موسوعة التفسير

سورةُ الإسراءِ
الآيات (73-77)

ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ

غريب الكلمات:

تَرْكَنُ: أي: تطمئنُّ، وتسكنُ، وركْنُ الشيءِ: جانبُه الذي يسكنُ إليه، وأصلُ (ركن): يدلُّ على قوةٍ [958] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 143)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/430)، ((المفردات)) للراغب (ص: 365)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 239)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 318).   .
لَيَسْتَفِزُّونَكَ: أي: يَحمِلونَك على أن تَخرُجَ مِن مَكَّةَ، والاستِفزازُ: الحَملُ على التَّرَحُّلِ، وهو استِفعالٌ مِن فَزَّ، بمعنى: بارحَ المكانَ، وأصلُ (فزز): يدُلُّ على خِفَّةٍ وما قارَبَها [959] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/18)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/439)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/178).   .

مشكل الإعراب :

قوله تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا
قولُه: سُنَّةَ: في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن ينتصِبَ على المصدرِ المؤكِّدِ بفِعلٍ مَحذوفٍ، أي: سَنَّ اللهُ ذلك سُنَّةَ، أو: سَنَنَّا ذلك سُنَّةَ. الثاني: أن ينتصبَ على المفعولِ به بفعلٍ محذوفٍ، أي: اتَّبِعْ سُنَّةَ. الثالثُ: أنَّه على إسقاطِ الخافِضِ، أي: يُعذَّبون كسُنَّةِ اللهِ فيمن قَبلَهم [960] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/129)، ((معانى القرآن)) للأخفش (2/425)، ((التبيان)) للعكبري (2/830)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/395).   .

المعنى الإجمالي:

يحكي الله تعالى جانبًا مِن مسالكِ المشركينَ لزحزحةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن طريقِ دعوتِه فيقول: ولقد قارَبَ المُشرِكونَ أن يَصرِفوك -يا مُحمَّدُ- عن القُرآنِ الذي أنزَلَه اللهُ إليك؛ لتَختَلِقَ علينا غيرَه، ولو فعَلْتَ ما أرادوه لاتَّخَذوك صَفِيًّا وليًّا، ولولا أنْ ثبَّتْناك على الحَقِّ، وعَصَمْناك عن مُوافَقتِهم، لَقارَبْتَ أن تَميلَ إليهم مَيلًا قَليلًا؛ حِرصًا على إسلامِهم، ولو رَكَنْتَ إلى هؤلاء المُشرِكينَ رُكونًا قليلًا فيما سألوك، إذَن لأذَقْناك عَذابًا مُضاعَفًا في الدُّنيا وفي الآخرةِ، ثمَّ لا تَجِدُ أحَدًا يَنصُرُك ويَمنَعُك مِن عذابِنا.
ولقد قاربَ الكُفَّارُ أن يَحمِلوك على الخروجِ مِن «مكَّةَ» بإزعاجِهم إيَّاك، وإيذائِهم لك، ولو أخرَجوك منها لم يَمكُثوا فيها بَعدَك إلَّا زمنًا قليلًا، ثمَّ يُهلِكُهم اللهُ. سَنَّ اللهُ ما قصَّه عليك سُنَّةً، وهي أنَّنا نُهلِكُ الأمَّةَ التي تُخرِجُ رَسولَها مِن أرضِه، كما هي عادتُنا في أسلافِهم، ولا تجِدُ -يا مُحمَّدُ- لِسُنَّتِنا تَغييرًا ولا تبديلًا.

تفسير الآيات:

وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا عَدَّدَ اللهُ تعالى في الآياتِ المُتقَدِّمةِ أقسامَ نِعَمِه على خَلْقِه، وأتبَعَها بذِكرِ دَرَجاتِ الخَلقِ في الآخرةِ، وشرَحَ أحوالَ السُّعَداءِ؛ أردَفَه بما يَجري مَجرى تَحذيرِ السُّعَداءِ مِن الاغترارِ بوَساوِسِ أربابِ الضَّلالِ، والانخداعِ بكَلامِهم المُشتَمِلِ على المَكرِ والتَّلبيسِ، فقال [961] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/378).   :
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ.
