موسوعة التفسير

سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (124-134)

ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ

غريب الكلمات:

إِمَامًا: هو الذي يأتمُّ به الناس، فيتبعونه، ويأخذون عنه، من أَمَّ، وأصله: الأصل، والمرجع، والجماعة، والدِّين [1084] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 98)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/21)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 106)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 186). .
مَثَابَةً: أي: مرجعًا لهم، يرجعُون إليه في حجِّهم وعُمرتهم كلَّ عَام، وأصل الثوب: العَودُ والرجوع، وأصل المثابة: الموضِع الذي يُرجَع إليه مرَّةً بعدَ أخرى، ويُقال للمنزل: مثابة. وقيل: مَثابَةً من الثواب، أي: يَحجُّون فيُثابون عليه [1085] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 63)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 409)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/393)، ((المفردات)) للراغب (ص: 180)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 92)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 873). .
سَفِهَ: أصل السفه: ضد الحلم. والسفه، خِفَّة في البدن، واستُعمل في خِفَّة النفس؛ لنقصان العقل [1086] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/79)، ((المفردات)) للراغب (ص: 414)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 94)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 510). .

المعنى الإجمالي:

ذكَّرَ الله تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ بما ابتَلى به خليلَه إبراهيم عليه السَّلام، من تكاليفَ فرَضَها عليه، فقام بها حقَّ القيام، فأعْلَمه الله تعالى بأنَّه سيجعله قُدوةً يأتمُّ به الناس، فسأله إبراهيمُ أن يكون مَن بعده مِنَ الأئمَّة من ذُريَّته، فأجابه الله تعالى بأنَّ الإمامةَ في الدِّين لا تُعطى لظالِم.
ثم ذَكَّر الله سبحانه نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ بما جعَل للبيت الحرام من مكانةٍ، وذلك بأن جعَلَه محلًّا يشتاق إليه الناسُ دائمًا، ولو زاروه مرَّاتٍ عديدةً؛ فإنَّهم يَرجعون إليه، وجعَله سبحانه مكانًا يأمَن فيه البشرُ على أنفسهم وأموالهم، بل أمانُه شمِل حتَّى الحيواناتِ والجمادات.
وأمَر الله تعالى باتِّخاذ مقاماتِ إبراهيمَ عليه السَّلام التي هي شعائرُ الحجِّ -كعَرفة، والمزدلفة- أماكنَ للعبادة.
ثم أخبَر الله تعالى أنَّه أوصى إبراهيمَ وإسماعيل وصيةً مؤكَّدةً، بالقيام بتطهير البيتِ طهارةً حِسيَّةً ومعنويَّة؛ من الشِّرك، والكفر، والأوثان، ومن الرِّجس، والنَّجاسات، وهذا التطهير مِن أجْل مَن يطوفون بالكعبة، ومَن يُقيمون في البيت للعبادة، وللمُصلِّين فيه.
ثم أخبر تعالى عن مسألةِ إبراهيمَ رَبَّه أن يجعل مكَّةَ بلدًا يَحُلُّ فيها الأمنُ الدائم، ويَرزق اللهُ المؤمنين فيها مِن أنواع الثِّمار، فأعْلَمه تعالى أنَّ الرِّزق الدُّنيوي للجميع؛ المؤمِن والكافِر، وليس مقصورًا على عبادِه المؤمنين فحسبُ، لكن هذا الرِّزق الذي سيُرزَقه الكفرةُ، رِزقٌ قليلٌ من حيثُ زمنُه وكميَّتُه، مقارنةً بنعيم الآخِرة الموعودِ به أهلُ الإيمان، ثم سيُلجِئُ الله سبحانه مَن كفَر إلى عذاب النار، وساء مستقرُّه ومصيرُه.
ثم يُذكِّر سبحانه نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ برفْع إبراهيمَ وإسماعيلَ لأُسُسِ الكعبة، وإعلائها؛ لتصيرَ جدارًا، وهما يَدْعُوانِ ربَّهما أن يتقبَّل منهما هذا العمل؛ فهو السَّميع لدُعائهما، والعليم بعملهما ونيَّتهما، وكذلك دعَوَا ربَّهما أنْ يجعلهما خاضعَيْنِ له سبحانه دومًا، ومستسلمَينِ لأمره، وأنْ يُنشِئَ من سُلالتهم جماعةً منقادةً لأوامِره، مُستسلمةً له، وقد أجاب الله عزَّ وجلَّ تلك الدَّعوةَ في المسلمين من العرب.
ودَعوَا ربَّهما أيضًا أنْ يُبيِّن لهما مواضعَ عِبادةِ الحجِّ، ومشاعره، وأنْ يتوبَ عليهما؛ فإنَّه هو الموفِّق للتوبة، والمتقبِّل لها، وهو الرَّحيم الذي يخصُّ برحمته مَن يشاء من عباده.
ودَعوَا ربَّهما أن يُرسل رسولًا إلى ذُريَّتهما من العرب، يقرأ عليهم القرآن، ويقوم بتعليمهم القرآن، والسُّنة، ويُطهِّرهم من أدران الشِّرك، وقد أجاب الله هذه الدعوةَ، فبَعَث محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ.
ثم أخبَر سبحانه أنَّه لا يَتركُ الحَنيفيَّةَ دِينَ الخليل إبراهيم راغبًا عنها؛ إلَّا مَن كانت له نفسٌ متَّصفة بالجَهل والطيش، وعدم الرشد؛ فقد اختار اللهُ إبراهيمَ واجتباه في الدُّنيا، وهو في الآخِرة من المفلِحين السُّعداء؛ فقد أمره ربُّه حين اصطفاه أن ينقاد إليه، ويُوحِّده ويُخلصَ له الدِّين، فأجاب هذ الأمرَ فورًا، ووصَّى إبراهيمُ بَنِيه بالإسلامِ لربِّ العالمين، وكذلك فعَل حفيدُه يعقوبُ عليه السَّلام، فوصَّى به أبناءه، وأعْلَمهم أنَّ الله اختار لهم هذا الدِّينَ؛ فلْيلتزموا به في حياتهم، حتى يأتيَهم الموتُ وهم متمسِّكون به.
