موسوعة التفسير

سورةُ الحَديدِ
الآيات (25-27)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ

غريب الكلمات:

بِالْقِسْطِ: أي: بالعدلِ، وأصلُ القِسطِ يدُلُّ على مَعنيَينِ مُتضادَّيْنِ: العَدلِ، والجَوْرِ؛ يُقالُ: أَقْسَطَ: إذا عدَل، وقَسَط: إذا جارَ [563] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 103)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/85)، ((المفردات)) للراغب (ص: 670). .
بَأْسٌ: أي: قُوَّةٌ وشِدَّةٌ، وأصلُ (بأس): يدُلُّ على الشِّدَّةِ وما ضارَعَها [564] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 454)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 121)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/328). .
قَفَّيْنَا: أي: أتْبَعْنا، تَقولُ: قَفَوْتُ الرَّجُلَ: إذا تَبِعْتَه وسِرْتَ في أثَرِه، وأصلُ (قفو): يدُلُّ على إتباعِ شَيءٍ لِشَيءٍ [565] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/427)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 372)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/112)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 85). .
رَأْفَةً: الرَّأفةُ: أشَدُّ الرَّحمةِ، وأعلَى معانيها، وأبلغُها وأرَقُّها، وأصلُ (رأف): يدُلُّ على رقَّةٍ ورحمةٍ [566] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/654) و(3/595) و(22/427)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 240)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 91)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/471)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (2/55)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 244). .
وَرَهْبَانِيَّةً: الرَّهْبانيَّةُ: الغُلُوُّ في التَّعَبُّدِ، بالانفِرادِ في الجِبالِ، والانقِطاعِ عن النَّاسِ في الصَّوامِعِ، ورَفْضِ النِّساءِ، وتَرْكِ الدُّنيا، وهي اسمٌ مَبنيٌّ مِنَ «الرَّهبةِ» بمعنى الخَوفِ، وأصلُ (رهب): يدُلُّ على الخَوفِ [567] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 454)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/447)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 391)، ((تفسير ابن جزي)) (2/349). .
ابْتَدَعُوهَا: أي: أحْدَثوها واختَرَعوها، وأصلُ (بدع): يدُلُّ على ابتِداءِ شَيءٍ وصُنْعِه لا عن مِثالٍ [568] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/431)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/209)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 392). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ
قَولُه تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا في نَصبِ «رَهبانيَّةً» وَجهانِ:
أحَدُهما: أنَّها مَنصوبةٌ على الاشتِغالِ بفِعلٍ مَحذوفٍ يُفَسِّرُه الفِعلُ المذكورُ بَعْدَها، أي: وابتَدَعوا رَهبانيَّةً ابتَدَعوها. فالوَقفُ تامٌّ عِندَ قَولِه: وَرَحْمَةً، ثمَّ يَبتَدِئُ: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا، أي: لم نَشْرَعْها لهم، بل هم ابتَدَعوها مِن عندِ أنفُسِهم، ولم نَكتُبْها عليهم، وجُملةُ ابْتَدَعُوهَا مُفَسِّرةٌ لا محَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
والوَجهُ الثَّاني: أنَّها مَعطوفةٌ على رَأْفَةً وَرَحْمَةً، و«جَعَلَ» على هذا بمعنى «خَلَقَ»؛ فالجَعْلُ هنا جَعلٌ كَونيٌّ قَدَريٌّ، وليس جَعْلًا شَرعيًّا دِينيًّا، وابْتَدَعُوهَا صِفةٌ لـ (رَهْبَانِيَّةً)، أي: جَعَل اللهُ في قُلوبِهم الرَّأفةَ والرَّحمةَ والرَّهبانيَّةَ المُبتَدَعةَ [569] قال ابن عطيَّة: (والمعتزلةُ تُعرِبُ وَرَهْبَانِيَّةً أنَّها نصبٌ بإضمارِ فِعلٍ يُفَسِّرُه ابْتَدَعُوهَا، وليست بمعطوفةٍ على الرَّأفةِ والرَّحمةِ، ويَذهَبون في ذلك إلى أنَّ الإنسانَ يَخلُقُ أفعالَه، فيُعرِبون الآيةَ على مَذهَبِهم). ((تفسير ابن عطية)) (5/270). .
قَولُه تعالى: إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ مَنصوبٌ على الاستِثناءِ المُنقَطِعِ، أي: لم نَفْرِضْها عليهم، ولكِنَّهم ابتَدَعوها ابتِغاءَ رِضوانِ اللهِ [570] يُنظر: ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) لابن تيمية (2/189-193)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/60)، ((تفسير ابن جزي)) (2/349)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/254- 257)، ((مغني اللبيب)) لابن هشام (ص: 752)، ((تفسير الألوسي)) (14/189)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/423). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: لقد أرسَلْنا رُسُلَنا بالحُجَجِ والبَراهينِ الواضِحةِ، وأنزَلْنا معهم الكِتابَ والميزانَ؛ لِيَقُومَ النَّاسُ بالعَدْلِ، وأنزَلْنا الحديدَ فيه قُوَّةٌ وصَلابةٌ، ومنه تُصنَعُ آلاتُ الحربِ، وفيه مَنافِعُ للنَّاسِ في مَعايِشِهم، ولِيَعلَمَ اللهُ مَن يَستَعمِلُ السِّلاحَ المُتَّخَذَ مِنَ الحَديدِ في نَصرِ اللهِ ورُسُلِه بالغَيبِ، إنَّ اللهَ قَويٌّ فلا يُعجِزُه شَيءٌ، عزيزٌ لا يُغلَبُ ولا يُقهَرُ سُبحانَه.
ثمَّ يقولُ تعالى: ولقد أرسَلْنا نُوحًا وإبراهيمَ، وجعَلْنا في نَسْلِهما الأنبياءَ والكُتُبَ؛ فمِنهم مُهْتَدٍ إلى الحَقِّ، وكثيرٌ مِنهم خارِجونَ عن طاعةِ اللهِ، ثمَّ أتْبَعْنا على آثارِهم رُسُلَنا واحِدًا تِلْوَ الآخَرِ، وأرسَلْنا مِن بَعْدِهم عيسى ابنَ مَريَمَ، وآتَيْناه الإنجيلَ، وجعَلْنا في قُلوبِ الَّذين اتَّبَعوه رِقَّةً ورَحمةً. ورَهبانيَّةً ابتَدَعوها مِن عِندِ أنفُسِهم، لم نَفرِضْها عليهم، بل ابتَدَعوها طَلَبًا لِرِضا اللهِ تعالى، فما رَعَوا تلك الرَّهبانيَّةَ الَّتي ابتَدَعوها الرِّعايةَ الواجِبةَ، فآتَيْنا المؤمِنينَ مِنهم أجْرَهم، وكثيرٌ مِنهم خارِجونَ عن طاعةِ اللهِ!

تفسير الآيات:

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25).
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ.
أي: لقد أرسَلْنا رُسُلَنا بالحُجَجِ والبَراهينِ الواضِحةِ الدَّالَّةِ على صِدْقِهم [571] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/424)، ((تفسير القرطبي)) (17/260)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/146)، ((تفسير ابن كثير)) (8/27)، ((تفسير السعدي)) (ص: 842). .
وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ.
