موسوعة التفسير

سورةُ العَنكَبوتِ
الآيات (16-18)

ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ

غَريبُ الكَلِماتِ:

أَوْثَانًا: أي: أصنامًا، والوثَنُ: هو ما كان يُعبدُ مِن حجارةٍ أو جصٍّ، وقيل: الصَّنمُ: ما كان مصَوَّرًا، والوثنُ: ما كان مِن غيرِ صورةٍ، وقيل: الوثنُ كلُّ ما كان منحوتًا مِن خشبٍ أو حجرٍ، والصَّنمُ: ما كان مِن ذهبٍ أو فضَّةٍ أو نُحاسٍ، واشتِقاقُه مِن قولِهم: وَثَنَ الشَّيءُ، إذا قام في مكانِه وثبَت، فسُمِّي الصَّنمُ وثنًا؛ لأنَّه يُنصَبُ ويُركزُ في مكانٍ، فلا يَبرَحُ عنه [189] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 337)، ((تفسير ابن جرير)) (18/373)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 66)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/85)، ((البسيط)) للواحدي (15/379) و(17/505)، ((المفردات)) للراغب (ص: 853). .
إِفْكًا: أي: كَذِبًا، وقيل: الإفكُ هو أسْوَأُ الكذِبِ؛ لأنَّه قلْبٌ للكلامِ عن الحقِّ إلى الباطلِ، وأصلُ (أفك): يدُلُّ على قلبِ الشَّيءِ، وصَرْفِه عن جِهتِه [190] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 337)، ((تفسير ابن جرير)) (18/373)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 152)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/118)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 332)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 430)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/15). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبَيِّنًا ابتلاءَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ بقومِه: واذكُرْ إبراهيمَ إذ قال لقَومِه: اعبُدوا اللهَ واتَّقوه؛ ذلكم خيرٌ لكم إنْ كنتُم تعلَمونَ، إنَّما تَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ أوثانًا، وتَصنعونَ بأيديكم تلك الأوثانَ فتُسَمُّونَها آلهةً كَذِبًا! إنَّ أوثانَكم الَّتي تَعبُدونَها مِن دونِ اللهِ لا تَملِكُ لكم رِزقًا؛ فاطلُبوا الرِّزقَ مِن اللهِ وَحْدَه، واعبُدوه واشكُروه على رِزقِه، إليه وحْدَه تُرجَعونَ يومَ القيامةِ.
وإن تُكَذِّبوا فقد كذَّبَتْ جماعاتٌ مِن قَبْلِكم، فأهلَكَهم اللهُ، وما على الرَّسولِ إلَّا أن يُبَلِّغَ قَومَه بلاغًا واضِحًا، وليس عليه هِدايتُهم.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان بلاءُ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عظيمًا في قَذفِه في النَّارِ، وإخراجِه مِن بلادِه؛ أتْبَع نوحًا به، فقال [191] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/406). :
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ.
أي: واذكُرْ [192] ممَّن اختار أنَّ المعنى: واذكرْ إبراهيمَ: ابنُ جرير، والزمخشريُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/372)، ((تفسير الزمخشري)) (3/446)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 66). ويجوزُ أن يكونَ (إِبْراهِيمَ) معطوفًا على (نوح)، أي: وأرسَلْنا إبراهيمَ. ويجوزُ أن يكونَ معطوفًا على الضَّميرِ في فَأَنْجَيْنَاهُ [العنكبوت: 15] . يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/310). إبراهيمَ إذ قال لِقَومِه: اعبُدوا اللهَ وَحْدَه، واتَّقوا سَخَطَه وعذابَه بفِعلِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهيه [193] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/372)، ((تفسير القرطبي)) (13/335)، ((تفسير السعدي)) (ص: 628). .
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: عبادةُ اللهِ وَحْدَه وتَقْواهُ خيرٌ لكم في دُنياكم وأُخْراكم مِن تَركِ ذلك، إن كنتُم تَعلَمونَ؛ فلا يَعقِلُ خَيريَّةَ عِبادةِ اللهِ وَحْدَه وتَقْواهُ إلَّا ذو عِلمٍ [194] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/372)، ((تفسير ابن كثير)) (6/269)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/406، 407)، ((تفسير السعدي)) (ص: 628)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 70). .