أي: وقد قارَبَ كُفَّارُ قَومِك -يا مُحمَّدُ- أن يُزيغُوك بحِيَلِهم عن القُرآنِ الذي أوحَيناه إليك؛ كي تختَلِقَ علينا غَيرَه، فتَجيءَ بما يُوافِقُ أهواءَهم، وتدَعَ القُرآنَ [962] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/15)، ((تفسير القرطبي)) (10/300)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/342)، ((تفسير السعدي)) (ص: 464)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/178). قال الشِّنقيطيُّ: (قال بعضُ أهلِ العِلمِ: قارَبوا ذلك في ظَنِّهم لا فيما في نَفسِ الأمرِ. وقيل: معنى ذلك أنَّه خطَرَ في قلبِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُوافِقَهم في بَعضِ ما أحَبُّوا؛ ليَجُرَّهم إلى الإسلامِ لشِدَّةِ حِرصِه على إسلامِهم. وبيَّنَ في موضعٍ آخَرَ أنَّهم طَلَبوا منه الإتيانَ بغيرِ ما أُوحيَ إليه، وأنَّه امتنَعَ أشَدَّ الامتناعِ، وقال لهم: إنَّه لا يُمكِنُه أن يأتيَ بشَيءٍ مِن تِلقاءِ نَفسِه، بل يَتَّبِعُ ما أوحى إليه رَبُّه، وذلك في قَولِه: قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [يونس: 15] ). ((أضواء البيان)) (3/178). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/89)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/173).   .
وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا.
أي: ولو فعَلْتَ -يا مُحَمَّدُ- ما دعاك إليه قَومُك من مخالفةِ القُرآنِ، واتِّباعِ أهوائِهم؛ لجَعَلوك حَبيبًا ووَلِيًّا وصَفِيًّا لهم [963] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/15)، ((تفسير القرطبي)) (10/300)، ((تفسير السعدي)) (ص: 464).   .
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَّرَ اللهُ سُبحانَه نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما كان في ذلك مِن رُشدِه؛ أتبَعَه ببَيانِ أنَّه إنَّما كان بعِصمةِ اللهِ له؛ لِيَزدادَ شُكرًا، فقال تعالى [964] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/486).   :
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74).
أي: ولولا أن ثبَّتْناك -يا مُحَمَّدُ- على الحَقِّ، وعَصَمْناك مِنَ الانخداعِ بحِيَلِ قَومِك الكُفَّارِ؛ لقارَبْتَ أن تَميلَ إليهم شَيئًا قَليلًا، فتفعَلَ بعضَ الذي سألوك فِعْلَه [965] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/15)، ((تفسير القرطبي)) (10/300)، ((تفسير البيضاوي)) (3/263)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/342)، ((تفسير السعدي)) (ص: 464). قال البيضاوي: (المعنى: أنَّك كنتَ على صدَدِ الركونِ إليهم؛ لقوَّةِ خَدْعِهم وشِدَّة احتيالِهم، لكن أدركَتْك عِصمتُنا فمُنِعْتَ أن تقربَ مِن الركون فضلًا أن تركَنَ إليهم). ((تفسير البيضاوي)) (3/263). وقال ابنُ عاشور: (أي: لولا إفهامُنا إيَّاك وجهَ الحقِّ لخُشِي أن تقترِبَ مِن رُكونٍ ضعيفٍ قليلٍ، ولكنَّ ذلك لم يقَعْ. ودخلت (قَدْ) في حيِّزِ الامتناعِ فأصبَح تحقيقُها مَعدومًا، أي: لولا أنْ ثبَّتْناك لتحَقَّق قُربُ مَيلِك القليلِ، ولكنَّ ذلك لم يقَعْ؛ لأنَّا ثبَّتْناك). ((تفسير ابن عاشور)) (15/175). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/475)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/179). قال ابن جُزي: (لَوْلَا تدلُّ على امتناعِ شَيءٍ لوجود غيره، فدلَّت هنا على امتناع مقاربةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الركونَ إليهم؛ لأجل تثبيت الله له وعصمتِه، وكِدْتَ تقتضي نفيَ الركون؛ لأنَّ معنى كاد فلان يفعل كذا، أي: أنَّه لم يفعَلْه، فانتفى الركونُ إليهم ومقاربتُه، فليس في ذلك نقصٌ من جانبِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ التثبيتَ منعه من مقاربةِ الركون، ولو لم يثبِّتْه الله لكانت مقاربتُه للركون إليهم شيئًا قليلًا، وأمَّا مع التثبيتِ فلم يركَنْ قليلًا ولا كثيًرا، ولا قارَبَ ذلك). ((تفسير ابن جزي)) (1/452). .