أي: وأنزَلْنا مع رُسُلِنا الكِتابَ بالحَقِّ، وأنزَلْنا معهم العَدْلِ [572] قال ابنُ عطيَّة: (وَالْمِيزَانَ: العَدْلَ في تأويلِ أكثَرِ المُتأوِّلينَ. وقال ابنُ زَيدٍ وغَيرُه مِن المتأوِّلينَ: أراد الموازينَ المُصَرَّفةَ بيْنَ النَّاسِ. وهذا جزءٌ مِنَ القَولِ الأوَّلِ. وقَولُه: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ يُقَوِّي القَولَ الأوَّلَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/269). وقال ابنُ تيميَّة: (والميزانُ يُفَسِّرُه السَّلَفُ بالعَدلِ، ويُفَسِّرُه بَعضُهم بما يُوزَنُ به، وهما مُتلازِمانِ). ((الرد على المنطقيين)) (ص: 371). وقال ابن كثير: (وَالْمِيزَانَ وهو: العدلُ. قاله مُجاهِدٌ، وقَتادةُ، وغيرُهما. وهو الحقُّ الَّذي تَشهَدُ به العقولُ الصَّحيحةُ المُستقيمةُ، المُخالِفةُ للآراءِ السَّقيمةِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/27). قيل: المعنَى: وأمَرْنا بالعَدْلِ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/378)، ((تفسير الشوكاني)) (5/212). وقال ابن كثير: (... بِالْقِسْطِ أي: بالحقِّ والعدلِ، وهو: اتِّباعُ الرُّسُلِ فيما أخبَروا به، وطاعتُهم فيما أمَروا به؛ فإنَّ الَّذي جاؤُوا به هو الحقُّ الَّذي ليس وراءَه حقٌّ). ((تفسير ابن كثير)) (8/27). ؛ لِيَتعامَلَ النَّاسُ بَيْنَهم بالعَدلِ [573] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/424، 425)، ((الوسيط)) للواحدي (4/253)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1071)، ((تفسير القرطبي)) (17/260)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/36، 366)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/416)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 422). قال السعدي: (الكِتابُ هو اسمُ جِنسٍ يَشملُ سائِرَ الكُتُبِ الَّتي أنزَلَها اللهُ لهدايةِ الخَلقِ، وإرشادِهم إلى ما يَنفَعُهم في دينِهم ودُنياهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 842). وقال الواحدي: (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ لِيَتعامَلَ النَّاسُ بَيْنَهم بالعَدلِ). ((الوجيز)) (ص: 1071). .
كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ [الشورى: 17] .
وقال سُبحانَه: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 213] .
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الإعراضُ بعدَ الإبلاغِ في الإيضاحِ مُوجِبًا للرَّدِّ على الفَسادِ بأنواعِ الجِهادِ؛ قال مُهَدِّدًا ومُمْتَنًّا، ترغيبًا وترهيبًا [574] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/300). :
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ.
أي: وخَلَقْنا الحديدَ، فيه قُوَّةٌ وصَلابةٌ شَديدةٌ، ومنه تُصنَعُ آلاتُ الحربِ [575] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/425)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/301)، ((تفسير السعدي)) (ص: 842)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 424). قال الشوكاني: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ أي: خلَقْناه، كما في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر: 6] والمعنى: أنَّه خلَقَه مِن المعادِنِ، وعَلَّم النَّاسَ صَنْعَتَه). ((تفسير الشوكاني)) (5/213). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 424). .
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ.
أي: وفي الحَديدِ مَنافِعُ كَثيرةٌ للنَّاسِ في مَعايِشِهم وحاجاتِهم المُتنَوِّعةِ [576] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/425)، ((تفسير ابن كثير)) (8/28)، ((تفسير السعدي)) (ص: 842)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 424). قال الرَّسْعَني: (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ في مَعايِشهم ومصالحِهم وصنائِعِهم. فقَلَّ أن تَرى صنعةً إلَّا والحديدُ قِوامُها، أو له فيها مَدخَلٌ بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ). ((تفسير الرسعني)) (7/654). .
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ.
أي: ولِيَعلَمَ اللهُ -عِلمَ رُؤيةٍ وظُهورٍ للوُجودِ يَترَتَّبُ عليه الثَّوابُ والعِقابُ- مَن يَنصرُ دينَ الله، ويَنصرُ رُسُلَه، بالغَيبِ [577] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/261)، ((تفسير ابن كثير)) (8/28)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/301، 302)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/418)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 424-426). قال البقاعي: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ... عِلمَ شَهادةٍ؛ لأجْلِ إقامةِ الحُجَّةِ بما يَليقُ بعُقولِ الخَلقِ، فيكَونَ الجَزاءُ على العَمَلِ لا على العِلمِ). ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/301). وقال ابن عثيمين: (المرادُ عِلْمُ الظُّهورِ الَّذي يترتَّبُ عليه الثَّوابُ أو العِقابُ...؛ لأنَّه سُبحانَه لم يَزَلْ ولا يَزالُ عالِمًا بكُلِّ شَيءٍ، ولكن لا يُشْكِلْ عليك الأمرُ، لا تَقُلْ: إنَّ اللهَ لا يَعلَمُ إلَّا بعدَ هذا! فالعِلمُ عِلْمانِ: عِلْمٌ بالشَّيءِ قبْلَ وُجودِه، وعِلْمٌ بالشَّيءِ بعدَ وُجودِه، والعِلمُ السَّابقُ لا يَترتَّبُ عليه ثَوابٌ ولا عِقابٌ حتَّى يُمتحَنَ النَّاسُ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 424). وقولُه بِالْغَيْبِ: قيل: بالغَيبِ منه عنهم، أو غائبًا عنهم، أو غائبينَ عنه، أو وهم لم يَرَوُا اللهَ. وممَّن اختار هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، والرازيُّ، وجلال الدين المحلي، والشوكاني، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/426)، ((تفسير الرازي)) (29/212)، ((تفسير الجلالين)) (11/111)، ((تفسير الشوكاني)) (5/213)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 426). وقيل: المرادُ: ولم يرَ الله ولا الآخرةَ. وممَّن اختاره: البغويُّ، وابن الجوزي، والخازن. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/33)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/238)، ((تفسير الخازن)) (4/252). قال القرطبي: (وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ قال ابنُ عبَّاسٍ: يَنصُرونَهم لا يُكَذِّبونهم، ويؤمِنون بهم بِالْغَيْبِ أي: وهم لا يَرَوْنَهم). ((تفسير القرطبي)) (17/261). وقيل: أي: بما سمِع مِن الأوصافِ الغائبةِ عنه، فآمَن بها؛ لقيامِ الأدِلَّةِ عليها. وممَّن اختاره: ابنُ عطية، وأبو حيَّان، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/269)، ((تفسير أبي حيان)) (10/ 114)، ((تفسير العليمي)) (6/545). وقال البِقاعي: (كائنًا ذلك النَّصرُ بالغَيبِ مِن الوعدِ والوعيدِ، أي: بسببِ تصديقِ النَّاصِرِ لِما غاب عنه مِن ذلك. أو: غائبًا عن كلِّ ما أوجَب له النُّصرةَ). ((نظم الدرر)) (7/459). .
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان طَلَبُ النُّصْرةِ مَظِنَّةً لتَوَهُّمِ الضَّعفِ، نفى ذلك [578] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/302). ، وذَكَر أنَّه غَنِيٌّ عن نُصرتِه بقُدرتِه وعِزَّتِه، وأنَّه إنَّما كَلَّفَهم الجِهادَ لِمَنفعةِ أنفُسِهم، وتحصيلِ ما يترَتَّبُ لهم مِن الثَّوابِ [579] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/114). .
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ.
أي: إنَّ اللهَ ذو القُوَّةِ البالغةِ فلا يُعجِزُه شَيءٌ، وذو العِزَّةِ التَّامَّةِ فيَمتَنِعُ عليه كُلُّ عَيبٍ وسُوءٍ ونَقصٍ؛ فهو الغالِبُ القاهِرُ الَّذي لا يُغلَبُ ولا يُقهَرُ [580] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/426)، ((تفسير ابن كثير)) (8/28)، ((تفسير السعدي)) (ص: 842). !
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر نبُوَّةَ الأنبياءِ عُمومًا؛ ذكَرَ مِن خَواصِّهم النَّبِيَّيْنِ الكريمَينِ نُوحًا وإبراهيمَ اللَّذَينِ جَعَل اللهُ النُّبُوَّةَ والكتابَ في ذُرِّيَّتِهما [581] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 843). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (10/114). .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ.
أي: ولقد أرسَلْنا نُوحًا وإبراهيمَ إلى قَومِهما [582] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/426)، ((تفسير السمرقندي)) (3/410)، ((تفسير ابن كثير)) (8/28). .
وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ.
