موسوعة التفسير

سورةُ مُحمَّدٍ
الآيات (12-15)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ

غريب الكلمات:

مَثْوًى: أي: مَنزِلٌ ومقامٌ ومَأوًى، وأصلُ (ثوي): يدُلُّ على الإقامةِ مع الاستِقرارِ [175] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 410)، ((تفسير ابن جرير)) (21/197)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 424)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1 /393)، ((المفردات)) للراغب (ص: 181)، ((تفسير القرطبي)) (16/235)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 295). .
بَيِّنَةٍ: أي: بُرهانٍ وحُجَّةٍ وبَيانٍ، والبَيِّنةُ: الدَّلالةُ الواضحةُ، عقليَّةً كانت أو محسوسةً، وأصلُ (بين): انكِشافُ الشَّيءِ، يُقالُ: بانَ الشَّيءُ وأبانَ، إذا اتَّضَح وانكشَف [176] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/199)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/327، 328)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (5/3453)، ((المفردات)) للراغب (ص: 157). .
أَهْوَاءَهُمْ: الأهواءُ: المذاهِبُ الَّتي تدعو إليها الشَّهوةُ دونَ الحُجَّةِ، وأصلُه: يدُلُّ على الخُلُوِّ والسُّقُوطِ، وسُمِّيَ الهوى هَوًى؛ لأنَّه يَهوِي بصاحِبِه في النَّارِ [177] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 491)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/15)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (7/488)، ((المفردات)) للراغب (ص: 849)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 211). .
مَثَلُ الْجَنَّةِ: أي: صِفَتُها أو شَبَهُها، وأصلُ (مثل): يدُلُّ على مُناظَرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ [178] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 20)، ((تفسير ابن جرير)) (21/200)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/296)، ((المفردات)) للراغب (ص: 759)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 182)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/155). ويُنظر أيضًا: ((البسيط)) للواحدي (12/364-373). .
آَسِنٍ: أي: مُنتِنٍ، مُتغَيِّرِ اللَّونِ والرِّيحِ والطَّعمِ، وأصلُ (أسن): يدُلُّ على تغَيُّرِ الشَّيءِ [179] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 410)، ((تفسير ابن جرير)) (21/200)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 79)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/104)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (20/234)، ((المفردات)) للراغب (ص: 76). .
حَمِيمًا: أي: شَديدَ الحَرارةِ، وأصلُ (حمم) هنا: الحَرارةُ [180] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 291)، ((تفسير ابن جرير)) (16/495)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/23)، ((المفردات)) للراغب (ص: 254). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ
مَثَلُ مبتدأٌ. والخبَرُ محذوفٌ، والتَّقديرُ: فيما يُتلى عليكم مَثَلُ الجنَّةِ، أو: مَثَلُ الجنَّةِ ما تسمَعونَ، وجملةُ فِيهَا أَنْهَارٌ مُفَسِّرةٌ لذلك المَثَلِ، فلا محلَّ لها مِن الإعرابِ، أو مُستأنَفةٌ شارِحةٌ لِمعنى المَثَلِ. وقيلَ: الخبَرُ مَذكورٌ، وهو جُملةُ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ، فهي خبَرٌ عن مَثَلُ، وتقديرُه: أَمثَلُ الجنَّةِ كمَثَلِ جَزاءِ مَن هو خالِدٌ في النَّارِ؟! فحذَف المُضافَينِ: (الجزاءَ)؛ بقَرينةِ مُقابَلةِ الجنَّةِ، و(مَثَل) بقرينةِ تقَدُّمِه. أو التَّقديرُ: أَمَثلُ أهلِ الجنَّةِ كمَن هو خالِدٌ في النَّارِ؟! فحذَفَ هَمزةَ الإنكارِ، وقدَّر مُضافًا محذوفًا، وهو «أهْل»، فصار تقديرُ الكلامِ كأنَّه قال: أمَثَلُ أهلِ الجنَّةِ، وهي بهذه الأوصافِ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ؛ وعليه فجُملةُ فِيهَا أَنْهَارٌ حالٌ مِنَ الجنَّةِ.
قَولُه تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ
(لَهُمْ): شِبهُ جُملةٍ مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ، خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. والمبتدَأُ المُؤخَّرُ مَحذوفٌ تَقديرُه: «زَوجانِ»، أو «أنواعٌ»، أو «صِنفٌ». ومِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ: شِبهُ جُملةٍ مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ، نَعتٌ لهذا المبتدأِ المحذوفِ، والتَّقديرُ: لهم فيها زَوجانِ، أو: أنواعٌ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ. وقيل: مِنْ زائِدةٌ على مَذهَبِ الأخفَشِ، وكُلِّ مُبتدَأٌ مَجرورٌ لَفظًا، مَرفوعٌ مَحلًّا بضمَّةٍ مُقَدَّرةٍ مَنَع مِن ظُهورِها اشتِغالُ المحَلِّ بحَركةِ حَرفِ الجرِّ الزَّائدِ، والتَّقديرُ: ولهم فيها كُلُّ الثَّمَراتِ. وَمَغْفِرَةٌ: الواوُ: حَرفُ عَطفٍ. (مَغْفِرَةٌ) مَعطوفٌ على المُبتدَأِ المحذوفِ في الجُملةِ السَّابِقةِ، أي: لهم فيها زَوجانِ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ ومَغفِرةٌ. أو (مَغْفِرَةٌ) مُبتدَأٌ خبَرُه محذوفٌ، تقديرُه: ولهم مَغفِرةٌ. والجُملةُ عَطفٌ على الجُملةِ السَّابِقةِ، أو استِئنافيَّةٌ لا محلَّ لها مِن الإعرابِ.
 قَولُه تعالى: كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ تقدَّم في إعرابِ «مَثَلُ الْجَنَّةِ» أنَّه يجوزُ أن يكونَ خبَرُه كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ بالتَّأويلَينِ المذكورَينِ. ويجوزُ أيضًا أن يكونَ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ كلامًا مُستأنَفًا، وكَمَنْ مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ، خبَرٌ لمُبتدَأٍ مَحذوفٍ، أي: أحالُ هؤلاء المتَّقينَ كحالِ مَن هو خالِدٌ في النَّارِ؟! أو: أَمَنْ هو خالِدٌ في هذه الجنَّةِ -حسَبَما جرَى به الوَعدُ- كَمَن هو خالِدٌ في النَّارِ؟! أو هو كَلامٌ مُستأنَفٌ مُقَدَّرٌ فيه استِفهامٌ إنكاريٌّ، والتَّقديرُ: أكَمَنْ هو خالِدٌ في النَّارِ؟!
قَولُه تعالى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا الواوُ: حرفُ عَطفٍ. سُقُوا: فِعلٌ ماضٍ مَبنيٌّ للمَفعولِ. وواوُ الجماعةِ: ضميرٌ مَبنيٌّ في محَلِّ رَفعٍ نائِبٌ عن الفاعِلِ. ماءً: مَفعولٌ به ثانٍ مَنصوبٌ. حَمِيمًا: نعتٌ لـ «مَاءً» مَنصوبٌ. والجملةُ مَعطوفةٌ على جُملةِ الصِّلةِ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ، مِن قَبيلِ عَطفِ الفِعليَّةِ على الاسميَّةِ. وراعَى لَفظَ «مَنْ» في الأوَّلِ هُوَ خَالِدٌ فأفرَدَه، وراعَى مَعنى «مَنْ» في الثَّاني وَسُقُوا فجَمَعَه [181] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/60)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/672)، ((تفسير الزمخشري)) (4/321)، ((تفسير أبي حيان)) (8/78)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/690)، ((تفسير الألوسي)) (13/204)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/94). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله سبحانَه ما أعدَّه للمؤمنينَ مِن نعيمٍ، وما أعدَّه للكافِرينَ مِن عذابٍ أليمٍ، فيقولُ: إنَّ اللهَ يُدخِلُ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ جَنَّاتٍ تَجري مِن تحتِ أشجارِها الأنهارُ. والَّذين كَفَروا يَتمتَّعونَ بشَهَواتِ الدُّنيا ولَذَّاتِها، ويأكُلونَ فيها كما تأكُلُ الأنعامُ، والنَّارُ مَأوًى لهم، يَصيرونَ إليها.