ثم توجَّه الخِطابُ من اللهِ جلَّ وعلا إلى اليهود والنَّصارى المكذِّبين بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فسألهم: هل كانوا حاضِرين حين أوْشكَ يعقوبُ على الموت، حين سأل بَنِيه إلى مَن سيتوجَّهون بالعبادة مِن بعد موته؟ فأجابوه بأنَّهم سيعبدون الله وحْدَه، الذي هو معبودُ والدِهم يعقوب، ومعبودُ آبائه من قبله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ولن يُشرِكوا في عبادته أحدًا، وهم له خاضعون مُستسلِمون.
ثم أخبَر الله تعالى اليهودَ والنصارى المكذِّبين بنبوَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، أنَّ هؤلاء الآباءَ والأجدادَ الصالِحين قد مضَوْا لسبيلهم، ولن ينفعَكم الانتسابُ إليهم، ولن يعودَ عليكم من هُداهم وعمَلِهم الصالح شيءٌ؛ فإنَّما لكم ما عملتُم، ولن تُجازَوْا على ما عمِلوه.

تفسير الآيات:

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124).
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ.
أي: واذكُر يا محمَّد، ابتلاءَ الله تعالى لعبده وخليله إبراهيمَ عليه السَّلام بتكاليفَ فرَضها عليه ربُّه سبحانه، فأدَّاها إبراهيمُ عليه السَّلام على وجهٍ تامٍّ، موفِّيًا جميعَ ذلك [1087] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/498، 506-509)، ((تفسير ابن عطية)) (1/205)، ((تفسير ابن كثير)) (1/405)، ((تفسير السعدي)) (ص: 65)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/701-703). .
قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا.
أي: إنِّي مُصيِّرك يا إبراهيم، إمامًا يأتمُّ بك الناسُ، ويَقتدون بك [1088] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/509-510)، ((تفسير السعدي)) (ص: 65)، ((تفسير ابن كثير)) (1/405)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/41-42). .
قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي.
أي: لَمَّا جعَل الله تعالى إبراهيم إمامًا، سأل ربَّه عزَّ وجلَّ أن تكون الأئمَّةُ من بعده من ذُريَّته [1089] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/510)، ((تفسير ابن كثير)) (1/410)، ((تفسير السعدي)) (ص: 65)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/167). .
قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.
أي: أجاب الله تعالى عن سؤال خليله إبراهيمَ عليه السَّلام، بأنَّه لا يَمنح مرتبةَ الإمامة في الدِّين أحدًا من الظالِمين من ذريَّته؛ لأنَّ الإمامة تُعطَى لأوليائه، وأهلِ طاعته، دون أَعدائِه [1090] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/511)، ((تفسير ابن كثير)) (1/410)، ((تفسير السعدي)) (ص: 65)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/43-44). .
قال تعالى: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات: 113] .
وقال سبحانه: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ [النساء: 54-55] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 26] .
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كان من إمامة إبراهيمَ عليه السَّلام اتِّباع الناس له في حجِّ البيت، الذي شرَّفه الله سبحانه ببنائِه- قال سبحانه إثرَ ذلك ناعيًا على أهل الكتاب مخالفتَه وترْكَ دِينه، وموطِّئًا لأمر القِبلة [1091] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (2/152). :
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا.
أي: واذكُر يا محمَّد، هذا الأمرَ؛ فقد جعل الله تعالى البيت الحرام محلًّا يَشتاقُ إليه الناسُ على الدوام، فيَرجعون إليه، ولو تردَّدوا إليه عِدَّةَ مرَّات، وهو معاذٌ لهم يأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم، وحتى الحيوانات والجمادات تكون آمنةً فيه [1092] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/517-521)، ((تفسير ابن كثير)) (1/413)، ((تفسير السعدي)) (ص: 65)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/44). وممَّن قال في مثابةً مثلما ذُكِر: ابن عبَّاس، وأبو العالية، وسعيد بن جُبَير، وعطاء، ومجاهد، والحسن، وعطيَّة، والرَّبيع بن أنس، والسُّدِّي، والضحَّاك، وعَبْدَة بن أبي لُبابة، وابن زيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/518)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/225) وممَّن قال من السَّلف في قوله تعالى: أَمْنًا بنحو ما ذُكر: ابنُ عبَّاس، وأبو العالية، ومجاهد، وعطاء، والسُّدِّي، وقتادة، والرَّبيع بن أنس. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/225). .
قال سبحانه: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [البقرة: 126] .
وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] .
وقال سبحانه: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران: 97] .
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا قراءتان:
1- (اتَّخَذوا) بفتح الخاء، على الخبَر عمَّن كان قبلنا من المؤمنين، أنَّهم اتخَذوا من مقام إبراهيم مصلًّى [1093] قرأ بها نافِعٌ وابنُ عامِرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/222). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (2/530)، ((الكشف)) لمكي (1/263). .
2- (اتَّخِذوا) بكسر الخاء، والمعنى: اتَّخِذوا- أيُّها الناس- من مقام إبراهيم مصلًّى تُصلُّون عنده [1094] قَرَأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/222). ويُنظر لمعنى هذه القراءة:  ((تفسير ابن جرير)) (2/530)، ((الكشف)) لمكي (1/263). .
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى.
