موسوعة التفسير

سورةُ الحاقَّةِ
الآيات (38-52)

ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ

غَريبُ الكَلِماتِ:

كَاهِنٍ: الكاهِنُ: الَّذي يتعاطى الخَبَرَ عمَّا يكونُ في مُستَقبَلِ الزَّمانِ بضَربٍ مِنَ الظَّنِّ، ويدَّعي مَعرِفةَ الأسرارِ [264] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/222)، ((المفردات)) للراغب (ص: 728)، ((النهاية)) لابن الأثير (4/214). .
الْوَتِينَ: أي: نِياطَ القَلبِ، وهو عِرقٌ يَجري في الظَّهرِ حتَّى يتَّصِلَ بالقَلبِ، فإذا انقَطَع بطَلَت القُوى، ومات صاحِبُه، وأصلُ (وتن): يدُلُّ على ثباتٍ ومُلازَمةٍ [265] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 484)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 196)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/84)، ((البسيط)) للواحدي (22/191)، ((المفردات)) للراغب (ص: 852). .
لَحَسْرَةٌ: الحَسْرةُ هي أشدُّ النَّدامةِ على ما فاتَ ولا يُمكنُ ارتجاعُه؛ والغمُّ عليه، وأصلُ (حسر): كَشْفُ الشَّيءِ؛ ومِنه الحَسرةُ، وهي انكشافٌ عن حالِ النَّدامةِ [266] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 186)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/62)، ((البسيط)) للواحدي (3/481)، ((المفردات)) للراغب (ص: 235)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 25).  .
الْيَقِينِ: أي: الخَبَرِ الصِّدقِ الحَقِّ الَّذي لا مِرْيةَ فيه ولا شَكَّ، وأصلُ (وقن): يدُلُّ على زَوالِ الشَّكِّ [267] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6 /157)، ((المفردات)) للراغب (ص: 892)، ((تفسير ابن كثير)) (8/219)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 979). .

المعنى الإجماليُّ:

يقرِّرُ الله تعالى صِدقَ رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: فأُقسِمُ بجَميعِ ما تَرَونَه وتُشاهِدونَه -أيُّها النَّاسُ- وما لا تَرَونَه؛ إنَّ هذا القُرآنَ لَقولُ رَسولٍ كَريمٍ، وهو محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتْلوه عليكم، وما هذا القُرآنُ بكَلامِ شاعرٍ، قليلًا ما تُؤمِنونَ، وما هو بكَلامِ كاهنٍ كاذِبٍ يدَّعِي عِلمَ الغَيبِ، قليلًا ما تتذَكَّرونَ.
ثمَّ يُبيِّنُ تعالى أنَّ هذا القرآنَ مِن عندِه سبحانَه، فيقولُ: هذا القُرآنُ تَنزيلٌ مِن عِندِ اللهِ رَبِّ العالَمينَ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى ما يَحدُثُ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم لو أنَّه غيَّر أو بدَّل شيئًا مِن القرآنِ -على سبيلِ الفرضِ-، فيقولُ: ولو ادَّعى محمَّدٌ على اللهِ تعالى بعضَ الأقاويلِ الكاذِبةِ، لَانتَقَمَ الله منه بقوَّتِه وقُدرتِه، ثمَّ لَقَطَع اللهُ تعالى مِن محمَّدٍ عِرقَ قَلْبِه، فأماتَه! فلا أحَدَ منكم -أيُّها النَّاسُ- يمنَعُه مِن عُقوبةِ اللهِ إن كَذَب على ربِّه، وإنَّ القُرآنَ مُذَكِّرٌ للمُتَّقينَ، وإنَّا لَنَعلَمُ أنَّ مِنكم مُكَذِّبينَ بهذا القُرآنِ، وإنَّ القُرآنَ لحَسْرةٌ على الكافِرينَ، يَندَمونَ على تَركِ الإيمانِ به، وإنَّ القُرآنَ لَهُوَ الحَقُّ الثَّابِتُ المؤكَّدُ، ولا شكَّ في نُزولِه مِن عِندِ اللهِ؛ فنَزِّهْ ربَّك المتَّصِفَ بكَمالِ العَظَمةِ -يا محمَّدُ- عن كُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ.

تَفسيرُ الآياتِ:

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تَعالى لَمَّا أقام الدَّلالةَ على إمكانِ القِيامةِ، ثمَّ على وُقوعِها، ثمَّ ذَكَرَ أحوالَ السُّعداءِ وأحوالَ الأشقياءِ؛ ختَمَ الكلامَ بتَعظيمِ القرآنِ [268] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/632). .
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38).
أي: فلا أُقسِمُ بجَميعِ ما تَرَونَه وتُشاهِدونَه -أيُّها النَّاسُ- من الأشياءِ كُلِّها؛ كَبيرِها وصَغيرِها [269] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/241)، ((تفسير القرطبي)) (18/274)، ((تفسير ابن كثير)) (8/217)، ((تفسير السعدي)) (ص: 884)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/141). قيل: المرادُ: أُقسِمُ، و(لا) صِلةٌ. وممَّن اختارَه: مكِّيٌّ، والسَّمعاني، والقُرطبي. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7689)، ((تفسير السمعاني)) (6/41)، ((تفسير القرطبي)) (18/274). وقيل: (لا) جاءت في هذا القَسَمِ؛ ردًّا لكلامِ المشركينَ، كأنَّه قيل: ليس الأمرُ كما يقولُ المشرِكونَ. وممَّن ذهَبَ إلى هذا المعنى في الجُملةِ: ابنُ جَريرٍ، والواحديُّ، والبَغَوي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/241)، ((الوسيط)) للواحدي (4/348)، ((تفسير البغوي)) (5/149). وقال ابن عاشور: (مِن المفسِّرينَ مَن جَعَل حرفَ «لا» في هذا القَسَمِ إبطالًا لكلامٍ سابقٍ، وأنَّ فِعلَ أُقسِمُ بعدَها مُستأنَفٌ، ونُقِضَ هذا النَّوعُ بوُقوعِ مِثْلِه في أوائِلِ السُّوَرِ، مِثلُ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة: 1] ، لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد: 1] ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/141). وقيل: المعنى: لا أُقسِمُ بذلك؛ لأنَّ الأمرَ أوضَحُ مِن أن يحتاجَ إلى إقسامٍ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/374). .
وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39).
أي: وجَميعِ ما لا تَرَونَه وما غاب عنكم [270] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/241)، ((تفسير ابن عطية)) (5/362)، ((تفسير ابن جزي)) (2/408)، ((تفسير ابن كثير)) (8/217)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/141). قال ابنُ القيِّم: (هذا أعَمُّ قَسَمٍ وَقَع في القرآنِ؛ فإنَّه يَعُمُّ العُلويَّاتِ والسُّفْليَّاتِ، والدُّنيا والآخِرةَ، وما يُرى وما لا يُرى، ويدخُلُ في ذلك الملائِكةُ كُلُّهم، والجِنُّ والإنسُ، والعَرشُ والكُرسيُّ، وكُلُّ مخلوقٍ، وكُلُّ ذلك مِن آياتِ قُدرتِه ورُبوبيَّتِه... ففي ضِمنِ هذا القَسَمِ أنَّ كُلَّ ما يُرى وما لا يُرى آيةٌ ودليلٌ على صِدقِ رسولِه، وأنَّ ما جاء به هو مِن عندِ اللهِ، وهو كلامُه). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 175). وقال السعدي: (أقسَمَ تعالى بما يُبصِرُ الخَلقُ مِن جَميعِ الأشياءِ، وما لا يُبصِرونَه؛ فدخَلَ في ذلك كُلُّ الخلقِ، بل يَدخُلُ في ذلك نفْسُه المقدَّسةُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 884). ويُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/242). .
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40).
أي: إنَّ هذا القُرآنَ لَقولُ رَسولٍ كَريمٍ، وهو محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتلوه على عبادِ اللهِ، ويُبَلِّغُهم إيَّاه [271] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/242)، ((الوسيط)) للواحدي (4/348)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/333)، ((الإخنائية)) لابن تيمية (ص: 482)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 175)، ((تفسير ابن كثير)) (8/217)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/141). وممَّن قال بأنَّ الرَّسولَ هنا: هو محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ابنُ جرير، والواحديُّ، وابنُ تيميَّةَ -ونسَبَه لعامَّةِ العُلَماءِ-، وابنُ القيِّم، وابن كثير، وابن عاشور، ونسَبَه ابنُ الجوزيِّ إلى الأكثَرينَ. يُنظر: المصادر السابقة. قال القرطبي: (ليس القُرآنُ قَولَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إنَّما هو مِن قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، ونُسِب القَولُ إلى الرَّسولِ؛ لأنَّه تالِيه، ومُبَلِّغُه، والعامِلُ به). ((تفسير القرطبي)) (18/274). وقال ابنُ القيِّم: (وفي إضافتِه إليه باسمِ الرِّسالةِ أبيَنُ دَليلٍ أنَّه كَلامُ المُرسِلِ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 176). وقيل: المرادُ بالرَّسولِ هنا: جبريلُ عليه السَّلامُ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والكرمانيُّ، وابنُ جُزَي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/425)، ((تفسير الكرماني)) (2/1313)، ((تفسير ابن جزي)) (2/408). قال ابنُ تيميَّة: (وقد غَلِطَ بعضُ مَن شذَّ، فزَعَم أنَّه جِبريلُ). ((الإخنائية)) (ص: 482). وقال البِقاعي: (كَرِيمٍ أي: هو في غايةِ الكرمِ الذَّي هو البُعدُ عن مساوئِ الأخلاقِ بإظهارِ مَعاليها؛ لشَرَفِ النَّفْسِ وشَرَفِ الآباءِ؛ فهو لا يَزيدُ ولا يَنقُصُ، وكرمُ الشَّيءِ اجتِماعُ الكَمالاتِ اللَّائِقةِ به فيه). ((نظم الدرر)) (20/375). .
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41).
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ.
أي: وما هذا القُرآنُ بكَلامِ شاعرٍ كما يَزعُمُ كُفَّارُ قُرَيشٍ [272] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/242)، ((تفسير السمرقندي)) (3/492)، ((تفسير السعدي)) (ص: 884)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/142). !
