موسوعة التفسير

سورةُ الأنْبياءِ
الآيات (62-70)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ

غريب الكلمات:

نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ: أي: رجَعوا عن الاعترافِ بالحقِّ إلى الباطلِ، وعادوا إلى جهلِهم وعِنادِهم، يُقال: نُكِس المريضُ: إِذا خرَج عن مَرضِه، ثمَّ عاد إِلى مثلِه، وأصلُ (نكس): يدُلُّ على قَلْبِ الشَّيءِ [644] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 287)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 475)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/477)،)) البسيط)) للواحدي (15/116)، ((المفردات)) للراغب (ص: 824)، ((تفسير ابن جزي)) (2/25)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 916)، ((تفسير الشوكاني)) (3/489). .
أُفٍّ: هو اسمُ فِعلٍ يُنبئُ عن التضَجُّرِ والاستِثقالِ، أو: صوتٌ يُنبئُ عن ذلك، والأُفُّ: الرَّديءُ مِن الكلامِ، وكلُّ ما غَلُظ منه وقَبُح، وأصلُ (أفف): يَدلُّ على تَكَرُّهِ الشَّيءِ [645] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/545)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/16)،  ((البسيط)) للواحدي (13/305)، ((المفردات)) للراغب (ص: 79)، ((تفسير الشوكاني)) (3/260). .

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: جيءَ بإبراهيمَ عليه السَّلامُ، وسألَه قومُه مُنكِرينَ عليه: أأنت الذي كسَّرْتَ آلهتَنا يا إبراهيمُ؟ فقال: بل الذي كسَّرها هذا الصَّنَمُ الكبيرُ، فاسألوا آلهَتَكم عن ذلك إن كانت تتكَلَّمُ! فرَجَعوا إلى أنفُسِهم، فقال بعضُهم لِبَعضٍ: إنَّكم أنتم الظَّالِمونَ. ثمَّ عادوا إلى جهلِهم وعِنادِهم فانقَلَبوا إلى الباطِلِ والانتصارِ لأصنامِهم، فقالوا: كيف نسألُها، وقد عَلِمْتَ أنَّها لا تَنطِقُ؟
قال إبراهيمُ مُوَبِّخًا لِقَومِه محقِّرًا لشأنِ الأصنامِ: كيف تَعبُدونَ أصنامًا لا تنفَعُ عابِديها ولا تَضُرُّهم؟! قُبحًا لكم ولآلهَتِكم التي تَعبُدونَها مِن دونِ اللهِ تعالى، أفلا تَعقِلونَ فتُدرِكونَ سُوءَ ما أنتم عليه؟ فقالوا: حَرِّقوا إبراهيمَ بالنَّارِ؛ غضَبًا لآلهتِكم إن كنتُم ناصرينَ لها. فأشْعَلوا نارًا عظيمةً وألقَوه فيها، فقال الله تعالى للنَّارِ: كوني بَردًا وسَلامًا على إبراهيمَ. فلم يَنَلْه فيها أذًى، ولم يُصِبْه مكروهٌ. وأراد القَومُ بإبراهيمَ كيدًا فأبطل اللهُ كَيدَهم، وجعَلَهم المغلوبينَ الأسفَلينَ.

تفسير الآيات:

قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62).
أي: فلمَّا أُحضِرَ إبراهيمُ قال له قَومُه: أأنت الذي حطَّمتَ أصنامَنا التي نَعبُدُها يا إبراهيمُ [646] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/300)، ((تفسير ابن عطية)) (4/87)، ((تفسير السعدي)) (ص: 526). ؟
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63).
أي: قال إبراهيمُ لِقَومِه [647] قال السعدي: (وهذا الكلامُ مِن إبراهيمَ المَقصِدُ منه إلزامُ الخَصمِ وإقامةُ الحُجَّةِ عليه؛ ولهذا قال: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ وأراد الأصنامَ المكَسَّرةَ اسألُوها لمَ كُسِّرَت؟ والصَّنَمَ الذي لم يُكسَّرْ، اسألُوه: لأيِّ شَيءٍ كَسَّرَها؟). ((تفسير السعدي)) (ص: 526). وقال ابنُ الجوزي: (اختلف العُلَماءُ في وجهِ هذا القولِ مِن إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ على قولينِ: أحدهما: أنَّه وإن كان في صورةِ الكَذِبِ إلَّا أنَّ المرادَ به التَّنبيهُ على أنَّ مَن لا قُدرةَ له لا يَصلُحُ أن يكونَ إلهًا...، ومِثلُ هذا لا تُسَمِّيه العَرَبُ كَذِبًا. والثاني: أنَّه من معاريضِ الكلامِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/195). : بل الذي فعَل ذلك هذا الصَّنمُ الكبيرُ، فاسألوا الأصنامَ المكَسَّرةَ والصَّنمَ الكبيرَ الذي لم يُكَسَّرْ؛ لِيُخبِروكم بمن حطَّمَها إن كانوا يَستطيعونَ الكلامَ [648] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/300)، ((تفسير ابن كثير)) (5/349)، ((تفسير السعدي)) (ص: 526)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/101). !
