى بهارونَ تَعريضٌ بالرَّدِّ على المشركينَ؛ إذْ قالوا: لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفرقان: 7] ؛ فإنَّ موسى لَمَّا اقتضَتِ الحِكمةُ تأييدَه لمْ يُؤيَّدْ بملَكٍ، ولكنَّه أُيِّدَ برسولٍ مِثْلِه [581] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/25). .
2- قَولُه تعالى: فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا في الكَلامِ حذْفٌ، أي: فذَهَبَا وأَدَّيَا الرِّسالةَ، فكذَّبوهما، وقد حصَل بهذا النَّظمِ إيجازٌ عَجيبٌ اختُصرَتْ به القِصَّةُ؛ فذُكِر منها حاشِيَتاها: أوَّلُها وآخِرُها، وهما: الإنذارُ، والتَّدميرُ -أي: إلزامُ الحُجَّةِ ببَعثةِ الرسُلِ، واستِحقاقُ الأُممِ التَّدميرَ بتَكذيبِهم رُسُلَهم-؛ لأنَّهما المقصودُ بالقِصَّةِ؛ فدَلَّ بذِكرِهما على ما هو الغَرَضُ مِن القِصَّةِ الطَّويلةِ كلِّها، وهو أنَّهم قومٌ كذَّبوا بآياتِ اللهِ؛ فأرادَ إلزامَ الحُجَّةِ عليهم، فبَعَثَ إليهم رَسولَينِ فكَذَّبوهما، فأَهلَكهم [582] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/280)، ((تفسير البيضاوي)) (4/124)، ((تفسير أبي حيان)) (8/106)، ((تفسير أبي السعود)) (6/217، 218)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/26). .
- قَولُه: فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا أُتبِع الفِعلُ بالمفعولِ المطْلَقِ؛ لِما في تَنكيرِ المصدرِ مِن تَعظيمِ التَّدميرِ، وهو الإغراقُ في اليَمِّ [583] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/26). .
- وبدأ بذِكرِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، مع أنَّه متأخِّرٌ بالنِّسبةِ إلى قَومِ نوحٍ؛ لأنَّ فِرعونَ أقربُ عهدًا، وأشَدُّ عُتُوًّا مِن قَومِ نوحٍ [584] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 136). . وقيل: قَدَّمَ قصَّةَ موسى عليه السَّلامُ لِمناسبةِ الكتابِ في نفْسِه أوَّلًا، وفي تنجيمِه ثانيًا، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [585] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/385). [الفرقان: 32] .
3- قَولُه تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا
- قَولُه: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً فيه تقديمُ قَومِ نُوحٍ؛ للاهتمامِ؛ لأنَّ حالَهم هو محَلُّ العِبرةِ؛ فقُدِّم ذِكرُهم، ثمَّ أُكِّد بضَميرِهم؛ فإنَّ (قَوْمَ نُوحٍ) انتصَبَ بفِعلٍ مَحذوفٍ يُفسِّرُه أَغْرَقْنَاهُمْ [586] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/26). .
- قَولُه: وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا فيه إظهارٌ في موقعِ الإضمارِ -حيثُ قيل: لِلظَّالِمِينَ، عِوَضًا عن: أعتَدْنا لهم-؛ للإيذانِ بتَجاوُزِهمُ الحدَّ في الكُفرِ والتَّكذيبِ، ولإفادةِ أنَّ عذابَهم جزاءٌ على ظُلْمِهم بالشِّركِ وتَكذيبِ الرَّسولِ. أو هو عامٌّ يَتناوَلُهم بعُمومِه [587] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/280)، ((تفسير البيضاوي)) (4/124)، ((تفسير أبي السعود)) (6/218)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/27). .
وقد أفاد هذا الإظهارُ أيضًا: إرادةَ الشُّمولِ والعُمومِ؛ ليَشمَلَهم هم وغيرَهم، حتى الظَّالِمون مِن قريشٍ يدخُلون في هذا؛ لأنَّه إذا قال: (وأعتَدْنا لَهم عَذابًا ألِيمًا) صار العذابُ الأليمُ لهم فقط، لكِنْ لَمَّا قال: لِلظَّالِمِينَ صار لهم ولغيرِهم، وأفاد تسجيلَ هذا الوَصفِ عليهم، وهو الظُّلمُ؛ لأنَّه وصَفَهم بأنَّهم ظالِمون. وأفاد أيضًا إظهارَ الحكمةِ مِن هذه العقوبةِ، وهي أنَّهم كانوا ظالِمين، يعني: أعَدَّ لهم عذابًا أليمًا؛ لأنَّهم ظالِمون. مع ما فيه من تنبيهِ المخاطَبِ؛ لأنَّ تغيُّرَ السياقِ يوجِبُ انتباهَ المخاطَبِ [588] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 140). .
