موسوعة التفسير

سورةُ العَنكَبوتِ
الآيات (24-27)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ

المعنى الإجماليُّ:

يَقُصُّ الله سبحانَه ما قاله قومُ إبراهيمَ له، وما ردَّ به عليهم، وما أنعَم به عليه، فيقولُ: فما كان جوابَ قَومِ إبراهيمَ حينَ دعاهم إلى عبادةِ اللهِ وَحْدَه إلَّا أن قالوا: اقتُلوا إبراهيمَ أو حرِّقوه بالنَّارِ، فأنجاه اللهُ مِنَ النَّارِ بقُدرتِه، إنَّ في ذلك لَدَلالاتٍ للمُؤمِنينَ على قُدرةِ اللهِ تعالى.
وقال إبراهيمُ لِقَومِه: إنَّما اتَّخَذْتُم أَوْثانًا تَعبدونَها مِن دونِ اللهِ؛ لِمَحبَّتِكم ومَوَدَّتِكم الدُّنيويَّةِ، ففي يوم القيامةِ يَتبَرَّأُ كلٌّ منكم مِن الآخَرِ ويَلعَنُه، ويَنقَطِعُ ما كان بيْنَكم في الدُّنيا مِنَ المَوَدَّةِ، ومصيرُكم النَّارُ، وليس لكم أنصارٌ يَنصُرونَكم مِن عذابِ اللهِ.
فصدَّق لُوطٌ إبراهيمَ فيما جاء به مِن الحَقِّ، وانقاد له. وقال إبراهيمُ: إنِّي مهاجِرٌ إلى ربِّي، تاركًا أرضَ قَومي المشركينَ إلى أرضٍ أعبُدُ اللهَ فيها، إنَّ رَبِّي هو القَويُّ الغالِبُ الحَكيمُ.
ورزَقْنا إبراهيمَ بعدَ هجرتِه مِن أرضِ قَومِه ولدَه إسحاقَ، وولدَ ولدِه يعقوبَ، وجعَلْنا الأنبياءَ مِن نسْلِ إبراهيمَ، وأنزَلْنا عليهم الكُتُبَ، وآتَيْنا إبراهيمَ جزاءَ عَمَلِه في الدُّنيا، وإنَّه في الدَّارِ الآخرةِ مِنَ الصَّالحينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ إبراهيمُ عليه السَّلامُ قَومَه بعبادةِ اللهِ، وبَيَّن سَفَهَهم في عبادةِ الأوثانِ، وظهَرَت حُجَّتُه عليهم؛ رجَعوا إلى الغَلَبةِ، فجعَلوا القائِمَ مَقامَ جَوابِه فيما أمَرَهم به قَولَهم:   اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ [304] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/351). .
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ.
أي: فما كان جوابَ قَومِ إبراهيمَ حينَ دعاهم إلى اللهِ وعبادتِه وَحْدَه إلَّا أنْ قالوا: اقتُلوا إبراهيمَ أو حرِّقوه بالنَّارِ؛ لِمُخالَفتِه دينَكم [305] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/381)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 831)، ((تفسير القرطبي)) (13/338)، ((تفسير السعدي)) (ص: 629). .
كما قال تعالى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء: 68] .
وقال سُبحانَه: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: 97] .
فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ.
أي: فأَلْقَوا إبراهيمَ في النَّارِ، فسلَّمه اللهُ بقُدرتِه مِن أذاها [306] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/381)، ((تفسير القرطبي)) (13/338)، ((تفسير ابن كثير)) (6/271). .
كما قال تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء: 69] .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .
أي: إنَّ في إنجائِنا لإبراهيمَ مِن النَّارِ بَعْدَما أُلقيَ فيها لَدَلالاتٍ وعَلاماتٍ على قُدرةِ اللهِ، وغيرِها، وذلك للمُؤمِنينَ باللهِ تعالى وبرُسُلِه [307] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/381)، ((البسيط)) للواحدي (17/511)، ((تفسير القرطبي)) (13/338)، ((تفسير السعدي)) (ص: 629)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/234، 235). .
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25).
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي: وقال إبراهيمُ لِقَومِه: إنَّما اتَّخَذْتُم أوثانًا تَعبُدونَها مِن دونِ اللهِ؛ اتِّباعًا مِن بَعضِكم لِبَعضٍ، وحِفظًا لِمَحبَّتِكم ومَوَدَّتِكم الدُّنيويَّةِ، فتلك مَوَدَّةٌ كائِنةٌ في حياتِكم الدُّنيا فحَسْبُ [308] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/381، 382)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 831)، ((تفسير ابن عطية)) (4/313)، ((تفسير القرطبي)) (13/339)، ((تفسير ابن كثير)) (6/271، 272)، ((تفسير السعدي)) (ص: 629)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/235). قال البِقاعي: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بالاجتِماعِ عندَها، والتَّواصُلِ في أمرِها بالتَّناصُرِ والتَّعاضُدِ، كما يتَّفِقُ ناسٌ على مذهَبٍ فيَكونُ ذلك سبَبَ تَصادُقِهم). ((نظم الدرر)) (14/423). وقال ابنُ عاشور: (يجوزُ أن تكونَ مقالتُه هذه سابقةً على إلقائِه في النَّارِ، وأن تكونَ بعدَ أن أنجاه اللهُ مِن النَّارِ، والأظهرُ مِن ترتيبِ الكلامِ أنَّها كانت بعدَ أن أنجاه اللهُ مِن النَّارِ، أراد به إعلانَ مُكابَرتِهم الحَقَّ، وإصرارِهم على عبادةِ الأوثانِ بعدَ وُضوحِ الحُجَّةِ عليهم بمعجزةِ سَلامتِه مِن حَرقِ النَّارِ). ((تفسير ابن عاشور)) (20/235). .