عن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لم يَكذِبْ إبراهيمُ النبيُّ عليه السَّلامُ قَطُّ إلَّا ثَلاثَ كَذِباتٍ [649] قال ابن تيميَّة: (الكَذِبُ على الشَّخصِ حرامٌ كُلُّه، سواءٌ كان الرجلُ مُسلِمًا أو كافرًا، برًّا أو فاجرًا ... ولكنْ تُباح عند الحاجةِ الشَّرعيةِ المعاريضُ، وقد تُسمَّى كَذِبًا؛ لأنَّ الكلامَ يعني به المتكَلِّمُ معنًى، وذلك المعنى يريدُ أن يفهمَه المُخاطَب، فإذا لم يكنْ على ما يَعنيه فهو الكَذِبُ المحضُ، وإن كان على ما يعنيه ولكِنْ ليس على ما يفهَمُه المخاطَبُ، فهذه المعاريضُ، وهي كَذِبٌ باعتبارِ الإفهامِ، وإن لم تكنْ كَذِبًا باعتبار الغايةِ السَّائغةِ، ومنه قولُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم: «لم يَكذِبْ إبراهيمُ إلَّا ثلاثَ كَذِباتٍ كُلُّهنَّ في ذاتِ الله...» وهذه الثلاثةُ مَعاريضُ). ((مجموع الفتاوى)) (28/223). وقال ابنُ القيم: (الكلامُ له نِسبتانِ: نِسبةٌ إلى المتكَلِّم وقَصدِه وإرادتِه، ونِسبةٌ إلى السَّامعِ وإفهامِ المتكَلِّم إيَّاه مَضمونَه؛ فإذا أخبَرَ المتكَلِّمُ بخبرٍ مُطابقٍ للواقعِ، وقَصَد إفهامَ المخاطَبِ؛ فهو صِدقٌ مِن الجِهَتينِ، وإن قَصَد خلافَ الواقِعِ، وقَصَد مع ذلك إفهامَ المخاطَبِ خِلافَ ما قَصَد، بل معنًى ثالثًا لا هو الواقِعُ ولا هو المرادُ؛ فهو كَذِبٌ مِن الجِهَتينِ بالنِّسبتَينِ معًا، وإن قَصَد معنًى مطابِقًا صَحيحًا، وقَصَد مع ذلك التَّعميةَ على المخاطَبِ، وإفهامَه خِلافَ ما قَصَده؛ فهو صِدقٌ بالنِّسبةِ إلى قَصْدِه، كَذِبٌ بالنِّسبةِ إلى إفهامِه، ومن هذا البابِ التَّوريةُ والمعاريضُ، وبهذا أَطلَقَ عليها إبراهيمُ الخَليلُ عليه السَّلامُ اسمَ الكَذِبِ، مع أنَّه الصَّادِقُ في خبَرِه، ولم يُخبِرْ إلَّا صِدقًا؛ فتأمَّلْ هذا الموضِعَ الذي أَشكَلَ على النَّاسِ). ((مفتاح دار السعادة)) (2/36). : ثِنتينِ في ذاتِ اللهِ؛ قَولُه: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] ، وقولُه: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء: 63] ، وواحِدةً في شأنِ سارةَ...)) الحديثَ [650] رواه البخاري (3358)، ومسلم (2371) واللفظ له. .
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64).
أي: فرَجَعوا إلى أنفسِهم [651] قال ابن جزي: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ أي: رجَعوا إليها بالفكرةِ والنظرِ، أو رجَعوا إليها بالملامةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/25). وقال الشوكاني: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ أي: رَجَع بعضُهم إلى بعضٍ رجوعَ المنقطِعِ عن حُجَّتِه، المُتفطِّنِ لصحَّةِ حُجَّةِ خَصمِه المراجِعِ لعقلِه). ((تفسير الشوكاني)) (3/489). ، فقال بعضُهم لِبَعضٍ: إنَّكم أنتم الظَّالِمونَ [652] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/389)، ((تفسير البغوي)) (3/293)، ((تفسير النسفي)) (2/411)، ((تفسير الشوكاني)) (3/489)، ((تفسير السعدي)) (ص: 526). قيل المعنى: إنَّكم أنتم الظالمونَ بعبادتِكم من لا ينطِقُ، ولا يدفَعُ عن نفسِه شيئًا. وممن ذهب إلى هذا المعنى في الجملة: السمعاني، والبغوي، والنسفي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/389)، ((تفسير البغوي)) (3/293)، ((تفسير النسفي)) (2/411)، ((تفسير الشوكاني)) (3/489)، ((تفسير السعدي)) (ص: 526). قال الرسعني: (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ أي: الواضِعونَ العِبادةَ في غيرِ مَوضِعِها؛ حيث عبدتُم جَمادًا لا يَعقِلُ، ولا يَنفَعُ ولا يَدفَعُ. وهذا قَولُ ابنِ عبَّاسٍ وعامَّةِ المفَسِّرينَ). ((تفسير الرسعني)) (4/635). وقيل المعنى: فرجعوا إلى أنفُسِهم بالملامةِ في عَدَمِ احترازِهم وحراستِهم لآلهتِهم، فقالوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ أي: في تركِكم لها مهملةً لا حافظَ عندَها. قال بذلك: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/350). وممن ذهَب إلى هذا القولِ مِن السلفِ: وهبُ بنُ مُنبِّهٍ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/199). وممن جمَع بينَ المعنيينِ السابقينِ: البقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/441). وقيل المعنى: رجعوا إلى فِكرِهم وعقولِهم فقالوا: إنَّكم تظلِمونَ إبراهيمَ بسُؤالِكم إيَّاه عمَّن كسَّر الأصنامَ، وهذه الأصنامُ حاضرةٌ فلْنَسألْها هي عمَّن كسَّرها. وممَّن قال بهذا المعنى: ابن جرير، والواحدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/301)، ((البسيط)) للواحدي (15/114)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/103). .