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75).
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ.
أي: لو رَكَنْتَ قليلًا إلى المُشرِكينَ -يا مُحَمَّدُ- ففَعَلْتَ بعضَ ما سألوك، لأذقْناك عَذابًا مُضاعَفًا في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخِرةِ [966] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/16)، ((تفسير القرطبي)) (10/301)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/342)، ((تفسير السعدي)) (ص: 464)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/178، 179). وممن جعَل إذًا متعلقةً بالركونِ إلى المشركينَ: ابنُ جرير، والقرطبي، وابنُ القيِّم، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: متعلقةٌ بمقاربةِ الركونِ إليهم، أي: لو قارَبْتَ الركونَ الموصوفَ إليهم لَأَذَقْنَاكَ. قاله البقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/487). قال الشنقيطي: (ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ، أي: مِثْلَي عذابِ الحياةِ في الدُّنيا، ومِثلَي عَذابِ المَماتِ في الآخِرةِ، وبهذا جزم القُرطبيُّ في «تفسيره». وقال بعضُهم: المرادُ بضِعفِ عذابِ المَماتِ: العَذابُ المُضاعَفُ في القبرِ. والمرادُ بضِعفِ الحياةِ: العذابُ المُضاعَفُ في الآخرةِ بعدَ حياةِ البَعثِ، وبهذا جزمَ الزَّمخشريُّ وغَيرُه. والآيةُ تَشمَلُ الجَميعَ). ((أضواء البيان)) (3/179). .
كما قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة: 44 - 47] .
ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا.
أي: ثمَّ لا تَجِدُ لك -يا مُحَمَّدُ- ناصِرًا يَنصُرُك ويَمنَعُك مِن عذابِنا [967] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/18)، ((تفسير البغوي)) (3/147)، ((تفسير السعدي)) (ص: 464). قال ابنُ عاشور: (والنَّصيرُ: النَّاصِرُ المُخَلِّصُ مِن الغَلَبةِ، أو الذي يثأرُ للمَغلوبِ، أي: لا تجِدُ لنَفسِك مَن ينتَصِرُ لك فيَصُدُّنا عن إلحاقِ ذلك بك، أو يثأرُ لك مِنَّا). ((تفسير ابن عاشور)) (15/177).   .
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ المُشرِكينَ استمالوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالرِّفقِ، حتى كادوا -لولا العِصمةُ- أن يُميلُوه؛ دَلَّ على أنَّهم أخافوه بعدَ ذلك حتى كادوا أن يُخرِجوه مِن وَطَنِه قبلَ الإذْنِ الخاصِّ بالهِجرةِ [968] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/486).   .
وأيضًا فإنَّها عَطفٌ على جُملةِ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء: 73] ؛ تَعدادًا لسَيِّئاتِ أعمالِهم [969] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/178).   .
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا.
أي: ولقد قارَبَ هؤلاء المُشرِكونَ أن يُزعِجوك ويَستَخِفُّوك مِن مَكَّةَ -يا مُحَمَّدُ- بكَثرةِ إيقاعِ الأذَى بك؛ لِيُخرِجوك منها [970] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/18)، ((الوسيط)) للواحدي (3/120)، ((تفسير القرطبي)) (10/301)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/489)، ((تفسير الشوكاني)) (3/294).   .
كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] .
وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا.
أي: ولو أخرَجَك قَومُك -يا مُحَمَّدُ- مِن مَكَّةَ، فلن يَبْقوا فيها بَعدَك إلَّا قَليلًا حتى يُهلِكَهم اللهُ بعَذابٍ عاجِلٍ [971] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/18)، ((تفسير القرطبي)) (10/301، 302)، ((تفسير السعدي)) (ص: 464). قال ابنُ عاشور: (وقد خرج رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد ذلك مُهاجِرًا، وكانوا السَّبَبَ في خُروجِه، فكأنَّهم أخرَجوه... فلم يلبَث الذين تسَبَّبوا في إخراجِه وألَّبُوا عليه قَومَهم بعدَه إلَّا قليلًا، ثمَّ خَرَجوا إلى وَقعةِ بدرٍ فلَقُوا حَتْفَهم هنالك فلم يَرجِعوا، وحَقَّ عليهم الوَعيدُ، وأبقى اللهُ عامَّتَهم ودَهماءَهم؛ لِضَعفِ كَيدِهم، فأراد اللهُ أن يدخُلوا في الإسلامِ بعد ذلك). ((تفسير ابن عاشور)) (15/179). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/19)، ((تفسير ابن كثير)) (5/101).   .
