موسوعة التفسير

سورةُ الواقِعةِ
الآيات (63-74)

ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ

غَريبُ الكَلِماتِ:

حُطَامًا : أي: فُتاتًا مُكَسَّرًا، مِن تحطَّمَ العُودُ: إذا تفَتَّت مِن اليُبْسِ، وأصلُ (حطم): يدُلُّ على كَسرِ الشَّيءِ [345] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 200)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 389)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 312). .
تَفَكَّهُونَ: أي: تَنْدَمونَ. وقيلَ: تَتعَجَّبونَ مِمَّا نَزَل بزَرْعِكم [346] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 450)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 156)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/446)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 389)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 312)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 320). .
لَمُغْرَمُونَ: أي: مُعَذَّبونَ؛ مِنَ الغَرامِ: وهو أشَدُّ العَذابِ. وقيل: أي: غَرِمْنا أموالَنا وصار ما أنفَقْنا غُرْمًا علينا، والمُغْرَمُ: الَّذي ذَهَب مالُه بغَيرِ عِوَضٍ، وأصلُ (غرم): يدُلُّ على مُلازَمةٍ [347] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 450)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 451)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/419)، ((المفردات)) للراغب (ص: 606)، ((تفسير البغوي)) (8/21)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 389)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 312). .
 الْمُزْنِ: أي: السَّحابِ [348] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 451)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/318)، ((المفردات)) للراغب (ص: 766)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 389)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 878). .
أُجَاجًا: أي: شَديدَ المُلوحةِ، وأصلُ (أجج): يدُلُّ على الشِّدَّةِ [349] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/8)، ((المفردات)) للراغب (ص: 64)، ((تفسير ابن عطية)) (5/249)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 52). .
تُورُونَ: أي: تَستَخرِجونَ، يُقالُ: وَرَى الزَّنْدُ (أي: العودُ الَّذي تُقدَحُ به النَّارُ) يَرِي وَرْيًا: خَرَجَت نارُه [350] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 451)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 166)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/104)، ((المفردات)) للراغب (ص: 867)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 389)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 312)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 321). .
وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ: أي: مَنْفَعةً للمُسافِرينَ، والمُقْوِي: الَّذي يَنزِلُ بالقَوَاءِ: وهي الأرضُ الخاليةُ. وقيل: هم الَّذين لا زادَ معهم ولا مالَ لهم؛ مِن قَولِهم: أقْوَتِ الدَّارُ، أي: خَلَت، فالمُقْوِي: الخالي مِنَ الزَّادِ، وأصلُ (قوي) هنا: يدُلُّ على قِلَّةِ خَيرٍ [351] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 451)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/36)، ((البسيط)) للواحدي (21/254)، ((المفردات)) للراغب (ص: 694)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 389)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 312)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 878). .

المعنى الإجماليُّ:

يذكرُ الله تعالى دليلًا آخَرَ على صحَّةِ البعثِ وإمكانيَّتِه، وعلى كمالِ قدرتِه، وهو الدَّليلُ الثَّاني، فيقولُ: أفرأيتُمُ البَذْرَ الَّذي تَحرُثونَ له الأرضَ، فتُلْقونَه فيها لِيَنبُتَ؟ أأنتُم تُصَيِّرونَ ذلك البَذْرَ زَرْعًا أمْ نحن؟ لو نَشاءُ لصَيَّرْنا ذلك الزَّرْعَ مُتفَتِّتًا يابِسًا، فبَقِيتُم نادِمينَ مُتعَجِّبينَ مِن هَلاكِه، فتَقولونَ: إنَّا لَمُعَذَّبونَ، بل نحن مَحرومونَ!
ثمَّ يذكرُ الدَّليلَ الثَّالثَ، فيقولُ: أفرأيتُمُ الماءَ العَذْبَ الَّذي تَشرَبونَ؟ أأنتم أنزَلْتُموه مِنَ السَّحابِ أمْ نحن المُنزِلونَ؟ لو نَشاءُ جَعَلْنا ذلك الماءَ العَذْبَ مِلْحًا شَديدَ المَرارةِ، فهلَّا تَشكُرونَ اللهَ تعالى!
ثمَّ يذكرُ الدَّليلَ الرَّابعَ، فيقولُ: أفرأيتُمُ النَّارَ الَّتي تَستَخرِجونَها مِنَ الشَّجَرِ؟ أأنتُم أنشَأْتُم تلك الشَّجَرةَ الَّتي تَخرُجُ منها النَّارُ، أمْ نحن الَّذين أنشَأْناها بقُدْرتِنا؟ نحن جعَلْنا تلك النَّارَ تَذكيرًا للنَّاسِ بنارِ جَهنَّمَ، ومَنفَعةً للمُسافِرينَ؛ فنَزِّهْ ربَّك العَظيمَ -يا مُحمَّدُ- عن كُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ.

تَفسيرُ الآياتِ:

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها انتِقالٌ إلى دليلٍ آخَرَ على إمكانِ البَعثِ، وصلاحيَةِ قُدرةِ اللهِ له، بضَربٍ آخَرَ مِن ضُروبِ الإنشاءِ بعدَ العَدَمِ [352] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/319). .
وأيضًا فمُناسَبةُ الانتقالِ مِن الاستِدلالِ بخَلقِ النَّسلِ إلى الاستِدلالِ بنَباتِ الزَّرعِ: هي التَّشابُه البَيِّنُ بيْنَ تكوينِ الإنسانِ وتكوينِ النَّباتِ؛ قال تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا [353] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/320). [نوح: 17] .
وأيضًا لَمَّا كان عِلْمُهم بأمرِ النَّباتِ -الَّذي هو الآيةُ العظمى لإعادةِ الأمواتِ- أعظَمَ مِن عِلْمِهم بجَميعِ ما مضى، وكان أمرُه في الحَرثِ وإلقاءِ البَذرِ فيه أشبَهَ شَيءٍ بالجِماعِ وإلقاءِ النُّطفةِ -ولذلك سُمِّيَت المرأةُ حَرثًا-؛ وصل بما مضى مُسَبِّبًا عنه قَولَه، مُنكِرًا عليهم [354] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/223). :
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63).
أي: أفرأيتُمُ البَذْرَ الَّذي تَشُقُّون له الأرضَ وتُثيرونَها، فتُلْقونَه فيها لِيَنبُتَ [355] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/348)، ((تفسير القرطبي)) (17/217)، ((تفسير ابن كثير)) (7/540)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/223)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/320)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/531). ؟
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [الأنعام: 95] .
وقال سُبحانَه: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس: 24 - 32] .
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانوا لا يَدَّعُونَ القُدرةَ على الإنباتِ بوَجهٍ، وكان القادِرُ عليه قادِرًا على كُلِّ شَيءٍ، وهم يَعتَقِدونَ في أمرِ البَعثِ ما يُؤَدِّي إلى الطَّعنِ في قُدرتِه- كَرَّر الإنكارَ عليهم، فقال تعالى [356] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/223). :
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64).
أي: أأنتُم تُصَيِّرونَ ذلك البَذْرَ زَرْعًا، أم نحن الَّذين أنبَتْناه بقُدرَتِنا [357] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/348)، ((تفسير الماوردي)) (5/460)، ((تفسير القرطبي)) (17/217، 218)، ((تفسير ابن كثير)) (7/540)، ((تفسير السعدي)) (ص: 835)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/531)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 343). ؟
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الجوابُ قَطْعًا: «أنت الفاعِلُ لذلك وَحْدَك» قال مُوَضِّحًا -لأنَّه ما زَرَعَه غَيرُه- بأنَّ الفاعِلَ الكامِلَ هو مَن يَدفَعُ عَمَّا صَنَعَه ما يُفسِدُه، ومَن إذا أراد إفسادَه لم يَقدِرْ أحَدٌ على مَنْعِه [358] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/223). :
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا.
أي: لو نَشاءُ لَصَيَّرْنا ذلك الزَّرْعَ -الَّذي أنبَتْناه- هَشيمًا يابِسًا، فلا تَنتَفِعونَ به [359] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/348)، ((تفسير القرطبي)) (17/218)، ((تفسير ابن كثير)) (7/540)، ((تفسير السعدي)) (ص: 835)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/532)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 343). قال ابنُ عاشور: (المعنى: لو نَشاءُ لَجعَلْنا ما يَنبُتُ بعدَ خُروجِه مِنَ الأرضِ حُطامًا، بأن نُسَلِّطَ عليه ما يُحَطِّمُه مِن بَردٍ أو رِيحٍ أو حَشَراتٍ قبْلَ أن تَنتَفِعوا به). ((تفسير ابن عاشور)) (27/322). !
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ.