أي: وجعَلْنا في نَسْلِ نُوحٍ وإبراهيمَ جَميعَ الأنبياءِ والكُتُبِ الإلهيَّةِ مِن بَعْدِهما؛ كالتَّوراةِ، والزَّبُورِ، والإنجيلِ، والقُرآنِ [583] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/426)، ((تفسير القرطبي)) (17/262)، ((تفسير ابن كثير)) (8/28)، ((تفسير السعدي)) (ص: 842). وقال ابنُ عاشور: (المرادُ بـ الْكِتَابَ: ما كان بيَدِ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وذُرِّيَّةِ إبراهيمَ مِن الكُتُبِ الَّتي فيها أصولُ ديانتِهم مِن صُحُفِ إبراهيمَ، وما حَفِظوه مِن وَصاياه ووصايا إسماعيلَ وإسحاقَ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/419). .
كما قال تعالى عن نُوحٍ عليه السَّلامُ: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات: 77 - 79] .
وقال سُبحانَه عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت: 27] .
وقال الله تبارك وتعالى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات: 112، 113].
فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ.
أي: فمِن ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وإبراهيمَ مَن هو مُهْتَدٍ إلى الحَقِّ [584] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/426)، ((تفسير السعدي)) (ص: 843)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 427). .
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ.
أي: وكثيرٌ مِن ذُرِّيَّتِهما خارِجونَ عن طاعةِ اللهِ، ضالُّونَ عن طَريقِ الحَقِّ والهُدى [585] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/426)، ((تفسير القرطبي)) (17/262)، ((تفسير السعدي)) (ص: 843)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/419). .
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27).
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا.
أي: ثمَّ أتْبَعْنا على آثارِهم رُسُلَنا إلى أقوامِهم، فأرسَلْناهم واحِدًا تِلْوَ آخَرَ [586] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/427)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 843)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/420)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 427). قيل: الضَّميرُ في قَولِه تعالى: عَلَى آَثَارِهِمْ يعودُ إلى الذُّرِّيَّةِ، أي: على آثارِ الذُّرِّيَّةِ. وممَّن ذهب إلى هذا: مكِّي، والقرطبي. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7334)، ((تفسير القرطبي)) (17/262). وقيل: على آثارِ نُوحٍ وإبراهيمَ عليهما السَّلامُ. وممَّن اختاره: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/427)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/129). وقيل: مِن بَعدِ نُوحٍ وإبراهيمَ وذُرِّيَّتِهما. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ الجوزي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/246)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/238). وقال النسفي: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ أي: نوحٍ وإبراهيمَ ومَن مضى مِن الأنبياءِ). ((تفسير النسفي)) (3/442). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 427). وقال البيضاوي: (أي: أرسَلْنا رَسولًا بعْدَ رَسولٍ، حتَّى انتهى إلى عيسى عليه السَّلامُ، والضَّميرُ لنُوحٍ وإبراهيمَ ومَن أُرسِلَا إليهم، أو مَن عاصَرَهما مِنَ الرُّسُلِ). ((تفسير البيضاوي)) (5/190). وقال البِقاعي: (عَلَى آَثَارِهِمْ أي: الأبوَينِ المَذكورَينِ ومَن مضى قَبْلَهما مِنَ الرُّسُلِ، ولا يعودُ الضَّميرُ على الذُّرِّيَّةِ؛ لأنَّها باقيةٌ مع الرُّسُلِ وبَعْدَهم). ((نظم الدرر)) (19/305). .
كما قال الله تبارك وتعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ [المؤمنون: 44].
وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان عيسى عليه السَّلامُ أعظَمَ مَن جاء بعْدَ مُوسى عليه السَّلامُ مِن بني إسرائيلَ؛ وهو المُؤَيَّدُ به هذا النَّبيُّ الخاتَمُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في تجديدِ دِينِه، وتقريرِ شَريعتِه، وكان الزُّهْدُ والرَّأفةُ والرَّحمةُ في تابِعِيه في غايةِ الظُّهورِ، مع أنَّ ذلك لم يَمنَعْهم مِن القَسوةِ المُنَبِّهةِ سابِقًا على أنَّ المُوجِبَ لها طُولُ الأمَدِ، النَّاشئِ عنها الإعراضُ عن الآياتِ الحاضِرةِ معه، والكِتابِ الباقي بَعْدَه- خَصَّه بالذِّكرِ، فقال تعالى [587] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/305). :
وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ.
أي: وأرسَلْنا مِن بَعْدِهم عيسى ابنَ مَريَمَ، وآتَيْناه الكِتابَ المُسَمَّى بالإنجيلِ [588] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/427)، ((تفسير القرطبي)) (17/262)، ((تفسير السعدي)) (ص: 843). .
كما قال تعالى: وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [المائدة: 46] .
وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً.
أي: وجعَلْنا في قُلوبِ الَّذين اتَّبَعوا عِيسى على دِينِه رِقَّةً ولِينًا ورَحمةً [589] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/427)، ((تفسير السمعاني)) (5/379)، ((تفسير ابن عطية)) (5/270)، ((تفسير القرطبي)) (17/262)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 428). والفرقُ بيْنَ الرَّأفةِ والرَّحمةِ أنَّ الرَّأفةَ أبْلَغُ مِن الرَّحمةِ، فهي أشَدُّ الرَّحمةِ وأرَقُّها. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/59)، ((الفروق اللغوية)) للعسكري (ص: 196). وقيل: الرَّأفةُ: الرَّحمةُ المُتعلِّقةُ بدَفْعِ الأذَى والضُّرِّ، والرَّحمةُ: العطْفُ والمُلايَنةُ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/421). .
كما قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة: 82 - 84] .
وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ.
أي: ورَهبانيَّةً ابتَدَعوها مِن عِندِ أنفُسِهم، ولم نَفرِضْها عليهم؛ فاعتَزَلوا النَّاسَ، ورَفَضوا الزَّواجَ، وتَرَكوا الدُّنيا، وآثَروا العُكوفَ والتَّفَرُّغَ للعبادةِ في الصَّوامِعِ أو الجِبالِ أو غَيرِها [590] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/427)، ((تفسير ابن عطية)) (5/270)، ((تفسير القرطبي)) (17/263)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (2/188، 189)، ((تفسير ابن جزي)) (2/ 349)، ((تفسير ابن كثير)) (8/29)، ((تفسير السعدي)) (ص: 843)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 428). قال ابنُ تيميَّةَ: (للنَّاسِ في قَولِه: وَرَهْبَانِيَّةً قَولانِ: أحَدُهما: أنَّها مَنصوبةٌ -يعني: ابتَدَعوها- إمَّا بفِعلٍ مُضمَرٍ يُفَسِّرُه ما بَعْدَه، أو يُقالُ: هذا الفِعلُ عَمِلَ في المُضمَرِ والمُظهَرِ، كما هو قَولُ الكوفيِّينَ. حكاه عنهم ابنُ جَريرٍ، وثَعلَبٌ وغَيرُهما... وعلى هذا القَولِ فلا تكونُ الرَّهبانيَّةُ مَعطوفةً على الرَّأفةِ والرَّحمةِ. والقَولُ الثَّاني: أنَّها مَعطوفةٌ عليها، فيكونُ اللهُ قد جَعَل في قُلوبِهم الرَّأفةَ والرَّحمةَ والرَّهبانيَّةَ المُبتدَعةَ، ويكونُ هذا جعلًا خَلْقِيًّا كَونيًّا، والجَعْلُ الكَونيُّ يَتناوَلُ الخَيرَ والشَّرَّ، كقَولِه تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص: 41] ، وعلى هذا القَولِ فلا مَدْحَ للرَّهبانيَّةِ بجَعْلِها في القُلوبِ، فثَبَت على التَّقديرَينِ أنَّه ليس في القُرآنِ مَدحٌ للرَّهبانيَّةِ). ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (2/189-191). وقال البِقاعي: (ولَمَّا قَدَّم المعمولَ لفِعلٍ غَيرِ مَذكورٍ؛ لِيَدُلَّ عليه بما يُفَسِّرُه، لِيَكونَ مَذكورًا مرَّتينِ تأكيدًا له، وإفهامًا لذَمِّ نَفْسِ الابتِداعِ- أتْبَعَه المُفَسِّرَ لعامِلِه، فقال: ابْتَدَعُوهَا... وفي التَّقديمِ على العامِلِ سِرٌّ آخَرُ، وهو الصَّلاحيةُ للعَطفِ على ما قَبْلَها؛ لئَلَّا يُتوهَّمَ في لَفظِ الابتِداعِ أنْ لا صُنْعَ للهِ فيها). ((نظم الدرر)) (19/306، 307). !
إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ.
أي: ما ابتَدَعوها إلَّا طَلَبًا لِرِضا اللهِ تعالى [591] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/427)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/60، 61)، ((تفسير السعدي)) (ص: 843)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 428). قال القرطبي: (وقَولُه تعالى: إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ أي: ما أمَرْناهم إلَّا بما يُرضي اللهَ. قاله ابنُ مسلم. وقال الزَّجَّاجُ: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ معناه: لم نَكتُبْ عليهم شيئًا البتَّةَ، ويكونُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ بدلًا مِنَ الهاءِ والألِفِ في كَتَبْنَاهَا، والمعنى: ما كتَبْنا عليهم إلَّا ابتغاءَ رِضوانِ اللهِ. وقيل: إِلَّا ابْتِغَاءَ الاستِثناءُ مُنقَطِعٌ، والتَّقديرُ: ما كتَبْناها عليهم لَكِنِ ابتَدَعوها ابتِغاءَ رِضوانِ اللهِ). ((تفسير القرطبي)) (17/263). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/ 130). وقال ابن كثير: (وقولُه: إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فيه قَولانِ؛ أحدُهما: أنَّهم قصَدوا بذلك رِضوانَ الله، قاله سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وقَتادةُ. والآخَرُ: ما كتَبْنا عليهم ذلك، إنَّما كتَبْنا عليهم ابتِغاءَ رِضوانِ الله). ((تفسير ابن كثير)) (8/29). .
فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا.
أي: فما رَعَوا تلك الرَّهبانيَّةَ الَّتي ابتَدَعوها الرِّعايةَ الواجِبةَ، وما قاموا بها حَقَّ القيامِ [592] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/433)، ((تفسير القرطبي)) (17/263)، ((تفسير السعدي)) (ص: 843)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/420)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 428). قال ابنُ جرير: (الَّذين لم يَرعَوها حَقَّ رِعايتِها مُمكِنٌ أن يكونَوا كانوا على عَهدِ الَّذين ابتَدَعوها، وممكِنٌ أن يكونوا كانوا بَعْدَهم). ((تفسير ابن جرير)) (22/433). وقال ابنُ كثير: (أي: فما قاموا بما التَزَموه حَقَّ القيامِ، وهذا ذمٌّ لهم مِن وَجهَينِ؛ أحَدُهما: في الابتِداعِ في دينِ اللهِ ما لم يأمُرْ به اللهُ. والثَّاني: في عدَمِ قيامِهم بما التَزَموه مِمَّا زَعَموا أنَّه قُربةٌ يُقَرِّبُهم إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ). ((تفسير ابن كثير)) (8/29). ويُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (3/169). وقال ابن عاشور: (ظاهِرُ الآيةِ أنَّ جَميعَهم قَصَّروا تقصيرًا مُتفاوِتًا، قَصَّروا في أداءِ حقِّها... والمعنى: ما حَفِظوا شؤونَ الرَّهبانيَّةِ حِفظًا كاملًا، فمَصَبُّ النَّفيِ هو القَيدُ بوَصفِ حَقَّ رِعَايَتِهَا، وهذا الانتفاء لهُ مراتِبُ كثيرةٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/425، 426). .
فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ.
أي: فآتَيْنا المؤمِنينَ مِنهم ثوابَ إيمانِهم [593] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/433)، ((تفسير الشوكاني)) (5/214)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/426)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 428). .
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت مُتابَعةُ الأهواءِ تَكسِبُ صِفاتٍ ذَميمةً تَصيرُ مَلَكاتٍ راسِخةً للأنفُسِ، أشار إلى ذلك بالعُدولِ عن النَّهْجِ الأوَّلِ، فقال [594] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/309). :
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ.
أي: وكثيرٌ مِن أولئك خارِجونَ عن طاعةِ اللهِ، ضالُّونَ عن طَريقِ الحَقِّ والهُدى [595] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/434)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/426، 427)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 428). .
كما قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 14] .
وقال سُبحانَه: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 59] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ على اعتبارِ أنَّ المرادَ بالحَديدِ السِّلاحُ: حَضٌّ على القِتالِ، وتَرغيبٌ فيه [596] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/269)، ((تفسير أبي حيان)) (10/114). .
2- اعلَمْ أنَّ الدَّعوةَ إلى الله تعالى بطَريقَينِ: طَريقِ لِينٍ، وطَريقِ قَسْوةٍ؛ أمَّا طَريقُ اللِّينِ: فهي الدَّعوةُ إلى اللهِ تعالى بالحِكمةِ والمَوعِظةِ الحَسَنةِ، وإيضاحِ الأدِلَّةِ في أحسَنِ أُسلوبٍ وألطَفِه، فإنْ نجَحَت هذه الطَّريقُ فبها ونِعْمَتْ، وهو المطلوبُ، وإنْ لم تَنجَحْ تَعَيَّنَت طَريقُ القَسوةِ بالسَّيفِ حتَّى يُعبَدَ اللهُ وَحْدَه، وتُقامَ حُدودُه، وتُمتَثَلَ أوامِرُه، وتُجتَنَبَ نَواهيه، وإلى هذه الإشارةُ بقَولِه تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ؛ ففيه الإشارةُ إلى إعمالِ السَّيفِ بَعْدَ إقامةِ الحُجَّةِ؛ فإنْ لم تَنفَعِ الكُتُبُ تعَيَّنَت الكَتائِبُ، واللهُ تعالى قد يَزَعُ بالسُّلطانِ ما لا يَزَعُ بالقُرآنِ [597] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/464). !
3- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ لَفتُ بَصائِرِ السَّامِعينَ إلى الاعتِبارِ بحِكمةِ اللهِ تعالى مِن خَلقِ الحَديدِ وإلهامِ صُنْعِه، والتَّنبيهِ على أنَّ ما فيه مِن نَفْعٍ وبأسٍ إنَّما أُريدَ به أن يُوضَعَ بأسُه حيثُ يَستَحِقُّ، ويُوضَعَ نَفْعُه حيثُ يَليقُ به، لا لِتُجعَلَ مَنافِعُه لِمَن لا يَستَحِقُّها، مِثلُ قُطَّاعِ الطَّريقِ، والثُّوَّارِ على أهلِ العَدْلِ؛ ولِتَجهيزِ الجُيوشِ لحِمايةِ الأوطانِ مِن أهلِ العُدوانِ، وللادِّخارِ في البُيوتِ لِدَفعِ الضَّارياتِ والعادياتِ على الحُرَمِ والأموالِ [598] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/417). .
4- في قَولِه تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ أنَّه لَمَّا كانت النُّصْرةُ قد تكونُ ظاهِرةً، كما يقَعُ مِن مُنافِقٍ، أو ممَّن مُرادُه المنافِعُ في الدُّنيا؛ بَيَّنَ تعالى أنَّ الَّذي أراده: النُّصرةُ بالغَيبِ، ومعناه: أن تَقَعَ عن إخلاصٍ بالقَلبِ [599] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/472). !
5- في قَولِه تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ يَدخُلُ في هذا النَّصرِ نَصرُ شَرائِعِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعْدَه، ونَصرُ وُلاةِ أُمورِ المُسلِمينَ القائِمينَ بالحَقِّ [600] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/418). .