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77).
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا.
أي: لو أخرجَك الكُفَّارُ -يا مُحَمَّدُ- مِن مَكَّةَ، فلن يلبثُوا فيها إلَّا قليلًا حتَّى نُهلِكَهم بعذابِنا، كما هي عادَتُنا في إهلاكِ الأُمَمِ الكافرةِ التي أرسَلْنا إليهم رُسُلًا مِن قَبلِك، فآذَوْهم، وأخرَجوهم مِن بلادِهم [972] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/21)، ((تفسير القرطبي)) (10/302)، ((تفسير ابن كثير)) (5/101)، ((تفسير القاسمي)) (6/482). قال البقاعي: (لكنَّهم خُصُّوا عن الأُمَمِ السَّالفةِ بأنَّهم لا يُعَذَّبونَ عذابَ الاستِئصالِ؛ تَشريفًا لهم بهذا النبيِّ الكريمِ). ((نظم الدرر)) (11/491).   .
وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا.
أي: ولا تَجِدُ -يا مُحَمَّدُ- تغييرًا عمَّا جَرَت به عادتُنا، ولا يَقدِرُ أحَدٌ على تَغييرِها [973] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/22)، ((تفسير البيضاوي)) (3/264)، ((تفسير الشوكاني)) (3/295). قال ابنُ تيميَّةَ: (التَّحويلُ أن تُحَوَّلَ مِن مَحَلٍّ إلى محلٍّ، مثل استفزازِه مِن الأرضِ ليُخرِجوه؛ فإنَّهم لا يَلبَثونَ خَلْفَه إلَّا قليلًا، ولا تتحوَّلُ هذه السُّنَّةُ بأن يكونَ هو المُخرَجُ وهم اللَّابِثونَ، بل متى أخرجوه خَرَجوا خَلْفَه). ((جامع الرسائل)) (1/55-56).   .
كما قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر: 42 - 44] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا فيه أنَّه لا عِصْمةَ عنِ المعاصي إلَّا بتَوفيقِ اللهِ تعالى؛ فإنَّه تعالى بَيَّنَ أنَّه لولا تَثبيتُ اللهِ تعالى له لَمالَ إلى طريقةِ الكُفَّارِ، ولا شَكَّ أنَّ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان أقوَى مِن غَيرِه في قُوَّةِ الدِّينِ، وصَفاءِ اليَقينِ، فلمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ بقاءَه مَعصومًا عن الكُفرِ والضَّلالِ لم يَحصُلْ إلَّا بإعانةِ اللهِ تعالى وإغاثتِه؛ كان حُصولُ هذا المعنى في حَقِّ غَيرِه أَولى [974] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/380).   .
2- قَولُ الله تعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا تضمَّنَ تحذيرَ الأمَّةِ مِن الرُّكونِ إلى الكَفَرةِ؛ لِما نِيطَ به من الوعيدِ الشَّديدِ لِمن هو أقرَبُ إلى اللهِ وَسيلةً، على تقديرِ وُجودِ ذلك منه [975] يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (4/211).   .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا فيه دَليلٌ على شِدَّةِ افتِقارِ العَبدِ إلى تَثبيتِ اللهِ إيَّاه، وأنَّه ينبغي له ألَّا يَزالَ مُتمَلِّقًا لرَبِّه أن يُثَبِّتَه على الإيمانِ، ساعيًا في كلِّ سَبَبٍ مُوصِلٍ إلى ذلك؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو أكمَلُ الخَلقِ قال اللهُ له: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا فكيف بِغَيرِه [976] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 464).   ؟ فالعَبدُ لا يَستَغني عن تَثبيتِ اللهِ له طَرفةَ عينٍ، فإنْ لم يُثَبِّتْه وإلَّا زالَت سَماءُ إيمانِه وأرضُه عن مَكانِهما [977] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/136).   .