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65).
أي: ثم عادُوا إِلَى جهلِهم وعِنادِهم، ورَجَعوا عن الاعترافِ بالحقِّ إلى الباطلِ، وإلى المكابرةِ والانتصارِ للأصنامِ، فقالوا: أنت تعلمُ أَنَّ هؤلاءِ الأصنامَ لا تنطِقُ، فكيف تأمرُنا بسؤالِهم، ما تريدُ إِلَّا التَّنَصُّلَ مِن جَريمَتِك [653] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/302)، ((تفسير ابن جزي)) (2/25)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/442)، ((تفسير الشوكاني)) (3/489)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/104). ممن قال: إنَّ معنى ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ أي: ثمَّ غُلِبوا في الحُجَّةِ، فاحتَجُّوا على إبراهيمَ بما هو حُجَّةٌ له عليهم، وقالوا: كيف تأمُرُنا أن نسألهَا وأنت تعلَمُ أنَّها لا تَنطِقُ؟! وهذا اختيارُ ابنِ جريرٍ، ومكي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/302، 303)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (7/4772). ونحوُ القولِ السابقِ قولُ مَن قال: إنَّ المرادَ: انقلبوا إلى المجادلةِ بعدَ ما استقاموا بالمراجعةِ، فشبَّه عودَهم إلى الباطلِ بصيرورةِ أسفلِ الشيءِ أعلاه. وممن اختار هذا القولَ: البيضاويُّ، وابن جزي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/55)، ((تفسير ابن جزي)) (2/25)، ((تفسير أبي السعود)) (6/75). وقيل: المعنى: أدركَتْهم حَيرةُ سُوءٍ، فأطرقوا برُؤوسِهم في الأرضِ. وممن قال بذلك المعنى في الجملة: الثعلبي، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (6/280)، ((تفسير ابن كثير)) (5/350).  وممن قال مِن السلفِ أنَّ المعنى أنَّه أدركَتْهم حيرةٌ: قتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/302)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/199). !
 قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ظَهَرت الحُجَّةُ عليهم، أخَذَ يُقَرِّعُهم ويوَبِّخُهم بعبادةِ ما لا ينفَعُ ولا يَضُرُّ، ثمَّ أبدى لهم التضَجُّرَ منهم ومِن مَعبوداتِهم [654]  يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/449). .
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66).
أي: قال إبراهيمُ مُوَبِّخًا لِقَومِه ومُنكِرًا عليهم: أفتَعبُدونَ أصنامًا لا تنفَعُكم شيئًا فتَرجونَها، ولا تَضُرُّكم شيئًا فتَخشَونَها؟ وقد عَلِمتُم أنَّها لم تمنَعْ نَفسَها مِمَّن أرادها بسوءٍ، ولا تقدِرُ أن تنطِقَ إن سُئِلَت عمَّن يأتيها بسوءٍ فتُخبِرَ به، فلمَ تَعبُدونَ ما كان هكذا [655] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/303)، ((تفسير ابن كثير)) (5/350)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/442، 443)، ((تفسير السعدي)) (ص: 527). قال السمعاني: (معناه: لا ينفعُكم إن عبدتموه، ولا يضرُّكم إن تركتُم عبادتَه). ((تفسير السمعاني)) (3/389). ؟!
أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67).
أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
أي: قال إبراهيمُ لِقَومِه: قُبْحًا لكم ولأصنامِكم، وما أخسَّكم أنتم وما تَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ [656] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/304)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/398)، ((تفسير السمعاني)) (3/389). قال الشوكاني: (في هذا تحقيرٌ لهم ولمعبوداتِهم). ((تفسير الشوكاني)) (3/489). !
أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
أي: أفليست لكم عُقولٌ تُدرِكونَ بها قُبحَ ما تفعَلونَ مِن عبادتِكم أصنامًا لا تنفَعُ ولا تضُرُّ، ولا تستَحِقُّ العبادةَ؛ فتَتركوا عبادتَها، وتَعبُدوا اللهَ الذي بِيَدِه النَّفعُ والضُّرُّ [657] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/304)، ((الوسيط)) للواحدي (3/243)، ((تفسير البغوي)) (3/294). ؟!
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا نَبَّه إبراهيمُ عليه السَّلامُ قَومَه على قَبيحِ مُرتَكَبِهم، وغَلَبَهم بإقامةِ الحُجَّةِ عليهم، لَاذُوا بالإيذاءِ له، والغَضَبِ لآلهتِهم، واختاروا أشَدَّ العذابِ، وهو الإحراقُ بالنَّارِ [658] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/450). .
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68).
أي: قال المُشرِكونَ: حَرِّقوا إبراهيمَ بالنَّارِ؛ انتِقامًا لأصنامِكم المحطَّمةِ إنْ كنتُم لها ناصرينَ [659] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/304)، ((تفسير البيضاوي)) (4/55)، ((تفسير السعدي)) (ص: 527). .
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69).
أي: فأوقَدوا له نارًا لِيَحرِقوه، فلمَّا ألقَوا إبراهيمَ فيها قُلْنا لها: يا نارُ، كوني بردًا وسلامًا على إبراهيمَ. فأنجاه اللهُ منها، لم يَنَلْه فيها أذًى، ولا أحسَّ بمكروهٍ [660] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/306)، ((تفسير الرازي)) (22/159)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/162، 163). .
كما قال تعالى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 24] .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قالها إبراهيمُ عليه السَّلامُ حينَ أُلقِي في النَّارِ، وقالها مُحمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم حينَ قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173] )) [661] أخرجه البخاري (4563). .
وعن أُمِّ شَريكٍ رَضِي اللَّهُ عنها: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أمَر بقتلِ الوَزَغِ [662] الوَزَغُ: جمعُ الوَزَغةِ: نوعٌ من السَّحالي الصَّغيرةِ، وهي التي يُقالُ لها: سامُّ أبرَصَ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/181)، ((معجم اللغة العربية المعاصرة)) لأحمد مختار عمر (1/190). ، وقال: كان يَنفُخُ [663] كان ينفُخُ: أي: النارَ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (5/350). على إبراهيمَ عليه السَّلامُ)) [664] أخرجه البخاري (3359). .
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70).
أي: وأراد المُشرِكونَ أن يَكيدوا بإبراهيمَ [665] قيل: المرادُ بذلك: ما سبَق مِن إلقائِهم له في النَّارِ، حيثُ عزَموا على إحراقِه. وممن قال بذلك: السعدي، وابن عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 527)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/107)، ((أضواء البيان)) (4/163). وقيل: المراد: أرادوا به مكرًا آخَرَ بعد خروجِه من النار. وممن قال بذلك: البقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (12/446). فخاب سَعيُهم، ولم يحصُلْ لهم مُرادُهم، وجعَلَهم اللهُ هم المغلوبينَ الهالكينَ [666] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/310)، ((تفسير السمعاني)) (3/392)، ((تفسير ابن كثير)) (5/353)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/107)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/163). وقال الشنقيطي: (وجعْلُه تعالى إيَّاهم الأخسرينَ، أي: الذين هم أكثَرُ خُسرانًا؛ لِبُطلانِ كَيدِهم، وسلامتِه مِن نارِهم. وقد أشار تعالى إلى ذلك أيضًا في سورة «الصافات» في قَولِه تعالى: فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ، وكونُهم الأسفلينَ واضِحٌ؛ لعُلُوِّه عليهم، وسلامتِه مِن شَرِّهم، وكونُهم الأخسرينَ؛ لأنَّهم خَسِروا الدُّنيا والآخرةَ، ذلك هو الخُسرانُ المبينُ). ((أضواء البيان)) (4/163). .
كما قال تعالى: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ [الصافات: 97، 98].

الفوائد التربوية :

إبراهيمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أُلقيَ في النَّارِ، والنَّارُ حارَّةٌ مُهلِكةٌ، فقال اللهُ لها: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فكانت بَردًا وسلامًا عليه، فلم يَهلِكْ بها، ولم تَضُرَّه، فكانت بردًا وسلامًا على إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبهذا نَعرِفُ أنَّه لا يجوزُ للإنسانِ أن يعتَمِدَ على الأسبابِ الحِسِّيَّةِ الظَّاهِرةِ، بل يعتَمِدُ على اللهِ عزَّ وجَلَّ، ويفعَلُ الأسبابَ التي أذِنَ اللهُ تعالى فيها [667] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (25/560). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى إخبارًا عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ حُجَّةٌ على الجَهميَّةِ والمُعتَزِلةِ الذين يَنفُونَ الكلامَ عن اللهِ جَلَّ وعلا، فيَصِفونَه بما وصَفَ به المُشرِكونَ آلهَتَهم، فقد قالوا لإبراهيمَ -كما حكَى الله تعالى عنهم: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ. أفيَجوزُ أن يكونَ إلهُ إبراهيمَ وآلهَتُهم بصِفةٍ واحدةٍ؛ لا يَنطِقُ ذاك ولا هؤلاء؟! أليس كان عجْزُ آلهتِهم عن الكلامِ نَقصًا فيها، وأحَدَ علاماتِ تحَقُّقِ بطلانِ الإلهيَّةِ عنها؟! فأُرَى هؤلاءِ المبتدعةَ لا يَرَونَ إلَّا أن يَصِفوه بصِفةِ المَواتِ، وهذا هو التَّعطيلُ بعَينِه، نعوذُ باللهِ منه [668] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/308). !!