 ثمَّ يُسلِّي اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّا أصابَه مِن أذًى، فيقولُ: وكثيرٌ مِن القُرَى كان أهلُها -يا مُحمَّدُ- أشَدَّ قُوَّةً مِن أهلِ مكَّةَ الَّذين أخرَجوك منها: أهلَكَهم اللهُ وأبادَهم، فلا ناصِرَ لهم يَنصُرُهم مِن عذابَ اللهِ.
 ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالى الفرْقَ بيْنَ حالِ المؤمنينَ وحالِ الكافِرينَ، فيقولُ: أفمَن كان على بَصيرةٍ بالحَقِّ مِن رَبِّه كمَن حسَّنَ له الشَّيطانُ قَبيحَ عمَلِه، فاتَّبَعَ ما دعَتْه إليه نَفْسُه مِن الضَّلالاتِ بلا حُجَّةٍ ولا بُرهانٍ؟!
ثمَّ يخبِرُ الله تعالى عن مصيرِ كلٍّ مِن المؤمنينَ والكافرينَ، فيقولُ: صِفةُ الجنَّةِ الَّتي وَعَد اللهُ بها المتَّقينَ أنَّ فيها أنهارًا مِن ماءٍ عَذبٍ غيرِ مُتغَيِّرِ الرِّيحِ أو الطَّعمِ أو اللَّونِ، وأنهارًا مِن لَبَنٍ لم يَتغَيَّرْ طَعمُه، وأنهارًا مِن خَمرٍ طَيِّبةٍ لَذَّةٍ للشَّارِبينَ، وأنهارًا مِن عَسَلٍ مُصفًّى خالٍ مِن كلِّ الشَّوائِبِ، وللمُتَّقينَ في الجنَّةِ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ، ومَغفِرةٌ مِن اللهِ لِذُنوبِهم. أفمَنْ كان في الجنَّةِ الَّتي ذلك وَصفُها كمَن هو ماكِثٌ في النَّارِ أبدًا، وسُقِيَ فيها ماءً شَديدَ الحَرارةِ فقَطَّعَ أمعاءَه؟!

تفسير الآيات:

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى حالَ المُؤمِنينَ والكافِرينَ في الدُّنيا؛ بيَّنَ حالَهم في الآخِرةِ [182] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/44). .
وأيضًا لَمَّا ذَكرَ اللهُ تعالى أنَّه وَليُّ المُؤمِنينَ؛ ذَكرَ ما يَفعَلُ بهم في الآخِرةِ. ولَمَّا ذَكرَ أنَّ الكافِرينَ لا مَوْلَى لهم؛ ذَكرَ أنَّهم وُكِلوا إلى أنفُسِهم؛ فلم يَتَّصِفوا بصِفاتِ المُروءةِ، ولا الصِّفاتِ الإنسانيَّةِ، بل نَزَلوا عنها دَرَكاتٍ، وصاروا كالأنْعامِ الَّتي لا عَقْلَ لها ولا فَضْلَ، بل جُلُّ هَمِّهم ومَقصدِهمُ التَّمتُّعُ بلَذَّاتِ الدُّنيا وشَهواتِها [183] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 786). .
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: إنَّ اللهَ يُدخِلُ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ جَنَّاتٍ تَجري الأنهارُ مِن تحتِ أشجارِها [184] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/197)، ((تفسير ابن كثير)) (7/311)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/214)، ((تفسير الشوكاني)) (3/522)، ((تفسير السعدي)) (ص: 786). قال الرازي: (مِنْ في قَولِه: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يحتَمِلُ أن يكونَ صِلةً معناه: تجري تحتَها الأنهارُ، ويحتَمِلُ أن يكونَ المرادُ: أنَّ ماءَها منها، لا يجري إليها مِن مَوضِعٍ آخَرَ فيُقالُ: هذا النَّهرُ مَنبَعُه مِن أينَ؟ يُقالُ: مِن عَينِ كذا، مِن تحتِ جبَلِ كذا). ((تفسير الرازي)) (28/44). وقال الشوكاني: (إنْ أُريدَ بها [أي: بالجنَّاتِ] الأشجارُ المتكاثِفةُ السَّاترةُ لِما تحتَها، فجَرَيانُ الأنهارِ مِن تحتِها ظاهِرٌ، وإنْ أُريدَ بها الأرضُ فلا بدَّ مِن تقديرِ مُضافٍ، أي: مِن تحتِ أشجارِها). ((تفسير الشوكاني)) (3/522). .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ.
أي: والَّذين كَفَروا بالحَقِّ يَتمتَّعونَ في الدُّنيا بشَهَواتِها وملَذَّاتِها، ويأكُلونَ فيها كما تأكُلُ الأنعامُ الَّتي لا هَمَّ لها سِوى ذلك [185] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/197)، ((تفسير السمرقندي)) (3/299)، ((تفسير ابن كثير)) (7/311)، ((تفسير السعدي)) (ص: 786). وعباراتُ المفسِّرينَ في معنى تَشبيهِهم بالأنعامِ هنا مُتقارِبةٌ؛ فقيل: معنى تَشبيهِهم بالأنعامِ هنا: أنَّه ليس لهم هِمَّةٌ سِوى الأكلِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/197)، ((تفسير ابن كثير)) (7/311). وقيل: المعنى: ليس لهم همَّةٌ إلَّا بُطونهم وفُروجهم، وهم لاهُون ساهُون عمَّا في غَدِهم. وممَّن اختاره: الثعلبيُّ، والبغوي، والقرطبي، والخازن، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/31)، ((تفسير البغوي)) (4/211)، ((تفسير القرطبي)) (16/235)، ((تفسير الخازن)) (4/142)، ((تفسير الشوكاني)) (5/39). قال ابن الجوزي: (إنَّ الأنعامَ تأكُلُ وتَشرَبُ، ولا تَدري ما في غَدٍ، فكذلك الكفَّارُ لا يَلتَفِتونَ إلى الآخرةِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/117). وقيل: المعنى: أنَّهم لا يَخافونَ عِقابًا، ولا يَرجُونَ ثوابًا. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: السَّمْعانيُّ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/172). وقيل: المعنى: غافِلينَ عن العاقِبةِ، غيرَ مُفكِّرينَ فيها. وممَّن اختاره: الزمخشري، والبيضاوي، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/320)، ((تفسير البيضاوي)) (5/121)، ((تفسير الألوسي)) (13/202). قال الزَّمخشري: (يَتَمَتَّعُونَ يَنتَفِعونَ بمَتاعِ الحياةِ الدُّنيا أيامًا قلائِلَ وَيَأْكُلُونَ غافِلينَ غيرَ مُفَكِّرينَ في العاقِبةِ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ في مَسارِحِها ومَعالِفِها غافِلةً عمَّا هي بصَدَدِه مِنَ النَّحرِ والذَّبحِ!). ((تفسير الزمخشري)) (4/320). وقال البِقاعي: (كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ أكْلَ الْتِذاذٍ ومَرَحٍ، مِن أيِّ مَوضعٍ كان، وكيف كان الأكلُ؛ في سبعةِ أمعاءٍ، أي: في جميعِ بُطونِهم مِن غيرِ تمييزٍ للحَرامِ مِن غَيرِه). ((نظم الدرر)) (18/ 215). .
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((المؤمِنُ يأكُلُ في مِعًى واحدٍ، والكافِرُ يأكُلُ في سَبعةِ أمعاءٍ )) [186] رواه البخاري (5393) واللَّفظُ له، ومسلم (2060). .
وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ.
أي: وستَكونُ النَّارُ مَسكنًا لهم يَصيرونَ إليه، ويَستَقِرُّونَ فيه؛ فتُنسِيهم كُلَّ نعيمٍ كانوا فيه [187] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/197)، ((تفسير ابن كثير)) (7/311)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/215)، ((تفسير الشوكاني)) (5/39). !
كما قال تعالى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران: 196، 197].
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ضَربَ اللهُ تعالى مَثَلًا للكافِرينَ بقَولِه: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [محمد: 10]، ولم يَنفَعْهم مع ما تَقدَّمَ مِنَ الدَّلائلِ؛ ضَرَب للنَّبيِّ عليه السَّلامُ مَثلًا تَسليةً له، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ، وكانوا أشَدَّ مِن أهلِ مكَّةَ، كذلك نَفعَلُ بهم؛ فاصبِرْ كما صبَرَ رُسُلُهم [188] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/45). .