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَهم بعبادةِ اللهِ وتَقْواه؛ نهاهم عن عبادةِ الأصنامِ، وبيَّن لهم نَقْصَها، وعَدَمَ استِحقاقِها للعبوديَّةِ، فقال [195] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 628). :
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا.
أي: قال إبراهيمُ لِقَومِه: إنَّما تَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ أوثانًا لا تَستَحِقُّ شَيئًا مِن رُتبةِ الألوهيَّةِ [196] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/373)، ((تفسير ابن كثير)) (6/269)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/407-411)، ((تفسير السعدي)) (ص: 628). .
وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا.
أي: وتَصنَعونَ بأيديكم تلك الأوثانَ، وتُسَمُّونَها آلهةً، وتَختَلِقون الكذِبَ بالأمرِ بعِبادتِها [197] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/374، 375)، ((تفسير القرطبي)) (13/335)، ((تفسير ابن كثير)) (6/269)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/412)، ((تفسير السعدي)) (ص: 628)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/225). ممَّن اختار أنَّ معنى وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا أي: تَقولون كذِبًا: ابنُ أبي زمنين، والثعلبي، ومكِّي، والبغوي، والخازن، وجلال الدين المحلي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/343)، ((تفسير الثعلبي)) (7/274)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5611)، ((تفسير البغوي)) (3/553)، ((تفسير الخازن)) (3/377)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 522)، ((تفسير الشوكاني)) (4/227). وذلك على أنَّ معنى تَخْلُقونَ: تَكذِبون، فهو مِنِ اختِلاقِ الكذِبِ. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/123)، ((تفسير الشوكاني)) (4/227). وممَّن اختار أنَّ المعنى: تَعمَلون الأصنامَ بأيديكم: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، وابنُ جُزَي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/377)، ((تفسير السمرقندي)) (2/628)، ((تفسير ابن جزي)) (2/123). قال ابن جُزَي: (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا هو مِنَ الخِلقةِ، يُريدُ به نحْتَ الأصنامِ، فسَمَّاهُ خِلْقةً على وجهِ التَّجَوُّزِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/123). وقال السعدي: (قال: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا تَنحِتونها وتَخلُقونها بأيديكم، وتَخلُقون لها أسماءَ الآلهةِ، وتَختلِقون الكذِبَ بالأمرِ بعبادتِها، والتَّمسُّكِ بذلك). ((تفسير السعدي)) (ص: 628). وقال الزمخشريُّ: (واختلاقُهم الإفكَ: تَسميتُهمُ الأوثانَ آلهةً وشُركاءَ لله أو شُفعاءَ إليه. أو سمَّى الأصنامَ: إفْكًا، وعمَلَهم لها ونَحْتَهم: خَلْقًا للإفكِ). ((تفسير الزمخشري)) (3/447). !
إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا.
أي: إنَّ أوثانَكم الَّتي تَعبُدونَها ناقِصةٌ وعاجِزةٌ، لا تَستطيعُ أن تَرزُقَكم أيَّ شَيءٍ مِن الرِّزقِ ولو قليلًا [198] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/375)، ((تفسير ابن كثير)) (6/269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 628)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/225). .
فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ.
أي: فاطلُبوا الرِّزقَ كُلَّه مِنَ اللهِ وَحْدَه، ولا تَطلُبوه ممَّن سِواه مِن الأوثانِ وسائرِ الخَلقِ [199] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/375)، ((تفسير القرطبي)) (13/336)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/183)، ((تفسير ابن كثير)) (6/269)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/412، 413)، ((تفسير السعدي)) (ص: 628). .
وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ.
أي: واعبُدوا اللهَ وَحْدَه وتذَلَّلوا له، واشكُروه على رِزقِه وسائِرِ نِعَمِه [200] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/375)، ((تفسير ابن كثير)) (6/269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 628). .
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
أي: إلى الله وَحْدَه تُرجَعونَ يومَ القيامةِ، فيُحاسِبُكم ويُجازيكم على أعمالِكم [201] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/375)، ((تفسير ابن كثير)) (6/269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 628). .