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
أي: ثمَّ يومَ القيامةِ يَتبرَّأُ كلٌّ منكم مِن الآخَرِ، ويَجحَدُه ويَلعَنُه، ويَنقطِعُ ما كان بيْنَكم في الدُّنيا مِنَ المَوَدَّةِ [309] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/383)، ((تفسير ابن كثير)) (6/272)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/237). .
كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 166، 167].
وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ.
أي: ومَصيرُكم النَّارُ جميعًا [310] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/383)، ((تفسير القرطبي)) (13/339)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/424)، ((تفسير السعدي)) (ص: 629). .
وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ.
أي: وليس لكم حينَ تَدخُلونَ النَّارَ أنصارٌ يُنقِذونَكم منها [311] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/383)، ((تفسير ابن كثير)) (6/272)، ((تفسير السعدي)) (ص: 629). .
كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات: 22، 26].
فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26).
فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ.
أي: فصدَّقَ لُوطٌ إبراهيمَ فيما جاء به مِن الحَقِّ، وانقادَ له [312] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/384)، ((الوسيط)) للواحدي (3/418)، ((تفسير ابن جزي)) (2/125)، ((تفسير الشوكاني)) (4/230)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 120-123). .
وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي.
أي: وقال إبراهيمُ [313] ممَّن اختار أنَّ القائلَ هو إبراهيمُ عليه السَّلامُ: ابنُ جرير، والبِقاعي، والشوكاني، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/384)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/425)، ((تفسير الشوكاني)) (4/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 629)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 123). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ جُرَيْجٍ، والضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/384). وقيل: يحتملُ عَودُ الضَّميرِ على لوطٍ عليه السَّلامُ، ويكونُ هو القائلَ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/273). : إنِّي خارِجٌ ومُنتَقِلٌ مِن أرضِ قَومي المُشرِكينَ؛ لأعبُدَ اللهَ في أرضٍ غَيرِها [314] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/384)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/425)، ((تفسير الشوكاني)) (4/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 629). قال يحيى بنُ سلام: (هاجَر مِن أرضِ العراقِ إلى أرضِ الشَّامِ). ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/626). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (17/515)، ((تفسير ابن عطية)) (4/314). .
كما قال تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 71].
إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: إنَّ رَبِّي هو القَويُّ الغالِبُ في أمرِه، الَّذي لا يَذِلُّ مَن نَصَره، بل يَمنَعُه ممَّن أرادَه بسوءٍ، الَّذي لا عِزَّةَ إلَّا به، وهو جديرٌ بإعزازِ مَنِ انقطَعَ وهاجَرَ إليه، الحَكيمُ في أقوالِه وأفعالِه وشَرعِه وتَدبيرِ خَلْقِه، فيَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به [315] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/385)، ((تفسير السمعاني)) (4/176)، ((تفسير ابن كثير)) (6/273)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/425، 426)، ((تفسير السعدي)) (ص: 629)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 126-129). .
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27).
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ.
أي: ورَزَقْنا إبراهيمَ بعدَ هِجرتِه مِن أرضِ قَومِه وَلَدَه إسحاقَ، وولدَ ولَدِه يعقوبَ بنَ إسحاقَ [316] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/386)، ((تفسير القرطبي)) (13/340)، ((تفسير ابن كثير)) (6/274)، ((تفسير السعدي)) (ص: 630). قال القرطبيُّ: (إنَّما وَهَب له إسحاقَ مِن بعدِ إسماعيلَ). ((تفسير القرطبي)) (13/340). .
كما قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا [الأنعام: 84] .
وقال سُبحانَه: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] .
وقال عزَّ وجَلَّ: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم: 49] .
وقال تبارك وتعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ [الأنبياء: 72] .
وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ.
أي: وجعَلْنا الأنبياءَ مِن نَسْلِ إبراهيمَ، وعليهم تُنَزَّلُ الكُتُبُ الإلهيَّةُ؛ فلَمْ يَبعَثِ اللهُ نبيًّا بعدَ إبراهيمَ إلَّا مِن صُلبِه، ولا نَزَّل كتابًا إلَّا على ذُرِّيَّتِه [317] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/386)، ((تفسير القرطبي)) (13/340)، ((تفسير ابن كثير)) (6/275)، ((تفسير السعدي)) (ص: 630)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/158). قال ابن عاشور: («الْكِتَابَ» مرادٌ به الجنسُ؛ فالتَّوراةُ، والإنجيلُ، والزَّبورُ، والقرآنُ: كُتُبٌ نزلَتْ في ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ). ((تفسير ابن عاشور)) (20/239). .
وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا.
أي: وآتَيْنا إبراهيمَ جَزاءَ عَمَلِه في الدُّنيا [318] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/386)، ((تفسير البيضاوي)) (4/193)، ((تفسير ابن كثير)) (6/275)، ((تفسير السعدي)) (ص: 630)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/158)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 131). قال ابنُ كثير: (جمَع اللهُ له بيْنَ سعادةِ الدُّنيا المَوصولةِ بسعادةِ الآخرةِ؛ فكان له في الدُّنيا الرِّزقُ الواسِعُ الهنيُّ، والمنزِلُ الرَّحْبُ، والمَورِدُ العَذبُ، والزَّوجةُ الحَسَنةُ الصَّالحةُ، والثَّناءُ الجميلُ، والذِّكرُ الحَسَنُ؛ فكُلُّ أحدٍ يُحِبُّه ويَتَولَّاه عليه السَّلامُ). ((تفسير ابن كثير)) (6/275). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 630). .
كما قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة: 124] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً [النحل: 120 - 122] .
وقال عز وجل: وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 50] .
وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
أي: وإنَّه في الدَّارِ الآخرةِ في عِدادِ الصَّالحينَ، وله فيها جزاؤُه الَّذي لا يَنقُصُ شَيءٌ منه بما أُعطِيَ في الدُّنيا مِنَ الثَّوابِ العاجِلِ [319] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/386)، ((تفسير السمرقندي)) (2/631)، ((تفسير ابن عطية)) (4/314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 630)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/239). قال ابن عثيمين: (المرادُ هنا أعلى أنواعِ الصَّالحينَ، وهم الأنبياءُ أو الرُّسلُ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 132). ويُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/631)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/239). .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- ما عَلَّقَ العبدُ رجاءَه وتوكُّلَه بغيرِ اللهِ إلَّا خاب مِن تلك الجهةِ، ولا استنصَرَ بغيرِه إلَّا خُذِلَ؛ قال تعالى عن إمامِ الحُنَفاءِ أنَّه قال للمُشرِكينَ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81، 82]، وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ [320] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 61). [يس: 74، 75].
2- قال الله تعالى: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ هذا شأنُ كلِّ مُشترِكينَ في غَرَضٍ؛ يَتَوادُّون ما داموا مُتساعِدينَ على حُصولِه، فإذا انقطعَ ذلك الغرضُ أعقَبَ ندامةً وحُزنًا وألَمًا، وانقلبَتْ تلك المَوَدَّةُ بُغضًا ولَعنةً وذمًّا مِن بَعضِهم لبَعضٍ لَمَّا انقلبَ ذلك الغرضُ حُزنًا وعَذابًا، كما يُشاهَدُ في هذه الدَّارِ مِن أحوالِ المُشتركينَ في خِزيِهم إذا أُخِذوا وعُوقِبوا؛ فكلُّ مُتساعِدَينِ على باطلٍ مُتَوادَّينِ عليه: لا بُدَّ أن تَنقَلِبَ مَوَدَّتُهما بُغضًا وعَداوةً [321] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/453). .
3- قَولُ الله تعالى: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ يَدخُلُ فيه كُلُّ مَن وافَق أصحابَه مِن أهلِ المعاصي أو البَطالةِ على الرَّذائِلِ؛ لِيَعدُّوه حَسَنَ العِشرةِ، مُهَذَّبَ الأخلاقِ، لَطيفَ الذَّاتِ، أو خَوفًا مِن أن يَصِفوه بكثافةِ الطَّبعِ، وسُوءِ الصُّحبةِ، ولقد عَمَّ هذا -لَعَمْري- أهلَ الزَّمانِ؛ لِيُوصَفوا بمُوافاةِ الإخوانِ، ومُصافاةِ الخِلَّانِ، مُعرِضينَ عن رِضا المَلِكِ الدَّيَّانِ [322] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/424). !
4- قَولُ الله تعالى: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا لَمَّا كان في قولِه: مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ شائبةُ ثُبوتِ مَنفعةٍ لهم في عِبادةِ الأوثانِ؛ إذ يَكتسِبون بذلك مَوَدَّةَ بيْنِهم تَلَذُّ لنُفوسِهم- قرَنَه بقولِه: فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ؛ تَنبيهًا لسُوءِ عاقبةِ هذه المَوَدَّةِ، وإزالةً للغُرورِ والغَفلةِ؛ ليَعلَموا أنَّ اللَّذَّاتِ العاجلةَ لا عِبرةَ بها إنْ كانت تُعقِبُ نَدامةً آجِلةً [323] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/237). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال اللهُ تعالى: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هذا دالٌّ على أنَّ جَمْعَ الفُسوقِ لأهلِ الدُّنيا هو العادةُ المستَمِرَّةُ، وأنَّ الحُبَّ في اللهِ والاجتِماعَ له عزيزٌ جدًّا؛ لِما فيه مِن قَطعِ علائِقِ الدُّنيا وشَهَواتِها الَّتي زُيِّنَت للنَّاسِ بما فيها مِن الإلباسِ، وعَظيمِ البأسِ [324] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/423). .