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ.
أي: وما أكثَرَ القُرى الَّتي كان أهلُها -يا مُحمَّدُ- أكثَرَ قُوَّةً وعَدَدًا ومالًا مِن أهلِ مكَّةَ الَّذين أخرَجوكَ منها؛ فأهلَكَهم اللهُ بالعَذابِ، وأبادَهم حينَ كذَّبوا رُسُلَهم [189] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/197)، ((الوسيط)) للواحدي (4/122)، ((تفسير القرطبي)) (16/235)، ((تفسير ابن كثير)) (7/311، 312)، ((تفسير السعدي)) (ص: 786). قال ابنُ عطيَّة: (يقالُ: إنَّ هذه الآيةَ نَزَلت إثرَ خُروجِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن مكَّةَ في طَريقِ المدينةِ. وقيل: نزلَت بالمدينةِ. وقيل: نزلَت بمكَّةَ عامَ دخلَها رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بعدَ الحُدَيْبيَةِ. وقيل: نزَلَت عامَ الفتحِ وهو مُقبِلٌ إليها. وهذا كُلُّه حُكمُه حُكمُ المَدَنيِّ). ((تفسير ابن عطية)) (5/113). .
كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] .
وقال الله تبارَكَ وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة: 1] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ ابنِ حَمْراءَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((رأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم واقِفًا على الحَزْوَرةِ [190] الحَزْوَرة: موضعٌ بمكةَ. يُنظر: ((شرح المشكاة)) للطيبي (6/2047)، ((مرقاة المفاتيح)) للمباركفوري (5/1868). ، فقال: واللهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أرضِ اللهِ، وأحَبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، ولولا أنِّي أُخرِجْتُ مِنكِ ما خرَجْتُ )) [191] أخرجه الترمذي (3925) واللَّفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (4252)، وابن ماجه (3108)، وأحمد (18715). قال الترمذي: (حسَنٌ غريبٌ صحيحٌ). وصحَّحه ابنُ عبدِ البَرِّ في ((الاستذكار)) (2/451)، وابنُ حزم في ((المحلى)) (7/289)، وابنُ حجر في ((فتح الباري)) (3/81)، وابن باز في ((الفوائد العلمية من الدروس البازية)) (5/123)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3925). .
فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ.
أي: فلم يكُنْ لهم ناصِرٌ يَنصُرُهم، فيَمنَعَ عنهم عذابَ اللهِ حينَ أهلَكَهم اللهُ [192] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/46)، ((تفسير ابن جرير)) (21/199)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/91). .
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان قولُه تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ دليلًا شُهودِيًّا بعدَ الأدِلَّةِ العَقليَّةِ على ما تقدَّمَ الوعدُ به - أنَّه ينصُرُ مَن ينصُرُه، ويخذُلُ مَن يعاندُه-؛ سبَّبَ عنه الإنكارَ عليهم، فقال [193] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/216، 217). :
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14).
أي: أفمَن كان على بصيرةٍ مِن رَبِّه وعِلمٍ ومَعرفةٍ بالحَقِّ، فهو يُؤمِنُ به ويَتَّبِعُه، ويَعرِفُ سُوءَ عَمَلِه وهواه ويجتَنِبُه؛ كالَّذي حُسِّن له قبيحُ أعمالِه مِن شِركٍ أو معصيةٍ، فاتَّبعَ ما دعَتْه إليه نَفْسُه مِن الضَّلالاتِ بلا حُجَّةٍ ولا بُرهانٍ؟ لا يَستويانِ [194] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/199)، ((تفسير ابن كثير)) (7/312)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/216، 217)، ((تفسير الشوكاني)) (5/41)، ((تفسير السعدي)) (ص: 786). قال الزَّمخشري: («مَن زُيِّنَ له» هم أهلُ مكَّةَ الَّذين زيَّن لهم الشَّيطانُ شِرْكَهم وعداوتَهم لله ورَسولِه، و«مَن كان على بيِّنةٍ مِن رَبِّه» -أي: على حُجَّةٍ مِن عندِه وبُرهانٍ، وهو القُرآنُ المُعجِزُ، وسائِرُ المُعجِزاتِ- هو رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير الزمخشري)) (4/320). وقال القُرطبي: (هذا التَّزيينُ مِن جِهةِ اللهِ خَلْقًا، ويجوزُ أن يكونَ مِن الشَّيطانِ دُعاءً ووَسْوَسةً، ويجوزُ أن يكونَ مِن الكافِرِ، أي: زَيَّن لِنَفْسِه سُوءَ عَمَلِه، وأصَرَّ على الكُفرِ). ((تفسير القرطبي)) (16/236). !
كما قال تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17] .
وقال سُبحانَه: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [الرعد: 19] .
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى الفرقَ بيْنَ الفَريقَينِ في الاهتِداءِ والضَّلالِ؛ بيَّن الفرقَ بيْنَهما في مَرجِعِهما ومآلِهِما، وكما قدَّمَ مَن على البَيِّنةِ في الذِّكرِ على مَنِ اتَّبعَ هواه؛ قدَّمَ حالَه في مآلِه على حالِ مَن هو بخِلافِ حالِه [195] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/46). .
وأيضًا لَمَّا تكرَّر ذِكرُ الجنَّةِ والنَّارِ في هذه السُّورةِ، إلى أنْ خَتَمَ بهذه الآيةِ الَّتي قسَّمَ النَّاسَ فيها إلى أولياءَ مُهتَدينَ، وأعداءَ ضالِّينَ مُعتَدينَ، فهَدَى سِياقُها إلى أنَّ التَّقديرَ: أفمَن كان على بيِّنةٍ مِن ربِّه أحْياه الحياةَ الطَّيِّبةَ في الدَّارَينِ، ومَن تَبِعَ هَواه أرْداه فيهما؛ أتْبَعَه وَصْفَ الجنَّةِ الَّتي هي دارُ أولِيائِه، قادَهم إليها الهُدى، والنَّارِ الَّتي هي دارُ أعدائِه، ساقَهم إليها الضَّلالُ المُحتَّمُ للرَّدى [196] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/218). .
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ.
أي: صِفةُ الجنَّةِ الَّتي وَعَدَ اللهُ بها المتَّقينَ أنَّ فيها أنهارًا مِن ماءٍ عَذبٍ صافٍ، غيرِ مُتغَيِّرِ الرِّيحِ أو الطَّعمِ أو اللَّونِ [197] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/200)، ((تفسير القرطبي)) (16/236)، ((تفسير ابن كثير)) (7/312)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/218-220)، ((تفسير السعدي)) (ص: 786). .
كما قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [الرعد: 35] .
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا عُرِجَ بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى السَّماءِ قال: أتَيْتُ على نَهرٍ حافَتاهُ قِبابُ اللُّؤلُؤِ مُجَوَّفًا، فقلتُ: ما هذا يا جِبريلُ؟ قال: هذا الكَوثَرُ !)) [198] رواه البخاري (4964). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَنْ آمَنَ باللهِ ورَسولِه، وأقام الصَّلاةَ، وصام رَمَضانَ؛ كان حقًّا على اللهِ أن يُدخِلَه الجنَّةَ؛ هاجَرَ في سَبيلِ اللهِ، أو جَلَس في أرضِه الَّتي وُلِدَ فيها. قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أفلا نُنَبِّئُ النَّاسَ بذلك؟ قال: إنَّ في الجنَّةِ مِئةَ دَرَجةٍ أعدَّها اللهُ للمُجاهِدينَ في سَبيلِه، كُلُّ دَرَجتَينِ ما بيْنَهما كما بينَ السَّماءِ والأرضِ، فإذا سألْتُمُ اللهَ فسَلُوه الفِرْدَوسَ؛ فإنَّه أوسَطُ الجنَّةِ، وأعلى الجنَّةِ، وفوقَه عَرشُ الرَّحمنِ، ومِنه تَفَجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ! )) [199] رواه البخاري (7423). .
وعن مُعاويةَ بنِ حَيْدةَ القُشَيْريِّ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ في الجنَّةِ بَحرَ الماءِ، وبَحرَ العَسَلِ، وبَحرَ اللَّبَنِ، وبَحرَ الخَمرِ، ثمَّ تَشَقَّقُ الأنهارُ بَعْدُ)) [200] أخرجه الترمذي (2571) واللَّفظُ له، وأحمد (20052). قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ). وصَحَّحه ابنُ حِبَّانَ في ((الصحيح)) (7409)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2571)، وحسَّن إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (33/246). .
وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ.
أي: وفي الجنَّةِ أنهارٌ مِن لَبَنٍ لم يَتغَيَّرْ طَعمُه بحُموضةٍ أو غَيرِها [201] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/200)، ((تفسير القرطبي)) (16/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 786). .
وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ.
أي: وفيها أنهارٌ مِن خَمرٍ طَيِّبةٍ يَلْتَذُّ بها الشَّارِبونَ، بلا صُداعٍ أو غيرِه مِن الآفاتِ [202] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/201)، ((تفسير الزمخشري)) (4/322)، ((تفسير القرطبي)) (16/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 786). .
كما قال تعالى: بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصافات: 46] .
وقال سُبحانَه: لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [الواقعة: 19] .
وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى.
أي: وفيها أنهارٌ مِن عَسَلٍ خَلَقَه اللهُ في غايةِ الصَّفاءِ، خاليًا مِن سائِرِ الشَّوائِبِ والأوساخِ [203] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/201)، ((تفسير القرطبي)) (16/237)، ((تفسير ابن كثير)) (7/313)، ((تفسير السعدي)) (ص: 786)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/97). .
وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ.
أي: وللمُتَّقينَ في الجنَّةِ ثَمَراتٌ مِن جَميعِ الأنواعِ [204] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/202)، ((تفسير السمعاني)) (5/174)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/223، 224)، ((تفسير السعدي)) (ص: 786)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/ 97). .
كما قال تعالى: يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ [الدخان: 55] .
وقال سُبحانَه: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن: 52].
وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ.
أي: ولأهلِ الجنَّةِ معَ ذلك النَّعيمِ العَظيمِ مَغفِرةٌ مِن اللهِ لِذُنوبِهم؛ فيَتجاوَزُ عنها، ولا يُعاقِبُهم عليها، ويَستُرُها [205] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/202)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6898)، ((تفسير القرطبي)) (16/237)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/97). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التغابن: 9] .
وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ اللهَ يُدْني المُؤمِنَ فيَضَعُ عليه كَنَفَه [206] كَنَفَه: أي: حِفْظَه وسِتْرَه. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (4/254). ويَستُرُه، فيقولُ: أتَعرِفُ ذَنْبَ كذا؟ أتعرِفُ ذنْبَ كذا؟ فيَقولُ: نعَمْ، أيْ رَبِّ. حتَّى إذا قرَّرَه بذُنوبِه، ورأى في نَفْسِه أنَّه هَلَك، قال: ستَرْتُها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفِرُها لك اليَومَ! فيُعطَى كِتابَ حَسَناتِه )) [207] رواه البخاريُّ (2441) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2768). .
كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ.
أي: فهل يَكونُ مَنْ في الجنَّةِ -الَّتي تلك صِفَتُها- كمَن هو ماكِثٌ في النَّارِ أبدًا، وسُقِيَ فيها ماءً قد بَلَغ الغايةَ في شِدَّةِ حَرارتِه، فقَطَّع ما في بَطنِه مِن أمعاءٍ [208] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/202)، ((تفسير السمرقندي)) (3/301)، ((الهداية)) لمكي (11/6899)، ((تفسير ابن كثير)) (7/314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 786). قال القرطبيُّ: (الأمعاءُ: جمعُ مِعًى... وهو جميعُ ما في البَطنِ مِن الحوايا). ((تفسير القرطبي)) (16/237). ؟!
كما قال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج: 19، 20].

الفوائد التربوية:

1- قال الله عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، والعملُ الصَّالحُ مبنيٌّ على الإيمانِ، فعمَلٌ بلا إيمانٍ لا فائدةَ منه، فالمنافقون يَعمَلونَ، ويَذكُرونَ الله، ويُصَلُّون، ويَتصدَّقونَ، ولكن ليس عندَهم إيمانٌ؛ فلا يَنفعُهم؛ ولهذا يُقدِّمُ اللهُ عزَّ وجلَّ الإيمانَ على العملِ الصَّالحِ [209] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/430). .
2- العملُ لا ينفعُ صاحبَه إلَّا إذا كان صالحًا؛ قال تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، والعملُ الصَّالحُ هو: الخالصُ الصوابُ؛ أي: ما ابتُغِيَ به وجهُ الله، وكان على شريعةِ الله [210] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/253). .
3- الإيمانُ وحْدَه لا يكفي، بل لا بدَّ مِن عملٍ، والعملُ وحْدَه لا يكفي، بل لا بدَّ مِن إيمانٍ، فلا يستحقُّ الجنَّةَ إلَّا مَن جمَع بيْنَ الإيمانِ والعملِ الصالحِ؛ قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ، وإذا ذُكِر ثوابُ الجنَّةِ مقيَّدًا أو مُعلَّقًا بالإيمانِ وحْدَه فالمرادُ بذلك الإيمانُ المتضمِّنُ للعملِ الصَّالحِ [211] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/252). .
4- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ دَلالةٌ على أنَّ كَثرةَ الأكلِ مِن صِفةِ الكُفَّارِ [212] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (9/539). ، وقد ذمَّهم اللهُ تعالى بكثرةِ الأكلِ؛ فإذا كان المؤمنُ يتشبَّهُ بهم، ويتنَعَّمُ بتَنعُّمِهم في كلِّ أحوالِه وأزمانِه؛ فأين حَقيقةُ الإيمانِ، والقِيامُ بوَظائفِ الإسلامِ؟! ومَن كَثُرَ أكلُه وشُربُه كَثُرَ نَهَمُه وحِرصُه، وزاد باللَّيلِ كَسَلُه ونَومُه، فكان نَهارَه هائمًا، ولَيْلَه نائمًا [213] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/67). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، كثيرًا ما يَقتصِرُ اللهُ على ذِكرِ الأنهارِ في وصفِ الجنَّةِ؛ لأنَّ الأنهارَ يَتبَعُها الأشجارُ، والأشجارُ تَتبَعُها الثِّمارُ، ولأنَّه سببُ حياةِ العالَمِ، والنَّارُ سببُ الإعدامِ، وللمؤمنِ الماءُ؛ يَنظُرُ إليه، ويَنتفِعُ به. وللكافِرِ النَّارُ؛ يتقلَّبُ فيها، ويتضرَّرُ بها [214] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/44). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ، فيه سُؤالٌ: خصَّهم بالذِّكرِ، مع أنَّ المُؤمِنَ أيضًا له التَّمتُّعُ بالدُّنيا وطيِّباتِها؟
الجَوابُ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: مَن يكونُ له مُلكٌ عَظيمٌ، ويَملِكُ شيئًا يَسيرًا أيضًا، لا يُذكَرُ إلَّا بالمُلكِ العَظيمِ، يُقالُ في حقِّ المَلِكِ العَظيمِ: صاحِبُ الضَّيعةِ الفُلانِيَّةِ. ومَن لا يَملِكُ إلَّا شيئًا يسيرًا، فلا يُذكَرُ إلَّا به؛ فالمُؤمِنُ له مُلْكُ الجنَّةِ؛ فمَتاعُ الدُّنيا لا يُلتَفَتُ إليه في حقِّه. والكافِرُ ليس له إلَّا الدُّنيا.
الوَجهُ الثَّاني: الدُّنيا للمُؤمِنِ سِجنٌ كيف كان، ومَن يأكُلُ في السِّجنِ لا يُقالُ: إنَّه يَتمتَّعُ [215] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/44). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ قال تعالى في حَقِّ المؤمِنِ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بصيغةِ الوَعدِ، وقال في حَقِّ الكافِرِ: وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ بصيغةٍ تُنبِئُ عن الاستِحقاقِ؛ وذلك لأنَّ الإحسانَ لا يَستَدعي أن يكونَ عن استِحقاقٍ؛ فالمُحسِنُ إلى مَن لم يُوجَدْ منه ما يُوجِبُ الإحسانَ: كَريمٌ، والمُعَذِّبُ مِن غيرِ استِحقاقٍ ظالِمٌ [216] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/45). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ فيه سُؤالٌ: كيف قَولُه: فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ، مع أنَّ الإهلاكَ ماضٍ، وقَولُه: فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ للحالِ والاستِقبالِ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ مَجراه مَجرى الحالِ المَحكِيَّةِ، كأنَّه قال: أهلَكْناهم فهم لا يُنصَرونَ [217] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/320). .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ المعنى: أهلَكْناهم في الدُّنيا، فلا ناصِرَ لهم يَنصُرُهم، ويُخَلِّصُهم مِن العذابِ الَّذي هم فيه.