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا فرَغَ مِن بيانِ التوحيدِ؛ أتى بَعْدَه بالتَّهديدِ، فقال [202] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/39). :
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ.
أي: وإن تُكذِّبوا بالحَقِّ فقد كذَّبَتْ به جماعاتٌ مِن قَبْلِكم، فأهلَكَهم اللهُ [203] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/623)، ((تفسير ابن جرير)) (18/376)، ((تفسير السمرقندي)) (2/628)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/403). قيل: هذا مِن كلامِ إبراهيمَ لِقَومِه. وممَّن قال بذلك: ابنُ كثير، وهو ظاهِرُ اختيارِ البِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/270)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/414). وقيل: هذا مِن كلامِ الله تعالى خِطابًا لكُفَّار قُرَيشٍ. أي: وإن تُكَذِّبوا رسولَنا محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/376). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (20/226، 227). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِنَ السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/3045). وقيل: هذا مِن كلامِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم لكُفَّارِ قُرَيشٍ. يعني: قُلْ لهم يا محمَّدُ: وإن تُكَذِّبوا فقد كذَّب أمَمٌ مِن قَبْلِكم. وممَّن قال بذلك: السمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/628). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (3/447، 448). .
وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ .
أي: وما على رَسولِ اللهِ إلَّا أن يُبَلِّغَ قَومَه ما أمَرَه اللهُ بتبليغِه لهم بلاغًا واضِحًا مُوضِّحًا للحَقِّ، وليس عليه هِدايتُهم [204] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/376)، ((تفسير السمعاني)) (4/174)، ((تفسير ابن كثير)) (6/269، 270)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/414). قال ابن عاشور: (إن كان مِن كلامِ إبراهيمَ فالمرادُ بالرَّسولِ إبراهيمُ... وإن كان مِن خِطابِ الله مُشرِكي قُرَيشٍ فالمرادُ بالرَّسولِ محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير ابن عاشور)) (20/227). .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- يَنبوعُ الخَيرِ وأصْلُه: إخلاصُ العَبدِ لِرَبِّه عِبادةً واستِعانةً، كما في قَولِه تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] ، وفي قَولِه تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123] ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88] ، وفي قَولِه تعالى هنا: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ، بحيث يَقطَعُ العبدُ تعلُّقَ قَلبِه مِن المخلوقينَ انتفِاعًا بهم أو عملًا لأجْلِهم، ويَجعَلُ هِمَّتَه رَبَّه تعالى، وذلك بمُلازَمةِ الدُّعاءِ له في كُلِّ مَطلوبٍ؛ مِن فاقةٍ وحاجةٍ ومَخافةٍ وغيرِ ذلك، والعَمَلِ له بكلِّ محبوبٍ، ومَن أحْكَمَ هذا فلا يمكِنُ أن يُوصَفَ ما يُعقِبُه ذلك [205] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/659، 660). .
2- قَولُ الله تعالى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ أي: عِبادةً يَقبَلُها تعالى، وهي ما كان خالِصًا عن الشِّركِ؛ فإنَّ مَن يكونُ كذلك يَستَحِقُّ ذلك، ويُثيبُ العابِدَ له، ويُعاقِبُ الزَّاهِدَ فيه، فلا يَشغَلْكم ابتِغاءُ الرِّزقِ بالأسبابِ الظَّاهِرةِ عن عبادتِه؛ فإنَّها هي الأسبابُ الحقيقيَّةُ، فرُبَّما حُرِمَ العبدُ الرِّزقَ بالذَّنْبِ يُصيبُه [206] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/413). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال تعالى: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا فأخبَرَ أنَّهم يَخلُقونَ إفْكًا قبْلَ النَّهيِ؛ ففيه بيانُ قُبْحِ أعمالِ الكُفَّارِ قبْلَ النَّهيِ، وقبلَ إنكارِ الرُّسُلِ عليهم -خلافًا لِمَن لا يُثبِتُ حَسَنًا ولا قبيحًا إلَّا بالأمرِ وَالنَّهيِ- فما فعَلُوه قبْلَ مجيءِ الرُّسلِ كان سَيِّئًا وقبيحًا وشرًّا؛ لكنْ لا تَقومُ عليهم الحُجَّةُ إلَّا بالرَّسولِ [207] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/678- 681). .