2- قَولُ الله تعالى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ فيه سؤالٌ: كيف سمَّى قَولَهم اقْتُلُوهُ جَوابًا، مع أنَّه ليس بجوابٍ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّه خرَج منهم مخرجَ كلامِ المتكبِّرِ، كما يقولُ الملِكُ لرَسولِ خَصمِه: (جوابُكم السَّيفُ)، مع أنَّ السَّيفَ ليس بجوابٍ، وإنَّما معناه: لا أقابِلُه بالجوابِ، وإنَّما أقابِلُه بالسَّيفِ، فكذلك قالوا: لا تُجيبوا عن بَراهينِه، واقتُلوه أو حَرِّقوه.
الوجهُ الثاني: أنَّ الله أراد بيانَ ضَلالِهم، وهو أنَّهم ذَكَروا في مَعرِضِ الجوابِ هذا، مع أنَّه ليس بجوابٍ؛ فتبيَّنَ أنَّهم لم يكُنْ لهم جوابٌ أصلًا؛ وذلك لأنَّ مَن لا يُجيبُ غَيرَه ويَسكُتُ، لا يُعلَمُ أنَّه لا يَقدِرُ على الجوابِ؛ لجوازِ أن يكونَ سُكوتُه لِعَدَمِ الالتِفاتِ، أمَّا إذا أجاب بجوابٍ فاسدٍ عُلِمَ أنَّه قصَدَ الجوابَ وما قدَرَ عليه [325] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/44). .
3- في قَولِه تعالى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ حُجَّةٌ في جوازِ تَركِ الخَبرِ قبْلَ إتمامِه، والأخْذِ في غَيرِه ثُمَّ الرُّجوعِ إليه، ولا يكونُ ذلك عَيبًا على قائلِه، ولا حَطًّا مِن فصاحَتِه؛ ألَا ترى أنَّه جلَّ جلالُه ابتَدأَ الخبرَ عن إبراهيمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَولِه: وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ [العنكبوت: 16] ، ثُمَّ حالَ بيْنَ إتمامِه بقَولِه: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [العنكبوت: 19] ، وبقَولِه: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ [العنكبوت: 20] ، حتَّى رَجَعَ في تمامِ قِصَّةِ إبراهيمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ... [326] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/579). .
4- قال الله تعالى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ هكذا كلُّ إنسانٍ لا يستطيعُ رَدَّ الحقِّ، فإنَّه يُهَدِّدُ بالقُوَّةِ إذا كانت له قوَّةٌ على خَصْمِه [327] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 108). .
5- في قَولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أنَّ الآياتِ الكَونيَّةَ والشَّرعيَّةَ لا يَنتَفِعُ بها إلَّا المؤمِنُ، أمَّا غيرُ المؤمنِ فلا يَنتَفِعُ بآياتِ اللهِ؛ لأنَّها تَمُرُّ عليه وكأنَّها أمرٌ عاديٌّ أو بمُقتَضى الطَّبيعةِ، كالزَّلازلِ والبَراكينِ الَّتي تُصيبُ النَّاسَ فيقولُ عنها بَعضُهم: إنَّها ظواهِرُ طبيعيَّةٌ! وكأنَّها ليست عُقوبةً مِنَ اللهِ عزَّ وجَلَّ [328] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 112). .
6- قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هذا لا يُنافي ما جاء في عدَّةِ آياتٍ، كقولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل: 12] ، وقولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرعد: 3] وما أشْبَهَ ذلك؛ لأنَّ العقلَ والتَّفَكُّرَ ونحوَهما مِن مُقتضَياتِ الإيمانِ؛ فكلَّما كان الإنسانُ أقوى إيمانًا كان أكثرَ عقلًا وتَفَكُّرًا، والتَّفَكُّرُ أيضًا يدعو إلى الإيمانِ؛ فهُما مُتلازِمانِ [329] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 113). .
7- قَولُ الله تعالى: وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي فيه سُؤالٌ: ما تَعلُّقُ قَولِه: وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي بما تقدَّمَ؟
الجوابُ: لَمَّا بالَغَ إبراهيمُ عليه السَّلامُ في الإرشادِ، ولم يَهتَدِ قَومُه، وحَصَل اليأسُ الكُلِّيُّ حيثُ رأى القَومُ الآيةَ الكُبرى ولم يُؤمِنوا؛ وَجَبَتِ المُهاجَرةُ؛ لأنَّ الهاديَ إذا هدى قَومَه ولم ينتَفِعوا فبَقاؤه فيهم مَفسَدةٌ؛ لأنَّه إنْ دام على الإرشادِ كان اشتِغالًا بما لا يُنتفَعُ به، مع عِلمِه، وإن سَكَت -والسُّكوتُ دَليلُ الرِّضا- فيُقالُ بأنَّه صار مِنَّا، ورَضِيَ بأفعالِنا! وإذا لم يَبقَ للإقامةِ وَجْهٌ وَجَبت المُهاجَرةُ [330] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/47). .