أي: اجعَلوا من مقامات إبراهيمَ عليه السَّلام، وهي شعائرُ الحجِّ، كعرفةَ ومزدلفةَ، ورمْي الجمرات، وغيرها- اجعلوها أماكنَ للعِبادة كالدُّعاء، وقد اتَّخذ الناسُ ذلك مقتدِين بإبراهيم عليه السَّلام، ويدخُل في ذلك، أداءُ ركعتَي الطَّواف خَلْفَ المقام المشهور بمقام إبراهيمَ عليه السَّلام [1095] يُنظر: ((تلخيص كتاب الاستغاثة لابن تيمية)) لابن كثير (2/524) ((فتح الباري)) لابن رجب (2/299-301)، ((تفسير السعدي)) (ص: 65)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/44-45). ومِمَّن قال من السَّلف بمُجمَل هذا القول: ابن عبَّاس-في رِواية عنه-ومجاهد، وعطاء. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/525)، ((تفسير ابن حاتم)) (1/226). ومِن المفسِّرين مَن ذهب إلى تخصيص المقام المذكور في الآية بالمعروف بمقام إبراهيمَ عليه السَّلام. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/528، 530)، ((تفسير ابن كثير)) (1/416-417). وممَّن ذهَب إلى هذا القول من السَّلف: ابن عبَّاس -في رواية أخرى عنه- وسعيد بن جُبَير، والسُّدِّي، وقتادة، والرَّبيع، وسفيان. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/527)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/226). .
قال عُمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه: ((وافقتُ ربي في ثَلاثٍ: فقلتُ: يا رسولَ الله، لو اتَّخذنا من مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى، فأُنزِلتْ: واتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى...)) [1096] رواه البخاري (402). .
وفي حديثِ جابرٍ الطويل: (... حتى إذا أتَيْنا البيتَ معه، استلم الرُّكنَ فرمَل ثلاثًا ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقامِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ. فقرأ: واتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فجعَل المقامَ بَينه وبين البيتِ- فكان أبي يقول: (ولا أعْلَمُه ذَكرَه إلَّا عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ )- كان يقرأ في الرَّكعتَينِ: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وقُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ)) [1097] رواه مسلم (1218). .
وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ.
أي: أوْحَيْنا إليهم بوصيةٍ مؤكَّدة، أمرناهما فيها بتطهير بيت الله تعالى من الشِّرك، والكُفر والأوثان، ومِن الرِّجس والنَّجاسات، وأنْ يَبْنِياه بِنيَّةٍ خالصةٍ لله عزَّ وجلَّ [1098] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/530-532)، ((تفسير ابن كثير)) (1/421)، ((تفسير السعدي)) (ص: 65-66)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/712)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/46). .
لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.
أي: أمَر اللهُ عزَّ وجلَّ بتطهير البيت لأجْل مَن يطوفون بالكعبة، ومَن يُقيمون في البيت مجاورين للعِبادة- فيما يُعرف شرعًا بالاعتكاف- وللمُصلِّين فيه [1099] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/534-537)، ((تفسير ابن عطية)) (1/208)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/712)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/46). .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126).
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا.
أي: واذكُروا دعوة إبراهيم عليه السَّلام بحلول الأمْن الدَّائم للبلد الأمين: مكَّةَ [1100] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/537)، ((تفسير ابن كثير)) (1/425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 66)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/713-714)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/51- 52). .
عن جابرِ بنِ عبد الله رضي الله عنهما، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((إِنَّ إبراهيمَ حرَّمَ مكةَ [1101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/542-543)، ((تفسير ابن كثير)) (1/424-425). ، وإِنِّي حَرَّمْتُ المدينةَ ما بينَ لابَتَيْها [1102] لابتيها: يعني: حَرَّتيها من جانبيها؛ لأنَّ  المدينة بين حَرَّتين، والحَرَّة، وهي الأرض ذات الحِجارة السُّود. ((فتح الباري)) لابن حجر (1/184)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/560). ، لا يُقْطَعُ عِضاهُهَا [1103] العِضَاه: كلُّ شَجَرٍ عَظيمٍ له شَوْكٌ. ((النهاية)) لابن الأثير (3/255). ، ولا يُصادُ صيدُها)) [1104] رواه مسلم (1362). .
وعن عبدالله بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((إن إبراهيمَ حرَّم مكةَ ودعا لها، وحَرَّمت المدينةَ كما حرَّم إبراهيمُ مكةَ، ودعوت لها في مُدِّها وصاعِها مثلَ ما دعا إبراهيمُ عليه السَّلامُ لمكةَ )) [1105] رواه البخاري (2129). .
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
أي: سأل إبراهيمُ عليه السَّلام ربَّه سبحانه بأن يرزق مؤمني أهل مكة من أنواع الثمار المختلفة [1106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/543-544)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/210)، ((تفسير السعدي)) (ص: 66)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/715)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/52). .
قال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص: 57] .
قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا خصَّ إبراهيم عليه السَّلام في دعائه بالرزق، المؤمنين، وكان رزق الله عزَّ وجلَّ شاملا للمؤمن والكافر [1107] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 66). ، قال تعالى:
قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا.
أي: إنَّ الكافر ينال رزقه الدنيويَّ أيضًا لكنَّه قليلٌ زمنًا ووصفًا، بالنسبة لنعيم الآخرة الكامل، والدائم بلا انقطاعٍ ولا نهاية [1108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/546-547)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/210)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/52-53). .
ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
أي: أُلجئه وأَدفعه وهو مُكرَه إلى النار، وساء المصيرُ عذابُ النار بعدَ الذي كانوا فيه من متاعِ الدُّنيا [1109] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/547-548)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/210)، ((تفسير ابن كثير)) (1/426)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/54). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد: 12] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 23-24] .
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127).
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ.
أي: واذكر رفْعَ إبراهيم لقواعد الكعبةِ، وإسماعيلُ يُعاونه بنقْل الحجارة، ورفعُ القواعِد يكون بإبرازها من الأرض وإعلائها؛ لتصير جِدرًا، فالبِناء إذا اتَّصل بعضُه ببعض، صار كالشيء الواحد، والجدار إذا اتَّصل بالأساس صار الأساسُ مرتفعًا [1110] نقل ابنُ عطيَّة الإجماعَ على أنَّ المراد بالبيت هنا: الكعبة. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/210). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/548، 556)، ((تفسير ابن كثير)) (1/427)، ((تفسير السعدي)) (ص: 66)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/718)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/44)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/57). .