2- قولُ الله تعالى: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا فيه إشارةٌ إلى تفرُّقِ الهَمِّ بكَثرةِ المعبودِ، والكَثرةُ يَلْزَمُها الفُرقةُ، ولا خيرَ في الفُرقةِ، ومادَّةُ «وثن» بجَميعِ تقاليبِها -واوِيَّةً ويائيَّةً ومَهموزةً- تَدورُ على الزِّيادةِ والكثرةِ، ويَلزَمُها الفُرقةُ مِنِ اختِلافِ الكَلِمةِ [208] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/407). .
3- في قَولِه تعالى: وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا دَلالةٌ على صحَّةِ إطلاقِ الخَلْقِ على فِعلِ المخلوقِ [209] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين)) (7/264). .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا أنَّه ينبغي الاستِدلالُ بالمحسوسِ على المعقولِ؛ فهنا دليلٌ محسوسٌ، ووجهُ الاستِدلالِ بالمحسوسِ على المعقولِ أنَّ المحسوسَ لا يُنكِرُه أحدٌ، لكنَّ المعقولَ قد لا يَتصَوَّرُه الإنسانُ فضلًا عن كَونِه يُقِرُّ به، فالاستدلالُ بالشَّيءِ المحسوسِ على المعقولِ مِن طُرُقِ المُناظَرةِ وإقامةِ الحُجَّةِ والإلزامِ [210] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 71). ، وقد سلَك إبراهيمُ عليه السَّلامُ مَسلَكَ الاستِدلالِ بالنِّعَمِ الحِسِّيَّةِ؛ لأنَّ إثباتَها أقرَبُ إلى أذهانِ العُمومِ [211] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/226). .
5- في قَولِه تعالى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ دَلالةٌ على الأمرِ بمسألةِ الخالقِ، والنَّهيِ عن مسألةِ المَخلوقِ، فلَمْ يَقُلْ سُبحانَه: «فابتغوا الرِّزقَ عندَ اللهِ»؛ لأنَّ تقديمَ الظَّرفِ يُشْعِرُ بالاختِصاصِ والحَصْرِ، كأنَّه قال: «لا تَبتغوا الرِّزقَ إلَّا عندَ اللهِ» [212] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/183). .
6- في قَولِه تعالى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ أشار بصيغةِ الافتِعالِ إلى السَّعيِ فيه؛ لأنَّه أجرَى عادتَه سُبحانَه أنَّه في الغالِبِ لا يُؤتيه إلَّا بكَدٍّ مِنَ المرزوقِ وجُهدٍ [213] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/412، 413). .
7- قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إشارَةٌ إلى عدَمِ المنفعةِ في الحالِ وفي المآلِ؛ وهذا لأنَّ النَّفعَ إمَّا في الوجودِ، وإمَّا في البقاءِ، لكنْ ليس منهم نفعٌ في الوجودِ؛ لأنَّ وُجودَهم منكم حيثُ تَخلُقونَها وتَنحِتونَها، ولا نفعَ في البقاءِ؛ لأنَّ ذلك بالرِّزقِ، وليس منهم ذلك، ثُمَّ بَيَّن أنَّ ذلك كلَّه حاصلٌ مِنَ اللهِ، فقال: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ، فقَولُه: اللَّهِ إشارةٌ إلى استِحقاقِ عُبوديَّتِه لِذَاتِه، وقولُه: الرِّزْقَ إشارةٌ إلى حصولِ النَّفعِ منه عاجِلًا وآجِلًا [214] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/38). .
8- في قَولِه تعالى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أنَّ مِن أسبابِ تَحصيلِ الرِّزقِ وبقائِه: العِبادةَ والشُّكرَ؛ فقَولُه: وَاعْبُدُوهُ هذا سببٌ للرِّزقِ، وقولُه: وَاشْكُرُوا لَهُ هذا سَبَبٌ للبقاءِ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 71). .
9- في قَولِه تعالى: وَاشْكُرُوا لَهُ وُجوبُ شُكْرِ النِّعمةِ [216] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 71). .