8- في قَولِه تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أنَّ ابنَ الابنِ ابنٌ؛ لأنَّ يعقوبَ ابنُ ابنِ إبراهيمَ، وجَعَل اللهُ عزَّ وجلَّ إسحاقَ مَوهوبًا لإبراهيمَ، ويدُلُّ لذلك قولُ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الحَسَنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ: ((إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ)) [331] أخرجه البخاري (2704). ، والعُلَماءُ أجمَعوا في بابِ الميراثِ أنَّ ابنَ الابنِ بمنزلةِ الابنِ عندَ فَقْدِه [332] قال ابنُ حزم: (وأجمَعوا على ابنِ الابنِ أنَّه يَرِثُ ميراثَ الابنِ إذا لم يَكُنِ ابنٌ). ((المحلى بالآثار)) (8/328). وقال ابنُ حَجَرٍ: (واتَّفَقوا على أنَّ ابنَ الابنِ بمَنزِلةِ الابنِ في حَجبِ الزَّوجِ عن النِّصفِ، والمرأةِ عن الرُّبُعِ، والأمِّ عن الثُّلثِ؛ كالابنِ سواءً). ((فتح الباري)) (12/20). ، وإذا كان ابنُ الابنِ ابنًا؛ لَزِمَ أنْ يكونَ أبو الأبِ أبًا [333] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 132). .
9- قَولُ الله تعالى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فيه سؤالٌ: هذه الآيةُ الكريمةُ تَدُلُّ على أنَّ النُّبوَّةَ والكِتابَ في خُصوصِ ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وقد ذُكِرَ في سورةِ (الحديدِ) ما يدُلُّ على اشتراكِ نوحٍ معه في ذلك في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد: 26] .
الجوابُ: أنَّ وجْهَ الاقتصارِ على إبراهيمَ: أنَّ جَميعَ الرُّسلِ بعْدَه مِن ذُرِّيَّتِه، وذُكِرَ نوحٌ معه لأمْرَينِ؛ أحدُهما: أنَّ كُلَّ مَن كان مِن ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ فهو مِن ذُرِّيةِ نوحٍ. والثَّاني: أنَّ بعضَ الأنبياءِ مِن ذُرِّيَّةِ نوحٍ، ولم يكُنْ مِن ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ: كهُودٍ وصالحٍ ولُوطٍ، ويونُسَ -على خلافٍ فيه-، ولا ينافي ذلك الاقتِصارَ على إبراهيمَ؛ لأنَّ المرادَ مَن كان بعدَ إبراهيمَ، لا مَن كان قَبْلَه أو في عَصرِه، كلُوطٍ عليهما وعلى نبيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ [334] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 179). . وأيضًا فإنَّ الآيةَ جِيءَ بها لسِياقِ المدحِ والثَّناءِ على الخليلِ، وقد أخبَر أنَّ لوطًا اهتدَى على يديه، ومَن اهتدَى على يديه أكمَلُ ممَّن اهتدَى مِن ذُرِّيَّتِه بالنِّسبةِ إلى فضيلةِ الهادي [335] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 630). .
10- في قَولِه تعالى: وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا أنَّ الإنسانَ قد يُعَجَّلُ له الجَزاءُ في الدُّنيا، وتَعجيلُ الجزاءِ للإنسانِ في الدُّنيا لا يُعَدُّ حِرمانًا له مِن أجرِ الآخِرةِ؛ ولهذا قال: وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، ويَنْبَني على هذه الفائِدةِ أنَّ تَعجيلَ الثَّوابِ للإنسانِ في الدُّنيا هو مِن نِعمةِ اللهِ على العَبدِ؛ لأنَّ الإنسانَ يَرى أثَرَ عَمَلِه فيَنشَطُ على العملِ، سَواءٌ كان هذا الأثرُ في الأشياءِ الخارجيَّةِ، أو كان في نَفْسِ الإنسانِ، أي: في باطِنِه [336] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 133). .
11- في قَولِه تعالى: وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أنَّه يجوزُ الوَصفُ بالمعنى الأعَمِّ دونَ الأخَصِّ؛ وجْهُ ذلك: أنَّ وَصْفَ الصَّلاحِ أعَمُّ مِن وَصْفِ النُّبوَّةِ، ويجوزُ أنْ يُوصَفَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والأنبياءُ في لَيلةِ المِعراجِ كانوا يقولونَ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَرحبًا بالأخِ الصَّالحِ، والنَّبيِّ الصَّالحِ )) [337] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 134). والحديث أخرجه البخاري (349)، ومسلم (163) من حديث أبي ذَرٍّ رضي الله عنه. .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
- قولُه: قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ كان ذلك قولَ بعضِهم، لكنْ لَمَّا قِيلَ فيهم، ورضِيَ به الباقونَ؛ أُسْنِدَ إلى كلِّهم [338] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/450)، ((تفسير البيضاوي)) (4/192). .