أي: فبَقِيتُم نادِمينَ مُتعَجِّبينَ مِن هَلاكِ زَرْعِكم، قد زال عنكم السُّرورُ والمَرَحُ [360] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/351)، ((تفسير القرطبي)) (17/219)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 272، 273)، ((تفسير ابن كثير)) (7/540، 541)، ((تفسير السعدي)) (ص: 835). فَظَلْتُمْ أصلُه فظللْتُم، حُذِفتْ إحدى اللامينِ تخفيفًا. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/ 17). قال الشنقيطي: (قال بعضُ العُلَماءِ: تَفَكَّهُونَ بمعنى: تَنْدَمونَ على ما خَسِرْتُم مِنَ الإنفاقِ عليه، كقَولِه تعالى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا [الكهف: 42] . وقال بعضُ العلماءِ: تَنْدَمونَ على مَعصيةِ اللهِ الَّتي كانت سَبَبًا لتَحطيمِ زَرْعِكم. والأوَّلُ مِنَ الوَجهَينِ في سَبَبِ النَّدَمِ هو الأظهَرُ). ((أضواء البيان)) (7/533). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/219). وقال ابنُ عثيمين: (أي: تَتفَكَّهونَ بالكلامِ، تُريدونَ أن تُذهِبوا الحُزْنَ عنكم، فتَقولونَ: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ أي: لَحِقَنا الغُرمُ بهذا الزَّرعِ الَّذي صار حُطامًا، ثمَّ تَستأنِفون فتَقولون: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 343). !
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تَفَكُّهَهم، وكان التَّفَكُّهُ يُطلَقُ على التَّعَجُّبِ والتَّنَدُّمِ، وعلى التَّنَعُّمِ؛ بَيَّن المرادَ بقَولِه حِكايةً لتفَكُّهِهم [361] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/225). :
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66).
أي: فتَقولونَ: إنَّا لَمُعَذَّبونَ [362] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/352)، ((تفسير القرطبي)) (17/219)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 343). قال ابنُ عطيَّة: (المعنى: يحتَمِلُ أن يكونَ: إنَّا لَمُعَذَّبونَ؛ مِنَ الغَرامِ: وهو أشَدُّ العَذابِ... ويحتَمِلُ أن يكونَ: إنَّا لَمُحَمَّلونَ الغُرْمَ، أي: غَرِمْنا في النَّفَقةِ، وذَهَب زَرْعُنا). ((تفسير ابن عطية)) (5/249). وممَّن ذهب إلى المعنى الأوَّلِ: الفرَّاءُ، وأبو عُبَيْدةَ، وابنُ قُتَيْبةَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، وابن الجوزي، والقرطبي، وابن جُزَي، والعُلَيمي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/129)، ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/251)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 450)، ((تفسير ابن جرير)) (22/352)، ((تفسير السمرقندي)) (3/396)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 389)، ((تفسير القرطبي)) (17/219)، ((تفسير ابن جزي)) (2/338)، ((تفسير العليمي)) (6/516). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/352)، ((تفسير الثعلبي)) (9/216)، ((البسيط)) للواحدي (21/252)، ((تفسير ابن كثير)) (7/540). قال الواحدي: (كأنَّهم ذهبوا إلى أنَّهم عُذِّبوا بذَهابِ أموالِهم). ((البسيط)) (21/252). وممَّن قال بالمعنى الثَّاني: الزَّجَّاجُ، والواحديُّ، والخازن، وجلال الدين المحلي، والشوكاني، وابن عثيمين. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/114)، ((الوسيط)) للواحدي (4/ 238)، ((تفسير الخازن)) (4/240)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 716)، ((تفسير الشوكاني)) (5/189)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 343). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/225). !
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67).
أي: إنَّما نحن مَحرومونَ مِن مَنفَعةِ زَرْعِنا، وحُصولِ خَيْرِه، فلا حَظَّ لنا فيه [363] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/352)، ((الوسيط)) للواحدي (4/238)، ((تفسير الزمخشري)) (4/466)، ((تفسير القرطبي)) (17/220). !
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى نِعمَتَه على عِبادِه بالطَّعامِ؛ ذكَرَ نِعمتَه عليهم بالشَّرابِ العَذْبِ الَّذي منه يَشرَبونَ [364] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 835). .
وأيضًا فهذا انتِقالٌ إلى دليلٍ آخَرَ على إمكانِ البعثِ وصَلاحيةِ قُدرةِ اللهِ له، بضَرْبٍ آخَرَ مِن ضُروبِ الإنشاءِ بعْدَ العدَمِ، ومُناسبةُ الانتِقالِ أنَّ الحرْثَ إنَّما يَنبُتُ زَرْعُه وشَجرُه بالماءِ، فانتُقِلَ مِن الاستِدلالِ بتَكوينِ النَّباتِ إلى الاستِدلالِ بتَكوينِ الماءِ الَّذي به حياةُ الزَّرعِ والشَّجرِ [365] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/323). .
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68).
أي: أفرأيتُمُ الماءَ العَذْبَ الَّذي تَشرَبونَ منه [366] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/353)، ((تفسير السعدي)) (ص: 835)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/323)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/533). ؟
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69).
أي: أأنتُم الَّذين أنزَلْتُم هذا الماءَ مِنَ السَّحابِ إلى الأرضِ، أم نحن المُنزِلونَ له بقُدْرتِنا [367] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/353)، ((تفسير القرطبي)) (17/220، 221)، ((تفسير ابن كثير)) (7/541)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/324)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/533). قال ابنُ عطيَّة: (المُزْنُ: السَّحابُ، بلا خِلافٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/249). وقال البِقاعي: (أي: السَّحابِ المَملوءِ المَمدوحِ الَّذي شأنُه الإسراعُ في المُضِيِّ. وقال الأصبهاني: وقيل: السَّحابُ الأبيَضُ خاصَّةً، وهو أعذَبُ ماءً). ((نظم الدرر)) (19/227). ؟
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الجَوابُ عمَّا سَبقَ: «أنتَ وَحْدَك فعَلْتَ ذلك، على غِناكَ عن الخَلْقِ بما لك مِنَ الرَّحمةِ وكَمالِ الذَّاتِ والصِّفاتِ»؛ قال مُذَكِّرًا بنِعمةٍ أُخرى [368] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/227). :
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا.
أي: لو نَشاءُ جَعَلْنا ذلك الماءَ العَذْبَ مِلْحًا شَديدَ المَرارةِ؛ فلا يُمكِنُكم شُربُه، والانتِفاعُ به [369] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/129)، ((تفسير ابن جرير)) (22/354)، ((تفسير القرطبي)) (17/221)، ((تفسير ابن كثير)) (7/541)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/324)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/533). !
فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ.
أي: فهلَّا تَشكُرونَ اللهَ الَّذي رزَقَكم الماءَ العَذْبَ الزُّلالَ [370] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/354)، ((تفسير القرطبي)) (17/221)، ((تفسير ابن كثير)) (7/541)، ((تفسير السعدي)) (ص: 835)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/534). !
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
انتَقَلَ اللهُ تعالى إلى أمرٍ ثالثٍ يُصْلَحُ به الطَّعامُ والشَّرابُ، وهو النَّارُ [371] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 344). .
وأيضًا مُناسَبةُ الانتِقالِ مِن الاستِدلالِ بخَلقِ الماءِ إلى الاستِدلالِ بخَلقِ النَّارِ: هي ما تقدَّمَ في مناسَبةِ الانتِقالِ إلى خَلقِ الماءِ مِن الاستِدلالِ بخَلقِ الزَّرعِ والشَّجَرِ؛ فإنَّ النَّارَ تَخرُجُ مِن الشَّجَرِ بالاقتِداحِ، وتُذْكَى بالشَّجَرِ في الاشتِعالِ والالتِهابِ، وهذا استِدلالٌ على تقريبِ كَيفيَّةِ الإحياءِ للبَعثِ؛ مِن حَيثُ إنَّ الاقتِداحَ إخراجٌ، والزَّندُ الَّذي به إيقادُ النَّارِ يَخرُجُ مِن أعوادِ الاقتداحِ، وهي مَيِّتةٌ [372] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/325). !
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71).
أي: أفرأيتُم النَّارَ الَّتي تَستَخرِجونَها مِنَ الشَّجَرِ بالاقتِداحِ، وتُوقِدونَها [373] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/355)، ((تفسير القرطبي)) (17/221)، ((تفسير ابن كثير)) (7/541)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/325)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/535)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 344). ؟
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72).