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ قَولَه: فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ عائِدٌ إلى أهلِ قَريةِ مُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، كأنَّه قال: أهلَكْنا مَن تقَدَّم أهلَ قَريتِك، ولا ناصِرَ لأهلِ قَريتِك يَنصُرُهم، ويُخَلِّصُهم ممَّا جرَى على الأوَّلينَ [218] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/45). .
5- في قَولِه تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ أنَّ القريةَ لُغةً تُطلَقُ حتَّى على المدينةِ الكبيرةِ [219] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 57). .
6- قَولُه تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فيه إشارةٌ إلى الفَرقِ بيْنَ النَّبيِّ عليه السَّلامُ والكفَّارِ؛ لِيُعلَمَ أنَّ إهلاكَ الكفَّارِ ونُصرةَ النَّبيِّ عليه السَّلامُ في الدُّنيا مُحقَّقٌ، وأنَّ الحالَ يُناسِبُ تعذيبَ الكافِرِ، وإثابةَ المُؤمِنِ [220] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/45). .
7- قال اللهُ تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وكَونُ البيِّنةِ مِن عِندِ اللهِ تَزكيةٌ لها، وكشْفٌ لِلتَّردُّدِ فيها، وإتمامٌ لِدَلالتِها [221] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/93). .
8- قال تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فتارةً يُحذفُ فاعلُ التَّزيينِ، كما قال: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر: 8] ، وتارةً يُضافُ التَّزيينُ إلى الله سبحانَه، كما في قولِه: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام: 108] ، وتارةً يُنسبُ التَّزيينُ إلى سببِه ومَن أجراه الله على يدِه، كما في قوله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 43] . والتَّزيينُ مِن الله سبحانَه خَلقًا ومشيئةً، وهو منه حَسَنٌ؛ إذ هو ابتِلاءٌ واختبارٌ؛ لِيَتميَّزَ المطيعُ منهم مِن العاصي، والمؤمِنُ مِن الكافِرِ، كما قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] ، وهو مِن الشَّيطانِ قَبيحٌ، وأيضًا فتزيينُه سُبحانَه للعَبدِ عَمَلَه السَّيِّئَ: عُقوبةٌ منه له على إعراضِه عن توحيدِه وعبوديَّتِه، وإيثارِ سَيِّئِ العمَلِ على حَسَنِه؛ فإنَّه لا بدَّ أن يُعَرِّفَه سُبحانَه السَّيِّئَ مِن الحَسَنِ، فإذا آثرَ القبيحَ واختاره وأحَبَّه ورَضِيَه لنَفْسِه، زيَّنه سُبحانَه له وأعماه عن رؤيةِ قُبحِه بعدَ أن رآه قبيحًا.
 فتزيينُ الرَّبِّ تعالى عَدلٌ، وعُقوبتُه حِكمةٌ، وتزيينُ الشَّيطانِ إغواءٌ وظُلمٌ، وهو السَّبَبُ الخارجُ عن العبدِ، والسَّبَبُ الداخِلُ فيه حُبُّه وبُغضُه وإعراضُه، والرَّبُّ سُبحانَه خالِقُ الجميعِ، والجميعُ واقِعٌ بمشيئتِه وقُدرتِه، ولو شاء لَهدى خَلْقَه أجمعينَ، والمعصومُ مَن عَصَمَه اللهُ، والمَخذولُ مَن خذَلَه اللهُ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [222] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 103). [الأعراف: 54] .
9- قَولُ اللهِ تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى قال في الخَمرِ: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، ولم يقُلْ في اللَّبَنِ: (لم يتغيَّرْ طَعمُه للطَّاعِمينَ)، ولا قال في العسَلِ: (مُصفًّى للنَّاظِرينَ)؛ وذلك لأنَّ اللَّذَّةَ تختَلِفُ باختلافِ الأشخاصِ؛ فرُبَّ طَعامٍ يلْتَذُّ به شَخصٌ، ويَعافُه الآخَرُ، فقال: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ بأسْرِهم، ولأنَّ الخَمرَ كَريهةُ الطَّعمِ، فقال: لَذَّةٍ، أي: لا يكونُ في خَمرِ الآخِرةِ كَراهةُ الطَّعمِ، وأمَّا الطَّعمُ واللَّونُ فلا يَختَلِفانِ باختِلافِ النَّاسِ؛ فإنَّ الحُلوَ والحامِضَ وغَيرَهما يُدرِكُه كُلُّ أحدٍ كذلك، لكِنَّه قد يَعافُه بَعضُ النَّاسِ، ويَلْتَذُّ به البَعضُ، مع اتِّفاقِهم على أنَّ له طَعمًا واحِدًا، وكذلك اللَّونُ؛ فلم يكُنْ إلى التَّصريحِ بالتَّعميمِ حاجةٌ [223] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/47). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى هذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على تعَدُّدِ الأنهارِ مع تعَدُّدِ أنواعِها، وقد جاءت آيةٌ أُخرى يُوهِمُ ظاهِرُها أنَّه نَهرٌ واحِدٌ، وهي قَولُه تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر: 54]؟
الجَوابُ: أنَّ قَولَه: وَنَهَرٍ يعني: وأنهارٍ [224] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 217). . فمِن أساليبِ اللُّغةِ العربيَّةِ الَّتي نزَل بها القرآنُ أنَّ المفردَ إذا كان اسمَ جِنسٍ، يَكثُرُ إطلاقُه مُرادًا به الجَمعُ معَ تنكيرِه، مثل هذه الآيةِ، ومثل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر: 67] أي: أطفالًا، وقولِه تعالى: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74] أي: أئمَّةً، وقولِه تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا [النساء: 4] أي: أنفُسًا، وقولِه تعالى: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69] أي: رُفَقاءَ، وقولِه تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] أي: مُظاهِرونَ [225] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/272). .
11- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ أشار بعدَ ذِكرِ المَشروبِ إلى المأكولِ، ولَمَّا كان في الجنَّةِ الأكلُ لِلَّذَّةِ لا للحاجةِ؛ ذكَرَ الثِّمارَ؛ فإنَّها تُؤكَلُ لِلَّذَّةِ، بخِلافِ الخُبزِ واللَّحمِ، وهذا كقَولِه تعالى في سورةِ الرَّعدِ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [الرعد: 35] ؛ حيث أشار إلى المأكولِ والمَشروبِ [226] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/47). .
12- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ فيه سُؤالٌ: المُتَّقي لا يَدخُلُ الجنَّةَ إلَّا بعدَ المَغفِرةِ، فكيف يكونُ لهم فيها مَغفِرةٌ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: ليس بلازمٍ أن يكونَ المعنى: لهم مَغفِرةٌ مِن رَبِّهم فيها، بل يكونُ عَطفًا على قَولِه (لهم)، كأنَّه تعالى قال: لهم الثَّمَراتُ فيها، ولهم المَغفِرةُ قبْلَ دُخولِها.
الوَجهُ الثَّاني: هو أن يكونَ المعنى: لهم فيها مَغفِرةٌ، أي: رفْعُ التَّكليفِ عنهم، فيأكُلونَ مِن غيرِ حِسابٍ -فمَغفِرةٌ أي: تَجاوُزٌ عنهم، أي: إطلاقٌ في أعمالِهم-، بخِلافِ الدُّنيا؛ فإنَّ الثِّمارَ فيها على حِسابٍ أو عِقابٍ.
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ الآكِلَ في الدُّنيا لا يخلو عن استِنتاجِ قَبيحٍ أو مَكروهٍ، كمَرَضٍ أو حاجةٍ إلى تبَرُّزٍ، فقال: وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ، لا قَبيحٌ على الآكِلِ، بل مَستورُ القبائِحِ مَغفورٌ [227] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/47، 48). .