- وجِيءَ بصِيغةِ حَصْرِ الجوابِ في قولِهم: اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم لم يَترَدَّدوا في جَوابِه، وكانت كَلِمتُهم واحدةً في تَكذيبِه وإتلافِه، وهذا مِن تصَلُّبِهم في كُفْرِهم [339] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/234). .
- وأيضًا في قولِه: قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ جاء هنا التَّرديدُ بيْنَ قتْلِه وإحراقِه؛ فقد يكونُ ذلك مِن قائلينَ: ناسٌ أشاروا بالقتْلِ، وناسٌ أشاروا بالإحراقِ، وفي سُورةِ (الأنبياءِ) قَالُوا حَرِّقُوهُ [الأنبياء: 68] ، فاقتَصَروا على أحدِ الشَّيئينِ، وهو الَّذي فَعَلوه؛ رَمَوه في النَّارِ ولم يَقتُلوه [340] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/351). .
- قولُه: فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ فيه إيجازٌ بالحذْفِ، أي: فألقَوْهُ في النَّارِ، فأنجاهُ اللهُ تعالى منها [341] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/192)، ((تفسير أبي حيان)) (8/351)، ((تفسير أبي السعود)) (7/36). .
- قوله: فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث قال هنا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ بالجمْعِ، وقال قَبْلُ في إنجاءِ نُوحٍ وأصحابِ السَّفينةِ: (جَعَلْنَاهَا آيَةً) [العنكبوت: 15] بالمُفرَدِ؛ وذلك لأنَّ الإنجاءَ بالسَّفينةِ شَيءٌ تتَّسِعُ له العقولُ؛ فلم يكُنْ فيه مِن الآيةِ إلَّا بسَببِ إعلامِ اللهِ إيَّاهُ بالاتِّخاذِ وقْتَ الحاجةِ؛ فإنَّه لولاهُ لَمَا اتَّخَذَه؛ لِعدَمِ حُصولِ عِلْمِه بما في الغَيبِ، وبسَببِ أنَّ اللهَ صانَ السَّفينةَ عن المُهلِكاتِ؛ كالرِّياحِ العاصفةِ، وأمَّا الإنجاءُ مِن النَّارِ فعَجيبٌ، فقال فيه: (آيات) [342] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/45). . وفيه وجْهٌ آخَرُ: أنَّه جمَعَ هنا لأنَّ الإنجاءَ مِن النَّارِ، وجَعْلَها برْدًا وسلامًا، وأنَّها في الحَبْلِ الَّذي كانوا أوْثَقوه به دونَ الجِسمِ: هو مَجموعُ آياتٍ؛ فناسَبَ ذلك الجَمْعُ، بخِلافِ الإنجاءِ مِن السَّفينةِ؛ فإنَّه آيةٌ واحدةٌ [343] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/351). . وفيه وجْهٌ آخرُ: أنَّه جعَلَ الإنجاءَ آياتٍ، ولم يُجعَلْ آيةً واحدةً؛ لأنَّه آيةٌ لِكُلِّ مَن شَهِدَه مِن قَومِه، ولأنَّه يدُلُّ على قُدرةِ اللهِ، وكرامةِ رسولِه، وتَصديقِ وعْدِه، وإهانةِ عَدُوِّه، وأنَّ المخلوقاتِ كلَّها جليلَها وحَقيرَها مُسَخَّرةٌ لقُدْرةِ اللهِ تعالى [344] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/234، 235). . ومِن الآياتِ: إبطالُ كَيدِ هؤلاء. ومنها: صَبرُ إبراهيمَ وتحمُّلُه؛ لأنَّ حَقيقةَ الأمرِ أنَّ هذا شَيءٌ لا يَقوى عليه إلَّا أمثالُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ فهو مِن أُولي العَزمِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. ومنها: انقلابُ هذه الحرارةِ إلى بُرودةٍ. ومنها: انقلابُ كَونِها سببًا للهَلاكِ إلى أن كانت سَلامًا عليه [345] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 111). .