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .
أي: دعا كلٌّ من إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السَّلام ربَّهما سبحانه وتعالى، بأنْ يَتلقَّى بِناءَهما البيتَ بالقَبول والرِّضا عنه؛ فهو الذي يَسمع أقوالهما، ويَعلم أعمالَهما ونيَّاتِهما [1111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/556-557، 563-564)، ((تفسير ابن عطية)) (1/211)، ((تفسير السعدي)) (ص: 66)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/57-58). .
قال عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما: ((... ثم جاء بعدَ ذلك، وإسماعيلُ يَبْرِي نَبْلًا لهُ تحتَ دَوْحَةٍ قريبًا من زمزمَ، فلمَّا رآهُ قام إليهِ، فصنَعَا كما يصنعُ الوالدُ بالولدِ، والولدُ بالوالدِ، ثم قال: إنَّ اللهَ أمرني بأمْرٍ، قال: فاصنعْ ما أمَرَ ربُّكَ، قال: وتُعينني؟ قال: وأُعينُكَ، قال: فإنَّ اللهَ أمَرني أن أبنيَ هاهنا بيتًا، وأشار إلى أَكَمَةٍ [1112] الأَكَمة: تلٌّ، وقيل: شرفة كالرَّابية، وهو ما اجتمع من الحجارةِ في مكانٍ واحد، وربما غلُظ وربما لم يَغلُظ. ((النهاية)) لابن الأثير (1/59)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/18). مرتفعةٍ على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعَا القواعدَ من البيتِ، فجعَل إسماعيلُ يأتي بالحجارةِ وإبراهيمُ يَبني، حتى إذا ارتفعَ البناءُ، جاء بهذا الحَجرِ، فوضعَهُ لهُ فقام عليهِ، وهو يَبني، وإسماعيلُ يُناوِلُه الحجارةَ، وهما يقولانِ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، قال: فجعلَا يَبنيانِ حتى يدورَا حول البيتِ وهما يقولانِ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )) [1113] رواه البخاري (3364). .
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128).
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ.
أي: دعا كلٌّ من إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السَّلام بأن يجعلهما على الدَّوام، خاضعَينِ له سبحانه بطاعته، ومنقادَينِ لحُكمه، ومستسلمَينِ لأمْره [1114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/565)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/211)، ((تفسير السعدي)) (ص: 66). .
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ.
أي: دَعَوَا اللهَ ربَّهما أن يَجعلَ من بعض ذريَّتهم جماعةً مستسلمة لله تعالى، طائعةً لأمره، وخاضعةً لحُكمه جلَّ وعلا، وقد استُجِيبت هذه الدعوةُ في المسلمين من العرَب [1115] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/211)، ((تفسير ابن كثير)) (1/442)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/720-721)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/44)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/62-63). وممَّن قال بأنَّ المقصود بالذريَّة هنا: العرب: السُّدِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/565). قال ابن كثير: (قال السدي: وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ يعنيان العرب. قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم؛ لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال الله تعالى: وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف: 159] . قلت: وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي؛ فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم، والسياق إنما هو في العرب؛ ولهذا قال بعده: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ الآية، والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بعث فيهم كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ [الجمعة: 2] ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود، لقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف: 158] ، وغير ذلك من الأدلة القاطعة) ((تفسير ابن كثير)) (1/442). .
وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا.
أي: بيِّن لنا مشاعرَ الحجِّ، ومواضعَ العبادة فيه، وعرِّفها لنا؛ فنراها [1116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/570-571)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/212)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (17/485)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/721). .
وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
أي: وفِّقنا للتوبة، فنرجع من معصيتك إلى طاعتك؛ فأنت وحْدَك سبحانك التوَّاب؛ بتوفيقِ عبدك للتوبة أولًا، وقَبولها منه ثانيًا، وأنت وحْدَك الرَّحِيم؛ فتختصُّ برحمتك عبادَك المؤمنين [1117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/571-572)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/63). .
كما قال تعالى: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 118] .
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129).
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ.
أي: دعا كلٌّ من إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السَّلام ربَّهما، بأنْ يبعث رسولًا من ذُريتهما، أي: من العرَب.
وقد استجاب الله تعالى دُعاءَهما، فبعث محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ [1118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/572)، ((تفسير ابن عطية)) (1/212)، ((الجواب الصحيح)) لابن تَيميَّة (5/224-225)، ((تفسير ابن كثير)) (1/443-444)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/44). .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2] .
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.
أي: يقرأ عليهم كتابَك الذي تُوحيه إليه، ويُعلِّمهم معاني القرآن، ويُعلِّمهم السُّنة؛ فهي التي تبيِّن معاني القرآن وأحكامَه، وتُعين على فَهمِه [1119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/575، 577)، ((تفسير القرطبي)) (2/131)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (1/6-7) (11/560)، ((تفسير ابن كثير)) (1/444)، ((لطائف المعارف)) لابن رجب (84-85)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/723). وممَّن قال بأنَّ المراد بالكتاب هنا القرآن: ابنُ زيد، والحسن، ويحيى بن أبي كَثير، ومقاتل بن حيَّان. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/575)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/236). وممَّن قال من السَّلف بأنَّ المقصود بالحِكمة هنا السُّنة: قتادة، والحسن، ويحيى بن أبي كَثير، وأبو مالك، ومقاتل بن حيَّان. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/576)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/237). .
قال سبحانه وتعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] .
وَيُزَكِّيهِمْ.