كما قال تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ [يس: 69] .
وقال سُبحانَه: وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 36، 37].
قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ.
أي: يقولُ اللهُ لِمُشرِكي قُرَيشٍ: قليلٌ هو إيمانُكم بما وجَبَ عليكم الإيمانُ به [273] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/242)، ((تفسير ابن عطية)) (5/362)، ((تفسير البيضاوي)) (5/242)، ((تفسير الشوكاني)) (5/341). قال ابنُ عَطيَّةَ: (مَا يَحتمِلُ أنْ تكونَ نافيةً، فيَنْتفي إيمانُهم الْبتَّةَ، ويَحتمِلُ أنْ تكونَ مَصدريَّةً، ويتَّصِفُ بالقِلَّةِ؛ إمَّا الإيمانُ، وإمَّا العددُ الَّذي يُؤمِنونَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/362). ممَّن اختار أنَّه أُرِيدَ بالقِلَّةِ العدَمُ، وأنَّ المرادَ بقولِه: قَلِيلًا نفْيُ إيمانِهم أصلًا: مُقاتلُ بنُ سُليمانَ، والواحديُّ، والسَّمعاني، والزَّمخشري، والخازنُ، والشَّوكاني، والقاسميُّ، وهو ظاهرُ اختيارِ السعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/425)، ((الوسيط)) للواحدي (4/348)، ((تفسير السمعاني)) (6/42)، ((تفسير الزمخشري)) (4/606)، ((تفسير الخازن)) (4/337)، ((تفسير الشوكاني)) (5/341)، ((تفسير القاسمي)) (9/314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 884). وممَّن اختار أنَّ القِلَّةَ بمعْناها الظَّاهرِ، أي: تُؤمِنون إيمانًا قليلًا، أو قَليلًا تُؤمِنونَ، ونحْو ذلك: ابنُ جريرٍ، والقرطبيُّ، والبيضاوي، وجلالُ الدِّينِ المحلِّي، والنيسابوريُّ، وأبو السُّعودِ، والألُوسي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/242)، ((تفسير القرطبي)) (18/275)، ((تفسير البيضاوي)) (5/242)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 764)، ((تفسير النيسابوري)) (2/1247)، ((تفسير أبي السعود)) (9/27)، ((تفسير الألوسي)) (15/59). قيل: وذلك القليلُ مِن إيمانِهم هو أنَّهم إذا سُئِلوا مَن خَلَقهم قالوا: اللهُ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/275). وقيل: لأنَّهم -لظُهورِ صِدقِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لَزِمَ تَصديقُهم له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الجُملةِ، وإنْ أظْهَروا خِلافَه عِنادًا، وأبَوْه تَمرُّدًا بألْسنتِهم. يُنظر: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/239)، ((تفسير الألوسي)) (15/59). وقيل: لأنَّهم آمَنوا بأشياءَ يسيرةٍ وتَذَكَّروها؛ مِمَّا أتى به النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن الخَيرِ والصِّلةِ والعَفافِ، فلم تُغْنِ عنهم شيئًا. يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 764). وقال مكِّي: (أي: إيمانًا قليلًا إيمانُكم، أو وقتًا قليلًا). ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) (12/7689). وقال ابن أبي زَمَنِين: (أقَلُّكم مَن يُؤمنُ). حملًا على وصفِ العددِ الَّذي يؤمنُ بالقِلَّةِ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/33). .
كما قال تعالى: فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 46].
وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42).
وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ.
أي: وما هذا القُرآنُ بكَلامٍ كاهنٍ كاذِبٍ يدَّعِي عِلمَ الغَيبِ كما يَزعُمُه الكُفَّارُ [274] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/242)، ((تفسير السمرقندي)) (3/492)، ((الوسيط)) للواحدي (4/348)، ((تفسير السعدي)) (ص: 884)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/142). قال البِقاعي: (وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ وهو المنجِّمُ الَّذي يخبِرُ عن أشياءَ يُوهِمُها لرَئِيٍّ يُخبِرُه بذلك، وأغلَبُها ليس لها صِحَّةٌ، وعبارتُه عن ذلك بالسَّجعِ المتكَلَّفِ المقصودِ كَونُه سَجعًا، الَّذي يكونُ المعنى فيه تابِعًا للَّفْظِ؛ للتَّحليةِ بمُشاكلةِ المقاطِعِ). ((نظم الدرر)) (20/377). !
كما قال تعالى: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ [الطور: 29].
قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ.
أي: يَقولُ اللهُ تعالى لكُفَّارِ قُرَيشٍ: قليلًا ما تتذَكَّرونَ، فتَعتَبِرونَ وتتَّعِظونَ [275] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/242)، ((تفسير البيضاوي)) (5/242)، ((تفسير الشوكاني)) (5/341). .
كما قال تعالى: قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر: 58] .
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43).
أي: هذا القُرآنُ تَنزيلٌ مِن عِندِ اللهِ رَبِّ العالَمينَ على عَبدِه ورَسولِه محمَّدٍ، فهو كلامُ اللهِ حقًّا، وليس قَولَ شاعرٍ ولا قَولَ كاهِنٍ، كما يَزعُمُ المُشرِكونَ [276] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/243)، ((تفسير السمرقندي)) (3/492)، ((تفسير القرطبي)) (18/275)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 177)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/379). !
كما قال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة: 2] .
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44).
أي: ولو ادَّعى محمَّدٌ على اللهِ تعالى بعضَ الأقاويلِ الكاذِبةِ، فنَسَب إليه شيئًا لم يَقُلْه [277] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/243)، ((تفسير ابن عطية)) (5/362)، ((تفسير ابن كثير)) (8/218)، ((تفسير السعدي)) (ص: 885). قال ابن الجوزي: (أي: لو تكلَّف محمَّدٌ أن يقولَ علينا ما لم نَقُلْه). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/ 333). وقال الشوكاني: (التَّقَوُّلُ: تكلُّفُ القولِ، والمعنى: لو تكلَّف ذلك وجاء به مِن جهةِ نفْسِه، وسُمِّيَ الافتِراءُ تقَوُّلًا؛ لأنَّه قولٌ متكلَّفٌ، وكلُّ كاذِبٍ يَتكلَّفُ ما يَكذِبُ به). ((تفسير الشوكاني)) (5/342). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/275). .
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45).
أي: لَعاجَلْناه بالعقوبةِ، وانتَقَمْنا منه بقوَّتِنا وقُدرتِنا [278] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 100)، ((تفسير السمعاني)) (6/42)، ((تفسير الزمخشري)) (4/607)، ((النبوات)) لابن تيمية (2/898)، ((تفسير القاسمي)) (9/315)، ((تفسير السعدي)) (ص: 885). قال البِقاعي: (بِالْيَمِينِ أي: الَّتي هي العُضوُ الأقوى منه؛ فبها يكونُ بَطشُه، فنُذهِبُه بشِدَّةِ بَطشِنا، أو اليمينُ مِنَّا، فيكونُ كِنايةً عن أخْذِنا له بغايةِ القُوَّةِ؛ فإنَّ قُوَّةَ كُلِّ شَيءٍ في مَيامنِه. وقيل: إذا أراد المَلِكُ إهانةَ شَخصٍ قال: خُذْه يا فُلانُ، فيأخُذُه بيَمينِه، فهو كنايةٌ عن الإذلالِ. وقيل: هذا تصويرُ قَتلِ الصَّبرِ بأشنَعِ صُورةٍ؛ فإنَّ المَلِكَ إذا أراد التَّخفيفَ على مَن يَقتُلُه أمَرَ السَّيَّافَ فأخَذ يَسارَه بيَسارِه، وضَرَبَ بالسَّيفِ مِن ورائِه؛ لأنَّ العُنُقَ مِن خَلفٍ أوسَعُ، فيكونُ أسرعَ قَطعًا، ولا يرى المقتولُ لَمْعَ السَّيفِ، وإن أراد التَّعذيبَ والمُبالَغةَ في الإهانةِ أخَذَ يَدَه اليُمنى بيَدِه اليُسرى، وضرَبَه وهو مُستقبِلٌ له، يرى لَمْعَ السَّيفِ! ورُبَّما وقعت الضَّربةُ -لضِيقِ المجالِ مِن قُدَّامٍ- في حَنَكِه، فيحتاجُ إلى ثانيةٍ وثالثةٍ، فهو أفحَشُ!). ((نظم الدرر)) (20/380، 381). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/86، 87). وممَّن ذهب إلى أنَّ المعنى: لَأخَذْناه بقُوَّتِنا وقُدرتِنا: الفَرَّاءُ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والواحديُّ، ونسَبَه للمُبَرِّدِ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفَرَّاء (3/183)، ((تفسير ابن جرير)) (23/243)، ((معاني القرآن)) للزَّجَّاج (5/218)، ((الوسيط)) للواحدي (4/349). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (8/218)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/145، 146). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/ 276)، ((تفسير الماوردي)) (6/86). قال ابنُ قُتَيْبةَ: (قال ابنُ عبَّاسٍ: اليمينُ هاهنا: القوَّةُ. وإنَّما أقام اليمينَ مُقامَ القوَّةِ؛ لأنَّ قوَّةَ كلِّ شَيءٍ في مَيامِنِه). ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: 99). وقيل: المرادُ: لَأخَذْنا بيَمينِه. وممَّن اختاره: الزمخشريُّ، والبيضاوي، والنسفي، والنيسابوري، وأبو السعود، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/607)، ((تفسير البيضاوي)) (5/ 243)، ((تفسير النسفي)) (3/534)، ((تفسير النيسابوري)) (6/352)، ((تفسير أبي السعود)) (9/28)، ((تفسير الشوكاني)) (5/342). قال الزمخشري: (والمعنى: ولو ادَّعى علينا شيئًا لم نقُلْه، لَقتَلْناه صَبرًا، كما يَفعَلُ الملوكُ بمَن يتكذَّبُ عليهم...، وهو أن يُؤخَذَ بيَدِه، وتُضرَبَ رَقبتُه). ((تفسير الزمخشري)) (4/607). ويُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (2/898)، ((تفسير القاسمي)) (9/315). قال أبو حيَّان: (وهو قولٌ للمُتقدِّمينَ... قالوا: المعْنى: لَأخَذْنا بيَدِه الَّتي هي اليمينُ على جِهةِ الإذلالِ والصَّغارِ، كما يقولُ السُّلطانُ إذا أراد عُقوبةَ رجُلٍ: يا غُلامُ، خُذْ بيَدِه، وافعَلْ كذا. قاله أو قَريبًا منه الطبَريُّ). ((تفسير أبي حيان)) (10/266). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/ 243). وقال ابن تيميَّة: (قوله: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ: قيل: لَأخَذْنا بيَمينِه، كما يُفعلُ بمَن يُهانُ عندَ القتلِ، فيُقالُ: خُذْ بيَدِه، فيُجَرُّ بيَدِه، ثمَّ يُقتلُ، فهذا هلاكٌ بعِزَّةٍ وقُدرةٍ مِن الفاعلِ، وإهانةٍ وتعجيلِ [هلاكٍ] للمقتولِ. وقيل: لَأخَذْنا منه باليمينِ؛ أي: بالقوَّةِ، والقُدرةِ؛ فإنَّ المَيامِنَ أقوى ممَّن يأخذُ بشِمالِه، كما قال: فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 42]، وكما قال: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] . لكنَّه قال: «أَخَذْنَا مِنْهُ»، ولم يقلْ: لَأخَذْناه. فهذا يُقوِّي القولَ الأوَّلَ). ((النبوات)) (2/898). !