أي: أأنتُم أنشَأْتُم الشَّجَرةَ الَّتي تَخرُجُ منها النَّارُ، أم نحن الَّذين أنشَأْناها بقُدْرتِنا [374] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/355)، ((تفسير القرطبي)) (17/221)، ((تفسير ابن كثير)) (7/541)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/535، 536). قال ابنُ عاشور: (شَجَرةُ النَّارِ: هي جِنسُ الشَّجَرِ الَّذي فيه حُرَّاقٌ، أي: ما يُقتَدَحُ منه النَّارُ، وهو شَجرُ الزَّنْدِ أَو الزِّنَادِ، وأشجارُ النَّارِ كَثيرةٌ؛ منها: المَرْخُ -بفَتحٍ فسُكونٍ-، والعَفَارُ -بفَتحِ العَينِ- ...). ((تفسير ابن عاشور)) (27/325). وقال ابن عثيمين: (وشجرةُ النَّارِ هي شجرٌ معروفٌ في الحجازِ، ورُبَّما يكونُ معروفًا غيره، يُسمَّى المَرْخَ والعَفَارَ، وهذا الشَّجرُ له خاصيَّةُ إذا ضُرِب بالمَرْو أو بشَيءٍ يَنقدِحُ مع المُماسَّةِ، اشتعَل  نارًا يوقَدُ منه). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 344، 345). ؟
كما قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس: 78 - 80] .
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الجوابُ عمَّا سَبقَ قَطْعًا: «أنتَ وَحْدَك»، قال دالًّا على ذلك؛ تنبيهًا على عِظَمِ هذا الخَبَرِ [375] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/229). :
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً.
أي: نحن جعَلْنا تلك النَّارَ تَذكيرًا للنَّاسِ بنارِ جَهنَّمَ، فيَعتَبِرونَ ويَنزَجِرونَ خَوفًا منها [376] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/355)، ((تفسير القرطبي)) (17/221)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 236)، ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 835)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/536). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِي الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((نارُكم جُزءٌ مِن سَبعينَ جُزءًا مِن نارِ جَهنَّمَ! قيلَ: يا رَسولَ اللهِ: إنْ كانت لَكافيةً! قال: فُضِّلَت عليهِنَّ بتِسعةٍ وسِتِّينَ جُزءًا، كُلُّهنَّ مِثلُ حَرِّه ا)) [377] رواه البخاري (3265) واللفظ له، ومسلم (2843). .
وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ.
أي: وجعَلْنا نارَ الدُّنيا مَنفَعةً للمُسافِرينَ؛ في الطَّبخِ، والتَّدفِئةِ، والاستِضاءةِ، وغيرِ ذلك [378] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/252)، ((تفسير ابن جرير)) (22/358)، ((ياقوتة الصراط)) لغلام ثعلب (ص: 503)، ((تفسير القرطبي)) (17/221، 222)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 236)، ((تفسير ابن كثير)) (7/542)، ((تفسير السعدي)) (ص: 835)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/327)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/536). .
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن مِن نِعَمِه ما يُوجِبُ الثَّناءَ عليه مِن عِبادِه، وشُكرَه وعبادتَه؛ أمرَ بتَسبيحِه وتحميدِه [379] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 836). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى حالَ المكَذِّبينَ بالحَشرِ والوحدانيَّةِ، وذكَرَ الدَّليلَ عليهما بالخَلقِ والرِّزقِ، ولم يُفِدْهم الإيمانُ؛ قال لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ وظيفتَك أن تَكمُلَ في نفْسِك، وهو عِلمُك برَبِّك، وعَمَلُك لرَبِّك؛ فسَبِّحْ باسمِ رَبِّك [380] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/423). .
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74).
أي: فنَزِّهْ ربَّك المتَّصِفَ بكَمالِ العَظَمةِ -يا مُحمَّدُ- عن كُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ، قائِلًا: سُبحانَ رَبِّيَ العَظيمِ [381] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/222)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/231، 232)، ((تفسير السعدي)) (ص: 836)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/328، 329)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 345). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ إلى آخِرِ السِّياقِ، يَجِبُ على كُلِّ إنسانٍ أن يَنظُرَ في هذا البُرهانِ الَّذي دَلَّت عليه هذه الآيةُ الكريمةُ؛ لأنَّ اللهَ جَلَّ وعلا وَجَّه في كتابِه صِيغةَ أمرٍ صَريحةً عامَّةً في كُلِّ ما يَصدُقُ عليه مُسَمَّى الإنسانِ بالنَّظَرِ في هذا البُرهانِ العَظيمِ المتضَمِّنِ للامتِنانِ لأعظَمِ النِّعَمِ على الخَلقِ، ولِلدَّلالةِ على عَظَمةِ اللهِ وقُدرتِه على البَعثِ وغَيرِه، وشِدَّةِ حاجةِ خَلْقِه إليه -مع غِناه عنهم-؛ وذلك قَولُه تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس: 24 - 32] . والمعنى: انظُرْ -أيُّها الإنسانُ الضَّعيفُ- إلى طعامِك، كالخُبزِ الَّذي تأكُلُه ولا غِنى لك عنه: مَنِ الَّذي خَلَق الماءَ الَّذي صار سَبَبًا لإنباتِه؟ هل يَقدِرُ أحَدٌ غَيرُ اللهِ على خَلقِ الماءِ، أي: إبرازِه مِن أصلِ العَدَمِ إلى الوُجودِ؟ ثمَّ هَبْ أنَّ الماءَ خُلِقَ، هل يَقدِرُ أحَدٌ غيرُ اللهِ أن يُنزِلَه على هذا الأُسلوبِ الهائِلِ العَظيمِ الَّذي يَسقي به الأرضَ مِن غَيرِ هَدْمٍ ولا غَرَقٍ؟ ثمَّ هَبْ أنَّ الماءَ نَزَل في الأرضِ، مَن الَّذي يَقدِرُ على شَقِّ الأرضِ عن مَسارِ الزَّرعِ؟ ثمَّ هَبْ أنَّ الزَّرعَ طَلَع، فمَن الَّذي يَقدِرُ على إخراجِ السُّنبُلِ منه؟ ثمَّ هَبْ أنَّ السُّنبُلَ خَرَج منه، فمَن الَّذي يَقدِرُ على إنباتِ الحَبِّ فيه وتَنميتِه حتَّى يُدرَكَ صالِحًا للأكلِ [382] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/532). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الماوردي)) (5/460)، ((تفسير القرطبي)) (17/218، 219). ؟!
2- النَّارُ مِن أكبرِ الماعونِ، وأعظمِ المنافعِ والمرافقِ، ولو لم يكُنْ فيها إلَّا أنَّ الله تعالى جعَلها الزَّاجرةَ عن المعاصي، لكان في ذلك ما يزيدُ في قدرِها ونباهةِ ذِكرِها، وقال تعالى: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ، فالعاقِلُ المعتبِرُ إذا تأمَّل قولَه تعالى: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً تصوَّر ما فيها مِن النِّعَمِ أوَّلًا ومِن النِّقَمِ آخرًا [383] يُنظر: ((الأزمنة والأمكنة)) للمرزوقي (ص: 535)، ويُنظر أيضًا: ((الحيوان)) للجاحظ (4/ 490). ، فقولُه: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً أي: نذكِّرُ النَّاسَ بها في دارِ الدُّنيا -إذا أحسُّوا شدَّةَ حرارتِها- نارَ الآخرةِ، الَّتي هي أشدُّ منها حرًّا؛ ليَنزَجِروا عن الأعمالِ المقتضيةِ لدُخولِ النَّارِ [384] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/536). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ دَلالةٌ على إباحةِ الزَّرعِ، مِن جِهةِ الامتِنانِ به [385] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/3). .
2- في قَولِه تعالى: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ سُؤالٌ: أنَّ هذا يدُلُّ على أنَّ اللهَ تعالى هو الزَّارِعُ، فكيف قال تعالى: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ [الفتح: 29] ؟
الجَوابُ: قد ثَبَت مِنَ التَّفسيرِ أنَّ الحَرْثَ مُتَّصِلٌ بالزَّرعِ؛ فالحَرثُ أوائِلُ الزَّرعِ، والزَّرعُ أواخِرُ الحَرْثِ، فيَجوزُ إطلاقُ أحَدِهما على الآخَرِ، لكِنْ قَولُه: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ بدَلًا عن قَولِه: «يُعجِبُ الحُرَّاثَ» يدُلُّ على أنَّ الحارِثَ إذا كان هو المُبتدئَ فرُبَّما يَتعَجَّبُ بما يترتَّبُ على فِعْلِه مِن خُروجِ النَّباتِ، والزَّارِعُ لَمَّا كان هو المُنتهيَ، ولا يُعجِبُه إلَّا شَيءٌ عَظيمٌ؛ فقال: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ الَّذين تعَوَّدوا أخْذَ الحِرَاثِ، فما ظَنُّك بإعجابِه الحُرَّاثَ [386] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/420). ؟!
3- في قَولِه تعالى: أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أنَّه يُوصَفُ اللهُ عزَّ وجلَّ بأنَّه الزَّارِعُ؛ ولا يُسمَّى به [387] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/119). .
