موسوعة التفسير

سورةُ الأعلَى
الآيات (1-8)

ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ

غريب الكلمات:

غُثَاءً: أي: يابِسًا هَشيمًا جافًّا، والغُثاءُ: ما تحطَّمَ مِن يَبْسِ البَقلِ يأتي به السَّيلُ فيَقذِفُه على جانِبِ الوادي، وأصلُ (غثي): يدُلُّ على ارتفاعِ شَيءٍ دَنِيٍّ [12] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 524)، ((تفسير ابن جرير)) (17/46)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 355)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/412، 413)، ((البسيط)) للواحدي (23/435). .
أَحْوَى: أي: أَسْوَدَ بَعْدَ الخُضرةِ؛ وذلك أنَّ الرَّطْبَ إذا جَفَّ يَبِسَ واسْوَدَّ، وأصلُ (حوي): يدُلُّ على جَمعٍ [13] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 524)، ((تفسير ابن جرير)) (24/313)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 355)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/112)، ((تفسير القرطبي)) (20/18)، ((تفسير ابن كثير)) (8/379)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 459). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بخِطابِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: نَزِّهْ ربَّك الأَعْلى -يا محمَّدُ- بقَلْبِك ولسانِك عن كُلِّ سُوءٍ ونَقْصٍ، واذكُرْه بقَولِك: سُبحانَ رَبِّيَ الأعلى.
ثمَّ يقولُ تعالى واصفًا ذاتَه: هو الَّذي خَلَق كُلَّ شَيءٍ مِنَ العَدَمِ، فأتْقَنَه وجعَلَه في أحسَنِ صورةٍ، والَّذي قدَّرَ مَقاديرَ الخلائِقِ، فهدى كُلَّ مَخلوقٍ لتَحصيلِ مَصالِحِه، والَّذي أخرَجَ مِنَ الأرضِ النَّباتَ أخضَرَ، فجَعَلَه يابِسًا أسْوَدَ بعْدَ أن كان مُخضَرًّا.
ثمَّ يبيِّنُ سُبحانَه جانبًا مِن مَظاهرِ فضلِه على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: سنُلْهِمُك -يا محمَّدُ- قِراءةَ القُرآنِ، فتحفَظُه في صَدْرِك، ولا تَنْساه، إلَّا ما شاء اللهُ أن يُنسِيَكه مِن القُرآنِ؛ إنَّ اللهَ يَعلَمُ السِّرَّ والعَلانيَةَ، ونشرعُ لك -يا محَمَّدُ- شرعًا سهلًا سَمحًا مُستقيمًا عَدلًا، ونسهِّلُ عليك أفعالَ الخَيرِ وأقوالَه، ونوَفِّقُك للطَّريقةِ اليُسْرى في كلِّ أمرٍ مِن أُمورِ الدِّينِ والدُّنيا.

 تفسير الآيات:

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1).
أي: نَزِّهْ ربَّك -يا محمَّدُ- بقَلْبِك ولسانِك عن كُلِّ سُوءٍ ونَقْصٍ، وهو الخالِقُ المالِكُ المدَبِّرُ لكُلِّ شَيءٍ، المتَّصِفُ بالعُلُوِّ المُطلَقِ؛ واذكُرْه بقَولِك: سُبحانَ رَبِّيَ الأعلى [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/309، 310)، ((الوسيط)) للواحدي (4/469)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (6/199)، ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيِّم (2/197)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيِّم (1/19)، ((نظم الدرر)) للبِقاعي (21/388-390)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/273، 274)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 157، 158). قيل: معنى الآيةِ: نَزِّهْ -يا محمَّدُ- اسمَ رَبِّك الأعلى أن تُسَمِّيَ به شَيئًا سِواه، فنَهاه بذلك أن يفعَلَ ما فعله المُشرِكونَ مِن تسميَتِهم آلهتَهم باللَّاتِ أو العُزَّى؛ فاللَّاتُ قيل: مشتقَّةٌ مِن اسمِ اللهِ، أو الإلهِ، والعُزَّى: مِنَ العزيزِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/310). قال البِقاعي: (أمَرَ أكمَلَ خَلقِه رسولَه المُنزَّلَ عليه هذا القرآنُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتنزيهِ اسمِه؛ لأنَّه وحْدَه العالِمُ بذلك حقَّ عِلمِه، وإذا نزَّه اسمَه عن أن يَدعوَ به وثَنًا أو غيرَه أو يَضَعَه في غيرِ ما يَليقُ به؛ كان لِذَاتِه سُبحانَه أشَدَّ تَنزيهًا). ((نظم الدرر)) (21/388). وهذا المعنى الَّذي ذهب إليه ابنُ جرير، جَعَله ابنُ تيميَّةَ معنًى تابعًا للمرادِ مِنَ الآيةِ، وليس هو المعنى المقصودَ بها أصالةً -أي: أنَّ مِن لازِمِ تَنزيهِ المُسمَّى تنزيهَ اسمِه-، وذهب إلى أنَّ قَولَه: اسْمَ رَبِّكَ يعني: مُسَمَّى رَبِّك؛ لأنَّ التَّسبيحَ ليس للاسمِ، بل لله نَفْسِه. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/199) و (16/323). وقيل: المعنى: سَبِّحْ رَبَّك ذاكِرًا اسمَه، يعني: لا تُسَبِّحْه بالقَلبِ فقط، بل سَبِّحْه بالقَلبِ واللِّسانِ، وذلك بذِكْرِ اسمِه تعالى. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: الواحديُّ، وابنُ القيِّمِ وحكاه عن شيخِه ابنِ تيميَّةَ، واختاره ابنُ عثيمين. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/469)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/19)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 158). قال الرَّسْعَني: (قال الزَّجَّاجُ وجمهورُ المفسِّرينَ واللُّغَويِّينَ: نَزِّهْ ربَّك عن السُّوءِ، وقُلْ: سُبحانَ رَبِّيَ الأعلى). ((تفسير الرسعني)) (8/587). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/ 315)، ((الوسيط)) للواحدي (4/469). وقال ابنُ القَيِّم: (الذِّكْرُ الحقيقيُّ محلُّه القلبُ؛ لأنَّه ضدُّ النِّسيانِ، والتَّسبيحُ نَوعٌ مِن الذِّكْرِ، فلو أُطلِقَ الذِّكرُ والتَّسبيحُ لَمَا فُهِم منه إلَّا ذلك دونَ اللَّفظِ باللِّسانِ، واللهُ تعالى أراد مِن عِبادِه الأمْرَينِ جميعًا، ولم يَقْبَلِ الإيمانَ وعَقْدَ الإسلامِ إلَّا باقتِرانِهما واجتِماعِهما، فصار معنى الآيتَينِ [أي: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ووَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ]: سَبِّحْ رَبَّك بقَلْبِك ولسانِك، واذكُرْ رَبَّك بقَلْبِك ولسانِك، فأقحَمَ الاسمَ تنبيهًا على هذا المعنى؛ حتَّى لا يَخلوَ الذِّكرُ والتَّسبيحُ مِنَ اللَّفظِ باللِّسانِ؛ لأنَّ ذِكرَ القَلْبِ مُتعَلَّقُه المُسمَّى المَدلولُ عليه بالاسمِ دون ما سِواه، والذِّكرَ باللِّسانِ متعَلَّقُه اللَّفظُ مع مَدلولِه؛ لأنَّ اللَّفظَ لا يُرادُ لنَفْسِه، فلا يَتوهَّم أحدٌ أنَّ اللَّفظَ هو المُسَبَّحُ دونَ ما يدُلُّ عليه مِن المعنى، وعَبَّرَ لي شيخُنا أبو العبَّاسِ ابنُ تيميَّةَ -قدَّس اللهُ رُوحَه- عن هذا المعنى بعبارةٍ لطيفةٍ وَجيزةٍ، فقال: المعنى: سَبِّحْ ناطِقًا باسمِ رَبِّك، مُتكَلِّمًا به، وكذا: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا [يوسف: 40]، سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ المعنى: سَبِّحْ رَبَّك ذاكِرًا اسْمَه). ((بدائع الفوائد)) (1/19). .
