موسوعة التفسير

سُورة الأنفالِ
الآيات (30-35)

ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ

غريب الكلمات:

يَمْكُرُ: المَكْرُ: صرفُ الغيرِ عمَّا يقصدُه بحيلةٍ، وأصلُ المكرُ: الاحتيالُ والخداعُ [414] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/45)، ((المفردات)) للراغب (1/772)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 218). .
لِيُثْبِتُوكَ: أي: لِيَحبِسوك ويَسجِنوك. وأصلُ (ثبت) يدلُّ على دوامِ الشَّيءِ [415] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/132)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 532)، ((مقاييس اللغة)) (1/399)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 218). .
أَسَاطِيرُ: أي: أباطيلُ وتُرَّهات؛ جمعُ أُسطورةٍ، وهي: ما سُطِرَ مِن أخبارِ الأوَّلينَ وكَذِبِهم [416] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 37)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 57)، ((المفردات)) للراغب (ص: 409)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 94)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 116). .
أَوْلِيَاءَهُ: الأولياءُ جمعُ وليٍّ، وأصلُ (ولي): يدلُّ على القُرْب، سواء مِن حيثُ: المكانُ، أو النِّسبةِ، أو الدِّينِ، أو الصَّداقةِ، أو النُّصرةِ، أو الاعتقادِ، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه [417] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((المفردات)) للراغب (ص: 885). .
مُكَاءً: أي: صَفيرًا، وأصلُ (مكا) يدلُّ على شَيءٍ مِن الأصواتِ [418] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 179)، ((تفسير ابن جرير)) (11/161)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 439)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/344)، ((المفردات)) للراغب (ص: 773)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 129)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 877). .
وَتَصْدِيَةً: أي: تصفيقًا، وهو أن يضْربَ بإحدَى يَدَيْه على الأُخرَى، فيخرجَ بينهمَا صَوتٌ، وقيل للتَّصفيقِ: تَصِديةٌ؛ لأنَّ اليدَينِ تَتصافقانِ، فيُقابِلُ صَفْقُ هذه صَفْقَ الأُخرى، وصَدُّ هذه صَدَّ الأُخرَى، وهما وَجْهاها [419] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 439)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/341)، ((المفردات)) للراغب (ص: 481)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 129)، ((تاج العروس)) للزبيدي (5/53)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 218). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- حين تمالأَ عليك كُفَّارُ قُريشٍ؛ لِيَسجُنوك أو يَقتُلوك أو يُخرِجوك مِن مكَّة، ويكيدونَ بك في خفاءٍ، ويكيدُ اللهِ بهم، فأنقَذَك اللهُ منهم وأهلَكَهم، واللهُ خيرُ مَن يُجازي بالسيئةِ العُقوبةَ، فيمكُرُ بمن كفَرَ به وعصاه، فيجازيهم بما يستحقُّونَه.
وإذا تُتلَى على هؤلاءِ الكُفَّارِ مِن قُريشٍ آياتُ القُرآنِ، قالوا: قد سَمِعْناها، ولو نَشاءُ لَقُلنا مِثلَ هذا، ما هذا القُرآنُ إلَّا أكاذيبُ سَطَرَها الأقدَمونَ مِن الأُمَمِ الماضيةِ.
واذكُر- يا مُحمَّدُ- حين قال كُفَّارُ قُريشٍ: اللهُمَّ، إن كان ما يقولُه مُحمَّدٌ حَقًّا، فأنزِلْ علينا مِن السَّماءِ حِجارةً مُتتابِعةً، أو عَذِّبْنا في الدُّنيا بعذابٍ مُوجِعٍ.
وما كان اللهُ لِيُعذِّبَهم وأنت فيهم- يا محمَّدُ- وما كان اللهُ مُعَذِّبَهم لو أنَّهم كانوا يَستغفرونَ اللهَ مِن كُفرِهم وذُنوبِهم، لكِنَّهم لا يفعلونَ، وما يمنَعُ أولئك الكُفَّارَ مِن أن يُعَذِّبَهم اللهُ وهم يمنَعونَ المُسلمينَ مِن الوُصولِ إلى المَسجدِ الحَرامِ، وما كانوا أولياءَ هذا المسجدِ الحرام، فأولياؤُه هم المُتَّقونَ، ولكِنَّ أكثَرَهم لا يَعلمونَ.
ثم أخبَرَ تعالى أنَّه ما كان صلاةُ كُفَّارِ قُريشٍ عند البَيتِ إلَّا صَفيرًا وتَصفيقًا، ثمَّ وجَّهَ الله تعالى الخِطابَ إلى كفَّارِ قُريشٍ قائلًا: فذُوقوا ألمَ العَذابِ بِسَببِ كُفرِكم.