أي: ويُطهِّرهم من الشِّرك بالله، ويُنمِّيهم ويُكثِّرهم بتوحيد الله تعالى وطاعته [1120] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/577)، ((تفسير ابن عطية)) (1/212)، ((تفسير القرطبي)) (2/131)، ((تفسير السعدي)) (ص: 66). .
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: أنت وحْدَك العزيز الذي لا يُعجِزه شيءٌ أراده، فأعطِنا وذُريِّتَنا ما طلبناه منك، وأنت وحْدَك الحكيم، الذي يَضعُ كلَّ شيء في موضعه اللائِق به، فأعطِنا ما يَنفعُنا وينفع ذُريتَنا [1121] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/578)، ((تفسير ابن عطية)) (1/212)، ((تفسير ابن كثير)) (1/445)، ((تفسير السعدي)) (ص: 66). .
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130).
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ.
أي: لا أحدَ يعدِل عن الحنيفيَّة؛ دِينِ إبراهيم الخليل عليه السَّلام، إلَّا مَن كانت نفسُه سفيهةً، أي: جاهلة، طائشةً، غير راشدة [1122] قال بهذا المعنى: ابن جرير في ((تفسيره)) (2/578-579)، وابن تيمية ((الجواب الصحيح)) (3/76)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (14/441-442)، وابن عاشور في ((تفسيره)) (1/724-726). وقيل المعنى: إلا من ظلم نفسه وامتهنها بجهله وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال. وقال بهذا المعنى: ابن كثير ((تفسير ابن كثير)) (1/445)، والسعدي في ((تفسيره)) (ص: 66)، وابن عثيمين في ((تفسير الفاتحة والبقرة)) (2/69). .
قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 67-68] .
وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا.
أي: يؤكِّد الله تعالى اختيارَه واجتباءَه لإبراهيمَ عليه السَّلام في الدُّنيا؛ فقد هداه ووفَّقه للإيمانِ والأعمالِ التي صار بها خليلَ الرحمن، وإمامَ الحنيفيَّة للناس [1123] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/580)، ((تفسير ابن عطية)) (1/212)، ((تفسير ابن كثير)) (1/445)، ((تفسير السعدي)) (ص: 66-67). .
قال سبحانه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120-123] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 27] .
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
أي: إنَّ إبراهيمَ عليه السَّلام من الفائزين السُّعداء في الدار الآخِرة، وفي الرَّفيق الأعلى مع إخوانه المرسَلين والأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام [1124] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/580)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 132)، ((تفسير القرطبي)) (2/133)، ((تفسير ابن كثير)) (1/445)، ((تفسير السعدي)) (ص: 67). .
كما دعَا إبراهيمُ عليه السَّلام بذلك، فقال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء: 83] .
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131).
أي: أمَر الله تعالى خليلَه إبراهيمَ عليه السَّلام حين اصطفاه، بأن يُخلص دِينَه وتوحيدَه له سبحانه، وينقادَ إليه بكل ذلٍّ وخضوعٍ ومَحبَّة، فأجاب إبراهيمُ إلى ذلك على الفور [1125] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/581)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/215)، ((تفسير ابن كثير)) (1/446)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/72). .
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132).
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ.
أي: عهِد إبراهيمُ عليه السَّلام بهذه الكلمة أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ، والتي تمثِّل الملَّةَ الحنيفيَّة، عهِد بها إلى أبنائه، وكذلك فعَل حفيدُه يعقوب بن إسحاق، فعهِد بها إلى أبنائه [1126] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/582)، ((تفسير ابن عطية)) (1/213)، ((تفسير ابن كثير)) (1/446)، ((تفسير السعدي)) (ص: 67)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/727-728)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/74). .
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 26-28] .
يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد اجتبَى لكم هذا الدِّين الذي تعرِفونه، فلا تُفرِّطوا فيه، ولا تُفارقوه في حياتِكم، بل الْزَموه وقُوموا به؛ ليرزقَكم الله تعالى الوفاةَ عليه، فمَن عاش على شيءٍ مات عليه [1127] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/584-585)، ((تفسير القرطبي)) (2/136-137)، ((تفسير السعدي)) (ص: 67)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/728-729). .
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا قرَّر سبحانه لبني إسرائيل أنَّ أباهم يعقوبَ ممَّن أوصى بنيه بالإسلام، قال مبكِّتًا لهم [1128] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (2/179). :
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ.
أي: هل كنتم يا معشرَ اليهود، المكَذِّبين بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، شهودًا حاضرين حين أتتْ أباكم يعقوبَ عليه السَّلام مقدِّماتُ الموت [1129] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/585-586)، ((تفسير ابن عطية)) (1/213-214)، ((تفسير القرطبي)) (2/137)، ((تفسير السعدي)) (ص: 67)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/730-731). .
إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي.
أي: هل شهدتُم يعقوب، وهو يسأل أبناءَه مختبرًا لهم: أيَّ شيءٍ ستعبُدون من بعد وفاتي [1130] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/586)، ((تفسير القرطبي)) (2/137)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/732)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/77). ؟
قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا.
أي: أجاب أبناءُ يعقوبَ عليه السَّلام أباهم بأنَّهم يعبُدون معبودَه ومعبودَ آبائه- وهم: جَدُّه إبراهيم، وعمُّه إسماعيل، وأبوه إسحاق- وهو الذي لا مَعبودَ بحقٍّ سواه، لا يُشرِكون به في عبادته أحدًا من دونه [1131] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/586-587)، ((تفسير ابن كثير)) (1/447)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/734)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/77-78). .
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
أي: مُستسلِمون ومنقادون لأمْره، خاضِعون لعبادتِه [1132] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/586)، ((تفسير ابن كثير)) (1/447)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/734)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/79). .
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134).