عن ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ الله عنهما: (أنَّه كان إذا قَرأ...: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: سُبْحانَ ربِّيَ الأعلَى) [15] أخرجه عبد الرَّزَّاق (4051) واللَّفظُ له، والبَيْهَقيُّ في ((شُعَب الإيمان)) (2100). صحَّحه ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/48)، وصحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((صفة الصلاة)) (ص: 105). .
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ سُبحانَه بالتَّسبيحِ، فكأنَّ سائِلًا قال: الاشْتِغالُ بالتَّسبيحِ إنَّما يَكونُ بَعْدَ المَعرِفةِ؛ فما الدَّليلُ على وُجودِ الرَّبِّ؟ فقال [16] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/128). :
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2).
أي: الَّذي خَلَق كُلَّ شَيءٍ مِنَ العَدَمِ، فأتْقَنَه وجعَلَه في أحسَنِ هَيئةٍ مُناسِبةٍ له [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/311)، ((تفسير ابن كثير)) (8/379)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/390، 391)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/275، 276)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 159، 160). .
كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار: 7].
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3).
أي: والَّذي قدَّرَ مَقاديرَ الخلائِقِ في ذَواتِها وصِفاتِها وأحوالِها، فهدى كُلَّ مَخلوقٍ لتَحصيلِ مَصالِحِه، وألهَمَه استِعمالَ قوَّتِه وأعضائِه وفِكْرِه في ذلك [18] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/15)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/139، 140)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/84)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/35، 36)، ((تفسير ابن كثير)) (8/379)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/392)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/276، 277). ومِمَّن ذهب في الجملةِ إلى هذا المعنى المذكورِ: القرطبيُّ، وابنُ تيميَّةَ، وابن القيِّم، وابنُ كثيرٍ، والبِقاعي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: المصادر السَّابقة. وقال الفرَّاءُ: (قَدَّرَ خلْقَه فَهَدَى الذَّكرَ لِمَأْتى الأنثى مِن البهائمِ. ويُقالُ: قدَّرَ فهدى وأضَلَّ، فاكتفى مِن ذِكرِ الضَّلالِ بذِكرِ الهدى؛ لكثرةِ ما يكونُ معه). ((معاني القرآن)) (3/256). .
كما قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل: 78] .
وقال سُبحانَه: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2] .
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت دلائِلُ التَّوحيدِ تارةً بالنَّفْسِ وتارةً بالآفاقِ، ونَبَّه بآياتِ النَّفْسِ، فلم يَبْقَ إلَّا آياتُ الآفاقِ، وكان النَّباتُ مِن آياتِها أدَلَّ المخلوقاتِ على البَعثِ؛ قال [19] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/392). :
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4).
أي: والَّذي أخرَجَ مِنَ الأرضِ النَّباتَ الأخضَرَ [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/312)، ((الوسيط)) للواحدي (4/470)، ((تفسير الرازي)) (31/129)، ((تفسير ابن كثير)) (8/379)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/277، 278). وقد جَعَل بَعضُ المُفَسِّرينَ المرعى خاصًّا بالأنعامِ. ومنهم: ابنُ جرير، والسمعانيُّ، والبيضاوي، والنسفي، وابنُ جُزَي، وأبو السعود، والقاسمي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/ 312)، ((تفسير السمعاني)) (6/208)، ((تفسير البيضاوي)) (5/305)، ((تفسير النسفي)) (3/630)، ((تفسير ابن جزي)) (2/474)، ((تفسير أبي السعود)) (9/144)، ((تفسير القاسمي)) (9/455)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/277، 278). ومنهم مَن جعله عامًّا للنَّاسِ والحيواناتِ، وهو ظاهرُ اختيارِ الرازيِّ، وابنِ كثير، واختاره السعديُّ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/129)، ((تفسير ابن كثير)) (8/379)، ((تفسير السعدي)) (ص: 920). .
فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان إيباسُه وتَسويدُه بَعْدَ اخضِرارِه ونُمُوِّه: في غايةِ الدَّلالةِ على تمامِ القُدرةِ وكَمالِ الاختيارِ، بمُعاقَبةِ الأضْدادِ على الذَّاتِ الواحِدةِ؛ قال تعالى: فَجَعَلَهُ أي: بَعْدَ أطوارٍ مِن زَمَنِ إخراجِه غُثَاءً أَحْوَى [21] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/393). .
فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5).
أي: فجَعَلَ اللهُ ذلك المَرعى يابِسًا، وجعَلَ لَونَه قَريبًا مِنَ السَّوادِ بَعْدَ أن كان مُخضَرًّا ورَطْبًا [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/313)، ((الوسيط)) للواحدي (4/470)، ((تفسير القرطبي)) (20/17)، ((تفسير السعدي)) (ص: 921)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/278). .
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَه تعالى بالتَّسبيحِ، وكان التَّسبيحُ لا يَتِمُّ إلَّا بقراءةِ ما أُنزِلَ عليه مِنَ القُرآنِ، وكان يتذكَّرُ في نَفْسِه مَخافةَ أن يَنْسى؛ فأزال عنه ذلك، وبَشَّرَه بأنَّه تعالى يُقرِئُه، وأنَّه لا يَنسى، واستثنى ما شاء أن يُنسِيَه لمصلحةٍ كالنَّسخِ وغيرِه [23] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/457). .
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6).
أي: سنُلْهِمُك -يا محمَّدُ- قِراءةَ القُرآنِ رَغْمَ كَونِك أُمِّيًّا لا تَقرَأُ ولا تَكتُبُ، وتحفَظُه في صَدْرِك، فلا تَنْساه [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/315، 316)، ((الوسيط)) للواحدي (4/470)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/395)، ((تفسير السعدي)) (ص: 921). قال الواحدي: (قال المفَسِّرونَ: كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا نَزَل عليه القُرآنُ أكثَرَ تحريكَ لِسانِه؛ مَخافةَ أن يَنساه، وكان لا يَفرُغُ جِبريلُ مِن آخِرِ الوَحيِ حتَّى يتكَلَّمَ هو بأوَّلِه؛ مَخافةَ النِّسيانِ، فقال الله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى، وهذا كقَولِه: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ [طه: 114] الآيةَ، وكقَولِه: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] الآيةَ). ((الوسيط)) (4/470). وقال القرطبي: (هذه بُشْرى مِن الله تعالى؛ بشَّرَه بأنْ أعطاه آيةً بَيِّنةً، وهي أن يَقرأَ عليه جِبريلُ ما يقرأُ عليه مِن الوَحيِ، وهو أُمِّيٌّ لا يَكتُبُ ولا يَقرَأُ، فيَحفَظُه ولا يَنساه). ((تفسير القرطبي)) (20/18). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/315، 316)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/279، 280). .
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7).
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ.