4- قَولُ الله تعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا فيه تَذكيرُ اللهِ لِرَسولِه مِنَّتَه عليه، وعِصمَتَه مِنَ الشَّرِّ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ اللهَ يُحِبُّ مِن عِبادِه أن يتفَطَّنوا لإنعامِه عليهم -عند وجودِ أسبابِ الشَّرِّ- بالعِصمةِ منه، والثَّباتِ على الإيمانِ [978] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 464).   .
5- قَولُ الله تعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا فيه دَليلٌ على أنَّ أدنَى مُداهَنةٍ للغُواةِ مُضادَّةٌ للهِ، وخُروجٌ عن وَلايتِه، وسَبَبٌ مُوجِبٌ لغَضَبِه ونَكالِه؛ فعلى المؤمنِ إذا تلا هذه الآيةَ أن يَجثُوَ عندها، ويتدَبَّرَها؛ فهي جديرةٌ بالتدَبُّرِ، وبأنْ يستشعِرَ النَّاظِرُ فيها الخَشيةَ، وازديادَ التصَلُّبِ في دينِ اللهِ [979] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/685).   .
6- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا في هذه الآيةِ بَيانٌ لِكَونِ الجاهِلِ لا يزالُ يَنصُبُ للعالِـمِ الحبائِلَ، ويَطلُبُ له الغَوائِلَ، فيَعودُ ذلك عليه بالوَبالِ، في الحالِ والمآلِ [980] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/490).   .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا في ذِكرِ الكَيدودةِ وتَقليلِها -مع إتْباعِها الوَعيدَ الشَّديدَ بالعذابِ المُضاعَفِ في الدَّارَينِ- دَليلٌ بَيِّنٌ على أنَّ القَبيحَ يَعظُمُ قُبحُه بمِقدارِ عِظَمِ شَأنِ فاعِلِه، وارتِفاعِ مَنزِلتِه [981] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/685).   ، فبحَسَبِ عُلُوِّ مَرتبةِ العَبدِ، وتواتُرِ النِّعَمِ عليه مِنَ اللهِ، يَعظُمُ إثمُه، ويتَضاعَفُ جُرمُه إذا فَعَل ما يُلامُ عليه؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذكَّرَ رَسولَه لو فعل -وحاشاه مِن ذلك- بقَولِه: إِذًا لَأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [982] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 464).   ، فكلَّما كانت الدَّرَجةُ أعلى كان العذابُ عند المُخالفةِ أعظَمَ؛ قال الله تعالى: يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] [983] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/301)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/179).   . فالسيِّئاتُ قد تُضاعَفُ بشَرفِ فاعِلِها، وقوَّةِ مَعرفتِه باللهِ، وقُربِه منه؛ فإنَّ مَن عصى السُّلطانَ على بساطِه أعظَمُ جُرمًا مِمَّن عصاه على بُعدٍ؛ ولهذا توعَّدَ الله خاصَّةَ عبادِه على المعصيةِ بمضاعَفةِ الجزاءِ، وإن كان قد عصَمَهم منها؛ ليبيِّنَ لهم فَضلَه عليهم بعِصمتِهم من ذلك [984] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/318).   .
2- قَولُ الله تعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا هذه الآيةُ مِن الأدلَّةِ الواضِحةِ على ما خُصَّ به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم مِن الفضائِلِ في شَرفِ جَوهرِه، وزكاءِ عُنصرِه، ورُجحانِ عَقلِه، وطِيبِ أصلِه؛ لأنَّها دلَّت على أنَّه صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم لو وُكِلَ إلى نفسِه وما خلَقَ اللهُ في طَبعِه وجبِلَّتِه من الغرائِزِ الكاملةِ والأوصافِ الفاضلةِ، ولم يتدارَكْه بما منحَه من التثبيتِ زيادةً على ذلك حالَ النبوَّةِ؛ لم يركَنْ إليهم -وهم أشَدُّ النَّاسِ أفكارًا، وأصفاهم أفهامًا، وأعلَمُهم بالخِداعِ، مع كثرةِ عدَدِهم، وعِظَمِ صَبرِهم وجَلَدِهم- ركونًا ما أصلًا، وإنما كان قُصاراهم أن يقارِبَ الركونَ شَيئًا قليلًا [985] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/487).   .