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46).
أي: ثمَّ لقَطَعْنا مِن محمَّدٍ عِرقَ قَلْبِه، فأمَتْناه [279] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/243، 244)، ((تفسير القرطبي)) (18/276)، ((تفسير ابن كثير)) (8/218)، ((تفسير السعدي)) (ص: 885)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/146). قال ابنُ القيِّم: (الْوَتِينَ: نِياطُ القَلبِ، وهو عِرقٌ يَجْري في الظَّهرِ حتَّى يتَّصِلَ بالقَلبِ، إذا انقَطَع بطَلَت القُوى، ومات صاحِبُه، هذا قَولُ جميعِ أهلِ اللُّغةِ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 184). ويُنظر: ((الزاهر)) لابن الأنباري (2/389)، ((الوسيط)) للواحدي (4/349). ونسَبَ الواحديُّ والبغويُّ القولَ بأنَّ الْوَتِينَ نِياطُ القَلبِ إلى أكثَرِ المفسِّرينَ، وقال الواحديُّ: (وهذا قولُ جميعِ أهلِ اللُّغةِ). يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (22/191)، ((تفسير البغوي)) (5/150). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وعِكْرِمةُ، وابنُ جُبَيرٍ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، ومسلمٌ البَطِينُ، وغيرُهم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/243)، ((تفسير ابن كثير)) (8/218). وقال محمَّدُ بنُ كعبٍ: (هو القلبُ ومَراقُّه وما يَليه). يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/87). !
فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47).
أي: فلا أحَدَ منكم -أيُّها النَّاسُ- بقادِرٍ على مَنْعِ اللهِ تعالى مِن عُقوبةِ محمَّدٍ إن كَذَب على ربِّه [280] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/245)، ((الوسيط)) للواحدي (4/349)، ((تفسير ابن جزي)) (2/408)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 184)، ((تفسير ابن كثير)) (8/218)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/382). قال السعدي: (وقولُه: فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ أي: لو أهلَكه ما امتَنَع هو بنفسِه، ولا قدَر أحدٌ أنْ يمنعَه مِن عذابِ الله). ((تفسير السعدي)) (ص: 885). !
كما قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [الأحقاف: 8] .
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تَعالى لَمَّا بيَّن أنَّ القرآنَ تَنزيلٌ مِن اللهِ الحقِّ، بواسِطةِ جِبريلَ، على محمَّدٍ الَّذي مِن صِفتِه أنَّه ليس بشاعرٍ ولا كاهنٍ؛ بيَّن بعْدَ ذلك أنَّ القرآنَ ما هو [281] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/635). .
وأيضًا لَمَّا أُبطِلَ طَعْنُهم في القرآنِ بأنَّه قولُ شاعرٍ، أو قولُ كاهنٍ؛ أُعقِبَ ببَيانِ شَرَفِه ونفْعِه، إمعانًا في إبطالِ كَلامِهم بإظهارِ الفرْقِ البَيِّنِ بيْنه وبيْن شِعرِ الشُّعراءِ وزَمزمةِ الكُهَّانِ؛ إذ هو تَذكرةٌ، وليس ما ألْحَقوه به مِن أقوالِ أولئك مِن التَّذكيرِ في شَيءٍ [282] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/148). .
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48).
أي: وإنَّ القُرآنَ مُذَكِّرٌ للمُتَّقينَ الَّذين يَمتَثِلونَ أوامِرَ اللهِ تعالى، ويَجتَنِبونَ نواهيَه، فيَعتَبِرونَ به ويتَّعِظونَ [283] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/246)، ((الوسيط)) للواحدي (4/349)، ((تفسير القرطبي)) (18/277)، ((تفسير ابن كثير)) (8/218)، ((تفسير السعدي)) (ص: 885)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/148). قال السعدي: (يتذَكَّرونَ به مصالحَ دينِهم ودُنياهم، فيَعرِفونَها، ويَعمَلونَ عليها، يُذَكِّرُهم العقائِدَ الدِّينيَّةَ، والأخلاقَ المَرْضيَّةَ، والأحكامَ الشَّرعيَّةَ، فيَكونون مِن العُلَماءِ الرَّبَّانيِّينَ، والعبادِ العارفينَ، والأئمَّةِ المَهْديِّينَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 885). .
كما قال تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] .
وقال سُبحانَه: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49).
أي: وإنَّا لَنعلَمُ أنَّ مِنكم مُكَذِّبينَ بهذا القُرآنِ معَ وُضوحِ الحَقِّ فيه، وسنُجازيهم على تَكذيبِهم [284] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/246)، ((تفسير ابن كثير)) (8/218)، ((تفسير الشوكاني)) (5/342)، ((تفسير السعدي)) (ص: 885). قيل: الضَّميرُ راجِعٌ إلى النَّاسِ. وممَّن اختاره: ابنُ جرير، والزمخشريُّ، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/246)، ((تفسير الزمخشري)) (4/607)، ((تفسير العليمي)) (7/153). وقيل: الضَّميرُ في مِنْكُمْ راجِعٌ إلى المؤمِنينَ، فيكونُ المرادُ بالمكذِّبينَ منهم: المنافِقينَ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: السمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/493). وقيل: الخِطابُ للمُسلِمينَ، والمعنى: أنَّ منهم ناسًا سيَكفُرونَ بالقرآنِ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/607). قال ابن عرفة: (قولُه تعالى: وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ إن كان الخِطابُ للكفَّارِ، فـ «مِن» لبيانِ الجنسِ، وليس هو إخبارًا بالمعلومِ؛ لأنَّه على جهةِ التَّهديدِ والوعيدِ. وإن كان الخِطابُ لعُمومِ النَّاسِ، فالمرادُ مَن سيُكَذِّبُ منهم في المُستقبَلِ). ((تفسير ابن عرفة)) (4/285). !
كما قال تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الأنعام: 66] .
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50).
أي: وإنَّ القُرآنَ لحَسْرةٌ على الكافِرينَ، فيَندَمونَ على تَركِ الإيمانِ به [285] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/246)، ((الوسيط)) للواحدي (4/349)، ((تفسير ابن عطية)) (5/363)، ((تفسير القرطبي)) (18/277)، ((تفسير ابن كثير)) (8/218، 219)، ((تفسير السعدي)) (ص: 885). قال الرازي: (الضَّميرُ في قولِه: «إِنَّهُ» إلى ماذا يعودُ؟ فيه وجهانِ: الأوَّلُ: أنَّه عائِدٌ إلى القرآنِ، فكأنَّه قيلَ: وإنَّ القرآنَ لَحَسرةٌ على الكافرينَ. إمَّا يومَ القيامةِ إذا رَأَوْا ثوابَ المصدِّقينَ به، أو في دارِ الدُّنيا إذا رَأَوْا دولةَ المؤمنينَ. والثَّاني: قال مقاتلٌ: وإنَّ تكذيبَهم بالقرآنِ لَحسرةٌ عليهم، ودلَّ عليه قولُه: وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ [الحاقة: 49] ). ((تفسير الرازي)) (30/636). ممَّن اختار أنَّ الضَّميرَ في قولِه: «إِنَّهُ» يعودُ على القُرآنِ: السَّمرقنديُّ، والرَّسْعني، والعُلَيمي، والشَّوكاني. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/493)، ((تفسير الرسعني)) (8/271)، ((تفسير العليمي)) (7/153)، ((تفسير الشوكاني)) (5/342). وممَّن اختار أنَّه يعودُ على التَّكذيبِ: ابنُ جريرٍ، والقُرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/ 246)، ((تفسير القرطبي)) (18/277). قال الواحديُّ: (قال ابنُ عبَّاسٍ: القرآنُ حَسرةٌ على الكافرين يومَ القيامةِ. يعني: ندامةً؛ إذ لم يُؤمِنوا به. والكنايةُ في «إِنَّهُ» -على هذا القولِ- للتَّكذيبِ. ودلَّ عليه قولُه: أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ). ((البسيط)) (22/195). وقال ابن عطية: (يَرَونَ مَن آمَنَ به يُنَعَّمُ، وهم يُعذَّبونَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/363). وقال ابن عاشور: (الحَسْرةُ: النَّدَمُ الشَّديدُ المتكَرِّرُ على شَيءٍ فائتٍ مَرغوبٍ فيه... فالقرآنُ حَسرةٌ على الكافِرينَ، أي: سَبَبُ حَسرةٍ عليهم في الدُّنيا والآخرةِ، فهو حَسرةٌ عليهم في الدُّنيا؛ لأنَّه فَضَح تُرَّهاتِهم، ونَقَض عِمادَ دِينِهم الباطِلِ، وكَشَف حقارةَ أصنامِهم، وهو حَسرةٌ عليهم في الآخِرةِ؛ لأنَّهم يَجِدونَ مخالفتَه سببَ عَذابِهم، ويَقِفونَ على اليَقينِ بأنَّ ما كان يدعوهم إليه هو سَبَبُ النَّجاحِ لو اتَّبَعوه، لا سيَّما وقد رأَوا حُسنَ عاقبةِ الَّذين صَدَّقوا به). ((تفسير ابن عاشور)) (29/149). وقال ابن القيِّم: (أخبَر سبحانه أنَّ رَسولَه وكلامَه حَسْرةٌ على الكافِرينَ، إذا عايَنوا حقيقةَ ما أخبَرَ به كان تكذيبُهم عليهم مِن أعظمِ الحَسَراتِ حينَ لا يَنفَعُهم التَّحَسُّرُ! وهكذا كلُّ مَن كَذَّبَ بحَقٍّ، وصَدَّقَ بباطِلٍ؛ فإنَّه إذا انكشَفَ له حقيقةُ ما كَذَّبَ به وصَدَّقَ به، كان تكذيبُه وتصديقُه حَسْرةً عليه، كمَن فَرَّطَ فيما يَنفَعُه وقتَ تحصيلِه، حتَّى إذا اشتَدَّتْ حاجتُه إليه، وعايَنَ فوزَ المحصِّلينَ؛ صار تفريطُه عليه حَسْرةً). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 191). !