أي: إلَّا ما شاء اللهُ أن يُنسِيَكه مِن القُرآنِ -يا محمَّدُ- وَفْقَ ما تَقتَضيه حِكْمتُه البالِغةُ [25] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/316)، ((الوسيط)) للواحدي (4 470)، ((تفسير ابن كثير)) (8/379)، ((تفسير السعدي)) (ص: 921). قال ابن الجوزي: (قوله عزَّ وجلَّ: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ فيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: إلَّا ما شاء اللهُ أن يَنسَخَه فتَنْساه. قاله الحسَنُ، وقَتادةُ. والثَّاني: إلَّا ما شاء اللهُ أن تَنساه ثمَّ تَذكُرَه بعدُ. حكاه الزَّجَّاجُ. والثَّالثُ: أنَّه استِثناءٌ لا يقَعُ قال الفرَّاءُ: لم يَشَأْ أن يَنسى شيئًا، فإنَّما هو كقولِه تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود: 107، 108]، ولا يَشاءُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/432). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/316)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/ 256). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، والخازن، وأبو السعود، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/669)، ((تفسير ابن جرير)) (24/316)، ((تفسير السمرقندي)) (3/571)، ((الوسيط)) للواحدي (4/470)، ((تفسير السمعاني)) (6/209)، ((تفسير البغوي)) (5/242)، ((تفسير الخازن)) (4/417)، ((تفسير أبي السعود)) (9/144)، ((تفسير العليمي)) (7/341). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الحسَنُ، وقَتادةُ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (23/439)، ((تفسير ابن عطية)) (5/469). وممَّن جمَع بيْن القولَينِ الأوَّلِ والثَّاني -أي: أنَّ النِّسيانَ بالنَّسخِ، أو ما يَعرِضُ مِن نِسيانٍ مؤقَّتٍ ثمَّ يتذَكَّرُها: ابنُ عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/280)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 162). قال ابنُ عطية: (نِسيانُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ممتَنِعٌ فيما أُمِرَ بتبليغِه؛ إذ هو معصومٌ، فإذا بَلَّغَه ووُعِيَ عنه، فالنِّسيانُ جائِزٌ على أن يتذكَّرَ بعدَ ذلك، وعلى أن يَسُنَّ، أو على النَّسْخِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/469). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/396). قال أبو حيَّان: (مفهومُ الآيةِ في غايةِ الظُّهورِ، وقد تعسَّفوا في فَهمِها. والمعنى أنَّه تعالى أخبَر أنَّه سيُقرِئُه، وأنَّه لا يَنسى إلَّا ما شاء اللهُ، فإنَّه يَنْساه؛ إمَّا النَّسخُ، وإما أن يَسُنَّ، وإمَّا على أن يتذَكَّرَ. وهو صلَّى الله عليه وسلَّم معصومٌ مِن النِّسيانِ فيما أُمِر بتبليغِه، فإن وقَع نِسيانٌ فيكونُ على وجْهٍ مِن الوُجوهِ الثَّلاثةِ). ((تفسير أبي حيان)) (10/456). مما يدلُّ على النَّسخِ قولُه تبارك وتعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة: 106]. ومما يدلُّ على الثاني ما ورد عن المُسَوَّرِ بنِ يَزيدَ المالِكيِّ رضيَ الله عنه، قال:(( شَهِدْتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَقرأُ في الصَّلاةِ، فترَكَ شيئًا لم يَقرَأْه، فقال له رجُلٌ: يا رسولَ الله، ترَكْتَ آيةَ كذا وكذا، فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: هَلَّا أَذْكَرْتَنِيها)). أخرجه أبو داودَ (907)، وابنُ حِبَّانَ في ((صحيحه)) (2241)، وحسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (907)، وحسَّنه لغيرِه شعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((سنن أبي داود)) (907). ومما يدلُّ على الثالثِ وهو التَّذكُّرُ بعدَ النسيانِ ما ورَد عن عائشةَ رضيَ الله عنها، قالت: ((سَمِعَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجُلًا يَقرأُ في سورةٍ باللَّيلِ، فقال: يَرْحَمُه اللهُ، لقدْ أَذْكَرني كذا وكذا، آيةً كنتُ أُنْسِيتُها مِن سورةِ كذا وكذا)). أخرجه البخاريُّ (5038) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (788). وممَّن ذهب إلى القولِ الثَّالثِ: الفرَّاءُ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/256). وعن مجاهدٍ والكَلْبيِّ: أنَّ اللهَ أنزَل: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى، فلمْ يَنْسَ النَّبيُّ بعْدَ ذلك شيئًا. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/242). قال أبو حيَّانَ: (وقال الفرَّاءُ وجماعةٌ: هذا استثناءٌ صِلةٌ في الكلامِ على سُنَّةِ الله تعالى في الاستثناءِ، وليس ثَمَّ شيءٌ أُبيحَ استثناؤُه. وأخَذ الزمخشريُّ هذا القولَ فقال: وقال: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، والغرضُ نفْيُ النِّسيانِ رأسًا، كما يقولُ الرَّجُلُ لصاحِبِه: أنت سَهِيمِي فيما أَملِكُ إلَّا ما شاء الله، ولا يَقصِدُ استثناءَ شيءٍ، وهو مِن استعمالِ القِلَّةِ في معنى النَّفيِ. انتهى. وقولُ الفرَّاءِ والزمخشريِّ يجعلُ الاستثناءَ كلا استثناءٍ، وهذا لا يَنبغي أن يكونَ في كلامِ الله تعالى، بل ولا في كلامٍ فصيحٍ. وكذلك القولُ بأنَّ «لا» في فَلَا تَنْسَى للنَّهيِ، والألِفَ ثابتةٌ لأجْلِ الفاصِلةِ، وهذا قولٌ ضعيفٌ). ((تفسير أبي حيان)) (10/456). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/738). .
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى.
أي: إنَّ اللهَ يَعلَمُ العَلانيَةَ والسِّرَّ [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/316)، ((الوسيط)) للواحدي (4/470)، ((تفسير القرطبي)) (20/19)، ((تفسير ابن كثير)) (8/380). .
كما قال تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7] .
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8).
أي: ونشرعُ لك -يا محمَّدُ- شرعًا سهلًا سَمحًا مستقيمًا عَدلًا، ونُسهِّلُ عليك أفعالَ الخَيرِ وأقوالَه، ونُوَفِّقُك للطَّريقةِ اليُسرى في كلِّ أمرٍ مِن أمورِ الدِّينِ والدُّنيا [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/317)، ((تفسير القرطبي)) (20/19)، ((تفسير ابن كثير)) (8/380)، ((تفسير السعدي)) (ص: 921)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/282). قال الشوكاني: (قال مقاتلٌ: أي: نُهَوِّنُ عليك عمَلَ الجنَّةِ. وقيل: نُوَفِّقُك للطَّريقةِ الَّتي هي أيسَرُ وأسهَلُ. وقيل: للشَّريعةِ اليُسرى، وهي الحَنيفيَّةُ السَّهلةُ. وقيل: نُهَوِّنُ عليك الوحيَ حتَّى تَحفظَه وتَعمَلَ له. والأَولى حملُ الآيةِ على العُمومِ، أي: نُوَفِّقُك للطَّريقةِ اليُسرى في الدِّينِ والدُّنيا في كلِّ أمرٍ مِن أُمورِهما الَّتي تتوجَّهُ إليك). ((تفسير الشوكاني)) (5/515). وقال البِقاعي: (وَنُيَسِّرُكَ أي: نجعَلُك أنت مُهَيَّأً مُسَهَّلًا مُلَيَّنًا مُوفَّقًا لِلْيُسْرَى أي: في حِفظِ الوَحيِ وتدَبُّرِه، وغيرِ ذلك مِنَ الطَّرائِقِ والحالاتِ كُلِّها الَّتي هي ليِّنةٌ سَهلةٌ خَفيفةٌ، كما أشار إليه قَولُه: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له»؛ ولهذا لم يَقُلْ: ونُيَسِّرُ لك؛ لأنَّه هو مطبوعٌ على حُبِّها). ((نظم الدرر)) (21/397). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى تنبيهٌ على استِحقاقِ اللهِ تعالى التَّنزيهَ مِن كلِّ نَقصٍ [28] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/127). .