2- قَولُ الله تعالى: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا أصلٌ في استِعمالِ المعاريضِ [669] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 179). ، واحتجَّ العلماءُ بمِثلِه على جوازِ التَّعريضِ للمَظلومِ، وهو أنْ يعنيَ بكلامِه ما يحتَمِلُه اللَّفظُ، وإنْ لم يفهَمْه المُخاطَبُ [670] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/223). .
3- قال الله تعالى: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا في تَجويزِ أنْ يكونَ كَبيرُهم هذا الَّذي حطَّمَهم إخطارُ دليلِ انتفاءِ تعدُّدِ الآلهةِ؛ لأنَّه أوْهَمَهم أنَّ كَبيرَهم غَضِبَ مِن مُشارَكةِ تلك الأصنامِ له في المَعْبوديَّةِ، وذلك تدرُّجٌ إلى دليلِ الوَحدانيَّةِ، فإبراهيمُ في إنكارِه أنْ يكونَ هو الفاعِلَ أراد إلْزامَهم الحُجَّةَ على انتفاءِ أُلوهيَّةِ الصَّنمِ العظيمِ، وانتفاءِ أُلوهيَّةِ الأصنامِ المُحطَّمةِ بطَريقِ الأولَى، على نِيَّةِ أنْ يَكُرَّ على ذلك كلِّه بالإبطالِ، ويُوقِنَهم بأنَّه الَّذي حطَّمَ الأصنامَ، وأنَّها لو كانت آلِهةً لَدفعَتْ عن أنفُسِها، ولو كان كَبيرُهم كَبيرَ الآلهةِ لَدفَعَ عنها [671] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/101). .
4- قَولُ الله تعالى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ لَمَّا غَلَب إبراهيمُ عليه السَّلامُ قَومَه بالحُجَّةِ القاهرةِ، لم يجِدوا مَخْلَصًا إلَّا بإهلاكِه، وكذلك المُبطِلُ إذا قَرَعَت باطِلَه حُجَّةُ فَسادِه، غَضِبَ على المحِقِّ، ولم يَبقَ له مَفزَعٌ إلَّا مُناصَبتُه والتشفِّي منه، كما فعل المُشرِكونَ من قريشٍ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين عَجَزوا عن المعارَضةِ [672] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/105). ، وقد جرتِ العادةُ بأنَّ المبطلَ إذا أُفْحِم بالدليلِ لجأ إلى ما عندَه مِن القوةِ؛ ليستعملَها ضدَّ الحقِّ [673] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/162). .
5- قَولُ الله تعالى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ اختار قَومُ إبراهيمَ أن يكونَ إهلاكُه عليه السَّلامُ بالإحراقِ؛ لأنَّ النَّارَ أهوَلُ ما يُعاقَبُ به وأفظَعُه [674] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/105). ، وهي سَبَبٌ للإعدامِ المحضِ، والإتلافِ بالكُلِّيَّةِ [675] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/450). .
6- قَولُ الله تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ أمْرُ النَّارِ بأمْرِه الكَونيِّ القَدَريِّ أن تكونَ بَردًا وسَلامًا على إبراهيمَ يدُلُّ على أنَّه أنجاه مِن تلك النَّارِ؛ لأنَّ قَولَه تعالى: كُونِي بَرْدًا يدُلُّ على سلامتِه مِن حَرِّها، وقَولَه: وَسَلَامًا يدُلُّ على سَلامتِه مِن شَرِّ بَردِها الذي انقلَبَت الحرارةُ إليه، وجاء مُصَرَّحًا به في قولِه تعالَى: فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ [676] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/163). [العنكبوت: 24] .
7- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، لما كان المرادُ اختصاصَ إبراهيمَ عليه السلامُ بهذا، قيَّده به [677] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/445). . وعن أبي العاليةِ: (ولو لم يقُلْ: عَلَى إِبْرَاهِيمَ لكان بردُها باقيًا إلى الأبدِ) [678]  يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/304). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ
- قولُه: قَالُوا استئنافٌ مَبْنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ مِن حِكايةِ قولِهم؛ كأنَّه قيلَ: فمَاذا فَعلُوا به عليهِ السَّلامُ بعدَ ذلكَ، هل أتَوا بهِ أو لا؟ فقيلَ: أتَوا به، ثمَّ قالوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، اقتصارًا على حِكايةِ مُخاطبَتِهم إيَّاهُ عليه السَّلامُ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ إتيانَهم به، ومُسارعتَهم إلى ذلك أمْرٌ مُحقَّقٌ، غَنِيٌّ عن البَيانِ [679] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/448)، ((تفسير أبي السعود)) (6/74)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/100). .