10- قولُه تعالى: إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيه إثباتُ الجزاءِ على الأعمالِ؛ لأنَّ الفائدةَ مِن هذا الإخبارِ بأنَّهم سيُبْعَثُون ويُجازَون، ليس مُجَرَّدَ بَعْثٍ بدونِ جزاءٍ! بل لا بُدَّ فيه مِن جزاءٍ [217] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 71). .
11- قولُ الله تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ يدُلُّ على أنَّ تأخيرَ البيانِ عن وَقتِ الحاجةِ لا يجوزُ؛ لأنَّ الرَّسولَ إذا بلَّغ شَيئًا ولم يُبَيِّنْه، فإنَّه لم يأتِ بالبلاغِ المُبينِ، فلا يكونُ آتيًا بما عليه [218] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/39). .
12- في قَولِه تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ أنَّ الرُّسُلَ لا يجبُ عليهم هِدايةُ الخَلْقِ، فليس عليهم إلَّا البلاغُ، أمَّا الهدايةُ فإلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وكذلك الحسابُ على اللهِ عزَّ وجلَّ؛ قال تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [219] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 73). [الرعد: 40] .
13- في قولِ الله تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ أنَّ القرآنَ مُتضَمِّنٌ لجميعِ الأحكامِ العقديَّةِ والعمليَّةِ، وأنَّه أتَى بذلك على أكمَلِ وجهٍ وأبْيَنِه؛ لقوله: إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ؛ فعليه البلاغُ لِكُلِّ ما أُرسِلَ به، والنَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أُرسِلَ بعقائدَ صحيحةٍ سليمةٍ، وبأعمالٍ قَويمةٍ، وبأقوالٍ مستقيمةٍ، وعلى هذا نَستدِلُّ بهذه الآيةِ على أنَّ جميعَ الشَّريعةِ بَيِّنةٌ مُكَمَّلةٌ واضحةٌ، فنَرُدُّ بها على جميعِ أهلِ البِدعِ؛ لأنَّ أهلَ البدعِ يَستَلْزِمُ قولُهم ألَّا يكونَ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بَلَّغَ البلاغَ المُبِينَ!
فإن قال قائل: يوجَدُ وقائعُ الآنَ تقعُ ولا نرى لها ذِكْرًا في القرآنِ ولا في السُّنَّةِ!
 فالجواُب: إنَّها مُبَيَّنةٌ بيانَ الجنسِ، فليس بلازِمٍ أنَّ يأتيَ القرآنُ بكُلِّ فردٍ، أو أنَّ السُّنَّةَ تأتي بكُلِّ فردٍ؛ لأنَّ أفرادَ القضايا لا حَصْرَ لها، ولو أنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى ذَكَر في القرآنِ كلَّ قضيَّةٍ تأتي إلى يومِ القيامةِ، فكم يكونُ القرآنُ مِن مجلَّدٍ؟! لَكِنَّنا نقولُ: هذه الأفرادُ -أفرادُ هذه المسائلِ- موجودةٌ بأجناسِها وعِلَلِها وقَواعدِها؛ إمَّا أن تكونَ بالقياسِ، وإمَّا أنَّها مَسكوتٌ عنها، والسُّكوتُ في مَقامِ البيانِ بيانٌ [220] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 74، 75). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إيرادُ قصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ ليس إلَّا إرادةً للتَّنفيسِ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنْ تكونَ مَسْلَاةً له، وسبيلَ تفريجٍ عليه بأنَّ أباهُ إبراهيمَ خَليلَ اللهِ كان قد مُنِيَ بنَحْوِ ما مُنِيَ به؛ مِن شِركِ قومِه، وعِبادتِهم الأوثانَ [221] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/448)، ((تفسير أبي حيان)) (8/347). .
- قولُه: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَعليلٌ للأمْرِ بعِبادةِ اللهِ. وقد أُجْمِلَ الخبرُ في هذه الجُملةِ، وفُصِّلَ بقولِه: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا الآيةَ [222] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/224). .
2- قوله تعالى: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
- قولُه: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا بَيانٌ لبُطلانِ دِينِهم وشَرِّيَّتِه في نفْسِه، بعدَ بَيانِ شَرِّيَّتِه بالنِّسبةِ إلى الدِّينِ الحقِّ [223] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/34). .