4- في قَولِه تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ إلى قَولِه: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 82] دَلالةٌ على أنَّ اللهَ تعالى قادِرٌ على ما لا يَفعَلُه؛ فإنَّه أخبرَ أنَّه لو شاء جَعَلَ الماءَ أُجاجًا، وهو لم يَفعَلْه، ومِثْلُ هذا: وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة: 13] ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ [يونس: 99] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ [البقرة: 253] ؛ فإنَّه أخبَرَ في غيرِ مَوضعٍ أنَّه لو شاء لَفَعَل أشياءَ، وهو لم يَفعَلْها، فلو لم يكُنْ قادِرًا عليها لَكان إذا شاءَها لم يُمكِنْ فِعلُها [388] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/10). !
5- في قَولِه تعالى: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أنَّ جَميعَ الماءِ السَّاكِنِ في الأرضِ، النَّابِعِ مِن العُيونِ والآبارِ ونَحوِ ذلك: أنَّ أصْلَه كُلَّه نازِلٌ مِنَ المُزْنِ، وأنَّ اللهَ أسكَنَه في الأرضِ، وخَزَنَه فيها لخَلْقِه [389] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/534). .
6- في قَولِه تعالى: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ أنَّه لو شاء تعالى لجَعَل الماءَ غيرَ صالحٍ للشُّرْبِ، وقد جاء مَعناه في آياتٍ أُخَرَ؛ كقَولِه تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك: 30] ، وقَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [المؤمنون: 18] ؛ لأنَّ الذَّهابَ بالماءِ، وجَعْلَه غَورًا لا يُوصَلُ إليه، وجَعْلَه أُجاجًا: كُلُّ ذلك في المعنى سَواءٌ، بجامِعِ عَدمِ تأتِّي شُربِ الماءِ، وهذه الآياتُ المذكورةُ تدُلُّ على شِدَّةِ حاجةِ الخَلْقِ إلى خالِقِهم كما ترى [390] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/534). .
7- قولُه تعالى: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا استِدلالٌ مِن اللهِ سُبحانه بأنَّه قادرٌ على نقْضِ ما في الماءِ مِن الصَّلاحيةِ للنَّفْعِ بعْدَ وُجودِ صُورةِ المائيَّةِ فيه؛ تَكملةً لدَليلِ إمكانِ البعثِ [391] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/321، 324). .
8- في قَولِه تعالى: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ سُؤالٌ: أنَّه لم يَقُلْ عندَ ذِكرِ الطَّعامِ «الشُّكْرَ»؛ وذلك لأوجُهٍ:
 أحَدُها: أنَّه لم يَذكُرْ في المأكولِ أكْلَهم، فلمَّا لم يَقُلْ: «تأكُلونَ» لم يَقُلْ: «تَشكُرونَ»، وقال في الماءِ: تَشْرَبُونَ فقال: تَشْكُرُونَ.
الثَّاني: أنَّ في المأكولِ قال: تَحْرُثُونَ فأثبَتَ لهم سَعيًا، فلم يَقُلْ: «تَشكُرونَ»، وقال في الماءِ: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ لا عَمَل لكم فيه أصلًا، فهو مَحْضُ النِّعْمةِ؛ فقال: فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ.
ثالِثُها -وهو الأحسَنُ-: أن يُقالَ: النِّعمةُ لا تَتِمُّ إلَّا عندَ الأكلِ والشُّربِ؛ ألَا ترى أنَّ في البَراريِّ -الَّتي لا يُوجَدُ فيها الماءُ- لا يأكُلُ الإنسانُ شَيئًا مخافةَ العَطَشِ؟ فلمَّا ذَكَر المأكولَ أوَّلًا وأتَمَّه بذِكرِ المَشروبِ ثانيًا، قال: فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ على هذه النِّعمةِ التَّامَّةِ [392] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/422). ؟!
9- في قَولِه تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ بُطلانُ مَقولةِ: «أنَّ الأسبابَ مُؤَثِّرةٌ بطبائِعها، بمُقتضى طَبيعتِها، مُؤثِّرةٌ بذاتِها»؛ فالحَجَرُ هو الَّذي كَسَرَ الزُّجاجةَ بنَفْسِه وبطَبيعتِه، والنَّارُ هي الَّتي أحرَقَتِ الوَرَقَ بنَفْسِها! وهذا القولُ باطلٌ بدَلالةِ الواقعِ ودَلالةِ الشَّرعِ، وهو نَوعٌ مِن الشِّركِ باللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ اعتقادَ أنَّ شيئًا ما يُؤَثِّرُ في الشَّيءِ الآخَرِ بنَفْسِه دونَ اللهِ: هذا شَيءٌ مِن الشِّركِ لا شكَّ فيه.
ووَجهُ بُطلانِه مِن الشَّرعِ قولُ اللهِ تبارك وتعالى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، فبَيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ الَّذي أَنْشَأَ شَجَرةَ النَّارِ -الَّتي تَنقَدِحُ بها النَّارُ- هو اللهُ عزَّ وجلَّ، وبَيَّنَ أنَّه جَعَلَها مَتاعًا للمُقْوِينَ، وتَذكِرةً للمُتَّقينَ.
وأمَّا الواقِعُ فإنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى قال للنَّارِ الَّتي أُلقِيَ فيها إبراهيمُ عليه السَّلامُ: كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء: 69] ، فكانت [393] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) لابن عثيمين (5/483). قال ابن عثيمين: (النَّاسُ في الأسبابِ طرَفانِ ووسَطٌ: فالطَّرَفُ الأوَّلُ: نُفاةٌ أنكَروا تأثيرَ الأسبابِ، وجعَلوها مجرَّدَ علاماتٍ يَحصُلُ الشَّيءُ عندَها، لا بها، حتَّى قالوا: إنَّ انكِسارَ الزُّجاجةِ بالحجَرِ إذا رمَيْتَها به حصَل عندَ الإصابةِ، لا بها! وهؤلاء خالَفوا السَّمْعَ، وكابَروا الحِسَّ، وأنكَروا حِكمةَ الله تعالى في ربطِ المُسبَّباتِ بأسبابِها. والطَّرَفُ الثَّاني: غُلاةٌ أثبَتوا تأثيرَ الأسبابِ، لكنَّهم غَلَوْا في ذلك وجعَلوها مؤَثِّرةً بذاتِها! وهؤلاء وقَعوا في الشِّركِ، حيث أثبَتوا مُوجِدًا مع الله تعالى، وخالَفوا السَّمعَ والحِسَّ... وأمَّا الوسَطُ: فهم الَّذين هُدُوا إلى الحقِّ، وتوَسَّطوا بيْن الفريقَينِ، وأخَذوا بما مع كلِّ واحدٍ منهما مِن الحقِّ، فأثبَتوا للأسبابِ تأثيرًا في مُسَبَّباتِها، لكنْ لا بذاتِها، بل بما أودَعه اللهُ تعالى فيها مِن القُوَى المُوجِبةِ، وهؤلاء هم الطَّائفةُ الوسَطُ الَّذين وُفِّقوا للصَّوابِ، وجمَعوا بيْن المَنقولِ والمعقولِ والمحسوسِ). ((تقريب التدمرية)) (ص: 98). ويُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/257). .
10- إنَّ بَرَكةَ الاسمِ تابِعةٌ لبَرَكةِ المُسمَّى؛ فقَولُه تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ دَليلٌ على الأمرِ بتَسبيحِ الرَّبِّ بطَريقِ الأَولى؛ فإنَّ تَنزيهَ الاسمِ مِن توابِعِ تَنزيهِ المُسمَّى [394] يُنظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 307). .
11- في قَولِه تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أنَّهم أثبَتوا ألِفَ الوَصلِ هنا في «باسمِ رَبِّك»؛ لأنَّه لم يَكثُرْ دَورُه كَثْرَتَه في البَسمَلةِ، وحَذَفوه منها؛ لكَثرةِ دَورِها، وهم شأنُهم الإيجازُ وتقليلُ الكثيرِ إذا عُرِفَ مَعناه، وهذا مَعروفٌ لا يُجهَلُ، وإثباتُ ما أُثبِتَ مِن أشكالِه مِمَّا لا يَكثُرُ: دَليلٌ على الحَذفِ منه؛ ولذا لا تُحذَفُ مع غيرِ الباءِ في «اسمِ اللهِ»، ولا مع الباءِ في غيرِ الجلالةِ الكريمةِ مِن الأسماءِ [395] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/232). قال النووي: (قال الكُتَّابُ مِن أهلِ العربيَّةِ: إذا قيل: «باسمِ الله» تعَيَّنَ كَتْبُه بالألِفِ، وإنَّما تُحذَفُ الألِفُ إذا كتب «بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ» بكمالِها). ((شرح النووي على مسلم)) (13/110). .