كما قال تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: 55، 56].
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51).
أي: وإنَّ القُرآنَ لَهُو الحَقُّ الثَّابِتُ المؤكَّدُ الَّذي لا شَكَّ فيه، ولا في نُزولِه مِن عِندِ اللهِ تعالى [286] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/247)، ((تفسير القرطبي)) (18/277)، ((تفسير ابن كثير)) (8/219)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/384)، ((تفسير السعدي)) (ص: 885). وقيل: يَحتمِلُ أنْ يكونَ الضَّميرُ في قولِه: «إِنَّهُ» عائدًا على كَوْنِ القرآنِ حَسرةً على الكافرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/150). .
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52).
أي: فنَزِّهْ ربَّك المتَّصِفَ بكَمالِ العَظَمةِ -يا محمَّدُ- عن كُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ، قائِلًا: سُبحانَ رَبِّيَ العَظيمِ [287] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/247)، ((تفسير القرطبي)) (18/277)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 242)، ((تفسير السعدي)) (ص: 885)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/151). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ إشارةٌ إلى أنَّه يجبُ علينا أنْ نَعمَلَ بالقُرآنِ؛ لأنَّ الَّذي أنزَلَه هو الرَّبُّ المُطاعُ الخالقُ الرَّازقُ، الَّذي يجبُ أنْ نُطيعَه بما أمَرَ، ونَنتهيَ عمَّا نهى عنه وزَجَرَ [288] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 349). .
2- في قَولِه تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ أنَّ الواجبَ على المسلمِ ألَّا يُقْدِمَ على الفُتيا إلَّا بعلمٍ يُواجِهُ به اللهَ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه في مَقامِ المُبَلِّغِ عنِ اللهِ تعالى، القائلِ عنه [289] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (24/320). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ اليَقينُ مراتِبُه ثلاثةٌ: عِلمُ اليَقينِ: وهو العِلمُ المستفادُ مِن الخبرِ، ثمَّ عَينُ اليَقينِ: وهو العِلمُ المُدرَكُ بحاسَّةِ البصَرِ، ثمَّ حَقُّ اليقينِ: وهو العِلمُ المُدرَكُ بحاسَّةِ الذَّوقِ والمباشَرةِ، وهذا القُرآنُ الكريمُ بهذا الوَصفِ؛ فإنَّ ما فيه مِنَ العُلومِ المؤيَّدةِ بالبراهينِ القَطعيَّةِ، وما فيه مِن الحقائِقِ والمعارفِ الإيمانيَّةِ: يَحصُلُ به لِمَن ذاقه حَقُّ اليقينِ [290] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 884). ويُنظر أيضًا: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 191-193). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ جمَعَ اللهُ في هذا القسَمِ كلَّ ما الشَّأنُ أنْ يُقسَمَ به مِن الأمورِ العظيمةِ مِن صِفاتِ اللهِ تَعالى، ومِن مَخلوقاتِه الدَّالَّةِ على عَظيمِ قُدرتِه؛ إذ يَجمَعُ ذلك كلَّه الصِّلَتانِ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ، فمِمَّا يُبصِرون: الأرضُ والجبالُ، والبحارُ والنُّفوسُ البشريَّةُ، والسَّمواتُ والكواكبُ، وما لا يُبصِرون: الأرواحُ، والملائكةُ، وأُمورُ الآخرةِ [291] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/606)، ((تفسير البيضاوي)) (5/242)، ((تفسير أبي حيان)) (10/264)، ((تفسير أبي السعود)) (9/27)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/141). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ نِسبةُ الشَّيءِ إلى مَن بَلَّغَه، ومِثْلُه أنَّ اللهَ نَسَبَ القرآنَ أيضًا إلى جِبريلَ؛ فقال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: 19، 20]، فنِسْبَةُ الشَّيءِ إلى المُبَلِّغِ سائغةٌ شَرعًا ولُغةً [292] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) لابن عثيمين (3/394). .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ سُؤالٌ: أنَّ هذا يدُلُّ على أنَّ الرَّسولَ أحْدَثَ الكلامَ العَربيَّ!
الجوابُ: هذا باطِلٌ؛ وذلك لأنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ هذا في القُرآنِ في موضِعَينِ، والرَّسولُ في أحدِ الموضِعَينِ: مُحمَّدٌ، والرَّسولُ في الآيةِ الأخرى: جِبريلُ؛ قال تعالى هنا: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فالرَّسولُ هنا محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال في سورةِ (التكويرِ): إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 19 - 21] فالرَّسولُ هنا جِبريلُ، فلو كان أضافَه إلى الرَّسولِ لكَونِه أحدَثَ حروفَه أو أَحْدَثَ منه شيئًا، لَكان الخبَرانِ مُتناقِضَينِ؛ فإنَّه إنْ كان أحدُهما هو الَّذي أحدَثَها امتنَعَ أنْ يكونَ الآخَرُ هو الَّذي أحدَثَها، وأيضًا فإنَّه قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ولم يَقُلْ: «لَقولُ مَلَكٍ ولا نبيٍّ»! ولفظُ «الرَّسولِ» يَستَلزِمُ مُرسِلًا له، فدلَّ ذلك على أنَّ الرَّسولَ مُبَلِّغٌ له عن مُرْسِلِه، لا أنَّه أنشأَ منه شيئًا مِن جهةِ نفْسِه! وهذا يدُلُّ على أنَّه أضافه إلى الرَّسولِ؛ لأنَّه بَلَّغَه وأدَّاه، لا لأنَّه أنشأَ منه شَيئًا وابتَدَأَه، وأيضًا فإنَّ اللهَ قد كَفَّرَ مَن جَعَلَه قولَ البشَرِ، بقَولِه: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: 18 - 25] ، ومحمَّدٌ بَشَرٌ؛ فمَن قال: إنَّه قَولُ محمَّدٍ، فقد كَفَرَ، ولا فَرْقَ بيْن أنْ يقولَ: هو قَولُ بَشَرٍ، أو جِنِّيٍّ، أو مَلَكٍ، فمَن جَعَلَه قولًا لأحَدٍ مِن هؤلاءِ فقد كَفَر، ومع هذا فقد قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ، فجَعَله قولَ الرَّسولِ البَشَريِّ مع تكفيرِه مَن يقولُ: إنَّه قَولُ البَشَرِ، فعُلِمَ أنَّ المرادَ بذلك أنَّ الرَّسولَ بَلَّغَه عن مُرْسِلِه، لا أنَّه قَولٌ له مِن تِلْقاءِ نفْسِه، وهو كَلامُ اللهِ الَّذي أرسَلَه، كما قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6] ، فالَّذي بَلَّغَه الرَّسولُ هو كلامُ اللهِ، لا كَلامُ الرَّسولِ [293] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/135). .
4- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أنَّ القُرآنَ نازِلٌ لجَميعِ الخَلْقِ؛ ففيه دليلٌ على عُمومِ رسالةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [294] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/38). .
5- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أنَّ القرآنَ نازِلٌ مِن ربِّهم، وإذا كان كذلك فهو الحَكَمُ بيْنَهم، الحاكِمُ عليهم [295] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/38). .
6- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أنَّ نزولَ القُرآنِ هو مِن كَمالِ رُبوبيَّةِ اللهِ تعالى، فإذا أُضِيفَ إلى هذه الآيةِ قولُه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ [فصلت: 2، 3] عُلِمَ أنَّ القرآنَ رحمةٌ للعِبَادِ أيضًا، وربوبيَّةُ اللهِ مَبنيَّةٌ على الرَّحمةِ؛ قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 2، 3]، وكلُّ ما أمَرَ اللهُ به عبادَه أو نهاهم عنه، فهو رَحمةٌ بهم [296] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/38). .
7- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ؛ لأنَّه إذا كان اللهُ أنزَلَه فهو كلامُه لا كلامُ غيرِه -كما قاله السَّلَفُ رَحِمَهم اللهُ-، وهو غيرُ مخلوقٍ؛ لأنَّ جميعَ صِفاتِ اللهِ -حتَّى الصِّفاتِ الفِعليَّةَ- ليست مخلوقةً [297] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/39). .
8- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أخبَرَ سُبحانَه أنَّه تنزيلٌ مِن رَبِّ العالَمينَ، وذلك يتضَمَّنُ أمورًا:
أحدُها: أنَّه تعالى فوقَ خَلْقِه كُلِّهم، وأنَّ القُرآنَ نَزَل مِن عِندِه.
والثَّاني: أنَّه تكَلَّمَ به حقيقةً [298] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 176). .
9- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أنَّ ربوبيَّةَ اللهِ الكامِلةَ لِخَلْقِه تأبى أنْ يَتْرُكَهم سُدًى؛ لا يأمرُهم ولا يَنهاهُم، ولا يُرشِدُهم إلى ما يَنفَعُهم، ويُحَذِّرُهم ما يَضُرُّهم، بل يَترُكُهم هَمَلًا بمنزلةِ الأنعامِ السَّائمةِ! فمَن زَعَم ذلك لم يَقْدُرْ ربَّ العالَمينَ قَدْرَه، ونَسَبَه إلى ما لا يَليقُ به تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [299] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 179). [المؤمنون: 116].
10- في قَولِه تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ أنَّه سُبحانَه لا يُؤَيِّدُ الكذَّابَ عليه، بل لا بُدَّ أنْ يُظْهِرَ كَذِبَه، وأنْ يَنتَقِمَ منه؛ فقد ذَكَر هذا بَعْدَ قَولِه تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ قال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ، هذا بتقديرِ أنْ يَتَقَوَّلَ بعضَ الأقاويلِ، فكيفَ بمَن يَتَقَوَّلُ الرِّسالةَ كلَّها [300] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (2/897). ؟! فحِكمتُه تعالى تَقتضي ألَّا يُمهِلَ الكاذِبَ عليه، الَّذي يَزعُمُ أنَّ اللهَ أباح له دِماءَ مَن خالَفَه وأموالَهم، وأنَّه هو وأتْباعَه لهم النَّجاةُ، ومَن خالفَه فله الهلاكُ، فإذا كان اللهُ قد أيَّدَ رَسولَه بالمعجزاتِ، وبَرْهَنَ على صِدقِ ما جاء به بالآياتِ البَيِّناتِ، ونَصَره على أعدائِه، ومكَّنَه مِن نواصيهم؛ فهو أكبَرُ شَهادةٍ منه على رِسالتِه [301] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 884). ، ولو قُدِّرَ أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ غَيَّرَ الرِّسالةَ، لَانْتَقَمَ منه، والمقصودُ نفْيُ هذا التَّقديرِ؛ لانتفاءِ لازِمِه [302] يُنظر: ((تلخيص كتاب الاستغاثة لابن تيمية)) لابن كثير (2/464). . فالآياتُ فيها دليلٌ على أنَّ الله تعالى لا يُبقي أحدًا يدَّعي أنَّ اللهَ أوحى إليه كلامًا يُبَلِّغُه إلى النَّاسِ، وأنَّه يُعجِّلُ بهلاكِه، فأمَّا مَن يدَّعي النُّبوَّةَ دونَ ادِّعاءِ قَولٍ أُوحِيَ إليه، فإنَّ اللهَ قد يُهلِكُه بَعْدَ حِينٍ [303] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/147). .
11- في قَولِه تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم معصومٌ مِن أنْ يَتَقَوَّلَ على اللهِ، فإذا لم يَأْذَنْ له اللهُ في تحليلِ شيءٍ أو تحريمِه، فلن يحَلِّلَه ولن يحَرِّمَه [304] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) لابن عثيمين (1/104). .
12- خَتَم سُبحانَه السُّورةَ بقَولِه: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، وهي جديرةٌ بهذه الخاتمةِ؛ لِمَا تَضَمَّنَتْه مِن الإخبارِ عن عَظَمةِ الرَّبِّ -تعالى- وجلالِه، وذِكْرِ عِظَمِ مُلْكِه، وجرَيانِ حُكْمِه بالعَدلِ على عبادِه في الدُّنيا والآخرةِ، وذِكْرِ عظَمتِه تعالى في إرسالِ رَسولِه، وإنزالِ كتابِه، وأنَّه تعالى أعظمُ وأَجَلُّ وأكبرُ عندَ أهلِ سمَواتِه والمؤمِنينَ مِن عبادِه مِن أنْ يُقِرَّ كَذِبًا مُتَقَوَّلًا عليه، مُفترًى عليه؛ يُبَدِّلُ دِينَه، ويَنسَخُ شرائعَه، ويَقتُلُ عبادَه، ويُخبِرُ عنه بما لا حقيقةَ له، وهو سُبحانَه مع ذلك يؤيِّدُه ويَنصُرُه، ويُجيبُ دعواتِه، ويأخُذُ أعداءَه، ويَرفَعُ قَدْرَه، ويُعْلِي ذِكْرَه! فهو سُبحانَه العظيمُ الَّذي تأبى عَظَمتُه أنْ يَفعلَ ذلك بمَن أَتَى بأقبَحِ أنواعِ الكَذِبِ والظُّلمِ، فسُبحانَ ربِّنا العَظيمِ وتعالى عمَّا يَنسُبُه إليه الجاهِلونَ عُلُوًّا كبيرًا [305] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 193). !
13- إنَّ بَرَكةَ الاسمِ تابِعةٌ لبَرَكةِ المسمَّى؛ فقولُه تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ دليلٌ على الأمرِ بتسبيحِ الرَّبِّ بطريقِ الأَولى؛ فإنَّ تنزيهَ الاسمِ مِن توابعِ تنزيهِ المسمَّى [306] يُنظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 307). .
14- في قَولِه تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ سؤالٌ: ما الفائدةُ في دُخولِ الباءِ في قَولِه تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، ولم تَدخُلْ في قَولِه تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] ؟
الجوابُ: التَّسبيحُ يُرادُ به التَّنزيهُ، والذِّكْرُ المُجَرَّدُ دونَ معنًى آخَرَ، ويُرادُ به ذلك معَ الصَّلاةِ، وهو ذِكْرٌ وتنزيهٌ مع عَمَلٍ؛ ولهذا تُسَمَّى الصَّلاةُ تسبيحًا؛ فإذا أُريدَ التَّسبيحُ المُجَرَّدُ فلا معنى للباءِ؛ لأنَّه لا يَتعدَّى بحَرفِ جَرٍّ، لا تَقولُ: سَبَّحْتُ باللهِ، وإذا أرَدْتَ المقرونَ بالفعلِ -وهو الصَّلاةُ- أدْخَلْتَ الباءَ؛ تنبيهًا على ذلك المرادِ، كأنَّك قُلْتَ: سَبِّحْ مُفتَتِحًا باسمِ ربِّك، أو ناطِقًا باسمِ ربِّك، كما تقولُ: صَلِّ مُفتَتِحًا أو ناطِقًا باسمِه؛ ولهذا السِّرِّ -واللهُ أعلمُ- دخَلَتِ اللَّامُ في قَولِه تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد: 1] ، والمرادُ: التَّسبيحُ الَّذي هو السُّجودُ والخُضوعُ والطَّاعةُ، ولم يَقُلْ في موضعٍ: «سَبَّحَ اللهَ ما في السَّمواتِ والأرضِ»، كما قال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: 15] ! وتأمَّلْ قولَه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 206] ، كيف قال: وَيُسَبِّحُونَهُ لَمَّا ذَكَرَ السُّجودَ باسمِه الخاصِّ؛ فصار التَّسبيحُ ذِكْرَهم له، وتنزيهَهم إيَّاه [307] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/20). .
15- في قَولِه تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فائدةٌ في ذِكْرِ الاسمِ: وهو أنْ يكونَ التَّسبيحُ باللِّسانِ؛ إِذْ لا يمكنُ تسبيحُ اللهِ باللِّسانِ إلَّا بذكرِ اسمِه، أمَّا إذا لم تَذْكُرِ اسمَ اللهِ؛ فإنَّ التَّسبيحَ يكونُ بالقلبِ؛ ولهذا تقولُ: «سُبْحانَ رَبِّيَ العظيمِ»، «سُبحانَ اللهِ وبحَمْدِه»، «سبحانَ اللهِ العظيمِ» تَذْكُرُ الاسمَ، فيكونُ فائدةُ ذِكْرِ الاسمِ هنا: الدَّلالةَ على أنَّ المرادَ التَّسبيحُ باللِّسانِ، وهذا لا يمكِنُ إلَّا بذِكْرِ الاسمِ، فتكونُ هنا إذَن فائِدةُ ذِكْرِ الاسمِ عَظيمةً جِدًّا؛ لئلَّا يَقتَصِرَ الإنسانُ على التَّسبيحِ بقَلبِه، الَّذي لا يَظْهَرُ معه الاسمُ [308] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) لابن عثيمين (2/351). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ
- قولُه: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ الفاءُ هنا لتَفريعِ إثباتِ أنَّ القرآنَ مُنزَّلٌ مِن عندِ اللهِ، ونفْيِ ما نسَبَه المشرِكون إليه، تَفريعًا على ما اقتضاهُ تَكذيبُهم بالبعثِ مِن التَّعريضِ بتَكذيبِ القرآنِ الَّذي أخبَرَ بوُقوعِه، وتَكذيبِهم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القائلَ: إنَّه مُوحًى به إليه مِن اللهِ تَعالى [309] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/140، 141). .
- وابتُدِئَ الكلامُ بالقسَمِ تَحقيقًا لمَضمونِه على طَريقةِ الأقسامِ الواردةِ في القرآنِ، و(لا أُقسِمُ) صِيغةُ تَحقيقِ قَسَمٍ، وأصْلُها أنَّها امتِناعٌ مِن القسَمِ امتناعَ تَحرُّجٍ مِن أنْ يَحلِفَ بالمقسَمِ به خَشيةَ الحِنثِ، فشاع استِعمالُ ذلك في كلِّ قسَمٍ يُرادُ تَحقيقُه، واعتُبِرَ حرْفُ (لا) كالمزيدِ [310] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/27)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/141). . وذلك على قولٍ.
2- قولُه تعالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
- ضَميرُ إِنَّهُ عائدٌ إلى القُرآنِ المفهومِ مِن ذِكرِ الحَشْرِ والبعثِ؛ فإنَّ ذلك ممَّا جاء به القُرآنُ، ومَجيئُه بذلك مِن أكبرِ أسبابِ تَكذيبِهم به، على أنَّ إرادةَ القُرآنِ مِن ضَمائرِ الغَيبةِ الَّتي لا معادَ لها قدْ تَكرَّرَ غيرَ مرَّةٍ فيه. وتأْكيدُ الخبرِ بحرْفِ (إنَّ) واللَّامِ؛ للرَّدِّ على الَّذين كذَّبوا أنْ يكونَ القرآنُ مِن كَلامِ الله، ونَسَبوه إلى غيرِ ذلك [311] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/141). .