2- في قَولِه تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى دَلالةٌ على عُلُوِّ اللهِ تعالى [29] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/388). ؛ فالأعلى مفهومٌ في اللُّغةِ أنَّه أعلى كُلِّ شَيءٍ، وفَوقَ كُلِّ شَيءٍ، واللهُ قد وَصَف نَفْسَه في غيرِ مَوضِعٍ مِن تَنزيلِه ووَحْيِه، وأعلَمَنا أنَّه الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255] [الشورى: 4] ، أفليس العَلِيُّ -يا ذَوِي الحِجَا- ما يكونُ عاليًا، لا كما تَزعُمُ المعَطِّلةُ الجَهميَّةُ أنَّه أعلى وأسفَلُ ووسَطٌ، ومع كُلِّ شَيءٍ، وفي كُلِّ مَوضِعٍ مِن أرضٍ وسماءٍ، وفي أجوافِ جميعِ الحيوانِ! ولو تدَبَّروا الآيةَ مِن كتابِ اللهِ ووفَّقَهم اللهُ لفَهْمِها، لعَقَلوا أنَّهم جُهَّالٌ لا يَفهَمونَ ما يقولونَ، وبان لهم جَهلُ أنفُسِهم، وخَطَأُ مَقالتِهم [30] يُنظر: ((التوحيد)) لابن خزيمة (1/257). .
3- في قَولِه تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى سؤالٌ: ما الفائدةُ في دُخولِ الباءِ في قَولِه: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 74] ، ولَمْ تَدْخُلْ في قَولِه هنا: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى؟
الجوابُ: التَّسبيحُ يُرادُ به التَّنزيهُ والذِّكْرُ المُجَرَّدُ دونَ معنًى آخَرَ، ويرادُ به ذلك مع الصَّلاةِ، وهو ذِكْرٌ وتنزيهٌ مع عَمَلٍ؛ ولهذا تُسَمَّى الصَّلاةُ تسبيحًا، فإذا أُريدَ التَّسبيحُ المُجَرَّدُ فلا معنَى للباءِ؛ لأنَّه لا يَتعَدَّى بحَرفِ جَرٍّ؛ فلا تقولُ: سَبَّحْتُ باللهِ، وإذا أرَدْتَ المَقْرونَ بالفِعلِ -وهو الصَّلاةُ- أَدْخَلتَ الباءَ؛ تنبيهًا على ذلك المرادِ؛ كأنَّك قلتَ: سَبِّحْ مُفتَتِحًا باسمِ ربِّك، أو ناطِقًا باسمِ ربِّك، كما تقولُ: صَلِّ مُفتَتِحًا أو ناطِقًا باسمِه؛ ولهذا السِّرِّ -واللهُ أعلَمُ- دخلتِ اللَّامُ في قَولِه تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد: 1] ، والمرادُ: التَّسبيحُ الَّذي هو السُّجودُ والخُضوعُ والطَّاعةُ، ولَمْ يَقُلْ في موضِعٍ: «سَبَّحَ اللهَ ما في السَّمَواتِ والأرضِ» كما قال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: 15] ، وتأمَّلْ قولَه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 206] ، كيف قال: وَيُسَبِّحُونَهُ لَمَّا ذَكَرَ السُّجودَ باسمِه الخاصِّ؛ فصار التَّسبيحُ ذِكْرَهم له، وتنزيهَهم إيَّاه [31] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/20). .
4- قال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أفادَتْ تَعديةُ فِعلِ الأمْرِ بالتَّسبيحِ هنا إلى اسمٍ أنَّ المأمورَ به قولٌ دالٌّ على تَنزيهِ اللهِ بطَريقةِ إجراءِ الأخبارِ الطَّيِّبةِ، أو التَّوصيفِ بالأوصافِ المقدَّسةِ لإثباتِها إلى ما يدُلُّ على ذاتِه تعالَى مِن الأسماءِ والمَعاني. ولَمَّا كان أقوالًا كانت مُتعلِّقةً باسمِ اللهِ باعتبارِ دَلالتِه على الذَّاتِ، فالمأمورُ به إجراءُ الأخبارِ الشَّريفةِ والصِّفاتِ الرَّفيعةِ على الأسماءِ الدَّالَّةِ على اللهِ تعالَى مِن أعلامٍ وصِفاتٍ ونحْوِها، وذلك آيِلٌ إلى تَنزيهِ المسمَّى بتلك الأسماءِ، فتَسبيحُ اسمِ اللهِ النُّطقُ بتَنزيهِه بذِكْرٍ يَليقُ بجَلالِه مِن العقائدِ والأعمالِ؛ كالسُّجودِ والحمْدِ، ويَشملُ ذلك استِحضارَ النَّاطقِ بألفاظِ التَّسبيحِ مَعانيَ تلك الألفاظِ؛ إذ المقصودُ مِن الكلامِ معْناهُ، وبتَظاهُرِ النُّطقِ مع استحضارِ المعْنى يَتكرَّرُ المعْنى على ذِهنِ المتكلِّمِ، ويَتجدَّدُ ما في نفْسِه مِن تَعظيمٍ للهِ تعالَى، وأمَّا تَفكُّرُ العبدِ في عَظَمةِ اللهِ تعالَى وتَرديدُ تَنزيهِه في ذِهنِه، فهو تَسبيحٌ لِذَاتِ اللهِ ومُسمَّى اسمِه، ولا يُسمَّى تَسبيحَ اسمِ اللهِ؛ لأنَّ ذلك لا يَجْري على لَفظٍ مِن أسماءِ اللهِ تعالَى، فهذا تَسبيحُ ذاتِ اللهِ، وليس تَسبيحًا لاسمِه، فهذا مِلاكُ التَّفرقةِ بيْنَ تَعلُّقِ لَفظِ التَّسبيحِ بلَفظِ اسمِ اللهِ نحْو: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، وبيْن تَعلُّقِه بدُونِ اسمٍ نحْو: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ [الإنسان: 26] ، أو قُلْنا: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ [الحشر: 23] إلى آخِرِ السُّورةِ، كان ذلك تَسبيحًا لاسمِه تعالَى، وإذا نَفَيْنا الإلهيَّةَ عن الأصنامِ لأنَّها لا تَخلُقُ، كان ذلك تَسبيحًا لِذاتِ اللهِ لا لاسْمِه؛ لأنَّ اسمَه لم يَجْرِ عليه في هذا الكلامِ إخبارٌ ولا تَوصيفٌ، فهذا مَناطُ الفرْقِ بيْن استعمالِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ واستعمالِ وَسَبِّحْهُ، ومآلُ الإطلاقَينِ في المعْنى واحدٌ؛ لأنَّ كِلا الإطلاقَينِ مُرادٌ به الإرشادُ إلى مَعرفةِ أنَّ اللهَ مُنَزَّهٌ عن النَّقائصِ [32] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/273، 274). .
5- يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ضلالُ مَن سَلَبُوا أسماءَ اللهِ تعالى معانيَها مِن أهلِ التَّعطيلِ، وقالوا: إنَّ اللهَ تعالى سميعٌ بلا سَمْعٍ، وبصيرٌ بلا بَصَرٍ، وعزيزٌ بلا عِزَّةٍ، وهكذا! وعَلَّلُوا ذلك بأنَّ ثبوتَ الصِّفاتِ يَستَلْزِمُ تَعَدُّدَ القُدَماءِ؛ ففي هذه الآياتِ الكريمةِ أوصافٌ كثيرةٌ لموصوفٍ واحدٍ؛ ولَمْ يَلْزَمْ مِن ثبوتِها تَعَدُّدُ القُدَماءِ [33] يُنظر: ((القواعد المثلى)) لابن عثيمين (ص: 9). !
6- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، في قَولِه تعالى: الْأَعْلَى أنَّ مَعرِفتَه سُبحانَه وعِلْمَه أكبرُ العُلومِ وأعلاها؛ ووجْهُه: أنَّ العِلْمَ مُطابِقٌ للمَعلومِ [34] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (2/88). ، والعِلمُ الأعلى هو العِلمُ بالأعلى؛ فهو رَبُّ كلِّ ما سِواه، فهو الأصلُ، فكذلك العِلمُ به سَيِّدُ جميعِ العُلومِ، وهو أصلٌ لها [35] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (5/268). .
7- قال اللهُ تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى اعلَمْ أنَّ الاسْتِدلالَ بالخَلْقِ والهِدايةِ هي الطَّريقةُ المعتَمَدةُ عندَ أكابِرِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، والدَّليلُ عليه ما حكى اللهُ تعالى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ أنَّه قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: 78] ، وحكى عن فِرعَونَ أنَّه لَمَّا قال لموسى وهارونَ عليهما السَّلامُ: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه: 49] ؟ قال موسى عليه السَّلامُ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50] ، وأمَّا محمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فإنَّه تعالى أوَّلُ ما أنزَلَ عليه هو قَولُه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق: 1-2] ، هذا إشارةٌ إلى الخَلْقِ، ثمَّ قال: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق: 3-4] ، وهذا إشارةٌ إلى الهدايةِ، ثمَّ إنَّه تعالى أعاد ذِكْرَ تلك الحُجَّةِ في هذه السُّورةِ، فقال: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، وإنَّما وَقَع الاستِدلالُ بهذه الطريقةِ كثيرًا؛ لأنَّ العَجائِبَ والغرائِبَ في هذه الطريقةِ أكثَرُ، ومُشاهَدةَ الإنسانِ لها واطِّلاعَه عليها أتَمُّ؛ فلا جَرَمَ كانت أقوى في الدَّلالةِ [36] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/128). .
8- قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى فذكَرَ سُبحانَه أربعةَ أُمورٍ عامَّةً: الخَلقُ والتَّسويةُ والتَّقديرُ والهدايةُ، وجعَل التَّسويةَ مِن تمامِ الخَلقِ، والهدايةَ مِن تمامِ التَّقديرِ.
والتَّسويةُ شامِلةٌ لجميعِ مخلوقاتِه، وما يُوجَدُ مِن التَّفاوُتِ وعدمِ التَّسويةِ فهو راجعٌ إلى عدَمِ إعطاءِ التَّسويةِ للمَخلوقِ؛ فإنَّ التَّسويةَ أمرٌ وُجوديٌّ يتعلَّقُ بالتَّأثيرِ والإبداعِ، فما عُدِمَ منها فلِعَدَمِ إرادةِ الخالقِ للتَّسويةِ، وذلك أمرٌ عَدَميٌّ يكفي فيه عدمُ الإبداعِ والتَّأثيرِ؛ فتأمَّلْ ذلك فإنَّه يُزيلُ عنك الإشكالَ في قَولِه: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك: 3] ، فالتَّفاوُتُ حاصلٌ بسَبَبِ عدمِ مشيئةِ التَّسويةِ، كما أنَّ الجَهلَ والصَّمَمَ والعَمَى والخَرَسَ والبَكَمَ يَكْفي فيها عدمُ مشيئةِ خَلْقِها وإيجادِها، والمقصودُ أنَّ كلَّ مخلوقٍ فقد سوَّاه خالقُه سُبحانَه في مَرتَبةِ خَلْقِه، وإنْ فاتَتْه التَّسويةُ مِن وَجهٍ آخَرَ لَمْ يُخْلَقْ له [37] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 65). .
9- في قَولِه تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى أُوثِرَ وَصْفا التَّسويةِ والهِدايةِ مِن بَينِ صِفاتِ الأفعالِ الَّتي هي نِعَمٌ على النَّاسِ، ودالَّةٌ على استحقاقِ اللهِ تعالى للتَّنزيهِ؛ لأنَّ في هذين الوَصفَينِ مُناسَبةً بما اشتمَلَت عليه مِن السُّورةِ؛ فإنَّ الَّذي يُسَوِّي خَلْقَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تسويةً تُلائِمُ ما خَلَقَه مِن أجْلِه مِن تحَمُّلِ أعباءِ الرِّسالةِ: لا يَفوتُه أن يُهَيِّئَه لحِفظِ ما يُوحيه إليه، وتيسيرِه عليه، وإعطائِه شَريعةً مُناسِبةً لذلك التَّيسيرِ؛ قال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى، وقال: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [38] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/277). .
10- في قَولِه تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى بيانُ أنَّ اللهَ خَلَقَ الأشياءَ لحِكمةٍ وغايةٍ تَصِلُ إليها؛ فقد ذَكَرَ سُبحانَه خَلْقَه، وذَكَرَ هدايتَه وتعليمَه بعدَ الخَلْقِ؛ لأنَّ جميعَ المخلوقاتِ خُلِقَتْ لغايةٍ مقصودةٍ بها؛ فلا بُدَّ أنْ تُهدَى إلى تلك الغايةِ الَّتي خُلِقَتْ لها، فلا تَتِمُّ مصلحتُها وما أُريدتْ له إلَّا بهدايتِها لغاياتِها [39] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/130). .
11- في قَولِه تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى أنَّ العَطفَ قد يكونُ لتغايرِ الصِّفاتِ مع اتِّحادِ الذَّاتِ [40] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (2/759). .
12- في قَولِه تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى أنَّ كلَّ أعمالِ النَّاسِ تابعةٌ لهَدْيِ اللهِ إيَّاهم [41] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (1/100). .
13- في قَولِه تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى أنَّه سُبحانَه خَلَقَ الحيوانَ مُهتَدِيًا إلى طَلَبِ ما ينفَعُه، ودَفْعِ ما يَضُرُّه [42] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (8/384). .
14- في قَولِه تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى بِشارةٌ كَبيرةٌ مِنَ اللهِ لعَبْدِه ورَسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أنَّ اللهَ سيُعَلِّمُه عِلمًا لا يَنساه [43] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 921). .
15- في قَولِه تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أنَّه يجوزُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يَنسى ما لا يَتَعَلَّقُ بالإبلاغِ [44] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/138). .
16- في قَولِه تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى مُعجِزةٌ، وذلك مِن وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّه كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجُلًا أمِّيًّا؛ فحِفْظُه لهذا الكِتابِ المطَوَّلِ مِن غيرِ دِراسةٍ ولا تَكرارٍ ولا كتابةٍ: خارِقٌ للعادةِ؛ فيكونُ مُعجِزًا.
الثَّاني: أنَّ هذه السُّورةَ مِن أوائِلِ ما نَزَل بمكَّةَ؛ فهذا إخبارٌ عن أمرٍ عَجيبٍ غَريبٍ مخالفٍ للعادةِ سيقَعُ في المُستقبَلِ، وقد وَقَع، فكان هذا إخبارًا عن الغَيبِ؛ فيكونُ مُعجِزًا [45] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/130). .
17- في قَولِه تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ سُؤالٌ: أنَّ في الآياتِ دَلالةً على أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَنْسى مِن القُرآنِ ما شاء اللهُ أن يَنْساه، وقد جاءت آياتٌ كَثيرةٌ تدُلُّ على حِفْظِ القُرآنِ مِنَ الضَّياعِ، كقَولِه تعالى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ [القيامة: 16-17] ، وقَولِه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] !