12- في قَولِه تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ سُؤالٌ: ما الفائِدةُ في دُخولِ الباءِ في قَولِه تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، ولم تَدخُلْ في قَولِه تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] ؟
 الجوابُ: التَّسبيحُ يُرادُ به التَّنزيهُ والذِّكْرُ المُجَرَّدُ دونَ مَعنًى آخَرَ، ويُرادُ به ذلك مع الصَّلاةِ، وهو ذِكْرٌ وتَنزيهٌ مع عَمَلٍ؛ ولهذا تُسَمَّى الصَّلاةُ تَسبيحًا، فإذا أُريدَ التَّسبيحُ المُجَرَّدُ فلا مَعنى للباءِ؛ لأنَّه لا يَتعدَّى بحَرفِ جَرٍّ، لا تَقولُ: سَبَّحْتُ باللهِ، وإذا أردتَ المقرونَ بالفِعلِ -وهو الصَّلاةُ- أدْخَلتَ الباءَ؛ تنبيهًا على ذلك المرادِ، كأنَّك قُلتَ: سَبِّحْ مُفتَتِحًا باسمِ ربِّك، أو ناطِقًا باسمِ ربِّك، كما تَقولُ: صَلِّ مُفتَتِحًا أو ناطِقًا باسمِه؛ ولهذا السِّرِّ -واللهُ أعلمُ- دَخَلتِ اللَّامُ في قَولِه تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد: 1] ، والمرادُ: التَّسبيحُ الَّذي هو السُّجودُ والخُضوعُ والطَّاعةُ، ولم يَقُلْ في مَوضِعٍ: سَبَّحَ اللهَ ما في السَّمواتِ والأرضِ، كما قال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: 15] . وتأمَّلْ قَولَه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 206] كيف قال: وَيُسَبِّحُونَهُ لَمَّا ذَكَرَ السُّجودَ باسمِه الخاصِّ، فصار التَّسبيحُ ذِكْرَهم له، وتَنزيهَهم إيَّاه [396] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/20). .
13- في قَولِه تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ دَلالةٌ على أنَّه مأمورٌ بالذِّكرِ اللِّسانيِّ، وليس له أن يَقتَصِرَ على الذِّكرِ القَلبيِّ [397] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/424). ! ففائِدةُ ذِكْرِ الاسمِ هي أنْ يكونَ التَّسبيحُ باللِّسانِ؛ إِذْ لا يُمكِنُ تَسبيحُ اللهِ تعالى باللِّسانِ إلَّا بذِكرِ اسمِه، أمَّا إذا لم تَذْكُرِ اسمَ اللهِ فإنَّ التَّسبيحَ يكونُ بالقَلبِ؛ ولهذا تقولُ: «سُبحانَ رَبِّيَ العَظيمِ»، «سُبحانَ اللهِ وبحَمدِه»، «سُبحانَ اللهِ العَظيمِ» تَذْكُرُ الاسمَ، ففائِدةُ ذِكْرِ الاسمِ هنا عَظيمةٌ جِدًّا؛ لئلَّا يَقتَصِرَ الإنسانُ على التَّسبيحِ بقَلبِه، الَّذي لا يَظْهَرُ معه الاسمُ [398] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) لابن عثيمين (2/351). .
14- قوله تعالى: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ إلى قولِه: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ وهذه الأربعةُ الَّتي ذكَرها الله تعالى ووقَفهم عليها -مِن أمرِ خلقِهم وما به قوامُ عيشِهم مِن المطعومِ والمشروبِ والنَّارِ- مِن أعظمِ الدَّلائلِ على البعثِ، وفيها انتِقالٌ مِن شيءٍ إلى شيءٍ، وإحداثُ شيءٍ مِن شيءٍ، ولذلك أمر في آخرها بتنزيهِه تعالَى عمَّا يقولُ الكافِرونَ، ووَصَف تعالَى نفْسَه بالعظيمِ، فقال: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ؛ إذ مَن هذه أفعالُه تدُلُّ على عَظَمتِه وكبريائِه وانفرادِه بالخلقِ والإنشاءِ [399] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/90). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ الفاءُ لتَفريعِ ما بعْدَها على جُملةِ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ [الواقعة: 57] ، كما فُرِّع عليه قولُه: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ [الواقعة: 58] ؛ لِيَكونَ الغرَضُ مِن هذه الجُمَلِ مُتَّحِدًا، وهو الاستِدلالُ على إمكانِ البعثِ، فقُصِدَ تَكريرُ الاستِدلالِ وتَعدادُه بإعادةِ جُملةِ أَفَرَأَيْتُمْ، وإنْ كان مَفعولُ فِعلِ الرُّؤيةِ مُختلِفًا. وإنْ شِئتَ جعَلْتَ الفاءَ لتَفريعِ مُجرَّدِ استدلالٍ على استدلالٍ، لا لتَفريعِ معْنى مَعطوفِها على معْنى المعطوفِ عليه، على أنَّه لَمَّا آلَ الاستِدلالُ السَّابقُ إلى عُمومِ صَلاحيةِ القدرةِ الإلهيَّةِ، جاز أيضًا أنْ تكونَ هذه الجُملةُ مُرادًا بها تَمثيلٌ بنَوعٍ عَجيبٍ مِن أنواعِ تَعلُّقاتِ القدْرةِ بالإيجادِ دونَ إرادةِ الاستِدلالِ على خُصوصِ البعثِ؛ فيَصِحُّ جَعْلُ الفاءِ تَفريعًا على جُملةِ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، مِن حيثُ إنَّها اقتَضَت سَعةَ القدْرةِ الإلهيَّةِ [400] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/319، 320). .
- وجُملةُ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ ... إلخ بَيانٌ لجُملةِ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ [401] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/321). .
- والاستِفهامُ في أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ للتَّقريرِ [402] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/321)). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ إليه أَأَنْتُمْ على المُسنَدِ الفِعليِّ تَزْرَعُونَهُ لإفادةِ التَّقَوِّي؛ لأنَّهم لَمَّا نُزِّلوا مَنزِلةَ مَن يَزعُمُ ذلك، صِيغَت جُملةُ نَفْيِه بصِيغةٍ دالَّةٍ على زَعْمِهم تَمكُّنَ إنباتِ ما يَحرُثون [403] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/314، 321). .
- ونفْيُ الزَّرعِ عنهم وإثباتُه للهِ تعالى يُفيدُ معْنى قَصْرِ الزَّرعِ -أي: الإنباتِ- على اللهِ تعالى، أي: دُونَهم، وهو قصْرُ مُبالَغةٍ [404] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و (3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). ؛ لعدَمِ الاعتِدادِ بزَرعِ النَّاسِ [405] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/321). .
وقيلَ: أضافَ الحرْثَ إليهم، والزَّرعَ إليه تَعالى؛ لأنَّ الحرْثَ فِعْلُهم، ويَجْري على اختِيارِهم، والزَّرعَ مِن فِعلِ اللهِ تَعالى، ويَنبُتُ على اختِيارِه لا على اختِيارِهم [406] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/217، 218). .
2- قولُه تعالَى: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
- جُملةُ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا مَوقِعُها كمَوقِعِ جُملةِ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ [الواقعة: 60] في أنَّها استِدلالٌ مِن اللهِ سُبحانَه بإفْنائِه ما أوجَدَه على انفِرادِه بالتَّصرُّفِ إيجادًا وإعدامًا؛ تَكمِلةً لدَليلِ إمكانِ البَعثِ [407] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/321). .