الوَجهُ الرَّابعُ: أن تكونَ المَغفِرةُ كنايةً عن الرِّضوانِ عليهم، كما قال تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/97). [التوبة: 72] .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ استِئنافٌ بَيانيٌّ جَوابُ سُؤالٍ عن حالِ المُؤمِنين في الآخِرةِ، وعن رِزْقِ الكافِرين في الدُّنيا؛ فبيَّنَ اللهُ أنَّ مِن وِلايتِه المُؤمِنينَ أنْ يُعطِيَهم النَّعيمَ الخالِدَ بعْدَ النَّصرِ في الدُّنيا، وأنَّ ما أعطاهُ الكافِرينَ في الدُّنيا لا عِبرةَ به؛ لأنَّهم مَسْلوبونَ مِن فَهْمِ الإيمانِ؛ فحَظُّهم مِن الدُّنيا أكْلٌ وتَمتُّعٌ كحَظِّ الأنعامِ، وعاقِبتُهم في عالَمِ الخُلودِ العَذابُ؛ وهذا الاستِئنافُ وقَعَ اعتراضًا بيْنَ جُملةِ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [محمد: 10] وجُملةِ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ [محمد: 13] الآيةَ [229] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/89). .
- وفي الآيةِ تَقابُلٌ بيْنَ قَولِه: يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ وقَولِه: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وفيه إيماءٌ إلى قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((الدُّنيا سِجنُ المؤمنِ، وجنَّةُ الكافِرِ )) [230] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/334). والحديث أخرجه مسلم (2956) من حديث أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه. .
- وفي قَولِه: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ أُسنِدَ إدخالُ الجنَّةِ إلى اللهِ، وأُهمِلَ إسنادُ النَّارِ، وخُولِفَ بيْنَ الجُملتينِ فِعليَّةً واسميَّةً؛ لِلْإيذانِ بسَبْقِ الرَّحمةِ، والإعلامِ بتَصْييرِ المُؤمِنينَ، والوعْدِ بأنَّ عاقِبتَهم أنَّ اللهَ يُدخِلُهم جنَّاتٍ، وأنَّ الكافِرين مَثْواهم النَّارُ، وهمُ الآنَ حاضِرون فيها، ولا يَدْرون، وكالبَهائمِ يَأْكُلون [231] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/334). .
- قولُه: وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ عُدِلَ عن الإضافةِ لِتُنَوَّنَ، فقِيل: مَثْوًى لَهُمْ بالتَّعليقِ باللَّامِ؛ لِيُفادَ بالتَّنوينِ مَعنى التَّمكُّنِ مِن القَرارِ في النَّارِ مَثْوًى، أي: مَثْوًى قَويًّا لهم؛ لأنَّ الإخبارَ عن النَّارِ في هذه الآيةِ حَصَلَ قبْلَ مُشاهَدتِها؛ فلذلك أُضِيفَت في قَولِه: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ [الأنعام: 128] ؛ لأنَّه إخبارٌ عنها وهمْ يُشاهِدونَها في المَحشرِ [232] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/90). .
2- قَولُه تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ عطْفٌ على جُملةِ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [محمد: 10] ، وما بيْنَهما استِطْرادٌ اتَّصَلَ بَعضُه ببَعضٍ [233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/90). .
- والمُرادُ بالقَريةِ: أهْلُها؛ بقَرينةِ قَولِه: أَهْلَكْنَاهُمْ، وإنَّما أُجرِيَ الإخبارُ على القريةِ وضَميرِها؛ لِإفادةِ الإحاطةِ بجَميعِ أهْلِها، وجَميعِ أحوالِهم، ولِيَكونَ لِإسنادِ إخراجِ الرَّسولِ إلى القرْيةِ كلِّها وَقْعٌ مِن التَّبِعةِ على جَميعِ أهْلِها، سَواءٌ منهم مَن تَولَّى أسبابَ الخروجِ، ومَن كان يَنظُرُ ولا يَنْهى [234] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/90). .
- وهذا إطنابٌ في الوَعيدِ؛ لأنَّ مَقامَ التَّهديدِ والتَّوبيخِ يَقْتضي الإطنابَ؛ فمُفادُ هذه الآيةِ مُؤكِّدٌ لِمُفادِ قَولِه: فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد: 10] ، فحصَلَ تَوكيدُ ذلك بما هو مُقارِبٌ له مِن إهلاكِ الأُمَمِ ذَواتِ القُرى والمُدنِ، بعْدَ أنْ شمِلَ قَولُه: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مَن كان مِن أهْلِ القُرى، وزاد هنا التَّصريحُ بأنَّ الَّذين مِن قبْلِهم كانوا أشدَّ قُوَّةً منهم؛ لِيَفْهَموا أنَّ إهلاكَ هؤلاء هيِّنٌ على اللهِ؛ فإنَّه لَمَّا كان التَّهديدُ السَّابقُ تَهديدًا بعَذابِ السَّيفِ مِن قَولِه: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد: 4] الآياتِ، قد يُلْقي في نُفوسِهم غُرورًا بِتَعذُّرِ استِئصالِهم بالسَّيفِ، وهمْ ما همْ مِن المَنَعةِ، وأنَّهم تَمنَعُهم قَريتُهم مكَّةُ، وحُرْمتُها بيْنَ العرَبِ، فلا يَقعُدون عن نُصْرتِهم، فرُبَّما اسْتخَفُّوا بهذا الوعيدِ، ولم يَسْتكينوا لهذا التَّهديدِ؛ فأعْلَمَهم اللهُ أنَّ قُرًى كَثيرةً كانتْ أشدَّ قُوَّةً مِن قَريتِهم، أهْلَكَهم اللهُ فلمْ يَجِدوا نَصيرًا، وبهذا يَظْهَرُ الموقعُ البَديعُ لِلتَّفريعِ في قَولِه: فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ [235] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/90، 91). .
- وفي قَولِه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ وَصْفُ القرْيةِ الأُولى بشِدَّةِ القُوَّةِ؛ لِلْإيذانِ بأوْلَويَّةِ الثَّانيةِ منها بالإهلاكِ؛ لِضَعْفِ قُوَّتِها، كما أنَّ وَصْفَ القَريةِ الثَّانيةِ في قَولِه: مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ بإخْراجهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لِلْإيذانِ بأوْلَويَّتِها به؛ لِقُوَّةِ جِنايتِها [236] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/95). .
- زادتْ إضافةُ القرْيةِ إلى ضَميرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في قَولِه: قَرْيَتِكَ ووَصْفُها بـ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ مِن تَعْييرِ أهْلِها بمَذمَّةِ القَطيعةِ، ولِما تُؤذِنُ به الصِّلةُ مِن تَعليلِ إهْلاكِهم بسَببِ إخْراجِهم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن قَرْيتِه [237] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/91). .
- وقولُه: فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ بَيانٌ لِعَدَمِ خَلاصِهم مِن العَذابِ بِواسِطةِ الأعوانِ والأنصارِ، إثْرَ بَيانِ عَدَمِ خَلاصِهم منه بأنفُسِهم [238] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/320)، ((تفسير البيضاوي)) (5/121)، ((تفسير أبي السعود)) (8/95). .
- وفُرِّعَ على الإخبارِ بإهلاكِ اللهِ إيَّاهم الإخبارُ بانْتِفاءِ جِنسِ النَّاصِرِ لهم، أي: المُنقِذِ لهم مِن الإهلاكِ، والمَقصودُ: التَّذكيرُ بأنَّ أمثالَ هؤلاء المُشرِكين لم يَجِدوا دافعًا يَدفَعُ عنْهم الإهلاكَ، وذلك تَعْريضٌ بتَأْييسِ المُشرِكينَ مِن إلْفاءِ ناصرٍ يَنصُرُهم في حَرْبِهم لِلمُسلِمينَ؛ قطْعًا لِما قدْ يُخالِجُ نُفوسَ المُشرِكينَ أنَّهم لا يُغلَبونَ لِتَظاهُرِ قَبائلِ العرَبِ معَهم؛ ولذلك حزَّبوا الأحزابَ في وَقْعةِ الخَنْدقِ [239] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/91). .