- ومِن المُناسَبةِ أيضًا قولُه هنا: فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، ثمَّ قال بَعْدُ: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [العنكبوت: 44] ، فجمَعَ الآياتِ الأُولى، ووحَّدَها في الثَّانيةِ؛ وذلك لأنَّ الأُولى إشارةٌ إلى إثباتِ النُّبوَّةِ، وفي النَّبيِّينَ -صلواتُ اللهِ عليهم- كَثرةٌ، والثَّانيَ إشارةٌ إلى التَّوحيدِ، وهو سُبحانه واحدٌ لا شريكَ له [346] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 199)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/362)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 438). . وفيه وجْهٌ آخرُ: أنَّه جمَعَ هنا وأفرَدَ (آية) في الثَّانيةِ، مع أنَّ هذه الثَّانيةَ أعظَمُ؛ وذلك لأنَّ الإشارةَ في الآيةِ الأُولى بقولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ ليست لقِصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ وإنجائِه مِن النَّارِ فقط، بل الإشارةُ لمَجموعِ مُعتبَراتٍ؛ منها لُبْثُ نوحٍ عليه السَّلامُ في قومِه ألْفَ سَنةٍ إلَّا خمسينَ عامًا يَدْعوهم إلى اللهِ ويُرِيهم الآياتِ، فما آمَنَ معه إلَّا قليلٌ، ومنها آيةُ أخْذِهم بالطُّوفانِ، وتَعميمُ الغرَقِ لجَميعِ أهْلِ الأرضِ، ومنها إنجاءُ أهلِ السَّفينةِ، وجعْلُها آيةً للعالَمينَ، ومنها ما أُحِيلوا عليه مِن الاعتبارِ بمَن قبْلَهم في قولِه: وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [العنكبوت: 18] ، ومنها دعوةُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ وعظيمُ بَيانِه، وما استجرَّ دُعاؤُه إيَّاهم مِن الآياتِ والبراهينِ على نُبوَّتِه، ومنها ما أُحِيلوا عليه آخِرَ الآياتِ في قولِه: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [العنكبوت: 19] ، فلمَّا تقدَّمَ تفصيلُ الآياتِ، ورَدَ التَّنبيهُ بالإشارةِ إلى جَميعِها، فقِيل: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ. أمَّا قولُه في الآيةِ الأُخرى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً فالإشارةُ إلى المصدرِ، وهو الخلْقُ المفهومُ مِن قوِله: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً؛ فكلٌّ مِن الآيتينِ على ما يجِبُ [347] يُنظر: ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/390). .
- ومِن المُناسَبةِ أيضًا أنَّه قال قَبْلُ: آَيَةً لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت: 15] ، وقال هاهنا: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ؛ فخصَّ الآياتِ بالمؤمنينَ؛ وذلك لأنَّ السَّفينةَ بقِيَتْ أعوامًا حتَّى مرَّ عليها النَّاسُ ورَأَوْها، فحَصَلَ العِلْمُ بها لكلِّ أحدٍ، وأمَّا تبْريدُ النَّارِ فإنَّه لم يَبْقَ، فلمْ يَظهَرْ لِمَن بَعْدَه إلَّا بطريقِ الإيمانِ به والتَّصديقِ [348] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/45). .
- وجِيءَ هنا بلفْظِ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ؛ ليَدُلَّ على أنَّ إيمانَهم مُتمكِّنٌ منهم ومِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم. وفيه تَعريضٌ بأنَّ تلك الآياتِ لم يُصدِّقْ بها قومُ إبراهيمَ؛ لشِدَّةِ مُكابَرتِهم، وكَونِ الإيمانِ لا يُخالِطُ عُقولَهم [349] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/235). .
2- قوله تعالى: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
- قولُه: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا محَطُّ القصْرِ بـ (إنَّما) هو المفعولُ لأجْلِه مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ، أي: ما اتَّخذْتُم أوثانًا إلَّا لأجْلِ مَوَدَّةِ بعضِكم بعضًا. ووجْهُ الحَصْرِ أنَّه لم تَبْقَ لهم شُبهةٌ في عِبادةِ الأوثانِ بعدَ مُشاهَدةِ دَلالةِ صِدْقِ الرَّسولِ الَّذي جاء بإبطالِها؛ فتَمحَّضَ أنْ يكونَ سبَبُ بقائِهم على عِبادةِ الأوثانِ هو مَوَدَّةَ بعضِهم بعضًا الدَّاعيةَ لإبايةِ المُخالَفةِ [350] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/235). .
- وهذا الخَبرُ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ... مُستعمَلٌ في غيرِ إفادةِ الحُكْمِ، بلْ في التَّنبيهِ على الخطَأِ؛ بقَرينةِ قولِه عَقِبَه: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [351] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/236). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال هنا: وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ، على لفْظِ الجَمْعِ، وقال قبْلُ: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [العنكبوت: 22] ، على لفْظِ الواحدِ، والحِكمةُ فيه: أنَّهم لَمَّا أرادوا إحراقَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، قالوا: نحنُ نَنصُرُ آلهتَنا، كما حَكَى اللهُ تعالى عنهم: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ [الأنبياء: 68] ، فقال: أنتم ادَّعَيْتُم أنَّ لهؤلاء ناصِرينَ، فما لكمْ ولهم -أي: للأوثانِ وعبَدتِها- مِن ناصرينَ. وأمَّا هناك فلَمْ يَسبِقْ منهم دَعوى النَّاصرينَ، فنَفى الجِنسَ بقولِه: وَلَا نَصِيرٍ [352] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/46). . وقيل: جمَعَ النَّاصرَ؛ لوُقوعِه في مُقابَلةِ الجمْعِ، أي: ما لأحدٍ منكُم مِن ناصرٍ أصلًا [353] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/37). . وقيل: إنَّه جِيءَ في نفْيِ (النَّاصرِ) بصِيغةِ الجمْعِ هنا، خِلافًا لقولِه آنِفًا: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [العنكبوت: 22] ؛ لأنَّهم لَمَّا تألَّبوا على إبراهيمَ، وتجَمَّعوا لنُصرةِ أصنامِهم، كان جزاؤُهم حِرمانَهم مِنَ النُّصراءِ؛ مُطابَقةً بيْنَ الجزاءِ والحالةِ الَّتي جُوزوا عليها، على أنَّ المفردَ والجمْعَ في حَيِّزِ النفيِ سواءٌ في إفادةِ نفْيِ كلِّ فردٍ مِن الجنسِ [354] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/237). .