6- ذُكِرَ عِندَ عبدِ الرَّحمنِ بنِ مَهْديٍّ قَومٌ مِن أهلِ البِدَعِ، واجتِهادُهم في العِبادةِ، فقال: (لا يَقبَلُ اللهُ إلَّا ما كان على الأمرِ والسُّنَّةِ، ثمَّ قرَأَ: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد: 27] ، فلم يَقبَلْ ذلك منهم، ووبَّخَهم عليه. ثمَّ قال: الزَمِ الطَّريقَ والسُّنَّةَ) [601] يُنظر: ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (9/8). .
7- في قَولِه تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا تنفيرٌ عَظيمٌ عن البِدَع، وحَثٌّ شَديدٌ على لُزومِ ما سَنَّه اللهُ وشَرَع، وتحذيرٌ مِن التَّشديدِ؛ فإنَّه لن يُشادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَه. وفيه أيضًا حَثٌّ عَظيمٌ على المُداوَمةِ على ما اعْتِيدَ مِن الأعمالِ الصَّالِحةِ، خُصوصًا أنَّه ما عَمِلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَمَلًا إلَّا داوَمَ عليه، وكان يَنهى عن التَّعَمُّقِ في الدِّينِ، ويأمُرُ بالرِّفْقِ والقَصْدِ [602] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/308). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ هذه جملةٌ مؤكَّدةٌ بـ «اللَّامِ»، و«قد»، و«القَسَمِ المُقَدَّرِ»، والتَّقديرُ: واللهِ لقد أرسَلْنا رُسُلَنا بالبيِّناتِ، ولعَلَّ قائلًا يقولُ: كيف يُقْسِمُ اللهُ؟ وكيف يُؤَكِّدُ اللهُ خَبَرَه بالقَسَمِ، وهو الصَّادِقُ بدونِ ذلك؟!
 الجوابُ: أنَّ القرآنَ الكريمَ نَزَلَ بلِسانٍ عَرَبيٍّ مُبِينٍ، واللِّسانُ العَربيُّ المُبِينُ يُؤَكِّدُ الأشياءَ الهامَّةَ، أو الأشياءَ المُنْكَرةَ بأنواعِ المؤكِّداتِ حتَّى يَطْمَئِنَّ المُخاطَبُ، ولا يَرتابَ المُرتابُ، وهذا يُذكَرُ في القُرآنِ كثيرًا [603] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 417). .
2- في قَولِه تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ أنَّ الكتابَ أعَمُّ مِن القُرآنِ [604] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 165). .
3- في قَولِه تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ أنَّ كلَّ رسولٍ معه كتابٌ [605] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/308). .
4- في قَولِه تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ سُؤالٌ: أنَّه إذا كان هذا الميزانُ مِمَّا يُعرَفُ بالعَقلِ فكيف جَعَلَه اللهُ تعالى مما أُرسِلَتْ به الرُّسُلُ؟
الجَوابُ: أنَّ الرُّسُلَ ضَرَبَتْ للنَّاسِ الأمثالَ العَقليَّةَ الَّتي يَعرِفونَ بها التَّماثُلَ والاختِلافَ؛ فإنَّ الرُّسُلَ دَلَّتِ النَّاسَ وأرشَدَتْهم إلى ما به يَعرِفونَ العَدْلَ، ويَعرِفونَ الأقيِسةَ العَقليَّةَ الصَّحيحةَ الَّتي يُستَدَلُّ بها على المطالِبِ الدِّينيَّةِ؛ فليستِ العُلومُ النَّبَويَّةُ مَقصورةً على مجرَّدِ الخبَرِ -كما يَظُنُّ ذلك مَن يَظُنُّه مِن أهلِ الكلامِ، ويَجعلون ما يُعْلَمُ بالعَقلِ قَسيمًا للعُلومِ النَّبَويَّةِ-، بلِ الرُّسُلُ صلواتُ اللهِ عليهم بَيَّنَتِ العُلومَ العَقليَّةَ الَّتي بها يَتِمُّ دينُ النَّاسِ عِلمًا وعَمَلًا، وضربتِ الأمثالَ، فَكَمَلَت الفِطرةُ بما نَبَّهَتْها عليه وأرشَدَتْها؛ مِمَّا كانتِ الفِطرةُ مُعرِضةً عنه، أو كانتِ الفِطرةُ قد فَسَدَتْ بما حَصَلَ لها مِنَ الآراءِ والأهواءِ الفاسِدةِ، فأزالتْ ذلك الفَسادَ، وبَيَّنَتْ ما كانتِ الفِطرةُ مُعرِضةً عنه، حتَّى صار عندَ الفِطرةِ مَعرِفةُ الموازينِ الَّتي أَنزَلها اللهُ وبَيَّنَتْها رُسُلُه، والقُرآنُ والحديثُ مملوءٌ مِن هذا؛ يُبَيِّنُ اللهُ الحقائقَ بالمقاييسِ العَقليَّةِ والأمثالِ المضروبةِ، ويُبَيِّنُ طُرُقَ التَّسويةِ بيْنَ المُتماثِلَينِ، والفَرْقَ بيْن المُختَلِفَينِ، ويُنكِرُ على مَن يَخرُجُ عن ذلك؛ كقَولِه تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] ، وقَولِه تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم: 35، 36]، أي: هذا حُكْمٌ جائِرٌ لا عادِلٌ؛ فإنَّ فيه تَسويةً بيْن المختلفَينِ، وقال تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28]، ومِن التَّسويةِ بيْن المتماثلَينِ قَولُه تعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر: 43]. فجِنْسُ الميزانِ العَقليِّ حقٌّ كما ذَكَرَ اللهُ في كتابِه، وليس هو مُختَصًّا بمَنطِقِ اليونانِ -وإنْ كان فيه قِسْطٌ منها-، بل هي الأقيسةُ الصَّحيحةُ المتضمِّنةُ التَّسويةَ بيْن المتماثلَينِ، والفَرْقَ بيْن المختلفَينِ، سواءٌ صِيغَ ذلك بصيغةِ قياسِ الشُّمولِ [606] قياس الشُّمولِ: هو انتِقالُ الذِّهنِ مِن المُعَيَّنِ إلى المعنى العامِّ المُشترَكِ الكُلِّيِّ المُتناوِلِ له ولغيرِه، والحُكمُ عليه بما يلزمُ المُشترَكَ الكُلِّيَّ، بأن ينتقلَ مِن ذلك الكُلِّيِّ اللَّازِمِ إلى الملزومِ الأوَّلِ وهو المُعَيَّنُ، فهو انتِقالٌ مِن خاصٍّ إلى عامٍّ، ثمَّ انتِقالٌ مِن ذلك العامِّ إلى الخاصِّ؛ مِن جُزئيٍّ إلى كُلِّيٍّ، ثمَّ مِن ذلك الكُلِّيِّ إلى الجُزئيِّ الأوَّلِ، فيُحكَمُ عليه بذلك الكُلِّيِّ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/119). ، أو بصيغةِ قياسِ التَّمثيلِ [607] قياس التَّمثيلِ: هو حمْلُ جُزئيٍّ على جُزئيٍّ آخَرَ في حُكمِه؛ لاشتِراكِهما في عِلَّةِ الحُكمِ، أو إلحاقُ فَرعٍ بأصلٍ في حُكمٍ؛ لِعِلَّةٍ جامعةٍ بيْنَهما، مثل: النَّبيذُ حرامٌ؛ قياسًا على الخَمرِ، بجامعِ الإسكارِ في كلٍّ منهما. وقياسُ التَّمثيلِ هو القياسُ الأُصوليُّ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/120)، ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (ص: 291، 292). . وصِيَغُ التَّمثيلِ هي الأصلُ، وهي أكمَلُ، والميزانُ هو القَدْرُ المُشتَرَكُ، وهو الجامِعُ، وهو الحدُّ الأوسَطُ [608] يُنظر: ((الرد على المنطقيين)) لابن تيمية (ص: 382). والحدُّ الأوسطُ: هو ما يكونُ مكرَّرًا بيْن القضيَّتَينِ الصُّغرى والكبرى. يُنظر: ((معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم)) للسيوطي (ص: 125). .