 فقوله تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا -على أنَّه وُضِع المُضمَرُ موضعَ المُظهَرِ- عطَفَه على (أَغْرَقْنَا)؛ ليَجمَعَ لهم نَكالَ الدَّارينِ، وعلى العمومِ مِن بابِ التَّذييلِ، فيَدْخلوا في العامِّ دُخولًا أَوَّليًّا [589] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/236). .
4- قَولُه تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا
- قَولُه: وَعَادًا وَثَمُودَ قيل: هو عَطْفٌ على (هُم) في (جَعَلْنَاهُمْ)، أو على لِلظَّالِمِينَ؛ فقولُه: وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا في معنَى الوعيدِ، أي: ووعَدْنا الظَّالِمينَ، ثمَّ عَطَف عادًا وثمودَ عطْفَ الخاصِّ على العامِّ مُبالَغةً؛ لأنَّهم رُؤوسُ الظَّلَمةِ والأَوْحَديُّون فيه [590] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/236). . وقيل: انتصَبَتِ الأسماءُ الأربعةُ -وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا- بفِعلٍ مَحذوفٍ دلَّ عليه تَبَّرْنَا، وفي تَقديمِها تَشويقٌ إلى معرفةِ ما سيُخبَرُ به عنها [591] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/27). .
- ولعلَّ الاكتِفاءَ في شؤونِ تلك القُرونِ بهذا البيانِ الإجماليِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا؛ لِمَا أنَّ كلَّ قَرنٍ منها لم يكنْ في الشُّهرةِ وغَرابةِ القصَّةِ بمَثابةِ الأُممِ المَذكورةِ [592] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/219). .
5- قَولُه تعالى: وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا
- انتَصَب تَتْبِيرًا على أنَّه مفعولٌ مطْلَقٌ مؤكِّدٌ لعامِلِه؛ لإفادةِ شدَّةِ هذا الإهلاكِ [593] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/29). .
6- قَولُه تعالى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا
- قَولُه: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ جملةٌ مستأنَفةٌ مَسوقةٌ لبيانِ مُشاهدتِهم لآثارِ هلاكِ بعضِ الأُممِ المُتَبَّرةِ، وعدَمِ اتِّعاظِهم بها. وتَصديرُها بالقسَمِ وَلَقَدْ؛ لمَزيدِ تقريرِ مَضمونِها. وقيل: اقتِرانُ الخَبرِ بلَامِ القسَمِ؛ لإفادةِ معنَى التَّعجيبِ مِن عدَمِ اعتِبارِهم [594] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/219)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/29). .
- والإتيانُ: المَجيءُ. وتَعديتُه في قولِه: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ ... بـ (على)؛ لتَضمينِه معنَى: (مَرُّوا)؛ لأنَّ المقصودَ مِنَ التَّذكيرِ بمَجيءِ القريةِ التَّذكيرُ بمَصيرِ أهْلِها؛ فكأنَّ مَجيئَهم إيَّاها مُرورٌ بأهْلِها، فضُمِّنَ المَجيءُ معنَى المرورِ؛ لأنَّه يُشبِهُ المرورَ؛ فإنَّ المرورَ يَتعلَّقُ بالسُّكَّانِ، والمَجيءَ يَتعلَّقُ بالمكانِ [595] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/30). .
- ووصَف القَريةَ بـ  الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ؛ لأنَّها اشتُهرَتْ بمَضمونِ الصِّلةِ بيْن العربِ وأهْلِ الكِتابِ [596] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/30). .
- وقوله: مَطَرَ السَّوْءِ فيه تَسميةُ العذابِ الَّذي نَزَل عليهم مِنَ السَّماءِ مطَرًا على طريقةِ التَّشبيهِ؛ لأنَّ حقيقةَ المطرِ ماءُ السَّماءِ [597] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/30). .
- تَفرَّعَ على تَحقيقِ إتيانِهم على القَريةِ مع عدَمِ انتِفاعِهم به قولُه: أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا، وهو استِفهامٌ صُوريٌّ عنِ انتِفاءِ رُؤيتِهم إيَّاها حينما يَأْتون عليها؛ لأنَّهم لَمَّا لمْ يتَّعِظوا بها كانوا بحالِ مَن يُسألُ عنهم: هل رأَوْها؟ فكان الاستِفهامُ لإيقاظِ العقولِ؛ للبحثِ عن حالِهم. وهو استِفهامٌ إمَّا مُستعمَلٌ في الإنكارِ والتَّهديدِ، وإمَّا مُستعمَلٌ في الإيقاظِ لمعرفةِ سببِ عدَمِ اتِّعاظِهم [598] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/30). .