- ومِن المُناسَبةِ أيضًا أنَّه قال قبْلُ: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [العنكبوت: 22] ، وما ذكَرَ الوليَّ هاهنا؛ وذلك أنَّه لَمَّا كان المرادُ بالوليِّ الشَّفيعَ، وهاهنا لَمَّا كان الخِطابُ دخَلَ فيه الأوثانُ، أي: ما لكمْ كلِّكم؛ لم يقُلْ: (شفيع)؛ لأنَّهم كانوا مُعترِفين أنَّ كلَّهم ليس لهم شافعٌ؛ لأنَّهم كانوا يَدَّعون أنَّ آلهتَهم شُفعاءُ، كما قال تعالى عنهم: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا [يونس: 18] ، والشَّفيعُ لا يكونُ له شفيعٌ، فما نَفى عنهم الشَّفيعَ؛ لعَدمِ الحاجةِ إلى نفْيِه؛ لاعتِرافِهم به، وأمَّا هناك فكان الكلامُ معهم وهُم كانوا يدَّعون أنَّ لأنفُسِهم شُفعاءَ، فنفى [355] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/46، 47). .
- ومِن المُناسَبةِ أيضًا أنَّه قال قبْلُ: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [العنكبوت: 22] ، فذكَرَ على معنى الاستثناءِ؛ فيُفْهَمُ أنَّ لهم ناصرًا ووليًّا هو اللهُ، وليس لهم غيرُه وليٌّ وناصرٌ، وقال هاهنا: (مَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) مِن غيرِ استِثناءٍ؛ لأنَّ قوله: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) كان واردًا على أنَّهم في الدُّنيا، فقال لهم في الدُّنيا: لا تَظُنُّوا أنَّكم تُعجِزون اللهَ؛ فما لكم أحدٌ يَنصُرُكم، بل اللهُ تعالى يَنصُرُكم إنْ تُبْتُم، فهو ناصرٌ لكم، متى أردْتُم استَنْصَرْتُموهُ بالتَّوبةِ، أمَّا قولُه: (مَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) فهذا يومَ القِيامةِ، كما قال تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وعدَمُ النَّاصرِ عامٌّ؛ لأنَّ التَّوبةَ في ذلك اليومِ لا تُقبَلُ، فسواءٌ تابوا أو لمْ يَتوبوا لا يَنصُرُهم اللهُ، ولا ناصرَ لهم غيرُه؛ فلا ناصرَ لهم مُطلقًا [356] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/47). .
3- قوله تعالى: فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- قولُه: فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ جُملةٌ مُعترِضةٌ بيْنَ الإخبارِ عن إبراهيمَ اعتراضَ التَّفريعِ. وأفادتِ الفاءُ مُبادَرةَ لُوطٍ بتَصديقِ إبراهيمَ عليهما السَّلامُ [357] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/237). .
- قولُه: وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي المُفاعَلةُ للمُبالَغةِ، أو لأنَّ الَّذي يَهجُرُ قَومَه يكونونَ هم قد هَجَروه أيضًا [358] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/238). .
- وجُملةُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ واقِعةٌ مَوقِعَ التَّعليلِ لمَضمونِ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي؛ لأنَّ مَن كان عزيزًا يَعتَزُّ به جارُه ونَزيلُه. وإتْباعُ وصْفِ العزيزِ بـ الْحَكِيمُ؛ لإفادةِ أنَّ عِزَّتَه مُحْكَمةٌ، واقِعةٌ مَوقعَها المحمودَ عندَ العقلاءِ؛ مِثلُ نصْرِ المظلومِ، ونصرِ الدَّاعي إلى الحقِّ. ويجوزُ أنْ يكونَ الْحَكِيمُ بمعنى الحاكمِ، فيكونَ زِيادةَ تأكيدِ معنى العزيزِ [359] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/238). .
4- قوله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فيه ذِكْرُ إسحاقَ وعَقِبِه، وعدَمُ ذِكرِ إسماعيلَ عليهما السَّلامُ؛ لأنَّه قد دَلَّ على إسماعيلَ في قولِه: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، وكفى الدَّليلُ لشُهْرةِ أمْرِه، وعُلوِّ قدْرِه، ولا يَلتبِسُ على كلِّ ذي بَصيرةٍ أنَّ النُّبوَّةَ والكتابَ لم يَستقِرَّا في أحدٍ مِنَ الأنبياءِ استِقرارَه لِنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ فكان في ذِكْرِه ذِكرُ جَدِّه إسماعيلَ صَلَواتُ الله عليهما [360] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/451)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/164). . وقيل: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ولدًا ونافلةً حينَ أيِسَ مِن الولادةِ مِن عجوزٍ عاقرٍ؛ ولذلك لم يَذكُرْ إسماعيلَ [361] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/193). .