3- في قَولِ الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إنْ قيل: النَّبيُّ كان معصومًا من الشِّركِ والكبائرِ، فكيف يجوزُ أن يقرَبَ ممَّا طلَبوه منه، والذي طلبوه منه كُفرٌ؟
الجواب من وجهين:
أحدُهما: أنَّا نعتقِدُ أنَّ الرَّسولَ مَعصومٌ مِن الشِّركِ والكبائِرِ، ونحمِلُ على أنَّ ما وُجِدَ منه كان همًّا من غيرِ عزمٍ، وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إِنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ لأُمَّتي عمَّا وسْوَسَتْ، أو حدَّثَتْ به أنفسَها ما لم تعمَلْ به، أو تَكلَّمْ) ) [986] أخرجه البخاري (2528)، ومسلم (127) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.   . وفي الجملةِ: اللهُ أعلمُ برَسولِه من غيره.
والجوابُ الثاني: وهو أنَّه قال: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ، وقد ثبَّته ولم يركَنْ، وهذا مِثلُ قَولِه تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ إلى أن قال: إِلَّا قَلِيلًا، وقد تفضَّل اللهُ ورَحِمَ، ولم يتَّبِعوا الشَّيطانَ [987] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/265).   .
4- إن قيلَ: قال اللهُ تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد: 13] يعني: مَكَّةَ، والمرادُ أهلُها، فذَكَرَ أنَّهم أخرجوه، وقال في هذه الآيةِ: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا [الإسراء: 76] فكيف يُمكِنُ الجَمعُ بينهما؟
فالجوابُ: أنَّهم هَمُّوا وقصَدوا إخراجَه، كما قال الله عزَّ وجَلَّ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوك [الأنفال: 30] ، ثمَّ قبلَ أن يُتِمُّوا ذلك أمرَ الله تعالى نبيَّه -عليه السَّلامُ- بالخروجِ، فخرج منها بأمرِ اللهِ خائِفًا منهم ومِن مَكرِهم، وكان خروجُه بأمرِ الله سببًا لسلامتِه مِمَّا كانوا يدبِّرونَه فيما بينهم، وجاز إضافةُ الإخراجِ إليهم في قَولِه: أَخْرَجَتْكَ؛ لأنَّهم همُّوا بذلك، وأُمرَ بالخروجِ منها لقَصدِهم إخراجَه، فلما كانوا سببًا في خروجِه أُضيف ذلك إليهم [988] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (13/424).   ؛ لأنَّهم في الحقيقةِ اضطرُّوه وألجؤُوه -صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه- إلى الخُروجِ [989] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/308).   .
5- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا فيه إيماءٌ إلى أنَّ الرَّسولَ سيَخرُجُ مِن مكَّةَ وأنَّ مُخرِجيه -أي: المُتسَبِّبينَ في خُروجِه- لا يَلبَثونَ بَعدَه بمكَّةَ إلَّا قَليلًا [990] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/179).   .
6- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا فيه أنَّ الله إذا أراد إهلاكَ أُمَّةٍ، تَضاعَفَ جُرمُها، وعَظُمَ، فيَحِقُّ عليها القَولُ مِنَ اللهِ، فيُوقِعُ بها العِقابَ، كما هي سُنَّتُه في الأُمَمِ إذا أخرَجوا رَسولَهم [991] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 464).   .
7- قال تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا، وإنَّما سَنَّ اللهُ هذه السُّنَّةَ لرُسلِه؛ لأنَّ تآمُرَ الأقوامِ على إخراجِهم يَسْتدعي حكمةَ اللهِ تعالى لأنْ تتعلَّقَ إرادتُه بأمْرِه إيَّاهم بالهجرةِ؛ لئلَّا يَبْقوا مَرموقينَ بعَينِ الغضاضةِ بين قومِهم وأجوارِهم [992] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/180).   .

بلاغة الآيات:

1- قوله: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا
- جُملةُ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عطْفٌ على جُملةِ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى، وهو انتقالٌ من وصْفِ حالِهم، وإبطالِ مَقالِهم في تكذيبِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى ذكْرِ حالِ طمَعِهم في أنْ يستنْزِلوا النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأنْ يقولَ قولًا فيه حُسْنُ ذكْرٍ لآلهتِهم؛ ليَتنازلوا إلى مُصالحتِه ومُوافقَتِه إذا وافقَهم في بعضِ ما سأَلوه [993] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/171).   .
- وفي قولِه: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ غيَّرَ الأسلوبَ من خطابِهم في آياتِ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ إلى الإقبالِ على خطابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لتغيُّرِ المقامِ من مقامِ استدلالٍ إلى مقامِ امتنانٍ [994] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/171).   .