- وجُملةُ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا تَعليلٌ لجُملةِ اعْبُدُوا اللَّهَ [العنكبوت: 16] . وقصْرُهم على عِبادةِ الأوثانِ يجوزُ أنْ يكونَ قصْرًا على عِبادتِهم الأوثانَ، أي: دونَ أنْ يَعبُدوا اللهَ، فهو قَصرٌ حقيقيٌّ؛ إذ كان قومُ إبراهيمَ لا يَعبُدون اللهَ؛ فالقصْرُ مُنصَبٌّ على قولِه: مِنْ دُونِ اللَّهِ، أي: إنَّما تَعبُدون غيرَ اللهِ، وبذلك يكونُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حالًا مِن أَوْثَانًا، أي: حالَ كونِها مَعبودةً مِن دونِ اللهِ، وهذا مُقابِلُ قولِه: اعْبُدُوا اللَّهَ، دونَ أنْ يقولَ لهم: (لا تَعبُدوا إلَّا اللهَ)، لكنَّ قومَ إبراهيمَ قد وُصِفُوا بالشِّركِ في قَولِه تعالى في سُورةِ (الأنعامِ): قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعامِ: 78]؛ فهُم مِثْلُ مُشرِكي العربِ؛ فالقصرُ فيه مُنصَبٌّ على عِبادتِهم المَوصوفةِ بالوَثنيَّةِ، أي: ما تَعبُدون إلَّا صُوَرًا لا إدراكَ لها؛ فيكونُ قصْرَ قلْبٍ لإبطالِ اعتِقادِهم إلهيَّةَ تلك الصُّوَرِ [224] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/224، 225). .
- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... بَيانٌ لشَرِّيَّةِ ما يَعبُدونَه مِن حيثُ إنَّه لا يَكادُ يُجْدِيهم نَفعًا [225] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/34). .
- وجُملةُ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا إنْ كان قومُ إبراهيمَ يَعترِفون للهِ تعالى بالإلهيَّةِ والخلْقِ والرِّزقِ، ولكنَّهم يَجعَلون له شُركاءَ في العِبادةِ لِيَكونوا لهم شُفعاءَ، كحالِ مُشرِكي العرَبِ؛ تكونُ الجُملةُ تَعليلًا لجُملةِ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ [العنكبوت: 16] ، أي: هو المُستحِقُّ للعِبادةِ التي هي شُكْرٌ على نِعَمِه. وإنْ كان قومُه لا يُثبِتون إلهيَّةً لغيرِ أصنامِهم، كانتْ جُملةُ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُستأنَفةً ابتدائيَّةً؛ إبطالًا لاعتِقادِهم أنَّ آلهتَهم تَرزُقهم، ويُرجِّحُ هذا الاحتِمالَ التَّفريعُ في قَولِه: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [226] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/225). .
- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ تَنكيرُ رِزْقًا في سِياقِ النَّفيِ يدُلُّ على عُمومِ نفْيِ قُدرةِ أصنامِهم على كلِّ رِزقٍ ولو قليلًا. وتَفريعُ الأمْرِ بابتِغاءِ الرِّزقِ مِن اللهِ إبطالٌ لِظَنِّهم الرِّزقَ مِن أصنامِهم، أو تَذكيرٌ بأنَّ الرَّازقَ هو اللهُ؛ فابتغاءُ الرِّزقِ منه يَقْتضي تَخصيصَه بالعِبادةِ كما دلَّ عليه عطْفُ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ. ولامُ التَّعريفِ في الرِّزْقَ لامُ الجنسِ المفيدةُ للاستِغراقِ بمَعونةِ المقامِ، أي: فاطْلُبوا كلَّ رِزقٍ قَلَّ أو كَثُرَ مِن اللهِ دونَ غيرِه. والمُعَرَّفُ بلامِ الجنسِ في قوَّةِ النَّكرةِ، فكأنَّه قِيل: فابْتَغوا عندَ اللهِ رِزقًا [227] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/225، 226). . وخَصَّ الرِّزقَ؛ لِمَكانتِه مِن الخَلْقِ، ونكَّره؛ لأنَّ المقصودَ أنَّهم لا يَقدِرونَ على شَيءٍ منه [228] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/348). .