تفسير الآيات:

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَّرَ اللهُ تعالى المؤمنينَ نِعَمَه عليهم بِقَولِه: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ؛ فكذلك هنا: ذكَّرَ رسولَه نِعَمَه عليه، وهو دَفعُ كَيدِ المُشرِكينَ، ومَكرِ الماكرينَ عنه [420] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/477)، ((تفسير أبي حيان)) (5/309). .
وأيضًا لَمَّا وعَدَ سُبحانَه في الآيةِ السَّابقةِ المُؤمنينَ بالفَضلِ العظيمِ، ذكَّرَهم من أحوالِ داعِيهم وقائِدِهم وهادِيهم- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بما يدعوهم إلى مُلازمةِ أسبابِه في سياقِ المُخاطَبةِ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ تذكيرًا بنِعمَتِه، وإشارةً إلى دوامِ نُصرَتِه [421] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/267). ، فقال تعالى:
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ.
أي: واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- نِعمَتي عليك حين كان كفَّارُ قُريشٍ يَكيدونَ لك، ويتآمَرونَ عليك في الخفاءِ؛ ليُقيِّدوك ويَسجِنوك، أو يَقتلُوك، أو يُخرِجوك مِن مكَّةَ [422] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/131، 141)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 437)، ((تفسير ابن كثير)) (4/43)، ((تفسير السعدي)) (ص: 319)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/571 - 573). قال الشنقيطي: (قال بعضُ العُلَماءِ: هذه الآيةُ مِن سورةِ الأنفالِ مكيَّةٌ، مع أنَّ الأنفالَ مَدنيَّةٌ. والأظهَرُ أنَّ هذه الآيةَ كَغَيرها من سورةِ الأنفالِ مَدَنيَّةٌ؛ وذلك أنَّ الله لَمَّا فتح على نبيِّه، ونَصَره يومَ بَدرٍ، وأنزل سورةَ الأنفال في وقعةِ بَدرٍ؛ ذكَّرَ نبيَّه بنِعَمِه الماضيةِ عليه في مكَّةَ قبل هِجرَتِه منها، وعرَّفَه إنعامَه عليه؛ حيث أنجاه مِن مَكرِ أعدائه). ((العذب النمير)) (4/571). .
قال تعالى: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ [التوبة: 13] .
وقال سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد: 13] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة: 40] .
وقال سبحانه: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 76] .
وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: 13] .
وقال سبحانه: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف: 88] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل: 56] .
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ.
أي: ويكيدُ بك كفَّارُ مكَّةَ في الخفاءِ، ويكيدُ اللهُ بهم أيضًا مِن حيثُ لا يَشعرونَ، فاسْتَنْقَذ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم منهم، وأهلَكهم [423] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/141)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 437)، ((تفسير الشوكاني)) (2/347)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/573، 578). قال الشنقيطي: (وَاللَّهُ جلَّ وعلا خَيْرُ الْمَاكِرِينَ مكَر لك بهم، وأخرَجك، ونجَّاك، وأظْفَرك بهم يومَ بدرٍ حتى قتلتَهم وأسرتَهم). ((العذب النمير)) (4/573). .
وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.
أي: واللهُ تعالى هو أفضَلُ مَن يُجازي بالسَّيئةِ العُقوبةَ، فيمكُرُ بمن كفَرَ به وعصاه، فيُجازيهم بما يستحقُّونَه، ولا أحدَ أقدرُ على ذلك مِنه [424] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/141)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 437)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/578). وقد تقدَّم تفسيرُ نظيرِ هذه الآية من هذا التفسير المحرر (2/233)، الآية (54). .
كما قال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق: 15-16] .
وقال عزَّ وجلَّ عن اليهودِ الذين أرادوا المكرَ بنبيِّه عيسَى عليه السلامُ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران: 54-55] .
وقال سبحانه: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 42] .
وقال تعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم: 46] .
وبيَّن بعضَ مكرِ قومِ صالحٍ، بقوله: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل: 50-53] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام: 123] .
وقال تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] .
وقال سبحانه: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر: 10] .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا حكى اللهُ تعالى مَكْرَ المُشركينَ في ذاتِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- حكى مَكْرَهم في دِينِه [425] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/478)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/268). ، فقال:
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا.