- والموصولُ في قولِه: الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ للعهدِ؛ لِمَا هو معلومٌ عند النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحسَبِ ما سأَله المُشركون من مُخالفتِه؛ فهذه الآيةُ مَسوقةٌ مَساقَ المَنِّ على النَّبيِّ بعصمةِ اللهِ إيَّاه من الخطَأِ في الاجتهادِ، ومَساقَ إظهارِ مَلَلِ المُشركينَ من أمْرِ الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ وتخوُّفِهم من عواقبِها، وفي ذلك تثبيتٌ للنَّبيِّ وللمُؤمنينَ، وتأييسٌ للمُشركين بأنَّ ذلك لن يكونَ [995] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/172).   .
- وجُملةُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا عطْفٌ على جُملةِ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ، و(إِذًا) حرفُ جَزاءٍ؛ فتكونُ جزاءً لفعلِ لَيَفْتِنُونَكَ بما معه مِن المُتعلِّقاتِ مُقحمًا بين المُتعاطفينِ، لتصيرَ واوُ العطفِ مع (إِذًا) مُفيدةً معنى فاءِ التَّفريعِ، ووجْهُ عطْفِها بالواوِ دونَ الاقتصارِ على حرفِ الجزاءِ؛ لأنَّه باعتبارِ كونِه من أحوالِهم الَّتي حاوروا النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيها، وألحُّوا عليه؛ فناسبَ أنْ يُعطَفَ على جُملةِ أحوالِهم. والتَّقديرُ: فلو صَرَفوك عن بعضِ ما أوحينا إليك لاتَّخذوكَ خليلًا [996] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/173).   .
2- قوله تعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا
-  لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا لم يقتصِرْ على قَلِيلًا؛ لأنَّ تَنكيرَ شَيْئًا مُفيدٌ التَّقليلَ؛ فكان في ذكْرِه تهيئةٌ لتوكيدِ معنى التَّقليلِ، فإنَّ كلمةَ (شَيءٍ) لتوغُّلِها في إبهامِ جنسِ ما تُضافُ إليه أو جنسِ الموجودِ مُطلقًا، مُفيدةٌ للتَّقليلِ غالبًا [997] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/175).   .
- وفي هذه الآيةِ نَفى رُكونَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليهم، وبيَّنَ أنَّه غيرُ واقعٍ ولا مُقاربٌ الوقوعَ بأربعةِ أُمورٍ، وهي: (لولا) الامتناعيَّةُ، وفعْلُ المُقارَبةِ (كاد) المُقتضي أنَّه ما كان يقَعُ الرُّكونُ ولكنْ يقَعُ الاقترابُ منه، والتَّحقيرُ المُستفادُ من شَيْئًا، والتَّقليلُ المُستفادُ من قَلِيلًا [998] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/175).   .
3- قوله تعالى: إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا
- وجُملةُ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا معطوفةٌ على جُملةِ لَأَذَقْنَاكَ، وموقعُها تَحقيقُ عدَمِ الخلاصِ من تلك الإذاقةِ، و(ثمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ؛ لأنَّ عدَمَ الخلاصِ من العذابِ أهمُّ من إذاقتِه، فرُتْبَتُه في الأهميَّةِ أرقَى [999] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/177).   .
4- قوله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا
- التَّعريفُ في الْأَرْضِ تعريفُ العهدِ، أي: من أرضِك، وهي مكَّةُ. وقولُه: لِيُخْرِجُوكَ تَعليلٌ للاستفزازِ، أي: استفزازًا لقصْدِ الإخراجِ، والمُرادُ بالإخراجِ: مُفارقةُ المكانِ دونَ رُجوعٍ، وبهذا الاعتبارِ جُعِلَ علَّةً للاستفزازِ؛ لأنَّ الاستفزازَ أعمُّ من الإخراجِ [1000] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/178).   .
5- قوله تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا
- جُملةُ: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لبيانِ سبَبِ كونِ لُبْثِهم بعدَه قليلًا [1001] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/180).   .
- قولُه: وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا اعتراضٌ لتَكملةِ البيانِ، والتَّعبيرُ بـ لَا تَجِدُ مُبالغةٌ في الانتفاءِ [1002] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/180).   .