- والاستفهامُ في قولِهم: أَأَنْتَ فَعَلْتَ استفهامُ تقريرٍ، أي: فما الذي جرَّأك، وما الذي أوجَبَ لك الإقدامَ على هذا الأمرِ [680] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 526). ؟
- وقيل: في الآية فَنٌّ طريفٌ يُسمَّى تَجاهُلَ العارِفِ، فهي مِن التَّجاهُلِ المُوجَبِ الجاري مَجرَى التَّقريرِ [681] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/336). .
2- قولُه: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ هذا من مَعاريضِ الكلامِ الحَسنةِ، والقولُ فيه أنَّ قَصْدَ إبراهيمَ صَلواتُ اللهِ عليه لم يكُنْ إلى أنْ يَنسِبَ الفِعْلَ الصَّادِرَ عنه إلى الصَّنمِ، وإنَّما قصَدَ تَقريرَهُ لنفْسِه، وإثْباتَه لها على أُسلوبٍ تَعريضيٍّ، يَبلُغُ فيه غرَضَه مِن إلْزامِهم الحُجَّةَ وتَبكيتِهم؛ استهزاءً بهم، وإثباتًا للقادِرِ. أو أنَّ الأصنامَ غاظَتْه حين أبصَرَها مُصْطفَّةً مُرتَّبةً، وكان غَيظُ كَبيرِها أكبَرَ وأشدَّ؛ لِمَا رأى مِن زِيادةِ تَعظيمِهم له، فأسنَدَ الفِعْلَ إليه؛ لأنَّه هو الَّذي تَسبَّبَ لاستهانتِه بها، وحَطمِه لها، والفِعْلُ كما يُسنَدُ إلى مُباشِرِه يُسنَدُ إلى الحامِلِ عليه. ويجوزُ أنْ يكونَ حِكايةً لِمَا يَقودُ إلى تَجويزِه مَذْهبَهم، كأنَّه قال لهم: ما تُنكِرون أنْ يفعَلَهُ كبيرُهم؛ فإنَّ مِن حَقِّ مَن يُعبَدُ ويُدْعى إلهًا أنْ يَقدِرَ على هذا وأشدَّ منه [682] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/124)، ((تفسير البيضاوي)) (4/55)، ((تفسير أبي حيان)) (7/448)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 375). .
- وقيل: (بل) في بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ تَقْتضي نَفْيَ ما دَلَّ على كَلامِهم مِن استفهامِه، وقولُه: فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا الخبرُ مُسْتعمَلٌ في معنى التَّشكيكِ، أي: لعلَّه فعَلَه كَبيرُهم؛ إذ لم يَقصِدْ إبراهيمُ نِسْبةَ التَّحطيمِ إلى الصَّنمِ الأكبرِ؛ لأنَّه لم يَدَّعِ أنَّه شاهَدَ ذلك، ولكنَّه جاء بكلامٍ يُفِيدُ ظَنَّه بذلك، حيث لم يَبْقَ صَحيحًا مِن الأصنامِ إلَّا الكبيرُ [683] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/100، 101). .
- قولُه: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ تَعريضٌ؛ أراد عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يُبيِّنَ لهم أنَّ مَن لا يَتكلَّمُ ولا يَعلَمُ ليس بمُستحِقٍّ للعِبادةِ، ولا يَصِحُّ في العَقْلِ أنْ يُطلَقَ عليه أنَّه إلَهٌ، فأخرَجَ الكلامَ مُخرَجَ التَّعريضِ لهم بما يُوقِعُهم في الاعترافِ بأنَّ الجَماداتِ الَّتي عبَدُوها ليست بآلهةٍ؛ لأنَّهم إذا قالوا: لا يَنطِقون، قال لهم: فكيف تَعبُدون مَن يَعجِزُ عن النُّطقِ، ويَقصُرُ عن أنْ يَعلَمَ بما يقَعُ عنده في المكانِ الَّذي هو فيه؟! فهذا الكلامُ مِن فَرْضِ الباطلِ مع الخَصمِ حتَّى تَلْزمَه الحُجَّةُ، ويَعترِفَ بالحقِّ؛ فإنَّ ذلك أقطَعُ لشُبهتِه، وأدفَعُ لمكابرتِه [684] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/101)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/336). .
- ولم يقُلْ عليه السَّلامُ: (إنْ كانوا يَسْمعون)، أو (يَعقِلون)، مع أنَّ السُّؤالَ مَوقوفٌ على السَّمعِ والعقْلِ أيضًا؛ لأنَّ نَتيجةَ السُّؤالِ هو الجوابُ، وعدَمَ نُطْقِهم أظهَرُ، وتَبكيتَهم بذلك أدخَلُ [685] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/75). .