أي: وإذا تُتلَى على هؤلاءِ الكُفَّارِ مِن قُريشٍ آياتُ كِتابِنا، قالوا قولًا يَغُرُّونَ به أنفُسَهم، ومَن اتَّبَعَهم على باطِلِهم؛ تمرُّدًا وعِنادًا منهم للحَقِّ، قالوا: قد سَمِعْناها، ولو نشاءُ لَقُلْنا مثلَ هذا الذي تُلِيَ علينا [426] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/141)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/205)، ((تفسير أبي حيان)) (5/309)، ((تفسير ابن كثير)) (4/46)، ((تفسير السعدي)) (ص: 320)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/329). قال ابنُ عطيَّة: (والذي تواتَرَت به الرِّواياتُ عن ابنِ جُرَيجٍ والسُّدِّي وابنِ جُبَيرٍ: الذي قال هذه المقالةَ هو النَّضرُ بنُ الحارث، وذلك أنَّه كان كثيرَ السَّفَرِ إلى فارس والحِيرةِ، فكان قد سَمِعَ مِن قَصصِ الرُّهبانِ والأناجيلِ، وسَمِعَ من أخبارِ رُستُم وإسبِنديار، فلما سَمِعَ القُرآنَ، ورأى فيه من أخبارِ الأنبياءِ والأُمَم، قال: لو شِئْتُ لَقُلْتُ مثلَ هذا!). ((تفسير ابن عطية)) (2/520). ويُنظر: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/205)، ((تفسير ابن كثير)) (4/46). .
كما قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 21 - 23] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [الأنعام: 93] .
إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ.
أي: يقولُ الكفَّارُ إذا سَمِعوا القُرآنَ: ما هذا القرآنُ إلَّا أكاذيبُ، سَطَرَها الأقدمونَ مِن الأُمَم الماضيةِ في كُتُبِهم [427] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/141، 142)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/411)، ((تفسير ابن كثير)) (4/47)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/581). .
كما قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام: 25] .
وقال سبحانه: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] .
وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32).
أي: واذكُر- يا مُحمَّدُ- حين قال كُفَّارُ قُريشٍ [428] قال الواحدي: (وجميعُ المُفَسِّرينَ على أنَّ هذا مِن قَولِ النَّضرِ بنِ الحارِثِ، ورُوِيَ في الصَّحيحينِ أنَّ هذا من قولِ أبي جهلٍ- لعَنَهما اللهُ). ((الوسيط)) (2/457). وقال محمد رشيد رضا: (ولا ينافي ذلك ما في الصَّحيحِ؛ لاحتمالِ أن يكونَا قالاه، ولكِنَّ نِسبَتَه إلى أبي جَهلٍ أَوْلَى). ((تفسير المنار)) (9/545). وقال ابنُ عاشور: (وقائِلُ هذه المقالةِ هو النَّضرُ بنُ الحارِثِ صاحِبُ المقالةِ السَّابقة، وقالها أيضًا أبو جهلٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/331). وقال ابن عطية: (وترتُّبُ أن يقولَ النَّضرُ بن الحارث مقالةً، وينسُبَها القرآنُ إلى جميعِهم؛ لأنَّ النَّضرَ كان فيهم موسومًا بالنُّبلِ والفَهمِ، مسكونًا إلى قَولِه، فكان إذا قال قَولًا قاله منهم كثيرٌ، واتَّبَعوه عليه حَسَبَما يفعَلُه النَّاسُ أبدًا بعُلَمائِهم وفُقَهائِهم). ((تفسير ابن عطية)) (2/520). : اللَّهمَّ، إن كان ما يقولُه مُحمَّدٌ حَقًّا، مُنزَّلًا مِن عِندِك؛ فأنزِلْ علينا مِن السَّماءِ حِجارةً مُتتابعةً كما ينزِلُ المَطَرُ، أو عَذِّبْنا في الدُّنيا بعذابٍ مُؤلمٍ مُوجِعٍ [429] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/144)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/411)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 438)، ((تفسير ابن كثير)) (4/47)، ((تفسير السعدي)) (ص: 320)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/333)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/583). وقد أتاهم الله عزَّ وجلَّ بعذابٍ أليمٍ، قال ابنُ جريرٍ: (وكان ذلك العَذابُ قَتْلَهم بالسَّيفِ يومَ بَدرٍ). ((تفسير ابن جرير)) (11/144). .
كما قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [العنكبوت: 53] .
وقال سبحانه: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص: 16] .
وقال عزَّ وجلَّ: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ [المعارج: 1-3] .
وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (قال أبو جهلٍ: اللهُمَّ، إن كانَ هذا هو الحَقَّ مِن عِندِك؛ فأمطِرْ علينا حجارةً مِن السَّماءِ، أو ائتِنا بعذابٍ أليمٍ، فنزَلَت: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ... الآية) [430] رواه البخاري (4649)، ومسلم (2796). .