- وإضافةُ (قول) إلى (رسول)؛ لأنَّه الَّذي بلَّغَه، فهو قائلُه، والإضافةُ لأدْنى مُلابَسةٍ، وإلَّا فالقُرآنُ جَعَلَه اللهُ تعالَى وأجْراهُ على لِسانِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما صدَرَ مِن جِبريلَ بإيحائِه بواسطتِه [312] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/141). .
- وفي لَفظِ (رَسول) إيذانٌ بأنَّ القولَ قولُ مُرسِلِه -وهو اللهُ تعالى-، وقد أُكِّدَ هذا المعْنى بقولِه عَقِبَه: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [313] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/142). .
- ووصْفُ الرَّسولِ بـ كَرِيمٍ؛ لأنَّه الكريمُ في صِنفِه، أي: النَّفيسُ الأفضلُ، فأُثبِتَ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الفضلُ على غيرِه مِن الرُّسلِ بوصْفِ كَرِيمٍ [314] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/142). .
3- قولُه تعالَى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ
- عُطِفَ قولُه: وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ على جُملةِ الخبرِ في قولِه: بِقَوْلِ شَاعِرٍ، و(لا) النَّافيةُ تأْكيدٌ لنفْيِ (ما) [315] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/142). .
- وكُنِّيَ بنفْيِ أنْ يكونَ قولَ شاعرٍ، أو قولَ كاهنٍ عن تَنزيهِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أنْ يكونَ شاعرًا أو كاهنًا؛ ردًّا لقولِهم: هو شاعرٌ، أو هو كاهنٌ [316] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/142). .
- وإنَّما خُصَّ هذانِ بالذِّكرِ دونَ قولِهم: افتراهُ، أو هو مَجنونٌ؛ لأنَّ الوصفَ بـ كَرِيمٍ كافٍ في نفْيِ أنْ يكونَ مَجنونًا أو كاذبًا؛ إذ ليس المجنونُ ولا الكاذبُ بكريمٍ، فأمَّا الشَّاعرُ والكاهنُ فقدْ كانَا مَعدودَينِ عِندَهم مِن أهلِ الشَّرَفِ [317] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/142). .
- قولُه: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أي: ما أغْفَلَكم! تَتميمٌ [318] التَّتميم: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ مِن الكلامِ نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/332، 333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/49 - 51، 240، 241). للمعْنى السَّابقِ، وفيه معْنى التَّعجُّبِ [319] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/630). .
- وقَلِيلًا في قولِه: قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وقَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ قيل: المُرادُ به انتِفاءُ ذلك مِن أصْلِه على طَريقةِ التَّمليحِ القَريبِ مِن التَّهكُّمِ [320] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/606)، ((تفسير أبي السعود)) (9/27)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/142). .
- وانتصَبَ قَلِيلًا في المَوضعَينِ على الصِّفةِ لمصدرٍ مَحذوفٍ أو زمانٍ مَحذوفٍ يدُلُّ عليه تُؤْمِنُونَ وتَذَكَّرُونَ، أي: تُؤمِنون إيمانًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا، وتَذَكَّرون تَذكُّرًا قليلًا، أو زَمانًا قليلًا [321] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/242)، ((تفسير أبي حيان)) (10/264، 265)، ((تفسير أبي السعود)) (9/27)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/143)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/ 205). .
- و(ما) يَحتمِلُ أنْ تكونَ نافيةً؛ فيَنْتفي إيمانُهم ألبَتَّةَ، ويَحتمِلُ أنْ تكونَ مَصدريَّةً، والمتَّصِفُ بالقِلَّةِ هو الإيمانُ اللُّغويُّ، ويكونَ المصدرُ المؤوَّلُ في مَوضعِ رفْعٍ على الفاعليَّةِ بـ قَلِيلًا، أي: قَليلًا إيمانُكم، ويَحتمِلُ أنْ تكونَ زائدةً مُؤكِّدةً، ولعلَّ هذا الوجهَ أصوَبُ الوُجوهِ؛ لأنَّه المناسِبُ لتأْكيدِ القِلَّةِ [322] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/265)، ((تفسير أبي السعود)) (9/27)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/143)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/205، 206). .
- قولُه: مَا تُؤْمِنُونَ، ومَا تَذَكَّرُونَ على قِراءةِ مَا يُؤْمِنُونَ، ومَا يَذَكَّرُونَ بالياءِ التَّحتيَّةِ [323] قرأها ابنُ كثيرٍ ويعقوبُ وهشامٌ بالياءِ التَّحتيَّةِ، والباقون بالتَّاءِ، واختُلِف عن ذَكْوانَ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/390). ، فيكونُ فيهما التِفاتٌ مِن الخِطابِ إلى الغَيبةِ، وحسَّنَ ذلك كَونُهما مُعترِضتَينِ [324] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/143). .
- قولُه: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث خَتَم الأُولى بـ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، والثَّانيةَ بـ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، فأُوثِرَ نفْيُ الإيمانِ عنهم -على قولٍ- في جانبِ انتِفاءِ أنْ يكونَ قولَ شاعرٍ، ونَفْيُ التَّذكُّرِ -على قولٍ- في جانبِ انتِفاءِ أنْ يكونَ قولَ كاهنٍ؛ لأنَّ نفْيَ كَونِ القرآنِ قولَ شاعرٍ بَديهيٌّ؛ إذ ليس فيه ما يُشبِهُ الشِّعرَ مِن اتِّزانِ أجزائِه في المتحرِّكِ والسَّاكنِ والتَّقفيةِ المُتماثِلةِ في جَميعِ أواخِرِ الأجزاءِ، فادِّعاؤهم أنَّه قولُ شاعرٍ بُهتانٌ مُتعمَّدٌ، يُنادي على أنَّهم لا يُرْجى إيمانُهم، وأمَّا انتفاءُ كَونِ القرآنِ قولَ كاهنٍ فمُحتاجٌ إلى أدْنى تَأمُّلٍ؛ إذْ قد يُشبَّهُ في بادئِ الرَّأيِ على السَّامعِ مِن حيث إنَّه كلامٌ مَنثورٌ مُؤلَّفٌ على فواصِلَ، ويُؤلَّفُ كلامُ الكهَّانِ على أسجاعٍ مُثنَّاةٍ مُتماثِلةٍ زَوجَينِ زَوجَينِ، فإذا تأمَّلَ السَّامعُ فيه بأدْنى تَفكُّرٍ في نَظْمِه ومَعانيه، عَلِمَ أنَّه ليس بقولِ كاهنٍ [325] قال أبو السعود: (وأنت خبيرٌ بأنَّ ذلك أيضًا ممَّا لا يتوقَّفُ على تأمُّلٍ قطعًا). ((تفسير أبي السعود)) (9/27). ؛ فنَظْمُه مُخالِفٌ لنظْمِ كَلامِ الكُهَّانِ؛ إذ ليست فِقراتُه قصيرةً، ولا فواصِلُه مُزدوِجةً، مُلتزَمٌ فيها السَّجعُ، ومَعانيه ليست مِن مَعاني الكِهانةِ الرَّاميةِ إلى الإخبارِ عمَّا يَحدُثُ لبعضِ النَّاسِ مِن أحداثٍ، أو ما يُلِمُّ بقومٍ مِن مَصائبَ مُتوقَّعةٍ ليَحذَروها؛ فلذلك كان المخاطَبون بالآيةِ مُنتفيًا عنهم التَّذكُّرُ والتَّدبُّرُ، وإذا بطَلَ هذا وذاك بطَل مُدَّعاهم؛ فحقَّ أنَّه تَنزيلٌ مِن ربِّ العالَمينَ، كما ادَّعاهُ الرَّسولُ الكريمُ عليه الصَّلاةُ والتَّسليمُ [326] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/243)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/143). .
4- قولُه تعالَى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَجوزُ أنْ يكونَ خبَرًا ثانيًا عن اسمِ (إنَّ)، وهو تَصريحٌ بعْدَ الكِنايةِ، ويجوزُ أنْ يكونَ خبرَ مُبتدأٍ مَحذوفٍ جَرى حذْفُه على النَّوعِ المسمَّى عِندَ بعضِ البلاغيِّين بمُتابَعةِ الاستِعمالِ [327] العرَبُ إذا أجْرَوا حَديثًا على شَيءٍ، ثمَّ أخبَروا عنه، الْتَزَموا حَذفَ ضَميرِه الَّذي هو مُسنَدٌ إليه؛ إشارةً إلى التَّنويهِ به كأنَّه لا يَخْفى. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 176)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/347). في أمثالِه، وهو كثيرٌ في الكَلامِ البليغِ، وتكونَ الجُملةُ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ القرآنَ لَمَّا وُصِفَ بأنَّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ونُفِيَ عنه أنْ يكونَ قولَ شاعرٍ أو قولَ كاهنٍ؛ تَرقَّبَ السَّامعُ مَعرفةَ كُنْهِه، فبُيِّنَ بأنَّه مُنزَّلٌ مِن ربِّ العالَمينَ على الرَّسولِ الكريمِ؛ ليَقولَه للنَّاسِ ويَتْلوَه عليهم [328] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/606)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/630)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/144)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/206). .
- وقولُه: تَنْزِيلٌ وصْفٌ بالمصدَرِ؛ للمُبالَغةِ [329] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/144). .
- وعُبِّرَ عن الجَلالةِ بوصْفِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دونَ اسْمِه العَلَمِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّه رَبُّ المخاطَبينَ، ورَبُّ الشُّعراءِ والكُهَّانِ الَّذين كانوا بمَحلِّ التَّعظيمِ والإعجابِ عندَهم [330] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/144). .