الجوابُ: أنَّ القُرآنَ وإن كان محفوظًا مِنَ الضَّياعِ فإنَّ بَعْضَه يَنسَخُ بَعضًا، وإنساءُ اللهِ نَبيَّه بَعْضَ القُرآنِ في حُكمِ النَّسخِ، فإذا أنساه آيةً فكأنَّه نسَخَها، ولا بُدَّ أن يأتيَ بخَيرٍ منها أو مِثْلِها، كما صَرَّحَ به تعالى في قَولِه: مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة: 106] ، وقَولِه تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ [النحل: 101] ، وأشار هنا لعِلْمِه بحِكمةِ النَّسخِ بقَولِه: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى [46] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 257). .
18- قال تعالى إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى مُناسَبةُ الجهْرِ وما يَخْفى أنَّ ما يَقرَؤُه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن القُرآنِ هو مِن قَبيلِ الجهْرِ، فاللهُ يَعلَمُه، وما يَنساهُ فيُسقِطُه مِن القُرآنِ هو مِن قَبيلِ الخَفيِّ، فيَعلَمُ اللهُ أنَّه اخْتَفى في حافظتِه حِينَ القِراءةِ، فلم يَبرُزْ إلى النُّطقِ به [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/281). .
19- قال اللهُ تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى، ومِن ذلك أنَّه يَعلَمُ ما يُصلِحُ عِبادَه، أي: فلذلك يَشرَعُ ما أراد، ويَحكُمُ بما يُريدُ [48] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 921). .
20- في قَولِه تعالى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى بِشارةٌ كَبيرةٌ؛ أنَّ اللهَ يُيَسِّرُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لليُسْرى في جميعِ أمورِه، ويَجعَلُ شَرْعَه ودِينَه يُسْرًا [49] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 921). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى
- قولُه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الافتِتاحُ بأمْرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يُسبِّحَ اسمَ ربِّه بالقَولِ، يُؤذِنُ بأنَّه سيُلْقي إليه عَقِبَه بِشارةً وخيرًا له، وذلك قولُه: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ... [الأعلى: 6] الآياتِ؛ ففيه بَراعةُ استهلالٍ [50] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/272). براعة الاستهلال: هي كونُ ابتداءِ الكلامِ مُناسِبًا للمقصودِ، وأنْ يكونَ أوَّلُ الكلامِ دالًّا على ما يُناسِبُ حالَ المتكلِّمِ، مُتضمِّنًا لِمَا سِيق الكلامُ لأجلِه مِن غيرِ تصريحٍ، بلْ بألْطفِ إشارةٍ يُدرِكُها الذَّوقُ السَّليمُ. ينظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 45)، ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (1/ 129)، ((تفسير أبي السعود)) (4/ 282)، ((أنوار الربيع في أنواع البديع)) لابن معصوم (ص: 5)، ((علوم البلاغة)) لأحمد المراغي (ص: 378). .
- وتَعريفُ اسْمَ بطَريقِ الإضافةِ إلى رَبِّكَ دُونَ تَعريفِه بالإضافةِ إلى عَلَمِ الجَلالةِ نحْوَ: سبِّحِ اسمَ اللهِ؛ لِما يُشعِرُ به وصْفُ (ربّ) مِن أنَّه الخالقُ المدَبِّرُ [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/274). .
- وإضافةُ (ربّ) إلى ضَميرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لتَشريفِه بهذه الإضافةِ، وأنْ يكونَ له حظٌّ زائدٌ على التَّكليفِ بالتَّسبيحِ [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/274). .
- أُجرِيَ على لَفظِ رَبِّكَ صِفةُ الْأَعْلَى وما بعْدَها مِن الصِّلاتِ الدَّالَّةِ على تَصرُّفاتِ قُدرتِه؛ فهو مُستحِقٌّ للتَّنزيهِ لصِفاتِ ذاتِه ولصِفاتِ إنعامِه على النَّاسِ بخَلْقِهم في أحسَنِ تَقويمٍ، وهِدايتِهم، ورَزقِهم، ورَزقِ أنعامِهِم؛ للإيماءِ إلى مُوجِبِ الأمرِ بتَسبيحِ اسْمِه بأنَّه حَقيقٌ بالتَّنزيهِ استِحقاقًا لِذَاتِه، ولِوَصْفِه بصِفةِ أنَّه خالقُ المخلوقاتِ خلْقًا يدُلُّ على العِلمِ والحِكمةِ وإتْقانِ الصُّنعِ، وبأنَّه أنعَمَ بالهُدى والرِّزقِ اللَّذَينِ بهما استِقامةُ حالِ البشَرِ في النَّفْسِ والجسَدِ. وأُوثِرَت الصِّفاتُ الثَّلاثُ الأُوَلُ؛ لِما لَها مِن المُناسَبةِ لغرَضِ السُّورةِ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/274). .
- والْأَعْلَى اسمُ تفضيلٍ، حُذِفَ المُفَضَّلُ عليه؛ ليَدُلَّ على العُمومِ، يعني: الأعلى على كُلِّ شَيءٍ [54] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 170). .
- وإيثارُ وصْفِ الْأَعْلَى في هذه السُّورةِ؛ لأنَّها تَضمَّنَت التَّنويهَ بالقُرآنِ، والتَّثبيتَ على تَلقِّيه وما تَضمَّنه مِن التَّذكيرِ؛ وذلك لعُلوِّ شَأنِه؛ فهو مِن مُتعلَّقاتِ وصْفِ العُلوِّ الإلهيِّ؛ إذ هو كَلامُه [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/275). .
- ومَفعولُ خَلَقَ مَحذوفٌ؛ فيَجوزُ أنْ يُقدَّرَ عامًّا، أي: خلَقَ كلَّ شَيءٍ، ويجوزُ أنْ يُقدَّرَ خاصًّا، أي: خلَقَ الإنسانَ، أو خلَقَ آدَمَ، بقَرينةِ قرْنِ فِعلِ خَلَقَ بفِعلِ (سوَّى)؛ قال تعالَى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: 29] الآيةَ [56] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/738)، ((تفسير البيضاوي)) (5/305)، ((تفسير أبي السعود)) (9/143)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/275)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/ 449). .
- وعطْفُ جُملةِ فَسَوَّى بالفاءِ دونَ الواوِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ مَضمونَها هو المقصودُ مِن الصِّلةِ، وأنَّ ما قبْلَه تَوطئةٌ له؛ فالفاءُ مِن قولِه: فَسَوَّى للتَّفريعِ في الذِّكرِ باعتبارِ أنَّ الخلْقَ مُقدَّمٌ في اعتبارِ المُعتبِرِ على التَّسويةِ، وإنْ كان حُصولُ التَّسويةِ مُقارِنًا لحُصولِ الخلْقِ؛ ولكَونِ التَّسويةِ مُقارِنةً للخلْقِ عُطِفَ على فِعلِ خَلَقَ فِعلُ فَسَوَّى بالفاءِ المُفيدةِ التَّسبُّبَ، أي: تَرتُّبَ التَّسويةِ على الخلْقِ [57] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/275، 276). .
- وإعادةُ اسمِ المَوصولِ في قولِه: وَالَّذِي قَدَّرَ وقولِه: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى، مع إغناءِ حرْفِ العطْفِ عن تَكريرِه؛ للاهتِمامِ بكلِّ صِلةٍ مِن هذه الصِّلاتِ وإثباتِها لمَدلولِ الموصولِ، وهذا مِن مُقتضَياتِ الإطنابِ [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/276). .