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33).
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ.
أي: وما كان اللهُ لِيُعذِّبَ كفَّارَ قُريشٍ، وأنت مُقيمٌ بين أظهُرِهم- يا محمَّدُ؛ لأنِّي لا أُهلِكُ أهْلَ بلدةٍ وفيها نبيُّهم، حتى يَخرُجَ منها [431] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/157)، ((تفسير ابن كثير)) (4/50)، ((تفسير السعدي)) (ص: 320). قال ابنُ عطيةَ: (أجمعَ المتأوِّلونَ على أنَّ معنى قَولِه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ أنَّ الله عَزَّ وجلَّ لم يُعَذِّبْ قَطُّ أمَّةً ونبيُّها بين أظهُرِها، فما كان لِيُعَذِّبَ هذه وأنت فيهم، بل كرامَتُك لديه أعظَمُ). ((تفسير ابن عطية)) (2/521). وقال ابنُ كثيرٍ: (ولهذا لَمَّا خرج من بينِ أظهُرِهم، أوقَعَ الله بهم بأسَه يومَ بَدرٍ، فقُتِلَ صناديدُهم، وأُسِرَت سَراتُهم). ((تفسير ابن كثير)) (4/50). .
وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
أي: وما كان اللهُ مُعذِّبَ أولئك الكُفَّارِ لو أنَّهم كانوا يستغفرونَ اللهَ مِن كُفرِهم وذُنوبِهم، لكنَّهم لا يَفعلونَ، وهم على ضَلالِهم مُصِرُّونَ، فهُم للعذابِ مُستحِقُّونَ [432] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/157)، ((البسيط)) للواحدي (10/125، 126)، ((تفسير ابن كثير)) (4/50)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/587). قال ابنُ تيميةَ: (فأخبَرَ أنَّه لا يُعَذِّبُ مُستغفِرًا؛ لأنَّ الاستغفارَ يمحو الذَّنبَ الذي هو سبَبُ العَذابِ، فيندفِعُ العذابُ). ((مجموع الفتاوى)) (8/163). وقال ابنُ تيميَّةَ: (وأمَّا العذابُ المدفوعُ فهو يعُمُّ العذابَ السَّماويَّ، ويعمُّ ما يكونُ من العباد؛ وذلك أنَّ الجميعَ قد سمَّاه الله عذابًا، كما قال تعالى في النَّوعِ الثاني: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة: 49] وقال تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 14] وكذلك: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة: 52] إذ التَّقديرُ بعذابٍ مِن عِندِه أو بعذابٍ بِأَيدينا، كما قال تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ). ((مجموع الفتاوى)) (15/42). .
وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (34).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
هذه الآيةُ عَطفٌ على قَولِه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وهو ارتقاءٌ في بيانِ أنَّهم أحِقَّاءُ بتعذيبِ اللهِ إيَّاهم؛ بيانًا بالصَّراحةِ [433] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/335). .
وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
أي: أيُّ شَيءٍ يمنَعُ أولئكَ المُشركينَ مِن أن يُعَذِّبهم اللهُ تعالى، والحالُ أنَّهم فعلوا ما يُوجِبُ عذابَهم، وهو مَنعُهم المسلمينَ من الوصولِ إلى المسجِدِ الحرامِ للصَّلاةِ فيه، والطَّوافِ، والعبادةِ [434] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/159)، ((تفسير ابن عطية)) (2/522)، ((تفسير القرطبي)) (7/399)، ((تفسير ابن كثير)) (4/51)، ((تفسير السعدي)) (ص: 320)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/336). ؟!
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25] .
وقال سبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 114] .
وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ.
أي: وما كان كفَّارُ قُريشٍ أولياءَ المسجدِ الحرامِ، ولا أهلَه [435] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 439)، ((تفسير ابن كثير)) (4/51)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/589). وممَّن اختارَ عوْدَ الضَّميرِ على المسجِدِ الحرامِ: الواحديُّ، وابنُ كثيرٍ، والشنقيطيُّ. ونسبَه ابنُ الجوزي للجُمهورِ. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 439)، ((تفسير ابن كثير)) (4/51)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/589)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/208). وممن قال بهذا القولِ مِن السَّلف الحسنُ. يُنظر: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/208). وممن اختار عودَ الضَّميرِ أَوْلِيَاءَهُ على اللهِ تعالى: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/159). وجمع ابنُ تيميَّةَ بين المعنيينِ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/164). وقال ابنُ عطية: (والضَّميرُ في قَولِه: أَوْلِيَاءَهُ عائدٌ على اللهِ عزَّ وجلَّ مِن قَولِه: يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أو على الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كلُّ ذلك جَيِّدٌ). ((تفسير ابن عطية)) (2/522). ويُنظر: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/208). .