أي: يا معشرَ اليهود والنَّصارى، دَعُوا ذِكر الآباء والأجداد، كإبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ، والمسلمين من أولادِهم؛ إذ لا يَنفعُكم الانتسابُ إليهم وإلى أعمالهم الصالِحة، فخيرُهم لا ينفعُكم إنْ كسبتم شرًّا؛ فإنَّهم جماعةٌ قد مضَتْ لسبيلها، وكلٌّ منكم له عملُه الذي يخصُّه، وتَبِعَتُه، من خيرٍ أو شر، ولا يَلحق الآخَر من ذلك شيءٌ، ولا السُّؤال عنه، فلا تُحاسَبون بأعمال سَلفِكم، وإنَّما تُحاسَبون بأعمالكم [1133] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/589)، ((تفسير ابن عطية)) (1/214)، ((تفسير ابن كثير)) (1/447-448)، ((تفسير السعدي)) (ص: 67)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/735-736). .

الفوائد التربويَّة :

1- أنَّه يَنبغي للإنسان أن يَدعوَ لذريَّته بالصَّلاح؛ لقوله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [1135] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/43). .
2- أهميَّة القَبول، وأنَّ المدار في الحقيقة عليه؛ وليس على مجرَّد العَمل، كما قال تبارك وتعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا [1137] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/59). .
3- شدَّة افتقار الإنسان إلى ربِّه؛ حيث كرَّر إبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما السَّلام كلمة: رَبَّنَا؛ وأنَّهما بحاجة إلى ربوبيَّة الله الخاصَّة، التي تقتضي عنايةً خاصَّة، وممَّا يفتقر إليه الإنسانُ دائمًا تثبيت الله، وإلَّا هلَك؛ لقوله تعالى: وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ؛ فإنَّهما مسلمان بلا شكٍّ، ولكن لا يدوم هذا الإسلامُ إلَّا بتوفيق الله تعالى [1139] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/63). .
4- أهميَّة الإخلاص؛ لقوله تعالى حِكايةً عن إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السَّلام: مُسْلِمَيْنِ لَكَ: فقولهما: لَكَ يدلُّ على إخلاص الإسلام لله عزَّ وجلَّ [1140] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/64). .
5- أنَّه يَنبغي التلطُّفُ في الخِطاب؛ لقول إبراهيمَ ويعقوبَ عليهما السَّلام لأبنائهما: يَا بَنِيَّ؛ فإنَّ نداءهم بالبُنوَّة أدْعى لقَبولِ ما يُلقى إليهم [1141] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/76). .
6- أنَّه يَنبغي للإنسان أن يتعاهَدَ نفسه دائمًا حتى لا يأتيَه الموتُ وهو غافل؛ لقوله تعالى: فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [1142] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/76). .
7- أنَّ الأعمال بالخواتيم؛ لقوله تعالى: فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [1143] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/76). .

الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- فضيلة إبراهيمَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ لقوله تعالى: رَبُّهُ؛ حيث أضاف رُبوبيَّته إلى إبراهيم، وهي ربوبيَّة خاصَّة، ولقوله تعالى: فَأَتَمَّهُنَّ؛ ولقوله سبحانه: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [1145] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/43). .
2- أنَّ الله سبحانه وتعالى يُثيب العاملَ بأكثر من عمله؛ فإبراهيم صلَّى الله عليه وسلَّمَ لَمَّا أتمَّ الكلمات، جعَله الله تعالى إمامًا للناس، وأمَر الناس أن يتَّخذوا من مقامِه مصلًّى [1146] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/48). .
3- أدَبُ إبراهيم صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ حيث لم يُعمِّم في هذا الدعاء؛ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ؛ خوفًا من أن يقول الله له: (مَن آمَن فأرْزُقه)، كما قال تعالى حين سأله إبراهيمُ أن يجعل مِن ذُريَّته أئمَّة: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، فتأدَّب في طلب الرِّزق: أن يكون للمؤمنين فقط من أهل هذا البَلد، لكن المسألة صارتْ بعكس الأُولى: ففي الأولى خصَّص الله دعاءَه، وهنا عمَّم [1147] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/55). .
4- التوسُّل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائِه وصِفاته المناسبة لِمَا يدعو به المرء؛ لقوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [1148] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/62). .
5- في قوله تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، جاء الإتيان بصِفتي العِزة والحِكمة في الدعاء ببَعْثِ الرسول؛ لأنَّ ما يجيء به الرسولُ كلُّه حِكمة، وفيه العِزَّة [1149] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/68).   .
6- أنَّ الأصل في العبادات أنَّها توقيفيَّة، أي: إنَّ الإنسان لا يتعبَّد للهِ بشيءٍ إلَّا بما شرَع؛ لقوله تعالى: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [1150] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/63). .
7- أنَّ المخالفين للرُّسُل سفهاء؛ لقوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، وقوله في المنافقين: أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ [البقرة: 13] ، وقوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة: 142] ؛ فإنَّهم وإن كانوا أذكياءَ، وعندهم علمٌ بالصناعة، والسِّياسة، إلَّا أنَّهم في الحقيقةِ سُفهاء؛ لأنَّ العاقلَ هو الذي يتَّبع ما جاءتْ به الرُّسُلُ فقط [1151] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/72). .
8- في قوله تعالى حِكايةً عن إبراهيمَ عليه السَّلام: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ، مناسبةٌ بين أَسْلَمْتُ ورَبِّ، وكأنَّ ذِكر الربوبيَّة هنا عِلَّةٌ لقوله تعالى: أَسْلَمْتُ؛ فإنَّ الربَّ هو وحده الذي يستحقُّ أن يُسْلَم له [1152] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/73). .
9- في قوله تعالى: إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ، إشارةٌ إلى الوصية عند حضور الأجَل، ويُشترَط أن يكون الموصِي على وعيٍ بما يقول [1153] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/79). .
10- جواز إطلاق اسم الأبِ على العمِّ تغليبًا؛ لقوله تعالى: وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ، وإسماعيل هو عمُّ يعقوب عليهما السلام [1154] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/79). .