- وأيضًا عطْفُ قولِه: فَهَدَى بالفاءِ مِثلُ عطْفِ فَسَوَّى، فعُطِفَ بالفاءِ دونَ الواوِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ مَضمونَه هو المقصودُ مِن الصِّلةِ، وأنَّ ما قبْلَه تَوطئةٌ له، وعَطْفُ فَهَدَى على قَدَّرَ عَطْفُ المُسبَّبِ على السَّببِ، أي: فهَدَى كلَّ مُقدَّرٍ إلى ما قُدِّرَ له [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/276، 277). .
- ومَفعولُ (هَدَى) مَحذوفٌ؛ لإفادةِ العُمومِ، وهو عامٌّ مَخصوصٌ بما فيه قابليَّةُ الهدْيِ، فهو مَخصوصٌ بذَواتِ الإدراكِ والإرادةِ، وهي أنواعُ الحيوانِ؛ فإنَّ الأنواعَ الَّتي خلقَها اللهُ وقدَّرَ نِظامَها ولم يُقدِّرْ لها الإدراكَ مِثل تقديرِ الإثمارِ للشَّجرِ، فذلك غيرُ مرادٍ مِن قولِه: فَهَدَى؛ لأنَّها مخلوقةٌ ومُقدَّرةٌ، ولكنَّها غيرُ مَهديَّةٍ لعدمِ صلاحِها للاهتداءِ. وإنْ جُعِلَ مَفعولُ خَلَقَ خاصًّا -وهو الإنسانُ- كان مَفعولُ قَدَّرَ على وِزانِه، أي: تَقديرُ كَمالِ قُوى الإنسانِ، وكانتِ الهدايةُ هِدايةً خاصَّةً، وهي دَلالةُ الإدراكِ والعقلِ [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/277). .
- وقيل: في قولِه: فَهَدَى اكتِفاءٌ [61] الاكتفاءُ: هو أنْ يَقتضيَ المقامُ ذِكْرَ شيئَينِ بَيْنَهما تَلازُمٌ وارتباطٌ، فيُكتفَى بأحدِهما عن الآخَرِ؛ لنُكتةٍ بلاغيَّةٍ؛ ومثالُ ذلك قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل: 81] ؛ ففي قولِه تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ إيجازٌ بالحذفِ على سبيلِ الاكتِفاءِ، إذِ التَّقْديرُ: تَقيكُمُ الحَرَّ والبَرْدَ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/118)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (1/ 282)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 335)، ((البلاغة العربية)) للميداني (2/48). ، والتَّقديرُ: فهَدَى وأضَلَّ [62] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/456). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- قولُه: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى تَذكيرٌ بخَلْقِ جِنسِ النَّباتِ مِن شَجَرٍ وغيرِه، واقتُصِرَ على بَعضِ أنواعِه -وهو الكلأُ-؛ لأنَّه مَعاشُ السَّوائمِ الَّتي يَنتفِعُ النَّاسُ بها [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/277). . وذلك على قولٍ.
- وإيثارُ كَلمةِ الْمَرْعَى دُونَ لَفظِ النَّباتِ؛ لِما يُشعِرُ به مادَّةُ الرَّعْيِ مِن نفْعِ الأنعامِ به، ونفْعِها للنَّاسِ الَّذين يَتَّخِذونها، مع رِعايةِ الفاصِلةِ [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/278). . وذلك على قولٍ.
- قولُه: فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى الغُثاءُ: اليابسُ مِن النَّبْتِ، وأَحْوَى أي: المَوصوفَ بالحُوَّةِ، وهي مِن الألوانِ: سُمرةً تَقرُبُ مِن السَّوادِ، وهو صِفةٌ لـ غُثَاءً؛ لأنَّ الغُثاءَ يابسٌ، فتَصيرُ خُضرتُه حُوَّةً. وهذا الوصْفُ أَحْوَى لاسْتِحْضارِ تَغيُّرِ لَونِه بعْدَ أنْ كان أخضَرَ يانعًا، وذلك دَليلٌ على تَصرُّفِه تعالَى بالإنشاءِ وبالإنهاءِ [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/278). .
وقيل: أَحْوَى حالٌ مِن الْمَرْعَى، أي: أخْرَجَ المَرعَى أحْوى، أي: للسَّوادِ مِن شِدَّةِ خُضرتِه ونَضارتِه لكَثرةِ رِيِّه، وحَسُنَ تَأخيرُ أَحْوَى؛ مِن أجْلِ الفواصِلِ [66] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/456)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/449). .
- وفي وَصْفِ إخراجِ اللهِ تعالَى المرْعَى وجَعْلِه غُثاءً أحْوى، مع ما سَبَقَه مِنَ الأوصافِ في سِياقِ المناسَبةِ بيْنَها وبيْن الغرَضِ المَسوقِ له الكَلامُ: إيماءٌ إلى تَمثيلِ حالِ القُرآنِ وهِدايتِه، وما اشتمَلَ عليه مِن الشَّريعةِ الَّتي تَنفَعُ الناسَ، بحالِ الغَيثِ الَّذي يَنبُتُ به المرْعى، فتَنتَفِعُ به الدَّوابُّ والأنعامُ، وإلى أنَّ هذه الشَّريعةَ تَكمُلُ ويَبلُغُ ما أرادَ اللهُ فيها كما يَكمُلُ المرْعى ويَبلُغُ نُضْجَه حينَ يَصيرُ غُثاءً أحْوى، وقد جاء بَيانُ هذا الإيماءِ وتَفصيلُه بقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَثَلُ ما بَعَثَني اللهُ به مِن الهُدى والعِلمِ، كمَثَلِ الغَيثِ الكثيرِ أصاب أرضًا، فكان منها نَقيَّةٌ [67] نَقيَّةٌ: أي: طَيِّبةٌ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (1/179). قَبِلَت الماءَ فأنْبَتَت الكَلأَ والعُشبَ الكثيرَ، وكانت منها أجادِبُ [68] الأجادِبُ: الأرضُ الصُّلبةُ الَّتي تُمسِكُ الماءَ؛ مِنَ الجَدْبِ، وهو القَحْطُ، سَمَّاها أجادِبَ؛ لأنَّها لِصَلابَتِها لا تُنبِتُ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/242)، ((شرح النووي على مسلم)) (15/47)، ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (1/234). أمسَكَت الماءَ، فنَفَعَ اللهُ بها النَّاسَ، فشَرِبوا وسَقَوا وزَرَعوا ...)) [69] أخرجه البخاريُّ (79)، ومسلمٌ (2282) مِن حديث أبي موسى الأشعريِّ رضيَ الله عنه. الحديثَ [70] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/278). .
ويجوزُ أنْ يكونَ المقصودُ مِن جُملةِ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى إدماجَ العِبرةِ بتَصاريفِ ما أَودَعَ اللهُ في المخلوقاتِ مِن مُختلِفِ الأطوارِ مِن الشَّيءِ إلى ضِدِّه؛ للتَّذكيرِ بالفَناءِ بعْدَ الحياةِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ مُدَّةَ نَضارةِ الحَياةِ للأشياءِ تُشبِهُ المدَّةَ القصيرةَ، فجِيءَ بالحرْفِ الموضوعِ لعَطْفِ ما يَحصُلُ فيه حُكْمُ المعطوفِ بعْدَ زمَنٍ قَريبٍ مِن زمَنِ حُصولِ المعطوفِ عليه، وهو الفاءُ [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/279). .