كما قال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التوبة: 17] .
وقال سبحانه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: 217] .
إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ.
أي: ما أولياءُ هذا البيتِ في الحقيقةِ إلَّا المؤمنونَ بالله، المُتَّقونَ للشركِ والمعاصي [436] يُنظر: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/208)، ((تفسير السعدي)) (ص: 320)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/589). .
وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.
أي: ولكنَّ أكثَرَ مُشركي قُريشٍ لا يَعلمونَ أنَّ ولايةَ بيتِ الله لمَن هو مطيعٌ لله، لا مَن هو عاصٍ له، فلذلك ادَّعَوْا لأنفسِهم أمرًا، غيرُهم أولَى به [437] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/522)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/208)، ((تفسير السعدي)) (ص: 320)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/589). قال الشنقيطي: (قال بعضُ العلماءِ: عبَّرَ هنا بالأكثَرِ عن الجميع، والعرَبُ تعبِّرُ بالأكثَرِ عن الجميعِ، وبالقِلَّةِ عن لا شَيءٍ، وهو أسلوبٌ معروفٌ. وقال بعض العلماء: الأكثَرُ على ظاهِرِه؛ لأنَّ بَعضَهم يعلَمُ أنَّ وِلايةَ بَيتِ اللهِ لِمَن هو مطيعٌ لله، لا مَن هو عاصٍ له). ((العذب النمير)) (4/589). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/338).   .
وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا قال اللهُ تعالى في حَقِّ الكفَّارِ: إنَّهم ما كانوا أولياءَ البَيتِ الحرامِ، وقال: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ- بيَّنَ بعده ما به خَرَجوا من أن يكونُوا أولياءَ البَيتِ، وهو أنَّ صَلاتَهم عند البَيتِ، وتَقرُّبَهم وعبادَتَهم إنَّما كان بالمُكاءِ والتَّصديةِ [438] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/480)، ((تفسير أبي حيان)) (5/314). ، فقال:
وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً.
أي: وما كان صلاةُ كفَّارِ قُريشٍ عند الكعبةِ إلَّا صفيرًا وتَصفيقًا [439] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/161)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/371)، ((تفسير ابن كثير)) (4/52)، ((تفسير السعدي)) (ص: 320).  قال ابنُ عطية: (المُكاءُ والتَّصديةُ كان مِن فِعلِ العرب قديمًا قبل الإسلامِ، على جهةِ التقَرُّب به والتشَرُّع، .. وعلى هذا يستقيمُ تَعييرُهم وتنقُّصُهم بأنَّ شَرْعَهم وصلاتَهم وعبادتَهم، لم تكُن رَهبةً ولا رغبةً، إنما كانت مُكاءً وتَصديةً مِن نوعِ اللَّعِب، ولكنَّهم كانوا يتزيَّدونَ فيها وقتَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِيَشغَلوه وأمَّتَه عن القِراءةِ والصَّلاةِ). ((تفسير ابن عطية)) (2/524، 525). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (2/412)، ((تفسير الرازي)) (15/481)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/244)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/590). .
فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ.
أي: قال اللهُ تعالى لِمُشركي قُريشٍ: فاطْعَموا [440] قال ابنُ جرير: (ليس بِذَوقٍ بفَمٍ، ولكنَّه ذَوقٌ بالحِسِّ، ووجودُ طَعمِ ألَمِه بالقُلوبِ). ((تفسير ابن جرير)) (11/168). ألمَ العَذابِ [441] ذهب ابنُ جريرٍ وابنُ عاشورٍ إلى أنَّ المرادَ بالعَذابِ هاهنا: ما حلَّ بالمُشركينَ يَومَ بَدرٍ؛ مِن قَتلٍ وأسْرٍ ونحو ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/168)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/339). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلف: ابنُ إسحاقَ، وابنُ جريجٍ، والضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (5/1697)، ((تفسير ابن جرير)) (11/169). وقال الرازي: (قيل: يقالُ لهم في الآخرة: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ). ((تفسير الرازي)) (15/481). وقال الشَّوكاني: (والمرادُ به: عذابُ الدُّنيا كيومِ بَدرٍ، وعذابُ الآخرةِ). ((تفسير الشوكاني)) (2/349). بسبَبِ كُفرِكم [442] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/168)، ((تفسير ابن كثير)) (4/53)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/592).  .