5- في قَولِه تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أنَّ الأصلَ في العُقودِ كلِّها إنَّما هو العَدْلُ الَّذي بُعِثَتْ به الرُّسُلُ، وأُنزِلَتْ به الكُتُبُ [609] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/292). .
6- في قَولِه تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أنَّ الشَّريعةَ مَبْناها على العَدْلِ [610] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/351). .
7- في قَولِه تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أنَّ المقصودَ مِن إرسالِ الرُّسُلِ وإنزالِ الكُتُبِ أنْ يقومَ النَّاسُ بالقِسْطِ في حُقوقِ اللهِ وحُقوقِ خَلْقِه [611] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/263). .
8- في قَولِه تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أَخْبَرَ الله سُبحانَه وتعالى أنَّه أَرْسَلَ رُسُلَه وأَنْزَلَ كُتُبَه؛ لِيَقومَ النَّاسُ بالقِسطِ، وهو العَدلُ، ومِن أعظَمِ القِسطِ التَّوحيدُ، وهو رأسُ العَدلِ وقِوامُه، وإنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عظيمٌ؛ فالشِّرْكُ أظلَمُ الظُّلْمِ، والتَّوحيدُ أعدَلُ العَدلِ، فما كان أشَدَّ مُنافاةً لهذا المقصودِ فهو أكبَرُ الكبائرِ، وتفاوتُها في دَرَجاتِها بحَسَبِ مُنافاتِها له، وما كان أشدَّ مُوافَقةً لهذا المقصودِ فهو أوجَبُ الواجِباتِ، وأفرَضُ الطَّاعاتِ [612] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 128). .
9- في قَولِه تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ أنَّ الدِّينَ لن يقومَ إلَّا بالكِتابِ، والميزانِ، والحَديدِ؛ كِتابٌ يَهدي به، وحَديدٌ يَنْصُرُه، فالكِتابُ به يقومُ العِلمُ والدِّينُ، والميزانُ به تقومُ الحُقوقُ في العقودِ الماليةِ والقُبوضِ، والحَديدُ به تقومُ الحدودُ على الكافِرينَ والمنافِقينَ، ولهذا كان في الأزمانِ المتأخِّرةِ الكتابُ للعُلَماءِ والعُبَّادِ، والميزانُ للوزراءِ والكُتَّابِ وأهلِ الدِّيوانِ، والحديدُ للأمراءِ والأَجْنَادِ، والكِتابُ له الصَّلاةُ، والحديدُ له الجِهادُ؛ ولهذا كان أكثرُ الآياتِ والأحاديثِ النَّبويَّةِ في الصَّلاةِ والجِهادِ، ولهذا جَمَعَ الله تعالى بيْنَهما في مَواضِعَ مِن القُرآنِ [613] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/36). .
10- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ دَليلٌ على أنَّ الميزانَ هو مِمَّا جاءتْ به الرُّسُلُ [614] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (2/253). .
11- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ دَلالةٌ واضِحةٌ على أنَّ القياسَ الصَّحيحَ هو مِمَّا بُعِثَ به الرُّسُلُ؛ لأنَّ القياسَ تَسويةُ فَرعٍ بأصلٍ في حُكْمٍ لِعِلَّةٍ جامِعةٍ، وقد قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ أي: العَدْلَ والمُقايَسةَ بيْنَ الأُمورِ؛ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي: لِيَقُومَ النَّاسُ في الدِّينِ والدُّنيا بالقِسْطِ؛ بالعَدْلِ في حَقِّ اللهِ، وفي حَقِّ العِبادِ [615] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 422). .
12- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ دَليلٌ على أنَّ الرُّسُلَ مُتَّفِقونَ في قاعِدةِ الشَّرعِ، وهي القيامُ بالقِسْطِ، وإن اختَلَفت أنواعُ العَدلِ بحَسَبِ الأزمِنةِ والأحوالِ [616] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 842). .
13- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ اللَّامُ في قَولِه لِيَقُومَ للتَّعليلِ، يعني: أَرْسَلْنا الرُّسُلَ وأنزَلْنا معهم الكتابَ، وأنزَلْنا معهم الميزانَ لهذه الحكمةِ؛ لِيَقُومَ النَّاسُ بالقِسطِ، ولهذا لا تَجِدُ أَعْدَلَ مِن دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وكلُّ ما خالَفَ دِينَ اللهِ عزَّ وجلَّ فهو جَوْرٌ وظُلمٌ [617] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 423). .
14- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ سؤالٌ: هل كلُّ مُنَزَّلٍ غيرُ مخلوقٍ؟
الجوابُ: لا، لكنْ كلُّ مُنَزَّلٍ يكونُ وَصفًا مُضافًا إلى اللهِ، فهو غيرُ مخلوقٍ -كالكلامِ-، وإلَّا فإنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِن السَّماءِ ماءً، وهو مخلوقٌ، وقال تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ وهو مَخلوقٌ، وقال تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر: 6] والأنعامُ مَخلوقةٌ، فإذا كان المُنَزَّلُ مِن عندِ اللهِ صفةً لا تقومُ بذاتِها وإنَّما تقومُ بغَيرِها، لَزِمَ أنْ يكونَ غيرَ مخلوقٍ؛ لأنَّه مِن صِفاتِ اللهِ تعالى [618] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (10/618). ويُنظر أيضًا: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (6/5 - 14)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/117، 118)، ((مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية)) (3/89)، ((شرح الطحاوية)) (1/196، 197) و(2/563، 564). .
15- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ أصلٌ في جميعِ ما يُتَّخَذُ مِنه؛ مِن سِلاحٍ وغَيرِه [619] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 255). .
16- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وقَبْلَها: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أنَّ قُوَّةَ الحَديدِ لحِفظِ الكِتابِ والمِيزانِ، وحَملِ النَّاسِ عليهما [620] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 250). .
17- في قَولِه تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ نَصْرُ الرُّسُلِ؛ فإذا كان الرَّسولُ حيًّا فالمرادُ: يَنْصُرُ الرَّسولَ نَفْسَه وشَريعتَه، وبَعْدَ مَوتِه يَنصُرُ شَريعتَه، وفي هذا دليلٌ على أنَّ نَصْرَ الشَّريعةِ نَصْرٌ لِمَن جاء بها، فلا يُشْكِلُ على هذا أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى قد يُمِيتُ الرَّسولَ قبْلَ أنْ يرى النَّصرَ الواسِعَ له؛ لأنَّنا نقولُ: نَصْرُ شَريعتِه نَصْرٌ له [621] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 425). .
18- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ دَليلٌ على أنَّ آدَمَ ليس برَسولٍ، وأنَّ إدريسَ ليس قَبْلَ نُوحٍ -كما ذَكَرَه بعضُ المؤرِّخينَ-، وهو خَطَأٌ مُخالِفٌ للقُرآنِ الكريمِ، فليس قَبْلَ نُوحٍ رَسولٌ، وآدمُ نبيٌّ مُكَلَّمٌ كَلَّمَه اللهُ عزَّ وجلَّ بما شاء مِن وَحْيِه، ثمَّ سار على نَهْجِه بَنُوه مِن بَعْدِه، فلمَّا انتشرَ النَّاسُ وكَثُروا صار بيْنَهم اختِلافٌ، كما قال عزَّ وجلَّ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [622] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 427). [البقرة: 213] .
19- قال الله تعالى في سُورةِ (العنكبوتِ): وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت: 27] وفيه دَلالةٌ على أنَّ النُّبوَّةَ والكتابَ في خُصوصِ ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وذكر هنا في سُورةِ (الحديد) ما يدُلُّ على اشتِراكِ نوحٍ عليه السَّلامُ معه في ذلك في قولِه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ وَجْهَ الاقتِصارِ على إبراهيمَ في سُورةِ (العنكبوتِ) أنَّ جَميعَ الرُّسلِ بعْدَه مِن ذُرِّيَّتِه، وذُكِرَ نوحٌ معه لأمْرينِ:
أحدُهما: أنَّ كلَّ مَن كان مِن ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ فهو مِن ذُرِّيَّةِ نُوحٍ.