- ودخَلَتِ اللامُ على جَوابِ (لَوْ) في قولِه: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا، ونُزِعَتْ مِن قولِه: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا؛ لِوُجوهٍ: الوجْهُ الأولُ: ذكَرَ في جَوابِ (لو) في الزَّرعِ اللَّامَ عمَلًا بالأصلِ، وحذَفَها منه في الماءِ اختصارًا؛ لدَلالةِ الأوَّلِ عليه. الوجْهُ الثَّاني: أنَّ هذه اللَّامَ مُفيدةٌ معْنى التَّوكيدِ لا مَحالةَ، فأُدخِلَت في آيةِ المطعومِ دونَ آيةِ المشروبِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ أمْرَ المطعومِ مُقدَّمٌ على أمْرِ المشروبِ، وأنَّ الوعيدَ بفَقْدِه أشدُّ وأصعبُ؛ مِن قِبَلِ أنَّ المشروبَ إنَّما يُحتاجُ إليه تبَعًا للمَطعومِ؛ ولذلك رُتِّبَ على أمْرِ المطعومِ قولُه: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، وعلى أمْرِ المشروبِ قولُه: فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ، والأوَّلُ أدلُّ على التَّوبيخِ والتَّعييرِ على كُفرانِ النِّعَمِ؛ لمَجيئِه إخباريًّا مُفصَّلًا فيه تَصويرُ خَيبتِهم وتَحسُّرِهم. الوجْهُ الثالثُ: أنَّ الزَّرعَ ونباتَه وجَفافَه بعْدَ النَّضارةِ حتَّى يَعودَ حُطامًا، ممَّا يَحتمِلُ أنَّه مِن فِعلِ الزَّارعِ، أو أنَّه مِن سَقْيِ الماءِ، وجَفافُه مِن عدَمِ السَّقْيِ، فأخبَرَ سُبحانه أنَّه الفاعلُ لذلك على الحقيقةِ، وأنَّه قادرٌ على جَعْلِه حُطامًا في حالِ نُموِّه لو شاءَ، وإنزالُ الماءِ مِن السَّماءِ ممَّا لا يُتوهَّمُ أنَّ لأحدٍ قُدرةً عليه غيرَ اللهِ تعالى [408] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/467)، ((تفسير البيضاوي)) (5/182)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/211، 212)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 549)، ((تفسير أبي السعود)) (8/198)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/321، 324، 325)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/444، 445). .
وقيل: اللَّامُ تَقَعُ للاستِقبالِ؛ تقولُ: لَأضْرِبَنَّك -أي: فيما بعْدُ؛ لا في الحالِ، والمعنى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا أي: في مُستقبَلِ الزَّمانِ إذا تَمَّ فاستَحْصَدَ (أي: حان له أن يُحصدَ)، وذلك أشدُّ العذابِ؛ لأنها حالةُ انتهاءِ تَعَبِ الزَّارِعِ، واجتماعِ الدَّيْنِ عليه؛ لرجاءِ القضاءِ بعدَ الحصادِ، مع فراغِ البيوتِ مِن الأقواتِ، وأمَّا في الماءِ فقال: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا أي: الآنَ، لأنَّا لو أَخَّرْنا ذلك لشَرِبَ العطشانُ، وادَّخَرَ الإنسانُ [409] الكلامُ لابنِ هُبَيْرةَ، نقَله عنه ابنُ الجوزي في ((المقتبس)). يُنظر: ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/150). .
وقيل: أُدخِلت الَّلامُ في آيةِ المطعومِ دونَ آيةِ المشروبِ؛ لأنَّ جَعْلَ الماءِ العذبِ مِلحًا أسهلُ إمكانًا في العُرفِ والعادةِ، والموجودُ مِن الماءِ الملحِ أكثرُ مِن الماءِ العذبِ، وكثيرًا ما إذا جرَت المياهُ العذبةُ على الأراضي المتغيرةِ التربة أحالَتْها إلى الملوحةِ، فلم يحتَجْ في جعلِ الماءِ العذبِ ملحًا إلى زيادةٍ تأكيد، فلذلك لم تدخُلْ عليه لامُ التأكيدِ المفيدةُ زيادةَ التحقيقِ، وأمَّا المطعومُ فإنَّ جعلَه حطامًا مِن الأشياءِ الخارجةِ عن المعتادِ، وإذا وقَع فلا يكونُ إلا عن سخطٍ مِن الله شديدٍ، فلذلك قُرِن بلامِ التَّأكيدِ زيادةً في تحقيقِ أمرِه، وتقريرِ إيجادِه [410] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (2/193). .
وأيضًا قال: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا، ولم يقُلْ عزَّ وجَلَّ: (لو نشاءُ لم نُخرِجْه)، بل قال: لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا أي: بَعْدَ أن يَخرُجَ ويكونَ زَرعًا وتتعَلَّقَ به النُّفوسُ، يَجعَلُه اللهُ تعالى حُطامًا! وهذا أشَدُّ ما يكونُ سَبَبًا للحُزنِ والأَسى؛ لأنَّ الشَّيءَ قبْلَ أن يَخرُجَ لا تتعَلَّقُ به النُّفوسُ، فإذا خَرَج وصار زَرْعًا ثمَّ سَلَّط اللهُ عليهم آفةً، فكان حُطامًا -أي: محطومًا لا فائِدةَ منه-؛ فهو أشَدُّ حَسرةً [411] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 343). !
- قولُه: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، أي: فأقمْتُم دائمًا تَندَمونَ على مَعاصيكم الَّتي سبَّبَتْ ذلك التَّلفَ، أو تَتَعجَّبون، أو تَحدَّثونَ في ذلك ولم تُعرِّجوا على شُغلٍ غَيرِه كما تَفعَلونَ عِندَ الأشياءِ السَّارَّةِ الَّتي هي في غايةِ الإعجابِ والمَلاحةِ والمُلاءَمةِ؛ ولهذا عبَّرَ عمَّا المرادُ به الإقامةُ مع الدَّوامِ بـ (ظَلَّ) الَّذي معْناه: أقامَ نَهارًا؛ إشارةً إلى تَرْكِ الأشغالِ الَّتي تُهِمُّ ومَحلُّها النَّهارُ، ويَمنَعُ الإنسانَ مِن أكثرِ ما يُهِمُّه مِن الكلامِ لهذا النَّازلِ الأعظَمِ [412] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/224). .
- قولُهم: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ تَندُّمٌ وتَحسُّرٌ، أي: تَعلَمون أنَّ حَطْمَ زَرعِكُم حِرمانٌ مِن اللهِ جَزاءً لكُفْرِكم، ومعْنى لَمُغْرَمُونَ مِن الغَرامِ، وهو الهلاكُ [413] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/323). . وقيل: الجملةُ إخبارٌ بمعنى الإنكارِ والجحودِ [414] يُنظر: ((تفسير العليمي)) (6/516). ، وقُرِئ بالاستِفهامِ أَئِنَّا [415] وهي قراءةُ أبي بكرٍ عن عاصمٍ، وقرأه الباقونَ بهمزةٍ واحدةٍ على الخبَرِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (1/372). لإنكارِ هذا الواقعِ، والاستِعظامِ له، والتَّعجُّبِ منه، وهي مُنبِّهةٌ على أنَّهم -لِشِدَّةِ اضْطِرابِهم مِن ذلك الحادثِ- مُذَبْذَبونَ؛ تارةً يَجزِمون باليأسِ والشَّرِّ، وتارةً يَشُكُّون فيه، ويَنسُبونَ الأمرَ إلى سوءِ تصَرُّفِهم، وعليه يدُلُّ إضرابُهم: بَلْ نَحْنُ [416] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/225، 226). .
- ومعْنى الآيةِ يَجوزُ أنْ يكونَ جاريًا على ظاهرِ مادَّةِ فِعلِ تَفَكَّهُونَ الَّذي هو المَسرَّةُ والفرَحُ، ويكون ذلك تَهكُّمًا بهم، حمْلًا لهم على مُعتادِ أخلاقِهم مِن الهَزْلِ بآياتِ اللهِ، وقَرينةُ التَّهكُّمِ ما بعْدَه مِن قولِه عنهم: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ. ويجوزُ أنْ يكونَ مَحمَلُ الآيةِ على جَعْلِ تَفَكَّهُونَ بمعْنى تَندَمون وتَحزَنون؛ ولذلك كان لفِعلِ تَفَكَّهُونَ هنا وقْعٌ لا يُعوِّضُه غيرُه [417] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/323). .
- وجُملةُ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ هو حالٌ مِن ضَميرِ تَفَكَّهُونَ [418] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/323). .
3- قولُه تعالَى: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ
- وَصْفُ الْمَاءَ بقولِه: الَّذِي تَشْرَبُونَ إدماجٌ [419] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). للمِنَّةِ في الاستِدلالِ، أي: أفرأيتُم الماءَ العذْبَ الَّذي تَشرَبونه؛ فإنَّ شُرْبَ الماءِ مِن أعظَمِ النِّعَمِ على الإنسانِ؛ ليُقابَلَ بقولِه بعْدَه: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [420] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/198)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/323). [الواقعة: 70] .
- ووَجْهُ الاستِدلالِ على البعثِ هو إنشاءُ ما به الحياةُ بعْدَ أنْ كان مَعدومًا؛ بأنْ كوَّنَه اللهُ في السَّحابِ بحِكمةِ تكوينِ الماءِ، فكما استُدِلَّ بإيجادِ الحيِّ مِن أجزاءٍ مَيتةٍ في خلْقِ الإنسانِ والنَّباتِ، استُدِلَّ بإيجادِ ما به الحياةُ عن عدَمٍ؛ تَقريبًا لإعادةِ الأجسامِ بحِكمةٍ دَقيقةٍ خَفِيَّةٍ، أي: يَجوزُ أنْ يُمطِرَ اللهُ مطَرًا على ذواتِ الأجسادِ الإنسانيَّةِ يكونُ سَببًا في تَخلُّقِها أجسادًا كاملةً كما كانت أُصولُها، كما تَتكوَّنُ الشَّجرةُ مِن نَواةِ أصْلِها، وقد تمَّ الاستدلالُ على البعثِ عندَ قولِه: أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [421] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/324). .