الفوائد التربوية:

قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ الاستغفارَ أمانٌ وسلامةٌ مِن العذابِ [443] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/480). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، ولم يَقُلْ: (ويَمكُرونَ بك)؛ لِيُبيِّنَ حالَتَهم العامَّةَ الدَّائمةَ في مُعامَلتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو ومَن اتَّبَعه مِن المُؤمنينَ، أي: وهكذا دأْبُهم معك، ومع مَن اتَّبَعك مِن المُؤمِنينَ؛ يمكرونَ بكم، ويمكُرُ اللهُ لكم بهم، كما فَعَلَ مِن قبلُ إذ أحبَطَ مَكْرَهم، وأخرجَ رَسولَه مِن بَينِهم إلى حيثُ مَهَّدَ له في دارِ الهِجرةِ، ووطَنِ السُّلطانِ والقُوَّةِ [444] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/541). .
2- قَولُه تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ هذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّ لكُفَّارِ مكَّةَ أمانَينِ، يدفَعُ اللهُ عنهم العذابَ بِسَببِهما:
أحدُهما: كونُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيهم.
والثاني: استِغفارُهم اللهَ، لكِنَّ قَولَه تعالى: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يدلُّ على خلافِ ذلك، والجوابُ عن ذلك مِن عِدَّةِ أوجُهٍ؛ أظهَرُها وجهانِ:
الأول: أنَّ الأمانينِ مُنتَفيانِ؛ فالنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خرَجَ مِن بينِ أظهُرِهم مُهاجِرًا، واستِغفارُهم مَعدومٌ؛ لإصرارِهم على الكُفرِ، وبعد انتفاءِ الأمرَينِ عَذَّبَهم بالقَتلِ والأسْرِ يومَ بدرٍ، كما يُشيرُ إليه قَولُه تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ [السجدة: 21].
الثاني: أنَّ المُرادَ بِقَولِه: يَسْتَغْفِرُونَ استغفارُ المُؤمِنينَ المُستضعَفينَ بمكَّةَ، وعليه فالمعنى أنَّه بعد خُروجِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان استغفارُ المؤمنينَ سَببًا لِرَفعِ العَذابِ الدُّنيويِّ عن الكُفَّارِ المُستَعجِلينَ للعذابِ بِقَولِهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ... الآية، وعلى هذا القَولِ فقد أسنَدَ الاستغفارَ إلى مجموعِ أهلِ مَكَّةَ، الصَّادِقَ بخُصوصِ المؤمنينَ منهم [445] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 104). .
3- اتِّخاذُ التَّصفيقِ والغِناءِ والمزاميرِ قربةً وطاعةً وطريقًا إلى اللهِ، هذا مِن جِنسِ دِينِ المُشركينَ الذين قال اللهُ فيهم: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً والمُكاءُ: هو التَّصويتُ بالفَمِ، كالصَّفيرِ والغِناءِ، والتَّصديةُ: التَّصفيقُ باليَدِ، فذمَّ اللهُ هؤلاءِ المُشركينَ الذين يجعلونَ هذا قائمًا مقامَ الصَّلاةِ [446] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (1/90). ، فالتَّصفيق والتَّصفير ليسا من العبادةِ في شَيءٍ، وبه يُعلَمُ أنَّ ما يفعَلُه كثيرٌ مِن الجَهَلةِ المُدَّعينَ للتَّصوُّفِ كَذِبًا؛ مِن الرَّقصِ والتَّصفيقِ والصُّراخِ، زاعمينَ أنَّه عِبادةٌ- أنَّ ذلك مِن الخِذلانِ، وتَلبيسِ الشَّيطانِ، وأنَّ ذلك لا يكونُ عبادةً أبدًا، بل أوَّلُ مَن رَقَص وصَفَّقَ في شيءٍ يَظُنُّه عبادةً، هم عَبَدةُ العِجلِ، وكان ذلك مِن أفعالِ الكُفَّارِ؛ فالنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلم وأصحابُه كانوا في مجالِسِهم كأنَّما على رُؤُوسِهم الطَّيرُ، فالذينَ يُصَفِّقونَ ويَضربونَ بالمَعازِفِ، ويزعمونَ أنَّ هذا دِينٌ وأحوالٌ ووِجْدان؛ هم في غُرورٍ مِن الشَّيطان، فلا ينبغي أن يُغتَرَّ بهم [447] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/592-593). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ
- أُسنِدَ المَكرُ إلى جميعِ الكافرينَ- وإن كان الذينَ تَوَلَّوا المكرَ هُم سادةَ المُشرِكينَ وكُبَراءَهم- لأنَّ البَقيَّةَ كانوا أتباعًا للزُّعَماءِ؛ يأتَمِرونَ بأمْرِهم [448] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/328). .