5- قولُه تعالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ
- قولُه: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ هذه الجُملةُ عطْفٌ على جُملةِ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ؛ فهي مَشمولةٌ لِما أفادَتْه الفاءُ مِن التَّفريعِ على ما اقتضاهُ تَكذيبُهم بالبعثِ مِن تَكذيبِهم القرآنَ، ومَن جاء به وقال: إنَّه وحْيٌ مِن اللهِ تَعالى، وهذه الجُملةُ مَعطوفةٌ عطْفَ اعتِراضٍ، فلك أنْ تَجعَلَ الواوَ اعتراضيَّةً؛ فإنَّه لا معْنى للواوِ الاعتراضيَّةِ إلَّا ذلك [331] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/144، 145). .
- ومُفادُ هذه الجُملةِ: استِدلالٌ ثانٍ على أنَّ القُرآنَ مُنزَّلٌ مِن عندِ اللهِ تعالى بعْدَ الاستِدلالِ الأوَّلِ المستنِدِ إلى القسَمِ والمؤكِّداتِ، وهو استِدلالٌ بما هو مُقرَّرٌ في الأذهانِ مِن أنَّ اللهَ تعالى واسعُ القُدرةِ، وأنَّه سُبحانَه عليمٌ، فلا يُقْرِرُ أحدًا على أنْ يقولَ عنه كلامًا لم يَقُلْه، أي: لو لمْ يكُنِ القرآنُ مُنزَّلًا مِن عندِنا ومحمَّدٌ ادَّعى أنَّه مُنزَّلٌ مِنَّا، لَما أقرَرْناهُ على ذلك، ولعَجَّلْنا بإهلاكِه، فعَدَمُ هَلاكِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دالٌّ على أنَّه لم يَتقوَّلْه على اللهِ؛ فإنَّ (لو) تَقْتضي انتِفاءَ مَضمونِ شَرْطِها لانتِفاءِ مَضمونِ جَوابِها، فحَصَل مِن هذا الكلامِ غَرَضانِ مُهمَّانِ؛ أحدُهما: يَعودُ إلى ما تَقدَّمَ، أي: زيادةُ إبطالٍ لمَزاعمِ المشركين أنَّ القرآنَ شِعرٌ أو كِهانةٌ؛ إبطالًا جامعًا لإبطالِ النَّوعَينِ، أي: ويُوضِّحُ مُخالَفةَ القُرآنِ لهذَينِ النَّوعَينِ مِن الكلامِ أنَّ الآتيَ به يَنسُبُه إلى وحْيِ اللهِ، وما عَلِمْتُم شاعرًا ولا كاهنًا يَزعُمُ أنَّ كلامَه مِن عندِ اللهِ. وثانيهما: إبطالُ زعْمٍ لهم لم يَسبِقِ التَّصريحُ بإبطالِه، وهو قولُ فَريقٍ منهم افْتَرَاهُ [يونس: 38] ، أي: نَسَبَه إلى اللهِ افتراءً، وتقَوَّلَه على اللهِ؛ قال تعالَى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ [الطور: 33]، فبيَّنَ لهم أنَّه لو افْتَرى على اللهِ لَما أقَرَّه على ذلك. ثمَّ إنَّ هذا الغرَضَ يَستتبِعُ غَرَضًا آخَرَ؛ وهو تأْييسُهم مِن أنْ يأتيَ بقُرآنٍ لا يُخالِفُ دِينَهم، ولا يُسَفِّهُ أحلامَهم وأصنامَهم؛ قال تبارك تعالَى: قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [332] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/144، 145). [يونس: 15] .
- والتَّقوُّلُ: نِسبةُ قولٍ لِمَن لم يَقُلْه، وهو تَفعُّلٌ مِن القولِ، صِيغَت هذه الصِّيغةُ الدَّالَّةُ على التَّكلُّفِ؛ لأنَّ الَّذي يَنسُبُ إلى غَيرِه قولًا لم يَقُلْه يَتكلَّفُ ويَختلِقُ ذلك الكلامَ. ولِكَونِه في معْنى (كَذَبَ) عُدِّيَ بـ (على) [333] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/606، 607)، ((تفسير البيضاوي)) (5/243)، ((تفسير أبي حيان)) (10/266)، ((تفسير أبي السعود)) (9/27)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/145). .
- والأقاويلُ: جمْعُ أقوالٍ، الَّذي هو جمْعُ قولٍ، أي: بعضًا مِن جِنسِ الأقوالِ الَّتي هي كثيرةٌ، فلِكَثرتِها جِيءَ لها بجمْعِ الجمْعِ الدَّالِّ على الكثرةِ [334] يُنظر: ((تفسير الزمخشري - حاشية ابن المُنَيِّر)) (4/607)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/145). .
أو سمَّى الأقوالَ المتقوَّلةَ أقاويلَ؛ تَصغيرًا لها وتَحقيرًا، كقولِك: الأعاجيبُ والأضاحيكُ، كأنَّها جمْعُ أُفْعولةٍ مِن القَولِ [335] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/607)، ((تفسير البيضاوي)) (5/243)، ((تفسير أبي حيان)) (10/266)، ((تفسير أبي السعود)) (9/27). .
- قولُه: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، قيل: المعنى: لَقَتَلْناه صَبْرًا، كما تَفعَلُ الملوكُ بمَن يَتكذَّبُ عليهم؛ مُعاجَلةً بالسَّخطِ والانتقامِ، فصُوِّرَ قتْلُ الصَّبرِ بصُورتِه ليَكونَ أهوَلَ؛ وهو أنْ يُؤخَذَ بيَدِه وتُضرَبَ رَقبتُه، وخصَّ اليمينَ على اليسارِ؛ لأنَّ القَتَّالَ إذا أراد أنْ يُوقِعَ الضَّربَ في قفاهُ أخَذَ بيَسارِه، وإذا أراد أنْ يُوقِعَه في جِيدِه وأنْ يُلحِفَه بالسَّيفِ -وهو أشدُّ على المصبورِ؛ لنَظَرِه إلى السَّيفِ-؛ أخَذَ بيَمينِه [336] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/607)، ((تفسير البيضاوي)) (5/243)، ((تفسير أبي حيان)) (10/266)، ((تفسير أبي السعود)) (9/28). .
- قولُه: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، أي: لَأخَذْناه أخْذًا عاجلًا فقَطَعْنا وَتينَه، وفي هذا تَهويلٌ لصُورةِ الأخْذِ؛ فلذلك لم يُقتصَرْ على نحْوِ: لأهْلَكْناهُ [337] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/146). .
- واليمينُ: اليدُ اليُمنى، كُنِّيَ بها عن الاهتِمامِ بالتَّمكُّنِ مِن المأخوذِ؛ لأنَّ اليمينَ أقوى عمَلًا مِن الشِّمالِ؛ لكَثرةِ استِخدامِها، فنِسبةُ التَّصرُّفِ إليها شَهيرةٌ [338] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/146). .
- ومِنْهُ مُتعلِّقٌ بـ أَخَذْنَا تَعلُّقَ المفعولِ بعامِلِه. و(مِن) زائدةٌ في الإثباتِ، وفائدةُ (مِن) الزَّائدةِ في الكلامِ أنَّ أصْلَها التَّبعيضُ على وَجْهِ التَّمليحِ، كأنَّه يقولُ: نأخُذُ بَعضَه [339] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/146). .
- والوَتينُ: عِرقٌ مُعلَّقٌ به القلبُ، ويُسمَّى النِّياطُ، وهو الَّذي يَسقي الجسَدَ بالدَّمِ؛ ولذلك يُقالُ له: نَهرُ الجسدِ، وهو إذا قُطِعَ مات صاحبُه، وهو يُقطَعُ عندَ نحْرِ الجَزورِ، فقَطْعُ الوَتينِ مِن أحوالِ الجَزورِ ونحْرِها؛ فشُبِّهَ عِقابُ مَن يُفرَضُ تَقَوُّلُه على اللهِ بجَزورٍ تُنحَرُ فيُقطَعُ وَتينُها [340] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/146). ، واختير التَّعبيرُ به؛ لأنَّ مادَّتَه بهذا الترتيبِ تدورُ على المتانةِ والدَّوامِ، فلذا كان يفوتُ صاحبُه بفواتِه [341] يُنظر: ((نظم الدرر في تناسب الآيات والسور)) للبقاعي (20/381). .
- ومَوقعُ تَفريعِ قولِه: فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ شَديدُ الاتِّصالِ بما استَتْبَعَه فرْضُ التَّقوُّلِ مِن تَأْييسِهم مِن أنْ يَتقوَّلَ على اللهِ كَلامًا لا يَسُوؤهم؛ ففي تلك الحالةِ مِن أحوالِ التَّقوُّلِ لو أخَذْنا منه باليمينِ فقَطَعْنا منه الوتينَ، لا يَستطيعُ أحدٌ منكم أو مِن غيرِكم أنْ يَحجُزَ عنه ذلك العِقابَ. وكَلمةُ (أَحَد) هو اسمٌ يقَعُ في النَّفيِ العامِّ مُستويًا فيه الواحدُ والجمْعُ، والمذكَّرُ والمؤنَّثُ، وبدونِ هذا الاتِّصالِ لا يَظهَرُ معْنى تَعجيزِهم عن نصْرِه؛ إذ لَيسوا مِن الولاءِ له بمَظِنَّةِ نصْرِه، فمعْنى هذه الآيةِ يَحومُ حولَ معْنى قولِه تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [342] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/147). [الإسراء: 73 - 75] .
- وإنَّما أُخبِرَ عن (أَحَد) وهو مُفرَدٌ بـ حَاجِزِينَ جمْعًا؛ لأنَّ (أحدًا) هنا وإنْ كان لَفظُه مُفرَدًا فهو في معْنى الجمْعِ؛ لأنَّ (أحدًا) إذا كان بمعْنى ذاتٍ أو شخصٍ لا يقَعُ إلَّا في سِياقِ النَّفيِ -مِثلَ عَريبٍ ودَيَّارٍ ونحوِهما مِن النَّكراتِ الَّتي لا تُستعمَلُ إلَّا مَنْفيَّةً-؛ فيُفيدُ العمومَ، أي: كلُّ واحدٍ لا يَستطيعُ الحجْزَ عنه، ويَسْتوي في لَفظِه الواحدُ والجمْعُ، والمذكَّرُ والمؤنَّثُ [343] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/607)، ((تفسير البيضاوي)) (5/243)، ((تفسير أبي حيان)) (10/267)، ((تفسير أبي السعود)) (9/28)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/147)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/206، 207). .