وقيل: الاستِفهامُ معناه التَّعجُّبُ [599] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/108). . وقيل: هو تَوبيخٌ لهم على ترْكِهمُ التَّذكُّرَ عِندَ مُشاهَدةِ ما يُوجِبُه. والهمزةُ لإنكارِ نَفْيِ استِمرارِ رُؤيتِهم لها، وتقريرِ استِمرارِها حسَبَ استِمرارِ ما يُوجِبُها مِن إتيانِهم عليها. والفاءُ لعَطفِ مَدْخولِها على مُقَدَّرٍ يَقتضيه المَقامُ [600] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/219). .
- و(بلْ) في قولِه: بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا إمَّا إضرابٌ عمَّا قَبْلَه مِن عدَمِ رؤيتِهم لآثارِ ما جَرَى على أهلِ القُرى مِنَ العُقوبةِ، وبيانٌ لكَونِ عدَمِ اتِّعاظِهم بسببِ إنكارِهم؛ لكَونِ ذلك عُقوبةً لِمعاصيهم، لا لعدَمِ رؤيتِهم لآثارِها، خَلَا أنَّه اكتَفى عنِ التَّصريحِ بإنكارِهم ذلك بذِكْرِ ما يَستلزِمُه مِن إنكارِهم للجَزاءِ الأُخْرويِّ، الذي هو الغايةُ مِن خلْقِ العالَمِ. وقد كُنيَ عن ذلك بعدَمِ النُّشورِ، أي: عدَمِ توقُّعِه، كأنَّه قيل: بل كانوا يُنكِرون النُّشورَ المُستتبِعَ للجزاءِ الأُخْرويِّ، ولا يرَوْنَ لنفْسٍ مِنَ النُّفوسِ نُشورًا أصلًا مع تَحقُّقهِ حتْمًا، وشُمولِه للنَّاسِ عمومًا، واطِّرادِه وقوعًا؛ فكيف يَعترِفُون بالجزاءِ الدُّنيويِّ في حقِّ طائفةٍ خاصَّةً مع عدَمِ الاطِّرادِ والملازَمةِ بيْنَه وبيْنَ المعاصي حتَّى يَتذكَّروا ويَتَّعِظوا بما شاهَدوه مِن آثارِ الهلاكِ، وإنَّما يَحمِلونه على الاتِّفاقِ؟! وإمَّا انتِقالٌ مِنَ التَّوبيخِ بما ذُكِر مِن تَرْكِ التَّذكُّرِ إلى التَّوبيخِ بما هو أعظَمُ منه مِن عدَمِ توقُّعِ النُّشورِ [601] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/219، 220). . ويَجوزُ أن يكونَ (بلْ) للإضرابِ الانتِقاليِّ انتِقالًا مِن وصْفِ تَكذيبِهم بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعدَمِ اتِّعاظِهم بما حَلَّ بالمكذِّبينَ مِنَ الأُممِ، إلى ذِكرِ تَكذيبِهم بالبَعثِ؛ فيكونَ انتِهاءُ الكلامِ عِندَ قولِه: أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا، وهو الَّذي يَجري على الوجهِ الأوَّلِ في الاستِفهامِ، وهو الإنكارُ والتَّهديدُ [602] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/30، 31). .
- وفي قولِه: بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا وُضِعَ الرَّجاءُ مَوضِعَ التَّوقُّعِ؛ لأنَّه إنَّما يَتوقَّعُ العاقبةَ مَن يؤْمِنُ، فمِن ثَمَّ لم يَنظُروا ولم يَذَّكَّروا، ومَرُّوا بها كما مرَّتْ رِكابُهم [603] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/281)، ((تفسير أبي حيان)) (8/108). .
- وعُبِّر عن إنكارِهمُ البَعثَ بعدَمِ رَجائِه؛ لأنَّ مُنكِرَ البَعثِ لا يَرْجو منه نفعًا، ولا يَخشى منه ضُرًّا، فعُبِّر عن إنكارِ البَعثِ بأحدِ شِقَّيِ الإنكارِ؛ تَعريضًا بأنَّهم ليسوا مِثْلَ المؤْمنِينَ يَرْجون رحمةَ اللهِ [604] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/30، 31). .