- وجُعِل قولُه: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ استِدلالًا مَنوطًا بإنزالِ الماءِ مِن المُزْنِ على طَريقةِ الكنايةِ بإنزالِه عن تَكوينِه صالحًا للشَّرابِ؛ لأنَّ إنزالَه هو الَّذي يَحصُلُ منه الانتفاعُ به؛ ولذلك وُصِفَ بقولِه: الَّذِي تَشْرَبُونَ [422] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/324). .
- وأُعقِبَ قولُه: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ بقولِه: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا [الواقعة: 70] ، فحصَلَ بيْن الجُملتينِ احتِباكٌ [423] الاحْتِبَاك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ، كأنَّه قِيل: أأنْتُم خلَقْتُموه عَذْبًا صالحًا للشُّربِ وأنْزَلْتُموه مِن المُزْنِ؟ لو نَشاءُ جَعَلْناه أُجاجًا، ولَأمْسكناهُ في سَحاباتِه، أو أنْزَلْناه على البحارِ أو الخَلاءِ، فلمْ تَنتفِعوا به [424] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/324). .
- قولُه: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا، أي: جعَلْناه مِلْحًا، كَريهَ الطَّعمِ، لا يُمكِنُ أنْ يُشرَبَ، ولم يقُلْ: لو نَشاءُ لغَوَّرْناه، أو مَنَعْنا إنزالَه؛ لأنَّ كونَهم يَنظُرون إلى الماءِ رأْيَ العينِ ولكنْ لا يُمكِنُهم شُرْبُه، أشدُّ حَسرةً ممَّا لو لم يكُنْ مَوجودًا، واللهُ عزَّ وجلَّ يُريدُ أنْ يَتحدَّاهم بما هو أعظَمُ شَيءٍ في حَسرةِ نُفوسِهم [425] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 344). .
- جُملةُ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا [الواقعة: 65] وجُملةُ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا [الواقعة: 70] شَرطيَّتانِ، مُستأنَفتانِ، مَسوقتانِ لبَيانِ أنَّ عِصْمتَه تعالى للزَّرعِ والماءِ عمَّا يُخِلُّ بالتَّمتُّعِ بهما، نِعمةٌ أُخرى بعْدَ نِعمةِ الإنباتِ والإنزالِ، مُستوجِبةٌ للشُّكرِ [426] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/198). .
- وتُخُلِّصَ مِن هذا التَّتميمِ [427] التَّتميمُ: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ مِن الكلامِ نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ، ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقولُه: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العِزَّةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. والاحتِراسُ: هو التَّحرُّزُ مِن الشَّيءِ والتَّحفُّظُ منه، وهو نوعٌ مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو أن يكونَ الكلامُ محتملًا لشَيءٍ بعيدٍ، فيُؤتَى بكلامٍ يَدفَعُ ذلك الاحتِمالَ. أو الإتيانُ في كلامٍ يوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يدفَعُ ذلك الوهمَ، ويُسمِّيه البعضُ: التَّكميلَ. والفَرقُ بيْنَ الاحتِراسِ والتَّتميمِ: أنَّ الاحتِراسَ يجبُ أنْ يكونَ لرَفْعِ إيهامِ خِلافِ المقصودِ، وأمَّا التَّتميمُ فإنَّه يكونُ في كلامٍ لا يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ؛ فالنِّسبةُ بيْنَهما إذَنْ هي التَّبايُنُ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/64)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و (2/ 333)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/251)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/49-51، 240 - 241). إلى الامتِنانِ بقولِه: فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ؛ تَحضيضًا لهم على الشُّكرِ، ونبْذِ الكفْرِ والشِّركِ [428] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/324). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال سُبحانَه في الأُولى: فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ، وقال في الماءِ: فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [الواقعة: 70] ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ الأُولى تَنبيهٌ على البَعثِ والإعادةِ -وهي: النَّشأةُ الثَّانيةُ كالنَّشأةِ الأُولى-، وحمْلٌ على أنْ يَتذكَّرَ الأوَّلَ -الَّذي هو الأصلُ-؛ ليُثبِتَ به الثَّانيَ -الَّذي هو فرْعٌ على أنَّ القادرَ كما كان لم يَتغيَّرْ-، وأمَّا قولُه: فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ فإنَّه بعْدَ قولِه: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا [الواقعة: 70] ، أي: شديدَ المُلوحةِ كماءِ البَحرِ، كما قال: وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [الفرقان: 53] ، أي: فهلَّا تَشكُرون أنْ جَعَلَه عَذْبًا؟! فكلُّ مكانٍ لائقٌ به ما ذُكِرَ فيه [429] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (3/1247-1249). .
4- قولُه تعالَى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ
- وفي قولِه: الَّتِي تُورُونَ إدماجٌ للامتِنانِ في الاستِدلالِ بما تقدَّمَ في قولِه: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ [الواقعة: 68] ، وهو أيضًا وَصْفٌ للمَقصودِ مِن الدَّليلِ، وهو النَّارُ الَّتي تَقتدِحُ مِن الزَّنْدِ، لا النَّارُ المُلتهِبةُ [430] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/326). .
- قولُه: الَّتِي تُورُونَ حُذِفَ العائدُ على المَوصولِ؛ لأنَّ ضَميرَ النَّصبِ يَكثُرُ حذْفُه مِن الصِّلةِ، وتَقديرُه: الَّتي تُورُونَها. وتَعديةُ تُورُونَ إلى ضَميرِ النَّارِ تَعديةٌ على تَقديرِ مُضافٍ، أي: تُورُونَ شَجرَتَها، كما دلَّ عليه قولُه: أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا، وقد شاعَ هذا الحذْفُ في الكَلامِ، فقالوا: أَورَى النارَ، كما قالوا: أَورَى الزِّنادَ [431] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/326). .
- وجُملةُ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا بَيانٌ لجُملةِ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ [432] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/326). .
- قولُه: أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ عَبَّرَ عن خَلْقِ الشَّجرةِ بالإنشاءِ المُنبِئِ عن بَديعِ الصُّنعِ المُعرِبِ عن كَمالِ القُدرةِ والحِكمةِ؛ لِمَا فيه مِن الغَرابةِ الفارقةِ بيْنها وبيْن سائرِ الشَّجرِ الَّتي لا تَخلُو عن النارِ، كما أنَّ التَّعبيرَ عن نفْخِ الرُّوحِ بالإنشاءِ في قولِه تعالَى: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ [المؤمنون: 14] لذلك [433] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/198). .
- قولُه: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ استِئنافٌ مُبيِّنٌ لِمَنافعِها [434] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/198). ، أو بدَلُ اشتِمالٍ مِن جُملةِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ [435] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/327). .
- قولُه: وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ، أي: مَنفعةً للنَّازلينَ بالقَواءِ -الأرضِ القَفْرِ-، وهم المسافِرون، يُقالُ: أقْوى الرَّجلُ؛ إذا نزَلَ بالقِيِّ والقَوَى، وهي الأرضُ الخاليةُ، وخصَّ المُقْوينَ بالذِّكرِ -وإنْ كانتْ مَنفَعتُها عامَّةً للمُسافِرينَ والمُقيمينَ؛ تَنْبيهًا لعِبادِه -واللهُ أعلَمُ بمُرادِه مِن كَلامِه- على أنَّهم كلَّهم مُسافِرونَ، وأنَّهم في هذه الدَّارِ على جَناحِ سَفرٍ، لَيْسوا همْ مُقِيمينَ ولا مُستَوطِنينَ، وأنَّهم عابِرو سَبيلٍ وأبناءُ سَفرٍ [436] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 141، 142). ، وأيضًا لشِدَّةِ حاجتِهم إليها في خَبْزِهم وطَبْخِهم؛ حيثُ لا يَجِدُون ما يَشتَرونَه، فيُغْنيَهم عمَّا يَصنَعونَه بالنَّارِ [437] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 236). .