11- بيانُ عدْل الله سبحانه وتعالى، وأنَّه لا يُؤاخِذ أحدًا بما لم يعملْه؛ لقوله تعالى: وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [1155] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/82). .

بلاغة الآيات:

1- في قوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ قُدِّم المفعول (إبراهيم) للاهتمام بمَن وقع عليه الابتلاء، ولتشريف إبراهيمَ بإضافة اسم الربِّ إلى اسمه [1156] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/205)، ((تفسير أبي حيان)) (1/600). .
2- قوله: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا في هذه الآية نوعٌ طريفٌ من أنواع الفصاحة يُقال له: المراجعة، وهو أن يحكي المتكلم مراجعة في القول جرَت بينه وبين محاور في الحديث، أو بين اثنين غيره، بأوْجَز عبارة، وأبلغ إشارة، وأرشق محاورة، مع عذوبة اللفظ وجزالته، وسهولة السَّبك، وقد جمعت هذه الآية- التي عِدة ألفاظها ثلاث عشرة لفظة- معانيَ الكلام، من الخبر والاستخبار، والأمر والنهي والوعد والوعيد [1157] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/179). .
3- في قوله: لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
جمع الطائفين والعاكفين جمع سلامة؛ لأنه أقربُ إلى لفظ الفعل بمنزلة يطوفون، أي يُجدِّدون الطواف؛ للإشعار بعِلَّة من علل تطهير البيت، وهو قُرب هذين من البيت بخلاف الركوع والسجود، فإنَّه لا يلزم أن يكونَا في البيت ولا عنده؛ فلذلك لم يُجمعَا جمع سلامة [1158] يُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (1/416)، ((تفسير القاسمي)) (1/395)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/712). .
وقدَّم الطائفين على العاكفين؛ لقُرب الطَّواف من البيت واختصاصه به، بخِلاف العكوف؛ فإنه يكون فيه وفي غيره [1159] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (1/395). .
4- في قوله: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
خصَّ الركوع والسجود بالذِّكر من جميع أحوال المصلي؛ لأنَّهما أقرب أحواله إلى الله [1160] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/612). .
وقُدِّم الركوع على السجود؛ لتقدُّمه عليه في الزمان [1161] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/612). .
وتَرْك حرف العطف بينهما؛ لتقاربهما ذاتًا وزمانًا؛ ولأنَّ المقصود بهما المصلُّون، والرُّكَّعُ والسُّجود، وإنِ اختلفت هيآتهما، فيقابلهما فِعلٌ واحد وهو الصَّلاة، فناسب أنْ لا يُعطف؛ لئلَّا يتوهم أنَّ كلَّ واحد منهما عبادة على حيالها، وليستَا مجتمعتينِ في عبادة واحدة، وليس كذلك، وهذا بخلاف الطَّائِفينَ والعاكفينَ فقد ناسَب معهما العطفُ؛ لفرط التبايُن بينهما [1162] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/612)، ((تفسير القاسمي)) (1/395). .
وجُمعَا جمْعَ تكسير؛ لمقابلتهما ما قبلهما لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ من جمَعْي السَّلامة، فكان ذلك تنويعًا في الفصاحة، وخالف بين وزْنَي تكسيرهما؛ تنويعًا في الفصاحة أيضًا، وكان آخرهما السُّجود على فعول، لا على فُعَّل، لأجل كونها فاصلةً [1163] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/612). .
5- قوله: بَلَدًا آمِنًا في هذه السورة قال: (بلدًا) على التنكير، وقال في سورة إبراهيم: (البلد)؛ وهذا إمَّا لأنَّ الدَّعوة الأولى وقعتْ ولم يكُن المكان قد جُعل بلدًا، والدعوة الثانية وقعتْ وقد جعل بلدًا، فكأنَّه قال: اجعل هذا المكان الذي صيَّرته بلدًا ذا أمْنٍ وسلامة، فيكون كل لفظ مناسبًا لمقامه [1164] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (4/49)، ((تفسير القاسمي)) (1/396).   .
وإمَّا أن تكون الدعوتانِ وقعتَا بعدَما صار المكانُ بلدًا، إلَّا أنَّه تفنَّن في الموضعين، فحَذَف من كلٍّ ما أثبته في الآخَر احتباكًا، والأصْل: ربِّ اجعل هذا البلد بلدًا آمنًا، ويكون التنكيرُ للطلب مع المبالغة [1165] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (1/396).   .
6- في قوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ عبَّر بالمضارع في يَرْفَعُ مع أنه حكاية عن الماضي؛ لاستحضار الحالة [1166] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1/717).   .
- وتأخير عطف وَإِسْمَاعِيلُ عن المفعول الْقَوَاعِدَ؛ لعلَّه للإيذان بأنَّ الأصلَ في الرَّفْع هو إبراهيم، وإسماعيل تبعٌ له [1167] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/160).   .
7- قوله: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
في ندائهما بلفظ رَبَّنَا تلطف واستعطاف بذكر هذه الصفة الدالة على التربية والإصلاح بحال الداعي [1168] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/619).   .
وفيه: تأكيدُ الجملة بـ(إنَّ)؛ لغرض كمالِ قوةِ يقينِهما بمضمونها، وقصرُ نعْتيِ السمع والعلم عليه تعالى؛ لإظهار اختصاصِ دُعائهما به تعالى، وانقطاعِ رجائهما عما سواه بالكلية [1169] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/161).   .
وفيه: الإتيان بضمير الفصل (أنت)؛ لبيان كمال الوصفين له تعالى بتنزيل سمع غيره وعلم غيره منزلة العدَم، ويجوز أن يكون قصرًا حقيقيًّا باعتبار متعلِّقٍ خاصٍّ، أي السميع العليم لدعائنا، لا يعلمه غيرك، وهذا قصرٌ حقيقيٌّ مقيَّد [1170] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1/719)؛ قال ابن عاشور: (وهو نوعٌ مغايرٌ للقَصْر الإضافي، لم ينبِّه عليه علماءُ المعاني).   .