- و(مِنْ) في قولِه: مِنْ أَحَدٍ مَزيدةٌ؛ لتَأكيدِ النَّفيِ، وللتَّنصيصِ على العُمومِ [344] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/147)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/207). .
6- قولُه تعالَى: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ عطْفٌ على إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40] ، والضَّميرُ عائدٌ إلى القرآنِ الَّذي تَقدَّمَ ضَميرُه في قولِه: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [345] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/148). .
- والإخبارُ بقولِه: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ إخبارٌ بالمَصدَرِ؛ للمُبالَغةِ في الوَصفِ، والمعنى: أنَّه مُذكِّرٌ للنَّاسِ بما يَغفُلون عنه مِن العِلمِ باللهِ وما يَليقُ بجَلالِه؛ ليَنتشِلَهم مِن هُوَّةِ التَّمادي في الغَفلةِ حتَّى يَفوتَ الفواتُ، فالقرآنُ في ذاتِه تَذكرةٌ لِمَن يُريدُ أنْ يَتذكَّرَ، سواءٌ تَذكَّرَ أو لم يَتذكَّرْ [346] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/148). .
- والقُرآنُ تَذكرةٌ للمُتَّقينَ في الماضي والحالِ والمُستقبَلِ؛ فإنَّ الإخبارَ عنه باسمِ المَصدَرِ يَتحمَّلُ الأزمنةَ الثَّلاثةَ؛ إذ المصدرُ لا إشعارَ له بوقْتٍ، بخِلافِ الفعلِ وما أشْبَهَه [347] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/149). .
- وإنَّما عُلِّقَ لِلْمُتَّقِينَ بكونِه تَذكرةً؛ لأنَّ المتَّقينَ هم الَّذين أدْرَكوا مَزيَّتَه، وهم المنتَفِعونَ به [348] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/243)، ((تفسير أبي السعود)) (9/28)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/149). .
7- قولُه تعالَى: وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ هاتانِ جُملتانِ مُرتبطتانِ، وأُولاهما تَمهيدٌ وتَوطئةٌ للثَّانيةِ، وهي مُعترِضةٌ بيْن الَّتي قبْلَها والَّتي بعْدَها، والثَّانيةُ منهما مَعطوفةٌ على جُملةِ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [الحاقة: 48] ، فكان تَقديمُ الجُملةِ الأُولى على الثَّانيةِ اهتِمامًا بتَنبيهِ المكذِّبين إلى حالِهم، وكانت أيضًا بمَنزلةِ التَّتميمِ لجُملةِ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [الحاقة: 48] ، والمعْنى: إنَّا بَعَثْنا إليكم الرَّسولَ بهذا القرآنِ، ونحن نَعلَمُ أنَّه سيكونُ منكم مُكذِّبون له وبه، وعِلْمُنا بذلك لم يَصْرِفْنا عن تَوجيهِ التَّذكيرِ إليكم وإعادتِه عليكم؛ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال: 42] ؛ فقُوبِلَت صِفةُ القرآنِ الَّتي تَنفَعُ المتَّقينَ بصِفتِه الَّتي تَضُرُّ بالكافرينَ على طَريقةِ التَّضادِّ، فبيْن الجُملتَينِ المُتعاطفتَينِ مُحسِّنُ الطِّباقِ [349] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/149). والطِّباق: هو الجمعُ بيْنَ مُتضادَّينِ معَ مراعاةِ التَّقابُلِ؛ كالبياضِ والسَّوادِ، واللَّيلِ والنَّهارِ، وهو قِسْمانِ: لفظيٌّ، ومعنويٌّ؛ فمِن الطِّباقِ اللَّفظيِّ: قولُه تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة: 82] ، طابَق بيْنَ الضَّحِكِ والبكاءِ، والقليلِ والكثيرِ. ومِن الطِّباقِ المعنويِّ: قولُه تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس: 15، 16]؛ معناه: ربُّنا يَعلَمُ إنَّا لَصادِقونَ. ومنه: طباق ظاهرٌ، وهو ما كان وجْهُ الضِّدِّيَّةِ فيه واضحًا. وطباقٌ خَفيٌّ: وهو أن تكونَ الضِّدِّيَّةُ في الصُّورةِ متوهَّمةٌ، فتبدو المُطابَقةُ خفيَّةً؛ لِتَعلُّقِ أحدِ الرُّكنَينِ بما يقابلُ الآخَرَ تعلُّقَ السَّببيَّةِ أو اللُّزومِ، كقولِه تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: 25]؛ فإنَّ إدخالَ النَّارِ يَستلزِمُ الإحراقَ المُضادَّ للإغراقِ، ومنه قولُه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ؛ لأنَّ معنى القصاصِ: القتلُ، فصار القتْلُ سببَ الحياةِ. وهذا مِن أملَحِ الطِّباقِ وأخفاه. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 111)، ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) للبهاء السبكي (2/225)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/455 - 457)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 566). .
- وفي قولِه: وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ إيعادٌ على التَّكذيبِ [350] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/607)، ((تفسير أبي حيان)) (10/267). .
- والمكذِّبونَ: هم الكافِرونَ، وإنَّما عُدِلَ عن الإتيانِ بضَميرِهم إلى الاسمِ الظَّاهرِ الْكَافِرِينَ؛ لأنَّ الحسرةَ تَعُمُّ المكذِّبين يومَئذٍ والَّذين سيَكفُرون به مِن بعْدُ [351] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/149). .
8- قولُه تعالَى: وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ عطْفٌ على وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ [الحاقة: 50] ، فيَحتمِلُ أنْ يكونَ الضَّميرُ عائدًا على القرآنِ؛ لأنَّ هذه مِن صِفاتِ القرآنِ، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ مُرادًا به المذكورُ، وهو كَوْنُ القرآنِ حَسرةً على الكافرينَ، أي: إنَّ ذلك حقٌّ لا مَحالةَ، أي: هو جالبٌ لحسْرتِهم في الدُّنيا والآخرةِ [352] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/150). .
- وإضافةُ حقٍّ إلى يَقينٍ يَجوزُ أنْ يكونَ مِن إضافةِ الموصوفِ إلى الصِّفةِ، أي: إنَّه لَلْيَقينُ الحقُّ الموصوفُ بأنَّه يَقينٌ لا يَشُكُّ في كونِه حقًّا إلَّا مَن غُشِيَ على بَصيرتِه، أي: لَلْيقينُ الحقُّ، أي: الَّذي لا تَعترِيه شُبهةٌ [353] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/150). .
وقيل: ليست هذه الإضافةُ مِن بابِ إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه، بل مِن بابِ إضافةِ الجِنْسِ إلى نوعِه؛ فإنَّ «الحقَّ» -وكذلك «العلمُ» و«العينُ»- أعمُّ مِن كونِها يقينًا، فأُضيف العامُّ إلى الخاصِّ، مثل: بعضِ المتاعِ، وكُلِّ الدَّراهمِ.
ولما كان المضافُ والمضافُ إليه في هذا البابِ يَصْدُقانِ على ذَاتٍ واحدةٍ -بخلافِ قولِك: دارُ عمروٍ، وثوبُ زيدٍ- ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أنَّها مِن إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه؛ وليس كذلك، بل هي مِن بابِ إضافةِ الجِنْسِ إلى نوعِه، كـ: ثوبِ خَزٍّ، وخاتَمِ فضَّةٍ. فالمضافُ إليه قد يكونُ مغايرًا للمضافِ، لا يَصْدُقانِ على ذاتٍ واحدةٍ، وقد يُجانسه فَيَصْدُقانِ على مسمَّىً واحدٍ [354] يُنظر: ((التبيان في أيمان القرآن)) لابن القيم (1/286). .
وعندَ الكوفيينَ هذا مِن إضافةِ الشيءِ إلى نفسِه، وأصلُه عندَهم: «الحقُّ اليقينُ» على النَّعتِ، ثمَّ أُضيف (المنعوت) إلى نعتِه، والنعتُ هو المنعوتُ في المعنى، فقد صار مِن إضافةِ الشيءِ إلى نفسِه [355] يُنظر: ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7693). قال الشنقيطي: (والحقُّ هو اليقينُ. وإضافةُ الشيءِ إلى نفسِه معَ اختلافِ اللفظينِ أسلوبٌ عربيٌّ، وقد كثُر ورودُه في القرآنِ وفي كلامِ العربِ، ومنه في القرآنِ قولُه تعالى: وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ [يوسف: 109] ، و«لدار» هي الآخرةُ، وقولُه: وَمَكْرَ السَّيِّئِ [فاطر: 43] ، والمكرُ هو السيئُ بدليلِ قولِه بعدَه: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، وقولُه: مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ، والحبلُ هو الوريدُ، وقولُه: شَهْرُ رَمَضَانَ [البقرة: 185] ، والشَّهرُ هو رمضانُ). ((أضواء البيان)) (7/537) بتصرف. .
9- قولُه تعالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ تَفريعٌ على جميعِ ما تَقدَّمَ مِن وصْفِ القرآنِ وتَنزيهِه عن المطاعِنِ، وتَنزيهِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عمَّا افتراهُ عليه المشركون، وعلى ما أيَّدَه اللهُ به مِن ضرْبِ المثَلِ للمكذِّبين به بالأُمَمِ الَّتي كذَّبَت الرُّسلَ؛ فأُمِر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يُسبِّحَ اللهَ تَسبيحَ ثَناءٍ وتَعظيمٍ شُكرًا له على ما أنْعَمَ به عليه مِن نِعمةِ الرِّسالةِ وإنزالِ هذا القرآنِ عليه [356] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/151). .
- والتَّسبيحُ: التَّنزيهُ عن النَّقائصِ بالاعتِقادِ والعِبادةِ والقولِ؛ فتَعيَّنَ أنْ يَجرِيَ في التَّسبيحِ القَوليِّ اسمُ المنزَّهِ؛ فلذلك قال: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، ولم يَقُلْ: فسبِّحْ ربَّك العظيمَ [357] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/151). .