2- قولُه تعالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى
- قولُه: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى الأمْرُ بالتَّسبيحِ في قولِه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] بِشارةٌ إجماليَّةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخَيرٍ يَحصُلُ له؛ فهذا مَوقعُ البَيانِ الصَّريحِ بوَعْدِه بأنَّه سيَعصِمُه مِن نِسيانِ ما يُقرِئُه، فيُبلِّغُه كما أُوحِيَ إليه، ويَحفَظُه مِن التَّفلُّتِ عليه، ولهذا تكونُ هذه الجُملةُ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ البِشارةَ تُنشِئُ في نفْسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَرقُّبًا لوعْدٍ بخَيرٍ يأْتيهِ، فبَشَّرَه بأنَّه سيَزيدُه مِن الوحْيِ، مع ما فُرِّعَ على قولِه: سَنُقْرِئُكَ مِن قولِه: فَلَا تَنْسَى. وإنَّما ابتُدِئَ بقولِه: سَنُقْرِئُكَ؛ تَمهيدًا للمَقصودِ الذي هو فَلَا تَنْسَى، وإدماجًا للإعلامِ بأنَّ القرآنَ في تَزايُدٍ مُستمِرٍّ، فإذا كان قد خاف مِن نِسيانِ بعضِ ما أُوحِيَ إليه على حِينِ قِلَّتِه، فإنَّه سيَتتابَعُ ويَتكاثَرُ، فلا يَخشَى نِسيانَه؛ فقد تَكفَّلَ له عدَمَ نِسيانِه مع تَزايُدِه [72] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/738)، ((تفسير أبي حيان)) (10/456)، ((تفسير أبي السعود)) (9/144)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/279، 280)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/450). .
- والسِّينُ في قولِه: سَنُقْرِئُكَ إمَّا للتَّأكيدِ، وإمَّا لأنَّ المرادَ إقراءُ ما أَوحَى اللهُ إليه حِينَئذٍ وما سيُوحِي إليه بعْدَ ذلك؛ فهو وَعْدٌ باستِمرارِ الوحْيِ في ضِمنِ الوعْدِ بالإقراءِ؛ فالسِّينُ عَلامةٌ على استِقبالِ مَدخولِها، وهي تُفيدُ تَأكيدَ حُصولِ الفِعلِ، وخاصَّةً إذا اقتَرَنَت بفِعلٍ حاصلٍ في وقْتِ التَّكلُّمِ؛ فإنَّها تَقْتضي أنَّه يَستمِرُّ ويَتجدَّدُ، وذلك تَأكيدٌ لحُصولِه، وإذ قد كان قولُه: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إقراءً، فالسِّينُ دالَّةٌ على أنَّ الإقراءَ يَستمِرُّ ويَتجدَّدُ [73] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/144)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/280)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/450). .
- والالْتفاتُ بضَميرِ المتكلِّمِ المعظِّمِ نفْسَه سَنُقْرِئُكَ؛ لأنَّ التَّكلُّمَ أنسَبُ بالإقبالِ على المبشَّرِ [74] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/280). .
- قولُه: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ فيه الالْتفاتُ إلى الاسمِ الجَليلِ؛ لتَربيةِ المهابةِ، والإيذانِ بدَورانِ المشيئةِ على عُنوانِ الأُلوهيَّةِ المسْتتبِعةِ لِسائرِ الصِّفاتِ [75] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/144). .
- وجُملةُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى جُملةُ اعتِراضٍ، وهي تَعليلٌ لجُملةِ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ؛ فإنَّ مَضمونَ تلك الجُملةِ ضَمانُ اللهِ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حِفظَ القرآنِ مِن النَّقصِ العارضِ [76] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/739)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/397، 398)، ((تفسير أبي حيان)) (10/457)، ((تفسير أبي السعود)) (9/145)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/281)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/451). .
- قولُه: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى عطْفٌ على سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى [الأعلى: 6] ، وهذا العطْفُ مِن عطْفِ الأعمِّ على الأخصِّ في المآلِ، وإنْ كان مَفهومُ الجُملةِ السَّابقةِ مُغايرًا لمَفهومِ التَّيسيرِ؛ لأنَّ مَفهومَها الحِفظُ والصِّيانةُ، ومَفهومَ المعطوفةِ تَيسيرُ الخَيرِ له [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/281). .
- وتَعليقُ التَّيسيرِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، مع أنَّ الشَّائعَ تَعليقُه بالأُمورِ المُسَخَّرةِ للفاعلِ -كما في قولِه تعالَى: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 26] -؛ للإيذانِ بقوَّةِ تَمكينِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن اليُسْرى والتَّصرُّفِ فيها، بحيثُ صارَ ذلكَ مَلَكةً راسخةً له، كأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جُبِلَ عليها، كما في قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((اعمَلُوا؛ فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له)) [78] أخرجه البخاريُّ (4945-4949)، ومسلمٌ (2647) مِن حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ الله عنه. ، ومعْنى اللَّامِ في قولِه: لِلْيُسْرَى العِلَّةُ، أي: لأجْلِ اليُسرى، أي: لقَبولِها [79] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/145)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/282). .
- ويجوزُ أنْ يُجعَلَ الكلامُ في قولِه: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى جاريًا على خِلافِ مُقتضى الظَّاهرِ بسُلوكِ أُسلوبِ القلْبِ [80] القلبُ: هو جعلُ أحدِ أجزاءِ الكلامِ مكانَ الآخَرِ لِغَيرِ داعٍ مَعْنويٍّ، دُونَ تَعقيدٍ ولا خطأٍ ولا لَبْسٍ، وهو من تخريجِ الكلامِ على خِلافِ مُقتَضَى الظَّاهِرِ، ويَقصِدُه البُلَغاءُ تزيينًا للكلامِ. ومنه ما ليس بمُطَّرِدٍ؛ نحو: (عرَضْتُ النَّاقةَ على الحَوْضِ)، و: (أدخلتُ الخاتمَ في إِصبَعي)، ومنه مُطَّرِدٌ في الكلامِ، كثير عِندَهم، حتَّى صار أكثَرَ مِنَ الأصلِ؛ نحو قولِهم: (ما كادَ يَفعلُ كذا)، يُريدونَ: كاد ما يَفعلُ. وعليه قولُه تعالى: وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] ، وقولُه: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور: 40] . يُنظر: ((شرح الأبيات المشكلة الإعراب)) لأبي علي الفارسي (ص: 105)، ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 211)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 158، 159). ، وأنَّ الأصلَ: ونُيسِّرُ لك اليُسرى، أي: نَجعَلُها سَهلةً لك فلا تَشُقُّ عليك -وذلك على أنَّ الموصوفَ مَحذوفُ، وتقديرُه: للشَّريعةِ. وفي وَصْفِ الشَّريعةِ -على هذا التَّقديرِ- بـ (اليُسْرى) إيماءٌ إلى استِتبابِ تَيسُّرِه لها بما أنَّها جُعِلَت يُسْرى، فلم يَبْقَ إلَّا حِفظُه مِن الموانعِ الَّتي يشُقُّ معها تَلقِّي اليُسرى، فاشتَمَلَ الكلامُ على تَيسيرَينِ: تَيسيرِ ما كُلِّفَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: جَعْلِه يَسيرًا مع وَفائِه بالمقصودِ منه، وتَيسيرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للقيامِ بما كُلِّفَ به، ويُوجَّهُ العُدولُ عن مُقْتضى ظاهرِ النَّظمِ إلى ما جاء النَّظمُ عليه بأنَّ فيه تَنزيلَ الشَّيءِ الميسَّرِ مَنزِلةَ الشَّيءِ الميسَّرِ له، والعكْس؛ للمُبالَغةِ في ثُبوتِ الفعلِ للمفعولِ على طَريقةِ القلْبِ المقبولِ، كقولِ العرَبِ: عرَضْتُ النَّاقةَ على الحَوضِ [81] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/282، 283). .
- واليُسرى: مُؤنَّثُ الأيسَرِ، وصِيغةُ (فُعلى) تدُلُّ على قوَّةِ الوصْفِ؛ لأنَّها مُؤنَّثُ (أفْعَلَ) [82] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/282). .