3- قَولُه تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للشُّروعِ في بَيانِ حالِ الفريقَينِ المُؤمِنينَ والكافِرينَ. وتَقريرٌ لِتَبايُنِ حَالَيْ فَريقَيِ المُؤمِنينَ والكافِرين، وكَونِ المؤمنينَ في أعْلَى عِلِّيِّينَ، والكافِرينَ في أسفَلِ سافِلينَ، وبَيانٌ لِعِلَّةِ ما لِكلٍّ منهما مِن الحالِ [240] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/95)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/207). .
- أو هو تَفريعٌ على جُملةِ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد: 13] ؛ لِتَحقيقِ أنَّهم لا ناصِرَ لهم تَحقيقًا يَرجِعُ إلى ما في الكلامِ مِن المَعنى التَّعريضيِّ؛ فهو شَبيهٌ بالاستِئنافِ البَيانيِّ جاء بأُسلوبِ التَّفريعِ. ويَجوزُ مع ذلك أنْ يَكونَ مُفرَّعًا على ما سَبَقَ مِن قَولِه: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [محمد: 12] الآيةَ، فيَكونَ له حُكْمُ الاعتِراضِ؛ لأنَّه تَفريعٌ على اعتِراضٍ، وهذا تَفنُّنٌ في تَلْوينِ الكلامِ؛ لِتَجْديدِ نَشاطِ السَّامِعينَ، وهو مِن الأساليبِ الَّتي ابتَكَرَها القُرآنُ في كَلامِ العرَبِ [241] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/92). .
- والاستِفهامُ في قَولِه: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ مُستعمَلٌ في إنكارِ المُماثَلةِ الَّتي يَقْتضيها حَرْفُ التَّشبيهِ، والمَقصودُ مِن إنكارِ المُشابَهةِ بيْنَ هؤلاءِ وهؤلاءِ هو تَفضيلُ الفَريقِ الأوَّلِ، وإنكارُ زَعْمِ المُشرِكينَ أنَّهم خَيرٌ مِن المُؤمِنينَ [242] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/95)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/92)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/207). .
أو هو استِفهامُ تَوقيفٍ وتَقريرٍ؛ لأنَّ الجوابَ مَعلومٌ، كما أنَّك إذا قلْتَ: مَن يَفعَلِ السَّيِّئاتِ يَشْقَ، ومَن يَفعَلِ الحَسَناتِ يَسعَدْ، ثمَّ قلْتَ: الشَّقاءُ أحَبُّ إليك أمِ السَّعادةُ؟ فقد عُلِمَ أنَّ الجوابَ: السَّعادةُ؛ فهذا مَجرى هَمْزةِ التَّوقيفِ والتَّقريرِ [243] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/337)، ((تفسير أبي حيان)) (9/465). .
- والمُرادُ بانتِفاءِ المُماثَلةِ الكِنايةُ عن التَّفاضُلِ، والمَقصودُ بالفضْلِ ظاهرٌ، وهو الفريقُ الَّذي وقَعَ الثَّناءُ عليه [244] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/94). .
- وفي التَّعبيرِ بوَصْفِ الرَّبِّ وإضافتِه إلى ضَميرِ الفريقِ في قَولِه: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ تَنبيهٌ على زُلْفَى الفريقِ الَّذي تَمسَّكَ بحُجَّةِ اللهِ [245] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/93). .
- وبُنِيَ فِعلُ زُيِّنَ لِلمَجهولِ؛ لِيَشملَ المُزيِّنينَ لهمْ مِن أئمَّةِ كُفْرِهم، وما سوَّلَتْه لهم أيضًا عُقولُهم الآفِنةُ مِن أفْعالِهم السَّيِّئةِ اغْتِرارًا بالإلْفِ، أو اتِّباعًا لِلَّذَّاتِ العاجلةِ، أو لِجَلْبِ الرِّئاسةِ، أي: زَيَّنَ له مُزَيِّنٌ سُوءَ عَمَلِه، وفي هذا البِناءِ إلى المَجهولِ تَنبيهٌ لهم أيضًا لِيَرْجِعوا إلى أنفُسِهم، فيَتأمَّلوا فيمَن زيَّنَ لهم سُوءَ أعْمالِهم [246] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/93، 94). .
- ولَمَّا كان تَزْيينُ أعمالِهم لهم يَبعَثُهم على الدَّأْبِ عليها، وكان يَتولَّدُ مِن ذلك إلْفُهم بها ووَلَعُهم بها، فتَصيرُ لهم أهواءً لا يَسْتطيعون مُفارَقَتَها؛ أُعقِبَ بقَولِه: وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [247] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/94). .
4- قَولُه تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ
- قولُه: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ... الآيةَ، استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ ما جَرَى مِن ذِكرِ الجنَّةِ في قَولِه: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [محمد: 12] ، ممَّا يَستشرِفُ السَّامعُ إلى تَفصيلِ بَعضِ صِفاتِها، وإذ قد ذُكِرَ أنَّها تَجْري مِن تَحتِها الأنهارُ مُوهِمٌ السَّامعَ أنَّها أنْهارُ المِياهِ؛ لأنَّ جَرْيَ الأنهارِ أكمَلُ مَحاسِنِ الجنَّاتِ المَرْغوبِ فيها، فلمَّا فُرِغَ مِن تَوصِيفِ حالِ فَريقَيِ الإيمانِ والكُفْرِ، وممَّا أُعِدَّ لِكِلَيْهِما، ومِن إعلانِ تَبايُنِ حالَيْهِما؛ ثُنِيَ العِنانُ إلى بَيانِ ما في الجنَّةِ الَّتي وُعِدَ المُتَّقون، وخُصَّ مِن ذلك بَيانُ أنواعِ الأنهارِ. ولَمَّا كان ذلك مَوقِعَ الجُملةِ، كان قَولُه: مَثَلُ الْجَنَّةِ مُبتدأً مَحذوفَ الخبَرِ، والتَّقديرُ: ما سَيُوصَفُ، أو ما سَيُتْلى عليكم، أو ممَّا يُتْلى عليكم. وقَولُه: كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ كَلامٌ مُستأنَفٌ مُقدَّرٌ فيه استِفهامٌ إنكاريٌّ، دلَّ عليه ما سبَقَ مِن قَولِه: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [محمد: 14] ، والتَّقديرُ: أكمَنْ هو خالدٌ في النَّارِ؟! والإنكارُ مُتسلِّطٌ على التَّشبيهِ الَّذي هو بمَعنى التَّسويةِ. ويَجوزُ أنْ تكونَ جُملةُ مَثَلُ الْجَنَّةِ بدَلًا مِن جُملةِ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ [محمد: 14] ؛ فهي داخِلةٌ في حيِّزِ الاسْتِفهامِ الإنكاريِّ، والخبَرُ قَولُه: كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ، أي: كحالِ مَن هو خالدٌ في النَّارِ؟! وذلك يَستلزِمُ اختِلافَ حالِ النَّارِ عن حالِ الجنَّةِ، فحصَلَ نحْوُ الاحتِباكِ [248] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ إذ دلَّ (مَثَلُ الجنَّةِ) على (مَثَلِ أصْحابِها)، ودلَّ (مَثَلُ مَن هو خالدٌ في النَّارِ) على (مَثَلِ النَّارِ). والمَقصودُ: بَيانُ البَونِ بيْنَ حالَيِ المُسلِمينَ والمُشرِكينَ بذِكْرِ التَّفاوُتِ بيْنَ حالَيْ مَصيرِهما المُقرَّرِ في قَولِه: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ إلى آخِرِه؛ ولذلك لمْ يُترَكْ ذِكْرُ أصحابِ الجنَّةِ وأصحابِ النَّارِ في خِلالِ ذِكْرِ الجنَّةِ والنَّارِ، فقال: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، وقال بعْدَه: كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ، ولِقَصْدِ زِيادةِ تَصويرِ مُكابَرةِ مَن يُسوِّي بيْنَ المُتمسِّكِ ببَيِّنةِ ربِّه وبيْن التَّابِعِ لِهَواهُ، أي: هو أيضًا كالَّذي يُسوِّي بيْنَ الجنَّةِ ذاتِ تلك الصِّفاتِ وبيْنَ النَّارِ ذاتِ صِفاتٍ ضِدِّها [249] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/321)، ((تفسير البيضاوي)) (5/121)، ((تفسير أبي حيان)) (9/466)، ((تفسير أبي السعود)) (8/95)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/94، 95). .