الثَّاني: أنَّ بعضَ الأنبياءِ مِن ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، ولم يكُنْ مِن ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ؛ كهودٍ، وصالحٍ، ولوطٍ، ويُونسَ -على خِلافٍ فيه-، ولا يُنافي ذلك الاقتِصارَ على إبراهيمَ؛ لأنَّ المرادَ مَن كان بعْدَ إبراهيمَ لا مَن كان قبْلَه أو في عصْرِه، كلُوطٍ عليهما وعلى نبيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ [623] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 179). .
20- قَولُه تعالى: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ هذا هو الواقعُ؛ أنَّ بني آدمَ أكثَرُهم ضالٌّ، كما قال عزَّ وجلَّ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [624] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 427). [الأنعام: 116] .
21- قَولُه تعالى: ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ نُصَّ على عيسى عليه السَّلامُ؛ لأنَّه ليس بَيْنَه وبيْنَ مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّمَ رَسولٌ، بل ولا نبيٌّ أيضًا، ليس بَيْنَهما رَسولٌ ولا نَبيٌّ، وما يُقالُ: إنَّ خالِدَ بنَ سنانٍ وغَيرَه له نُبُوَّةٌ، فكلُّه كَذِبٌ [625] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 427، 428). .
22- في قَولِه تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً قيل: هذا إشارةٌ إلى أنَّهم أُمِروا في الإنجيلِ بالصَّفحِ، وتَرْكِ إيذاءِ النَّاسِ، وألانَ اللهُ قُلوبَهم لذلك، بخِلافِ اليَهودِ الَّذين قَسَت قُلوبُهم، وحَرَّفوا الكَلِمَ عن مَواضِعِه [626] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/503). .
23- قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً الرَّأفةُ والرَّحمةُ مِن أفعالِهم، واللهُ جاعِلُهما، فهو الجاعلُ لِلذَّواتِ وصِفاتِها وأفعالِها وإراداتِها واعتِقاداتِها، فذلك كلُّه مَجعولٌ مخلوقٌ له، وإن كان العبدُ فاعلًا له باختيارِه وإرادتِه [627] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 56). .
24- في قَولِه تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا الآيةَ: ذمٌّ لهم؛ لابتِداعِ ما لم يأمُرْ به اللهُ في الدِّينِ، ولعَدَمِ القيامِ بما التَزَموه على أنَّه قُرْبةٌ، فيُستَدَلُّ به على كراهةِ النَّذرِ، مع وُجوبِ الوَفاءِ به، وعلى أنَّ أحَبَّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْوَمُها، وأنَّ مَن اعتاد تطَوُّعًا كُرِهَ له تَرْكُه [628] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 255). .
25- في قَولِه تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا إشعارٌ بأنَّ ما يَكتُبُه اللهُ على العِبادِ مِنَ التَّكاليفِ لا يَشُقُّ على النَّاسِ العَمَلُ به [629] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/425). .
26- في قَولِه تعالى: فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى ذَمَّ مَن لم يَرْعَ قُرْبةً ابتَدَعَها للهِ تعالى حَقَّ رعايتِها، فكيف بمَن لم يَرْعَ قُرْبةً شَرَعَها اللهُ لعبادِه، وأَذِنَ بها، وحَثَّ عليها [630] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/61). ؟!
27- في قَولِه تعالى: فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ثَناءٌ على المُؤمِنينَ الصَّادِقينَ مِمَّن مَضَوا مِنَ النَّصارى قبْلَ البَعثةِ المُحَمَّديَّةِ، وبُلوغِ دَعوتِها إلى النَّصارى [631] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/426). .
28- في قَولِه تعالى: فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ رَدٌّ على المُعتَزِلةِ -فيما يَجعلون الفِسْقَ دَرَجةً بيْنَ دَرَجتَينِ مِن الإيمانِ والكُفرِ-؛ إذِ الفِسْقُ في جميعِ هذه الأمكِنةِ كُفْرٌ لا شَكَّ فيه؛ لِمَا دلَّ عليه سِياقُ الكَلامِ [632] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/239). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ استِئنافٌ ابتِدائيٌّ ناشئٌ عمَّا تقدَّمَ مِن التَّحريضِ على الإنفاقِ في سَبيلِ اللهِ، وعن ذِكرِ الفتْحِ، وعن تَذييلِ ذلك بقولِه: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد: 24] ، وهو إعذارٌ للمُتولِّينَ مِن المنافِقِين؛ ليَتدارَكوا صَلاحَهم باتِّباعِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والتَّدبُّرِ في هدْيِ القرآنِ، وإنذارٌ لهم أنْ يَرْعَوُوا ويَنْصاعوا إلى الحُجَّةِ السَّاطعةِ بأنَّه يكونُ تَقويمُ عِوَجِهم بالسُّيوفِ القاطعةِ، وهو ما صرَّحَ لهم به في قولِه في سُورةِ (الأحزابِ) [60، 61]: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا، وقولِه في سُورةِ (التَّحريمِ) [9]: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ؛ لئلَّا يَحسَبوا أنَّ قولَه: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد: 24] مُجرَّدُ مُتارَكةٍ، فيَطمَئِنُّوا لذلك [633] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/415). .
- قولُه: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ فيه تأْكيدُ الخبَرِ بلامِ القسَمِ وحرْفِ التَّحقيقِ (قد)، وهو راجِعٌ إلى ما تَضمَّنَه الخبرُ مِن ذِكرِ ما في إرسالِ رُسلِ اللهِ وكُتبِه مِن إقامةِ القسْطِ للنَّاسِ، ومِن التَّعريضِ بحمْلِ المُعرِضينَ على السَّيفِ إنِ استَمرُّوا على غُلَوائِهم [634] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/415). .
- وجمْعُ (الرُّسلِ) هنا لإفادةِ أنَّ ما جاء به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليس بِدْعًا مِن الرُّسلِ، وأنَّ مُكابَرةَ المنافِقينَ عَمايةٌ عن سُنَّةِ اللهِ في خلْقِه، فتأْكيدُ ذلك مَبنيٌّ على تَنزيلِ السَّامعينَ مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ أنَّ اللهَ أرسَلَ رسُلًا قبْلَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ حالَهم في التَّعجُّبِ مِن دَعواهُ الرِّسالةَ كحالِ مَن يُنكِرُ أنَّ اللهَ أرسَلَ رُسلًا مِن قبْلُ [635] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/415). .
- والمِيزانُ: مُعبَّرٌ به عن العدْلِ بيْنَ الناسِ في إعطاءِ حُقوقِهم -على قولٍ-؛ لأنَّ ممَّا يَقتضيهِ الميزانُ وُجودَ طرَفَينِ يُرادُ مُعرفةُ تَكافئِهما؛ قال تعالى: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: 58] ، وهذا الميزانُ تُبيِّنُه كُتبُ الرُّسلِ، فذِكرُه بخُصوصِه للاهتمامِ بأمْرِه؛ لأنَّه وَسيلةُ انتِظامِ أُمورِ البشَرِ؛ كقولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء: 105] ، وليس المرادُ أنَّ اللهَ ألْهَمَهم وضْعَ آلاتِ الوزْنِ؛ لأنَّ هذا ليس مِن المُهِمِّ، وهو ممَّا يَشملُه معْنى العدْلِ؛ فلا حاجةَ إلى التَّنبيهِ عليه بخُصوصِه [636] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/416). .
- قَولُه: وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ جَمَعَ المنافِعَ؛ لأنَّها لا تُحصى أجناسُها، فَضْلًا عن أنواعِها وأفرادِها، فمَن يُحصي المنافِعَ الَّتي تَحصُلُ بالحَديدِ؟ ولهذا جاءتْ بالجَمعِ المعروفِ بـ «صيغةِ مُنتهى الجُموعِ» [637] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 424). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ تَعليلٌ لجُملةِ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ إلى آخِرِها، أي: لأنَّ اللهَ قويٌّ عزيزٌ في شُؤونِه القُدسيَّةِ، فكذلك يجِبُ أنْ تكونَ رُسلُه أقوياءَ أعِزَّةً، وأنْ تكونَ كُتبُه مُعظَّمةً مُوقَّرةً، وإنَّما يَحصُلُ ذلك في هذا العالَمِ المَنوطةِ أحداثُه بالأسبابِ المَجعولةِ بأنْ يَنصُرَه الرُّسلُ وأقوامٌ مُخلِصون للهِ، ويُعِينوا على نشْرِ دِينِه وشَرائعِه [638] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/418). .