3- قوله تعالى: فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ
- جُملةُ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ مُفيدةٌ للحصرِ، أي: أنتم ظالِمونَ لا إبراهيمُ [686] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/103). .
4- قولُه تعالى: ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ تَمثيلٌ لِتَغيُّرِ رأْيِهم عن الصَّوابِ، كما قالوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ إلى مُعاودَةِ الضَّلالِ بهَيئةِ مَن تغيَّرَت أحوالُهم من الانتصابِ على الأرجُلِ إلى الانتصابِ على الرُّؤوسِ مَنكوسينَ؛ فهو مِن تَمثيلِ المعقولِ بالمحسوسِ، والمقصودُ به التَّشنيعُ، وحَرْفُ (على) للاستعلاءِ، أي: عَلَتْ أجسادُهم فوقَ رُؤوسِهم. ويحتمِلُ أنْ يكونَ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ كِنايةً عن تَطَأْطُؤِ رُؤوسِهم وتَنكيسِها إلى الأرضِ على سَبيلِ الخجَلِ والانكسارِ [687] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/125)، ((تفسير البيضاوي)) (4/55)، ((تفسير أبي حيان)) (7/449)، ((تفسير أبي السعود)) (6/75)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/103، 104). لكن قال الشوكاني: (وهو ضعيفٌ، لأنَّه لم يَقُلْ: نكَسوا رؤوسَهم بفتحِ الكافِ، وإسنادِ الفعلِ إليهم، حتَّى يَصِحَّ هذا التفسيرُ). ((تفسير الشوكاني)) (3/489). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (15/118). .
- قولُه: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ جَوابُ قسَمٍ مَحذوفٍ، معمولٌ لقولٍ مَحذوفٍ في مَوضعِ الحالِ، أي: قائلينَ: لقد علِمْتَ ما هؤلاء يَنطِقون [688] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/449)، ((تفسير أبي السعود)) (6/75)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/104). .
- جُملةُ: مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ تُفِيدُ تَقوِّي الاتِّصافِ بانعدامِ النُّطقِ، وذلك بسبَبِ انعدامِ آلَتِهِ، وهي الألْسُنُ [689] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/104). .
5- قولُه تعالى: قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ فيه تَبكيتٌ لهم [690] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/76). . والهمزةُ في قولِه: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ للاستفهامِ الإنكاريِّ [691] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/55)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/104)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/335). .
6- قوله تعالى: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
- التَّنوينُ في أُفٍّ يُسمَّى تَنوينَ التَّنكيرِ، والمُرادُ به التَّعظيمُ [692] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/104). .
- وقولُه: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فيه إظهارُ الاسمِ الجليلِ في مَوضِعِ الإضمارِ؛ لمَزيدِ استقباحِ ما فَعَلوا [693] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/76)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/105). .
- وقولُه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ استفهامُ تَوبيخٍ وإنكارٍ [694] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/450)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/105). .
7- قوله تعالى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ
- قولُه: حَرِّقُوهُ التَّحريقُ مُبالَغةٌ في الحَرْقِ، أي: حَرْقًا مُتلِفًا. وأسنَدَ قولَ الأمْرِ بإحراقِه إلى جَميعِهم؛ لأنَّهم قَبِلوا هذا القولَ [695] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/105). .
- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ فيه: تَحريضٌ وتَلهيبٌ لِحَميَّتِهم [696] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/106). .
8- قوله تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ
- جاءت جُملةُ: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ مَفصولةً عمَّا قبْلَها؛ إمَّا لأنَّها وقعَتْ كالجوابِ عن قولِهم: حَرِّقُوهُ، فأشبَهَتْ جُمَلَ المُحاوَرةِ، وإمَّا لأنَّها استئنافٌ عن سُؤالٍ يَنشَأُ عن قِصَّةِ التَّآمُرِ على الإحراقِ، وبذلك يَتعيَّنُ تَقديرُ جُملةٍ أُخرى، أي: فألْقَوه في النَّارِ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [697] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/106). .
- قولُه: بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ذِكْرُ (سَلَامًا) بعْدَ ذِكْرِ البرْدِ كالاحتراسِ؛ لأنَّ البرْدَ مُؤْذٍ بدوامِهِ ربَّما إذا اشتَدَّ، فعَقَّبَ ذِكْرَه بذِكْرِ السَّلامِ لذلك. وإنَّما ذكَرَ بَرْدًا، ثمَّ أتبَعَ بـ (سَلَامًا) ولم يَقتصِرْ على بَرْدًا؛ لإظهارِ عَجيبِ صُنْعِ القُدرةِ؛ إذ صيَّرَ النَّارَ بَرْدًا [698] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/106). .