وقيل: إيثارُ هذا الوصْفِ في هذه الآيةِ ليَجمَعَ بيْن مَعْنيَيِ القواءِ، فالمُقْوِي يُطلَقُ على الدَّاخلِ في القَوَاءِ، وهي القَفْرُ، ويُطلَقُ المُقْوِي على الجائعِ؛ فإنَّ النَّارَ مَتاعٌ للمُسافرينَ يَسْتضيئون بها في مناخِهم، ويَصْطَلون بها في البرْدِ، ويَراها السَّائرُ ليلًا في القفْرِ فيَهْتدي إلى مَكانِ النُّزَّلِ، فيَأْوي إليهم، ومَتاعٌ للجائعينَ يَطبُخونَ بها طَعامَهم في الحضَرِ والسَّفرِ، وهذا إدماجٌ للامتنانِ في خِلالِ الاستِدلالِ، واختِيرَ هذانِ الوصفانِ تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ؛ لأنَّ احتياجَ أصحابِهما إلى النَّارِ أشدُّ مِن احتياجِ غَيرِهما [438] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/327). قال أبو السعود: (وقد جُوِّز أن يُرادَ بالمُقْوِينَ الَّذين خلَتْ بُطونُهم ومَزاوِدُهم مِن الطَّعامِ، وهو بعيدٌ؛ لعدَمِ انحصارِ ما يهمُّهم ويسُدُّ خللَهم فيما لا يؤكَلُ إلَّا بالطَّبخِ). ((تفسير أبي السعود)) (8/199). .
- وقَدَّم سُبحانَه كَونَها تَذكِرةً على كَونِها مَتاعًا؛ للتَّنبيهِ على أنَّ الأهمَّ هو النَّفعُ الأُخرويُّ [439] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/423)، ((تفسير أبي السعود)) (8/199). .
- وفي قولِه: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ وأَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ وأَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ وأَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، بدَأَ بذِكرِ خلْقِ الإنسانِ، ثمَّ بما لا غِنى له عنه، وهو الحَبُّ الَّذي منه قُوتُه، ثمَّ بالماءِ الَّذي به سَوْغُه وعَجْنُه، ثمَّ بالنَّارِ الَّتي بها نُضْجُه وصَلاحُه، وذكَرَ عقِبَ كُلٍّ مِن الثَّلاثةِ الأُولى ما يُفسِدُه؛ فقال في الأولى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ، وفي الثَّانيةِ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا، وفي الثالثةِ: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا، ولم يقُلْ في الرَّابعةِ ما يُفسِدُها، بل قال: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ، أي: جعَلْناها تَذكرةً تتَّعِظون بها، ومتاعًا للمسافِرينَ يَنتفِعون بها [440] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/451، 452)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 549). .
- وفي الآياتِ الآنِفةِ الذِّكرِ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بصِحَّةِ الأقسامِ؛ وهو استيفاءُ المُتكلِّمِ جميعَ الأقسامِ للمعْنى المذكورِ الآخِذِ فيه، بحيث لا يُغادِرُ منه شيئًا، فقد عُدِلَ عن لَفظِ الحِرمانِ والمنْعِ إلى لَفظٍ هو رِدفُه وتابعُه، وهو لَفظُ الجَعْلِ؛ إذ قال أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، وكذلك جاء لَفظُ الاعتدادِ بالماءِ؛ حيث قال: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ بلَفظِ الجَعْلِ عندَ ذِكرِ الحرمانِ وما هو في معْناه، وجاء العطاءُ بلَفظِ الزَّرعِ في الحرْثِ، وفي الماءِ بلَفظِ الإنزالِ [441] يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 176)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/443). .
- وأيضًا في هذه الآياتِ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ إلى قولِه: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالتَّسهيمِ؛ وهو أنْ يكونَ ما تَقدَّمَ مِن الكلامِ دَليلًا على ما يَتأخَّرُ منه أو بالعكسِ؛ فقولُه: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ إلى قولِه: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ تَقْتضي أوائلُ هذه الآياتِ أواخِرَها اقتِضاءً لَفظيًّا ومعنويًّا، كما ائْتَلَفت الألفاظُ فيها بمَعانيها المُجاورةِ؛ الملائمُ بالملائمِ، والمناسبُ بالمُناسبِ؛ لأنَّ ذِكرَ الحرْثِ يُلائمُ ذِكرَ الزَّرعِ، والاعتدادَ بكَونِه سُبحانَه لم يَجعَلْه حُطامًا مُلائمٌ لحُصولِ التَّفكُّهِ به، وعلى هذه الآيةِ يُقاسُ نظْمُ أخْتِها [442] يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 267)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/445). .
5- قولُه تعالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، رُتِّب على ما مَضَى مِن الكلامِ المُشتمِلِ على دَلائلِ عَظَمةِ القُدْرةِ الإلهيَّةِ، وعلى أمثالٍ لتَقريبِ البَعثِ الَّذي أنْكَروا خبَرَه، وعلى جَلائلِ النِّعَمِ المُدمَجةِ في أثناءِ ذلك -أنْ أمَرَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يُنزِّهَه تَنزيهًا خاصًّا، مُعقِّبًا لِما تُفِيضُه عليه تلك الأوصافُ الجَليلةُ الماضيةُ مِن تَذكُّرٍ جَديدٍ يكونُ التَّنزيهُ عَقِبَه ضَرْبًا مِن التَّذكُّرِ في جَلالِ ذاتِه، والتَّشكُّرِ لآلائِه؛ فإنَّ للعباداتِ مَواقعَ تكونُ هي فيها أكمَلَ منها في دُونِها، فيكونُ لها مِن الفضْلِ ما يُجزَلُ ثوابُه، فالرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَخْلو عن تَسبيحِ ربِّه، والتَّفكُّرِ في عَظَمةِ شأْنِه، ولكنْ لاختلافِ التَّسبيحِ والتَّفكُّرِ مِن تَجدُّدِ مُلاحَظةِ النَّفْسِ، ما يَجعَلُ لكلِّ حالٍ مِن التَّفكُّرِ مَزايا تَكْسِبُه خَصائصَ، وتَزيدُه ثَوابًا؛ فالجُملةُ عطْفٌ على جُملةِ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إلى قولِه: وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ [الواقعة: 49- 73] ، وهي تَذييلٌ، وتَعقيبُ الأمرِ بالتَّسبيحِ لَمَّا عدَّدَ مِن بَدائعِ صُنعِه وإنعامِه؛ إمَّا لتَنزيهِه تعالى عمَّا يقولُ الجاحِدون لوَحدانيَّتِه، الكافِرون لنِعمتِه، أو للتَّعجُّبِ مِن أمْرِهم في غَمْطِ نِعَمِه، أو للشُّكرِ على ما عدَّها مِن النِّعَمِ [443] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/468)، ((تفسير البيضاوي)) (5/182)، ((تفسير أبي حيان)) (10/96)، ((تفسير أبي السعود)) (8/199)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/327، 328). .
- ولَمَّا كان الكلامُ مَوضوعًا للدَّلالةِ على ما في النَّفْسِ، كان تَسبيحُ الاسمِ مُقتضيًا تَنزيهَ مُسمَّاهُ، وكان أيضًا مُقتضيًا أنْ يكونَ التَّسبيحُ باللَّفظِ مع الاعتِقادِ، لا مُجرَّدَ الاعتِقادِ؛ لأنَّ التَّسبيحَ لَمَّا عُلِّقَ بلَفظِ (اسم) تعيَّنَ أنَّه تَسبيحٌ لَفظيٌّ، أي: قُلْ كلامًا فيه معْنى التَّنزيهِ، وعلِّقْه باسمِ ربِّك؛ فكلُّ كلامٍ يدُلُّ على تَنزيهِ اللهِ مَشمولٌ بهذا الأمْرِ، ولكنْ مُحاكاةُ لَفظِ القرآنِ أَولى وأجمَعُ، بأنْ يَقولَ: سُبحانَ اللهِ [444] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/182)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/328). .
- والباءُ الدَّاخلةُ على بِاسْمِ قيل: زائدةٌ لتَوكيدِ اللُّصوقِ، أي: اتِّصالِ الفِعلِ بمَفعولِه؛ وذلك لوُقوعِ الأمْرِ بالتَّسبيحِ عَقِبَ ذِكرِ عدَّةِ أُمورٍ تَقْتضيهِ، حسبَما دلَّت عليه فاءُ التَّرتيبِ، فكان حَقيقًا بالتَّقويةِ والحثِّ عليه، وهذا بخِلافِ قولِه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] ؛ لوُقوعِه في صَدْرِ جُملتِه؛ كقولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وقيل: مُتعلِّقةٌ بمحذوفٍ، أي: فسَبِّحْ مُتلَبِّسًا باسْمِ ربِّكَ، أو للمُصاحَبةِ، يعني: سبِّحِ اللهَ تسبيحًا مَصحوبًا باسمِه [445] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/195)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/328)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/538)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 355). قال الشنقيطي: (وزيادةُ حرفِ الباءِ للتَّوكيدِ قبْلَ مفعولِ الفعلِ المتعدِّي بنفْسِه، كثيرةٌ في القرآنِ، وفي كلامِ العربِ). ((أضواء البيان)) (3/399). .