- وأيضًا قولُه: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ اعتِراضٌ تَذييليٌّ؛ جِيءَ به تَحقيقًا للحقِّ، وتَنبيهًا على أنَّ تَكليفَهم الجهادَ وتَعريضَهم للقِتالِ ليس لحاجتِه في إعلاءِ كَلمتِه وإظهارِ دِينِه إلى نُصرتِهم، بلْ إنَّما هُو ليَنتَفِعوا بهِ، ويَصِلُوا بامتثالِ الأمْرِ فيه إلى الثَّوابِ؛ وإلَّا فهُو غَنِيٌّ بقُدرتِه وعِزَّتِه عنهم في كلِّ ما يُريدُه [639] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/212). .
2- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ مَعطوفٌ على جُملةِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ [الحديد: 25] عطْفَ الخاصِّ على العامِّ؛ لمَّا أُرِيدَ تَفصيلٌ لإجْمالِه تَفصيلًا يُسجَّلُ به انحرافُ المُشرِكين مِن العرَبِ والضَّالِّين مِن اليهودِ عن مَناهجِ أبوَيْهما: نوحٍ، وإبراهيمَ [640] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/481)، ((تفسير أبي حيان)) (10/114)، ((تفسير أبي السعود)) (8/213)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/419). .
- ولَمَّا ذكَرَ تعالى إرسالَ الرُّسلِ جُملةً؛ أفرَدَ منهم في هذه الآيةِ نُوحًا وإبراهيمَ عليهما السَّلامُ؛ تَشريفًا لهما بالذِّكرِ؛ أمَّا نوحٌ فلأنَّه أوَّلُ الرُّسلِ إلى مَن في الأرضِ، وأمَّا إبراهيمُ فلأنَّه انتسَبَ إليه أكثرُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، وهو مُعظَّمٌ في كلِّ الشَّرائعِ، ثمَّ ذكَرَ أشرَفَ ما حصَلَ لذُرِّيَّتِهما، وذلك النُّبوَّةُ -وهي الَّتي بها هَدْيُ النَّاسِ مِن الضَّلالِ- والكتابُ، كالتَّوراةِ، والزَّبورِ، والإنجيلِ، والقرآنِ، وهي جَميعُها في ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وإبراهيمُ مِن ذُرِّيَّةِ نُوحٍ؛ فصدَقَ أنَّها في ذُرِّيَّتِهما [641] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/114، 115). .
- وتَكريرُ القَسَمِ في قولِه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ بعْدَ قولِه: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا؛ لإظهارِ مَزيدِ الاعتناءِ بالأمْرِ، أيْ: وباللهِ لَقدْ أرسَلْناهُما [642] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/213). .
- والعُدولُ عن سَننِ المُقابَلةِ في قولِه: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ؛ للمُبالَغةِ في الذَّمِّ، والإيذانِ بغَلَبةِ الضُّلَّالِ وكَثرتِهم [643] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/190)، ((تفسير أبي السعود)) (8/213). .
3- قولُه تعالَى: ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ
- قولُه: ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ، (ثمَّ) للتَّراخِي الرُّتبيِّ؛ لأنَّ بَعثةَ رُسلِ الله الَّذين جاؤوا بعْدَ نوحٍ وإبراهيمَ، ومَن سبَقَ مِن ذُرِّيَّتِهما، أعظَمُ ممَّا كان لدى ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ قبْلَ إرسالِ الرُّسلِ الَّذين قفَّى اللهُ بهم؛ إذ أُرسِلوا إلى أُمَمٍ كَثيرةٍ، مِثْلِ عادٍ وثَمودَ، وبني إسرائيلَ، وفيهم شَريعةٌ عظيمةٌ، وهي شَريعةُ التَّوراةِ [644] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/420). .
- قولُه: ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا هذا تَعريفٌ للأمَّةِ بأنَّ اللهَ أرسَلَ رُسلًا كثيرينَ على وجْهِ الإجمالِ، وهو تَمهيدٌ للمقصودِ مِن ذِكرِ الرَّسولِ الأخيرِ الَّذي جاء قبْلَ الإسلامِ، وهو عِيسى عليه السَّلامُ [645] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/420). .
- وفي إعادةِ فعلِ قَفَّيْنَا وعدَمِ إعادةِ عَلَى آَثَارِهِمْ قيل: إنَّ ذلك إشارةٌ إلى بُعدِ المدَّةِ بيْنَ آخِرِ رُسلِ إسرائيلَ وبيْنَ عيسَى عليه السَّلامُ [646] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/420، 421). .
- قولُه: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً عطْفُ الرَّحمةِ على الرَّأفةِ مِن عطْفِ العامِّ على الخاصِّ؛ لاستِيعابِ أنواعِه بعْدَ أنْ اهتُمَّ ببَعضِها [647] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/421). .
- والإتيانُ بالموصولِ وصِلتِه في قولِه: الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ إشعارٌ بأنَّ جعْلَ الرَّأفةِ والرَّحمةِ في قُلوبِهم مُتسبَّبٌ عن اتِّباعِهم سِيرتَه، وانقطاعِهم إليه [648] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/423). .
- وجُملةُ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ مُبيِّنةٌ لجُملةِ ابْتَدَعُوهَا، وقولُه: إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ احتِراسٌ [649] الاحتراس: هو التَّحرُّزُ مِن الشَّيءِ والتَّحفُّظُ منه، وهو نوعٌ مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو أن يكونَ الكلامُ محتملًا لشَيءٍ بعيدٍ، فيُؤتى بكلامٍ يَدفعُ ذلك الاحتمالَ. أو الإتيانُ في كلامٍ يوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يَدْفَعُ ذلك الوهمَ، ويُسمِّيه بعضُهم: التَّكميلَ. يُنظر: ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/208)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/64)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/251)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 49). ، ومَجموعُ الجُمَلِ الثَّلاثِ استِطرادٌ واعتِراضٌ [650] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/423، 424). .
- والاستِثناءُ بقولِه: إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ مُعترِضٌ بيْن جُملةِ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ وجُملةِ فَمَا رَعَوْهَا، وهو استِثناءٌ مُنقطِعٌ؛ فالاستِثناءُ يَقْتضي أنْ يكونَ قولُه: ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ مَعمولًا في المعْنى لفِعلِ كَتَبْنَاهَا؛ فالمعْنى: لكنْ كتَبْنا عليهم ابتِغاءَ رِضوانِ اللهِ -وذلك على قولٍ- أي: أنْ يَبتَغوا رِضوانَ اللهِ بكلِّ عمَلٍ، لا خُصوصَ الرَّهبانيَّةِ الَّتي ابتَدَعوها، أي: إنَّ اللهَ لم يُكلِّفْهم بها بعَينِها [651] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/424). .
- وقد فُرِّع على قولِه: ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ وما بَعْدَه، قولُه: فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، أي: فَترتَّبَ على الْتِزامِهم الرَّهبانيَّةَ أنَّهم -أي: المُلتزِمين للرَّهبانيةِ- ما رَعَوها حقَّ رِعايتِها [652] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/425). .
- والكلامُ مَسوقٌ مَساقَ اللَّومِ على تَقصيرِهم فيما الْتَزَموه أو نَذَرُوه، وذلك تَقهقُرٌ عن مَراتبِ الكمالِ، وإنَّما يَنْبغي للمُتَّقي أنْ يَكونَ مُزدادًا مِن الكَمالِ [653] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/426). .
- وقولُه: فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ تَفريعٌ على جُملةِ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ إلى آخِرِه، وما بيْنَهما استِطرادٌ [654] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/426). .