- والإتيانُ بالمُضارِعِ يَمْكُرُ في مَوضِعِ الماضي، الذي هو الغالِبُ مع إِذْ؛ لاستحضارِ الحالةِ التي دبَّرُوا فيها المَكرَ [449] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/327). .
- والتَّعبيرُ بالمضارعِ في لِيُثْبِتُوكَ، ويَقْتُلُوكَ، ويُخْرِجُوكَ؛ لأنَّ تلك الأفعالَ مُستقبَلةٌ بالنِّسبةِ لفِعلِ المَكرِ؛ إذْ غايةُ مَكرِهم تحصيلُ واحدٍ مِن هذه الأفعالِ [450] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/327). .
2- قَولُه تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
- دُعاؤُهم على أنفُسِهم كنايةٌ منهم عَن كَونِ القُرآنِ ليسَ كما يُوصَفُ به؛ للتَّلازُمِ بين الدُّعاءِ على أنفُسِهم، وبين الجَزمِ بانتفاءِ ما جَعَلوه سبَبَ الدُّعاءِ، بحسَبِ عُرفِ كَلامِهم واعتقادِهم، والمرادُ منه التهَكُّم، وإظهارُ اليَقينِ والجزمُ التَّامُّ على كونِه باطلًا [451] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/216)، ((تفسير البيضاوي)) (3/58)، ((تفسير أبي حيان)) (5/310)، ((تفسير أبي السعود)) (4/19)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/333). .
- وتَعليقُ الشَّرطِ بحَرفِ (إِنْ) في إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ لأنَّ الأصلَ فيها عدَمُ اليَقينِ بوقوعِ الشَّرطِ؛ فهم غَيرُ جازمينَ بأنَّ القُرآنَ حَقٌّ، ومُنَزَّلٌ مِن اللهِ، بل هم موقنونَ بأنَّه غيرُ حَقٍّ، واليقينُ بأنَّه غيرُ حَقٍّ أخَصُّ مِن عَدمِ اليَقينِ بأنَّه حَقٌّ [452] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/332). .
- والضميرُ (هو) ضميرُ فَصلٍ؛ فهو يقتضي تقَوِّي الخبَرِ، أي: إن كان هذا حقًّا، ومِن عِندِك بلا شَكٍّ [453] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/332). .
- وتعريفُ المُسنَدالْحَقَّ بلامِ الجِنسِ، يقتَضي الحَصرَ، فاجتمَعَ في التركيبِ تقَوٍّ وحصرٌ [454] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/332). .
- وقَولُهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ذَكَروا عذابًا خاصًّا وهو مَطرُ الحِجارةِ، ثم عَمَّموا فقالوا: أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ويريدونَ بذلك كُلِّه عذابَ الدُّنيا؛ لأنَّهم لا يُؤمِنونَ بالآخرةِ [455] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/333). .
- وتَقييدُه بِقَولِه: مِنَ السَّمَاءِ مع أنَّ الإمطارَ لا يكونُ إلَّا منها؛ لإزالةِ وَهمِ مَن يتوهَّمُ أنَّ الإمطارَ مَجازٌ عن مُطلَقِ الرَّجمِ، وأنَّه إنَّما ذُكِرَ لِبَيانِ أنَّ الحِجارةَ المَرجومَ بها في الكثرةِ، مِثلُ المَطَرِ [456] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/270). ، وقيل غير ذلك [457] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/311). .
- ووصفوا العذابَ بالأليمِ؛ زيادةً في تحقيقِ يَقينِهم بأنَّ المَحلوفَ عليه بهذا الدُّعاءِ ليس مُنَزَّلًا من عندِ الله؛ فلذلك عَرَّضُوا أنفُسَهم لخَطَرٍ عظيمٍ، على تقديرِ أن يكونَ القُرآنُ حَقًّا، ومُنزَّلًا مِن عندِ الله [458] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/333). .
3- قَولُه تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
- لَمَّا كانت كينونَتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيهم سببًا لانتفاءِ تَعذيبِهم، جعَلَ خَبَرَ كان الإرادةَ المنفِيَّةَ- أي: ما كان الله مُرِيدًا لِتَعذيبِهم- وانتفاءُ الإرادةِ للعَذابِ أبلَغُ مِن انتفاءِ العَذابِ. ولَمَّا كان استِغفارُهم دونَ تلك الكَينونةِ الشَّريفةِ، لم يؤكِّدْ باللَّامِ، بل جاء قولُه مُعَذِّبَهُمْ خبَرَ كان ، فشتَّانَ ما بينَ استِغفارِهم وكَينونَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيهم [459] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/312). .