- وأيضًا نكَّرَ الرِّزقَ في قَولِه: لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا، ثمَّ عرَّفه في قَولِه: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ؛ لأنَّه أراد لا يَستطِيعون أنْ يَرزُقوكم شيئًا مِن الرِّزقِ، فابْتَغوا عندَ اللهِ الرِّزقَ كلَّه؛ فإنَّه هو الرَّزَّاقُ وحْدَه، لا يَرزقُ غيرُه؛ فنكَّر أوَّلًا للتَّعليلِ مُبالَغةً في النَّفيِ، ثمَّ عرَّفَ للاستِغراقِ؛ لِيَشْملَ كلَّ ما يُسمَّى رِزقًا [229] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/447)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/153)، ((تفسير أبي حيان)) (8/348)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (20/321)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/417). .
- وفي قَولِه: وَاشْكُرُوا لَهُ عُدِّيَ الشُّكرُ باللَّامِ جرْيًا على أكثَرِ استعمالِه في كلامِ العربِ؛ لِقَصدِ إفادةِ ما في اللَّامِ مِن معنى الاختِصاصِ، أي: الاستِحقاقِ [230] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/226). .
- وجُملةُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تَعليلٌ للأمْرِ بعِبادتِه وشُكْرِه، أي: لأنَّه الَّذي يُجازي على ذلك ثَوابًا، وعلى ضِدِّه عِقابًا؛ إذ إلى اللهِ لا إلى غيرِه مَرجِعُكم بعدَ الموتِ. وفي هذا إدماجُ تَعليلِ العِبادةِ بإثباتِ البعثِ [231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/226). .
3- قوله تعالى: وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
- قولُه: فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ يجوزُ أنْ تكونَ هذه الجُملةُ مِن بقيَّةِ مَقالةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ بأنْ يكونَ رأى منهم مَخائِلَ التَّكذيبِ، ففرَضَ وُقوعَه، أو يكونَ سبَقَ تَكذيبُهم إيَّاهُ مَقالتَه هذه؛ فيكونَ الغرَضُ مِن هذه الجُملةِ لازِمَ الخبَرِ، وهو أنَّ تَكذيبَهم إيَّاهُ ليس بعَجيبٍ، فلا يَضِيرُه، ولا يَحْسَبوا أنَّهم يَضِيرونه به ويَتَشَفَّون منه؛ فإنَّ ذلك قد انتابَ الرُّسلَ قبْلَه مِن أُمَمِهم. ويجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ مُعترِضةً، والواوُ اعتراضيَّةً، واعترَضَ هذا الكلامُ بيْنَ كلامِ إبراهيمَ وجوابِ قومِه؛ فهو كلامٌ مُوَجَّهٌ مِن جانبِ اللهِ تعالى إلى المشركينَ، الْتفَتَ به مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ؛ تَسجيلًا عليهم، والمقصودُ منه بَيانُ فائدةِ سَوقِ قصَّةِ نُوحٍ وإبراهيمَ عليهما السَّلامُ، وأنَّ لِلرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُسوةً برُسلِ الأُمَمِ الَّذين قبْلَه، وخاصَّةً إبراهيمَ جدَّ العربِ المقصودينَ بالخِطابِ على هذا الوجْهِ [232] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/448)، ((تفسير البيضاوي)) (4/191)، ((تفسير أبي حيان)) (8/350)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/226، 227). .
- وجُملةُ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ إعلامٌ للمُخاطَبينَ بأنَّ تَكذيبَهم لا يَلحَقُه منه ما فيه تَشَفٍّ منه؛ فإنْ كان مِن كلامِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ فالمرادُ بالرَّسولِ إبراهيمُ، سلَكَ مَسلكَ الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ؛ لإيذانِ عُنوانِ الرَّسولِ بأنَّ واجِبَه إبلاغُ ما أُرسِلَ به بيِّنًا واضحًا، وإنْ كان مِن خِطابِ اللهِ مُشركي قُرَيشٍ فالمرادُ بالرَّسولِ محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد غلَبَ عليه هذا الوصْفُ في القُرآنِ، مع الإيذانِ بأنَّ عُنوانَ الرِّسالةِ لا يَقْتضي إلَّا التَّبليغَ الواضحَ [233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/227). .