8- في قوله: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ
تَكرار النداء بقوله: رَبَّنَا، وفائدته: إظهار الضراعة إلى الله تعالى، وإظهار أنَّ كلَّ دعوى من هاته الدعوات مقصودةٌ بالذات؛ ولذلك لم يُكرر النداء إلَّا عند الانتقال من دعوةٍ إلى أخرى [1171] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1/719).   .
وقوله: لك يُفيد الحَصر، أي نكون مسلمين لك لا لغيرك، وهذا يدلُّ على أنَّ كمال سعادة العبد في أنْ يكون مسلمًا لأحكام الله تعالى وقضائه وقدَره، وأنْ لا يكون ملتفتَ الخاطِر إلى شيءٍ سواه [1172] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (4/54).   .
9- وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فيه التأكيد باللام في الجملة الأولى (ولقد)، وبـ(إنَّ) وباللام في الثانيَّة (وإنه - لَمِن)؛ وذلك لأجل الاهتمام بالخبر الأخير، ولأنَّ الإخبار عن حالة مغيبة في الآخرة، يحتاج إلى مزيد تأكيد، بخلاف حال الاصطفاء في الدُّنيا؛ فإنه يُشاهد ويُنقل جيلًا بعد جيل [1173] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/630). .
10- قوله: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فيه التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيبة، ولو جرى على الكلام السابق، لكان: (إذ قلنا له أسلم) [1174] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/630). . والالتفاتُ مع التعرُّض لعنوان الربوبيَّةِ والإضافةِ إليه عليه السلام رَبُّه؛ لإظهارِ مزيدِ اللُّطفِ به، والاعتناءِ بتربيته [1175] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/163). .
11- قوله: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ... فيه مؤكِّداتٌ عديدةٌ للدَّلالة على شِدَّة الاهتمام بهذا الأمر:
فالتعبير بالماضي وصَّى لتحقيق الوقوع [1176] يُنظر: ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 180). .
ولفظ الوصية أوكد من الأمْر؛ ولذلك جاء هنا في هذا المقام الذي يكون احتياط الإنسان لدينه أشدَّ وأتمَّ؛ ترغيبًا في قَبول الدِّين [1177] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (4/64)، ((تفسير القاسمي)) (1/405). .
وتخصيص بنيه بذلك؛ لأن اهتمامه بذلك كان أشدَّ من اهتمامه بغيره [1178] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (1/405). .
وتعميم الوصية لجميع بنيه؛ يدل أيضًا على شدة الاهتمام [1179] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (4/64). .
وإطلاق هذه الوصية غير مقيَّدةٍ بزمانٍ معيَّن ومكانٍ معيَّن [1180] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (4/64). .
والزَّجر البليغ عن أن يموتوا غير مسلمين؛ للدلالة أيضًا على شدَّة الاهتمام [1181] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (4/64). .
12- في قوله: فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
جاء إدخال حرف النَّهي على ما ليس بمنهيٍّ عنه؛ لنكتةٍ لطيفة، وهي: إظهار أنَّ موتهم على غير الإسلام موتٌ لا خير فيه، وأنه ليس بموت السُّعداء، وأن من حق هذا الموت أن لا يحلُّ فيهم، وهذا نهيٌ عن تعاطي الأشياء التي تكون سببًا للموافاة على غير الإسلام، فتضمن هذا الكلام إيجازًا بليغًا، ووعظًا وتذكيرًا [1182] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/637)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/190). .
وفيه: توكيدٌ لمعنى النهي بنون التوكيد المشدَّدة في تَمُوتُنَّ [1183] يُنظر: ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 181). .
13- قوله: قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ ... الآية
في الآية: نوعٌ من أنواع البلاغة يُسمَّى الاطِّراد [1184] الاطراد: هو الجَرْي على نسق واحد، واطراد الشيء: متابعة بعضه بعضًا، وهو في البلاغة: ذِكر أسماء آباء الممدوح أو غيره مُرتَّبةً على حُكم ترتيبها في الولادة من غير تكلُّف. يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/296)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/192)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 143 - 144). ، وهو أن يَطَّرِدَ للمتكلِّم أسماءُ الآباء مُرتَّبةً على حُكم ترتيبها في الميلاد [1185] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/192). .
وفيها: ما  يسمى بـ(الاحتراس) [1186] الاحتراس: هو التحرُّز من الشيء والتحفُّظ منه، وهو نوعٌ من أنواع إطناب الزِّيادة، وهو أن يكون الكلام محتملًا لشيء بعيد، فيُؤتى بكلام يَدفع ذلك الاحتمال، أو الإتيان في كلام يُوهِم خلاف المقصود بما يَدْفَع ذلك الوهمَ، ويُسمِّيه البعض التَّكميل. يُنظر: ((البرهان)) للزركشي (3/64)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/251)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 49). ؛ لأنَّه لو وقف عند آبَائِك لما اتَّضح صِحَّة المعنى؛ لأن مطلق الآباء يتناول من الأب الأدْنى إلى آدَم وفي آباء يعقوب عليه السلام مَن لا يجب اتباعُ ملته، فاحترس بذكر البدل عمَّا يرد على المُبدَل منه، لو وقْع الاختصار عليه [1187] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحي لدين درويش (1/192). .
14- قوله: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
فيه: التعبير بالجملة الاسمية؛ للتأكيد، ولإفادة ثبات الوصف لهم ودوامه، بعد أن أُفيد بالجملة الفعليَّة المعطوف عليها، معنى التجدُّد والاستمرار [1188] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1/734). .
وفيه: تقديمُ الجار والمجرور لَهُ على الخبَر مُسْلِمُونَ؛ لتقوية المعنى وزيادة توكيده [1189] يُنظر: ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 181). ، ومراعاةً لفواصل الآيات.