- وقَولُه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ كنايةٌ عن استحقاقِهم العذابَ، وإعلامٌ بكرامةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَه؛ لأنَّه جعَلَ وُجودَه بين ظَهرانَيِ المُشرِكينَ مع استحقاقِهم العقابَ سببًا في تأخيرِ العَذابِ عنهم [460] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/333-334). .
- وتوجيهُ الخِطابِ بهذا إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واجتلابُ ضَميرِ خِطابِه بِقَولِه: وَأَنْتَ فِيهِمْ لطيفةٌ مِن التَّكرِمةِ؛ إذْ لم يقُل: (وما كان اللهُ لِيُعذِّبَهم وفيهم رَسولُه) [461] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/334). .
- وقَولُه: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فيه تعريضٌ بأنَّه يُوشِكُ أن يُعَذِّبَهم إن لم يستغفِرُوا، وهذا مِن الكِنايةِ العُرْضِيَّةِ [462] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/335). والكِنايةُ العُرْضيَّةُ: هي المَسوقةُ لأجْلِ موصوفٍ غيرِ مَذكورٍ، كما يُقال في عُرْضِ مَن يُؤذي المُؤمِنين: المؤمِنُ هو الذي يُصلِّي ويُزكِّي، ولا يُؤذِي أخاه المسلمَ، ويُتوصَّلُ بذلك إلى نفْيِ الإيمانِ عن المؤذِي، ومتى كانتِ الكنايةُ عُرْضيَّة كان إطلاقُ اسمِ التَّعريضِ عليها مناسبًا. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 410- 411). .
4- قَولُه تعالى: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
- (مَا) في  قوله: وَمَا لَهُمْ... استفهاميَّةٌ، والاستِفهامُ إنكاريٌّ، والتَّقديرُ: ما الذي ثبَت لهم لِأنْ ينتفِيَ عنهم عذابُ اللهُ، والمعنى: لم يثبُتْ لهم شيءٌ [463] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/335). .
- وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ حالٌ مِن ضَميرِ يَصُدُّونَ، مفيدةٌ لِكمالِ قُبحِ ما صَنَعوا من الصَّدِّ؛ فإنَّ مُباشَرتَهم للصَّدِّ عنه مع عَدمِ استحقاقِهم لولايةِ أمرِه؛ في غايةِ القُبحِ، وهو ردٌّ لِما كانوا يقولونَ: نحنُ ولاةُ البيتِ والحَرَمِ، فنصُدُّ مَن نشاءُ، ونُدخِلُ مَن نَشاءُ [464] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/20). .
- وجملةُ: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ تَعيينٌ لأوليائِه الحقِّ، وتقريرٌ لِمَضمونِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ مع زيادةِ ما أفادَه القَصرُ مِن تَعيينِ أوليائِه، فهي بمنزلةِ الدَّليلِ على نَفيِ وِلايةِ المُشركينَ؛ ولِذلك فُصِلَت [465] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/337). .
- قولُه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ نفى العِلمَ عن أكثَرِهم دونَ أن يُقالَ: (ولكنَّهم لا يعلمونَ) فاقتضى أنَّ منهم من يعلَمُ أنَّهم ليسُوا أولياءَ المسجِدِ الحرامِ، وهم من أيقَنوا بصِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واستَفاقُوا من غَفلَتِهم القديمةِ، ولكِن حمَلَهم على المُشايَعةِ للصَّادِّينَ عن المسجِدِ الحرامِ، العنادُ وطَلبُ الرِّئاسة، وموافقةُ الدَّهماءِ على ضلالِهم [466] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/20). .
5- قَولُه تعالى: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
- مَساقُ هذه الجُملةِ؛ لتَقريرِ استحقاقِهم العذابَ، أو عدمِ وِلايتِهم للمَسجِد؛ فإنَّها لا تليقُ بمن هذه صلاتُه [467] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/338). .
- قوله: فَذُوقُوا الْعَذَابَ الأمرُ هنا للتَّوبيخِ والتَّغليظِ [468] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/339). .
- وقوله: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ... فَذُوقُوا فيه التفاتٌ إلى مُخاطبةِ الكُفَّار؛ تهديدًا لهم، ومبالغةً في إدخالِ الرَّوعةِ في قُلوبِهم [469] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/349). .
- قوله: بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أُتِيَ بخبَرِ (كان) جملةً مُضارعيَّةً تَكْفُرُونَ فأفادَتِ الاستمرارَ والعادةَ [470] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/340). .