- قولُه: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الآيةَ، افْتُتِحَت السُّورةُ الكَريمةُ ووُسِمَت بَراعةُ اسْتِهلالِها بصِيغةِ التَّقابُلِ في الَّذين كَفَروا، وثُنِّيَ في أنَّ اللهَ يُدخِلُ الَّذين آمَنوا سُلوكَ تلك الطَّريقةِ، وثُلِّثَ في قَولِه: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ ذلك، وجُعِلَتْ هذه الآيةُ مُتفرِّعةً على هذه القَرينةِ بدَلالةِ أداةِ التَّشبيهِ، وجُعِلَ المُشبَّهُ والمُشبَّهُ به بتَمامِه مُمثَّلًا به، وإنَّما فُصِلَ بيْنَ الكَلامَينِ؛ لِيَقَعَ قَولُه: مَثَلُ الْجَنَّةِ اسْتِئنافًا؛ وذلك أنَّ الكافِرَ لَمَّا أُلقِيَ إليه نَفْيُ المُساواةِ بيْنَ مَن هو على بُرْهانٍ مِن ربِّه -وهو القُرآنُ المُعجِزُ-، وبيْنَ مَن رَكِبَ مَتْنَ الهَوى واتَّبَعَ الشَّهواتِ، كما قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ، وقُدِّرَ أنَّه -لِعَدَمِ الْتِفاتِه إلى هذا الإنكارِ- بمَنزِلةِ مَن يُصِرُّ على إنْكارِه، ويَقولُ بالتَّسويةِ، فأوقَعَ مَثَلُ الْجَنَّةِ إلى ساقتِه جَوابًا إلى هذا الإنكارِ المُتجدِّدِ، يَعني: إنْكارُكم هذا يَستلزِمُ التَّسويةَ بيْنَ حالتَيْ أهْلِ الجنَّةِ والنَّارِ، والنُّكتةُ في إيرادِ هذا الاسْتِئنافِ: هي أنَّ هذا مِن الأُمورِ المُقرَّرةِ الَّتي تَثبُتُ به الدَّعاوى؛ لِظُهورِ أدِلَّتِه، وأُدمِجَ فيه مَعنى التَّعريضِ أنَّهم في هذا الإصرارِ ممَّن هو خالِدٌ في النَّارِ، وبأنَّ الَّذي هو على بَيِّنةٍ مِن ربِّه في جنَّاتٍ تَجْري مِن تَحتِها الأنهارُ [250] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/336)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/95). .
- وعُبِّرَ عن المَوعودينَ الجنَّةَ بالمُتَّقينَ؛ إيذانًا بأنَّ الإيمانَ والعَمَلَ الصَّالحَ مِن بابِ التَّقْوى الَّذي هُو عبارةٌ عن فِعلِ الواجباتِ بأسْرِها، وتَرْكِ السَّيِّئاتِ عن آخِرِها [251] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/95). .
- وجُملةُ فِيهَا أَنْهَارٌ وما عُطِفَ عليها تَفصيلٌ للإجْمالِ الَّذي في جُملةِ مَثَلُ الْجَنَّةِ [252] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/95). .
- قولُه: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى إطلاقُ الأنهارِ على ما هو مِن لَبَنٍ وخمْرٍ وعسَلٍ على طَريقةِ التَّشبيهِ البليغِ، أي: مُماثِلةً لِلْأنهارِ؛ فيَجوزُ أنْ تَكونَ المُماثَلةُ تامَّةً في أنَّها كالأنْهارِ مُستبِحرةً في أخاديدَ مِن أرْضِ الجنَّةِ؛ فإنَّ أحوالَ الآخِرةِ خارقةٌ لِلْعادةِ المَعروفةِ في الدُّنيا، فإنَّ مَرأَى أنهارٍ مِن هذه الأصنافِ مَرأًى مُبهِجٌ. ويجوزُ أنْ تكونَ مُماثَلةُ هذه الأصنافِ لِلْأنهارِ في بَعضِ صِفاتِ الأنهارِ، وهي الاستِبْحارُ [253] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/96). .
- وأيضًا في قَولِه: أَنْهَارٌ تَمثيلٌ لِمَا يَقومُ مَقامَ الأشربةِ في الجنَّةِ بأنواعِ ما يُستَلَذُّ منها في الدُّنيا بالتَّجريدِ عمَّا يَنقُصُها ويُنَغِّصُها، والتَّوصيفِ بما يُوجِبُ غَزارتَها واسْتِمرارَها [254] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/121)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/341). .
- قولُه: آَسِنٍ قُرِئَ أَسِنٍ [255] وهي قراءةُ ابنِ كثيرٍ، وقرأ الباقون بالمدِّ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/ 374). لِلمُبالَغةِ [256] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/96). .
- وفي قَولِه: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ تَعريضٌ بخُمورِ الدُّنيا، كقَولِه تعالَى: لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [الصافات: 47] ، أي: هي لذيذةٌ لهم، ليس فيها كراهةُ طَعمٍ ورِيحٍ، ولا غائلةُ سُكرٍ وخُمارٍ كخُمورِ الدُّنيا؛ فإنَّها لا لَذَّةَ في نفْسِ شُربِها، وفيها من المكارِهِ والغوائِلِ ما فيها [257] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/341)، ((تفسير الألوسي)) (13/204)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/97). .
- وفي قَولِه: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وُصِفَتْ الخَمرُ بالمصدرِ (لذَّة)؛ للمُبالغةِ بجَعْلِها نفْسَ اللَّذَّةِ [258] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (12/85). .
- وبُدِئَ مِن هذه الأنهارِ بالماءِ، وهو الَّذي لا يُستغنَى عنه في المَشروباتِ، ثمَّ باللَّبَنِ؛ إذ كان يَجري مَجرى الطُّعومِ في كثيرٍ مِن أقواتِ العَرَبِ وغَيرِهم، ثمَّ بالخَمرِ؛ لأنَّه إذا حصَلَ الرِّيُّ والمطعومُ تشَوَّقَت النَّفْسُ إلى ما تَلْتَذُّ به، ثمَّ بالعَسَلِ؛ لأنَّ فيه الشِّفاءَ في الدُّنيا مِمَّا يَعرِضُ مِن المشروبِ والمطعومِ؛ فهو مُتأخِّرٌ في الهيئةِ [259] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/467). .
وفيه وَجهٌ آخَرُ: لَمَّا كان أكثَرُ شَرابِهم بعدَ الماءِ اللَّبَنَ ثَنَّى به، ولَمَّا كان أكثَرُ ما بعد اللَّبَنِ الخَمرَ قال: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ، ولَمَّا كان العَسَلُ أعَزَّها وأقَلَّها أخَّرَه وإن كان أجَلَّها [260] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/220، 221). . وفيه وَجهٌ آخَرُ: أنَّه لَمَّا كان السِّياقُ للتَّعَجُّبِ في ضَربِ المَثَلِ -لأنَّه قَولٌ لا يَنْفَكُّ عن غَرابةٍ- بدأ بأنهارِ الماءِ؛ لِغَرابتِها في بلادِهم، وشِدَّةِ حاجتِهم إليها، ولَمَّا كان خُلُوُّها عن تغيُّرٍ أغرَبَ نفاه، ولَمَّا كان اللَّبَنُ أقَلَّ، فكان جَرْيُه أنهارًا أغرَبَ، ثَنَّى به، ولَمَّا كان الخَمرُ أعَزَّ ثلَّثَ به، ولَمَّا كان العَسَلُ أشرَفَها وأقَلَّها خَتَم به [261] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/222، 223). .
- وقولُه: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا جِيءَ به لِمُقابَلةِ ما وُصِفَ مِن حالِ أهْلِ الجنَّةِ الَّذي في قَولِه: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ إلى قَولِه: مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، أي: أنَّ أهْلَ النَّارِ مَحرُومون مِن جَميعِ ما ذُكِرَ مِن المَشروباتِ، ولَيسوا بِذائقينَ إلَّا الماءَ الحميمَ الَّذي يُقطِّعُ أمْعاءَهُم بفَورِ سَقْيِه؛ ولذلك لم يُعرَّجْ هنا على طَعامِ أهْلِ النَّارِ الَّذي ذُكِرَ في قَولِه تعالَى: لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [الواقعة: 52- 54] ، وقَولِه: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات: 62] إلى قَولِه: فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ [262] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/97، 98). [الصافات: 66، 67].