- وقولُه: عَلَى إِبْرَاهِيمَ فيه وضْعُ المُظهَرِ مَوضِعَ المُضمَرِ، حيث لم يقُلْ: (عليه)؛ كَرامةً لهذا المُسمَّى [699] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/378). .
9- قوله تعالى: وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ
- قولُه: وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا ... تَذييلٌ لِمَا سبَقَهُ [700] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/378). .
- وتَعريفُ جُزأيِ الجُملةِ في قولِه: فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ يُفِيدُ القصْرَ، وهو قَصْرٌ للمُبالَغةِ؛ كأنَّ خَسارتَهم لا تُدانِيها خَسارةٌ، وكأنَّهم انفَرَدوا بوَصْفِ الأخسرينَ؛ فلا يصدُقُ هذا الوصْفُ على غَيرِهم [701] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/107). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ، وقال في سُورةِ (الصَّافاتِ): فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ [الصافات: 98] ، فجاء في مَوضِعٍ: الْأَخْسَرِينَ، وفي مَوضِعٍ: الْأَسْفَلِينَ؛ ووجْهُه: أنَّ في سُورةِ (الأنبياءِ) أخبَرَ فيها اللهُ تعالى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ أنَّه قال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ [الأنبياء: 57] ، ثمَّ أخبَرَ عنِ الكُفَّارِ لَمَّا ألْقَوهُ في النَّارِ وأرادوا به كَيدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ، والكيدُ: سَعْيٌ في مَضرَّةٍ لِتُوردَ على غَفلةٍ، فذكَرَ مُكايدةً بينهم وبينَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فكادَهُم ولم يَكِيدُوه، فخسِرَتْ تجارَتُهم، وعادت عليهم مُكايدَتُهم؛ لأنَّه كسَرَ أصنامَهم، ولم يَبْلُغوا مِن إحْراقِه مُرادَهم، فذَكَر الْأَخْسَرِينَ؛ لأنَّهم خَسِروا فيما عامَلَهم به وعامَلوهُ مِن المُكايَدةِ الَّتي أُضِيفَت إليهما. وأمَّا الآيةُ الَّتي في سُورةِ (الصَّافاتِ): فإنَّ اللهَ تعالى أخبَرَ عن الكُفَّارِ فيها بما اقْتَضى مِن الْأَسْفَلِينَ؛ وهو أنَّه قال: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: 97] ، فبَنَوا له بِناءً عاليًا، ورَفَعوهُ فوقَه ليَرْمُوا به مِن هناك إلى النَّارِ الَّتي أجَّجُوها، فلمَّا عَلَّوا ذلك البِناءَ وحَطُّوه منه إلى أسفَلَ، عادوا هم الأسفلينَ؛ لأنَّهم أُهْلِكوا في الدُّنيا، وسَفُلَ أمْرُهم في الأُخرى، واللهُ تعالى نجَّى نَبِيَّه عليه السَّلامُ، وأعلاهُ عليهم؛ فلذلك اخْتُصَّتْ هذه الآيةُ بقولِه: فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ [702] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 905، 906)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 178، 179)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/350)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/320)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 376). [الصافات: 98] .
وفيه وجْهٌ آخَرُ: أنَّ اللهَ تعالَى قد جعَلَ في الخُسرانِ المُبينِ مَن خَسِرَ الدُّنيا والآخرةَ، وأعْلَمَنا تعالى أنَّ الأخسرينَ لا يُقامُ لهم وَزْنٌ في القيامةِ؛ فلا أَدْوَنَ حالًا مِن هؤلاء. ولمَّا أراد قومُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ به الكيدَ، ألْحَقَهم تعالى بهؤلاءِ عُقوبةً تُوافِقُ مُرتكَبَهم وسُوءَ انتحالِهم، والأخسرونَ هم الأسفلونَ، وهذا كان مَطلَبَ الكافرِ في الآخرةِ وتَمنِّيه لو بلَغَهُ إلْحاقَ مَن أضَلَّهُ مِن الجنِّ والإنسِ بهذا النَّمطِ؛ فالصِّفتانِ مِن الخُسرانِ والسَّفالةِ غايةُ حالةِ الكافرِ، ومَن كان مِن الأسفلينَ فقد خسِرَ خُسرانًا مُبِينًا، فلا تضادَّ بين الصِّفتينِ سِوى أنَّ السُّفولَ لَاحِقٌ في ذاتِ المُسفلِ، والخُسرانَ حقيقةٌ في خارِجٍ عنه، فالسُّفولُ أبلَغُ، فَقُدَّمَ ما هو لاحِقٌ خارجيٌّ، وأُخِّرَ ما لا يَتعدَّى ذاتَ المُتَّصفِ تَكمِلةً وتَتمَّةً؛ إذ هو أبلَغُ على ما يجِبُ وعلى ما قدَّمنا مِن رَعْيِ التَّرتيبِ، والتَّسفُّلُ (ضِدُّ) التَّعالي؛ فورَدَ كلٌّ على ما يجِبُ ويُناسِبُ [703] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/349،350). .