موسوعة التفسير

سورةُ الحَديدِ
الآيات (22-24)

ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ

غريب الكلمات:

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ: المصيبةُ: الأمرُ المكروهُ يَنزِلُ بالإنسانِ، يُقالُ: أصابَ السَّهمُ: إذا وصل إلى المرمى بالصَّوابِ، والمُصيبَةُ أصلُها في الرَّميةِ، ثمَّ اختصَّتْ بالنَّائبةِ، و(أصاب) جاء في الخَيرِ والشَّرِّ؛ قيل: الإصابةُ في الخَيرِ اعتِبارًا بالصَّوْبِ، أي: المطرِ، وفي الشَّرِّ اعتبارًا بإصابةِ السَّهمِ، وكِلاهما يَرجِعُ إلى أصلٍ واحدٍ، وأصلُ (صوب): يدُلُّ على نُزولِ شَيءٍ واستِقرارِه قَرارَه [500] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/317)، ((المفردات)) للراغب (ص: 495)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/57)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (2/358)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (3/449). .
نَبْرَأَهَا: أي: نَخلُقَها، وأصلُ (برأ): يدُلُّ على الخَلْقِ [501] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 454)، ((تفسير ابن جرير)) (22/419)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/236)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 391)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 914). .
تَأْسَوْا: أي: تَحْزَنوا، يُقالُ: أَسِيتُ على الشَّيءِ أَسًى، أي: حَزِنتُ عليه [502] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 454)، ((تفسير ابن جرير)) (22/421)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/106). .
مُخْتَالٍ: أي: مُتكَبِّرٍ ذي خُيَلاءَ، وأصلُ (خيل): يدُلُّ على حَرَكةٍ في تَلَوُّنٍ؛ لأنَّ المُخْتالَ في مِشْيَتِه يتَلَوَّنُ في حَرَكتِه ألوانًا [503] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/562)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 435)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/235)، ((المفردات)) للراغب (ص: 215). .
فَخُورٍ: أي: كثيرِ الخُيَلاءِ والفَخرِ، وأصلُ (فخر): يدُلُّ على عِظَمٍ وقِدَمٍ [504] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/480)، ((المفردات)) للراغب (ص: 627)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (3/206). .
الْحَمِيدُ: أي: المحمودُ على كلِّ حالٍ، وفي جميعِ أفعالِه وأقوالِه، وشَرْعِه وقَدَرِه، والمحمودُ على ما لَه مِن الكَمالِ، وعلى نِعَمِه الَّتي أنْعَمها على خلْقِه، المستحِقُّ لكلِّ حمْدٍ، والحمدُ إخبارٌ عن مَحاسنِ المحمودِ معَ حُبِّه وإجلالِه وتَعظيمِه، وقيل: هو أيضًا بمعنى حامِدٍ، يَحمَدُ كُلَّ مَن يَستحِقُّ الحَمدَ منه، وأصلُ (حمد): يدُلُّ على خِلافِ الذَّمِّ [505] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/571)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 78)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/100)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (2/490)، ((المفردات)) للراغب (ص: 256)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/93)، ((تفسير ابن كثير)) (1/699)، ((تفسير السعدي)) (ص: 208، 758)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 133). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مخبرًا عن عمومِ قضائِه وقدَرِه: ما وَقَع في الأرضِ أو في أنفُسِكم مِن مُصيبةٍ إلَّا وهي مَكتوبةٌ في اللَّوحِ المحفوظِ مِن قَبلِ أن نَخلُقَها، إنَّ ذلك أمرٌ سَهلٌ وهَيِّنٌ على اللهِ تعالى، أخْبَرْناكم بذلك؛ لِكَيْلا تَحزَنوا على شَيءٍ فاتَكم مِن الدُّنيا، ولا تَفرَحوا فَرَحَ بَطَرٍ بما نِلْتُم مِن مَتاعِها، واللهُ لا يُحِبُّ كلَّ مُتكَبِّرٍ فَخورٍ؛ الَّذين يَبخَلونَ بما أُوتُوه مِن نِعَمٍ، ويأمُرونَ غَيرَهم بالبُخْلِ. ومَن يُعْرِضْ فإنَّ اللهَ هو الغَنيُّ الحَميدُ.

تفسير الآيات:

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا جرى ذِكرُ الجِهادِ آنِفًا، وجرى ذِكرُ الدُّنيا، وكان ذلك كُلُّه مِمَّا تَحدُثُ فيه المصائِبُ؛ مِن قَتلٍ وقَطعٍ وأسْرٍ في الجِهادِ، ومِن كوارِثَ تَعرِضُ في الحياةِ؛ مِن فَقْدٍ وألمٍ واحتياجٍ، وجرى مَثَلُ الحياةِ الدُّنيا بالنَّباتِ، وكان ذلك ممَّا يَعرِضُ له القَحطُ والجوائِحُ- أُتْبِع ذلك بتسليةِ المسلمينَ على ما يُصيبُهم [506] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/409). .
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا.
أي: ما وَقَع في الأرضِ مِن مُصيبةٍ، كقَحْطِها وهَلاكِ زَرْعِها وثَمَرِها، أو في أنفُسِكم، كالأمراضِ والأوجاعِ، والفَقرِ والمَوتِ- إلَّا وهي مكتوبةٌ في اللَّوحِ المحفوظِ مِن قَبلِ أن نَخلُقَ ذلك [507] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/418)، ((تفسير القرطبي)) (17/257)، ((تفسير ابن كثير)) (8/26)، ((تفسير السعدي)) (ص: 842)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/411)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/548)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 412، 413). قال الماوَرْدي: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ فيه وجهانِ: أحدُهما: الجوائِحُ في الزَّرعِ والثِّمارِ. الثَّاني: القَحطُ والغَلاءُ. وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ فيه أربعةُ أوجُهٍ: أحدُها: في الدِّينِ. قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثَّاني: الأمراضُ والأوصابُ. قاله قَتادةُ. الثالثُ: إقامةُ الحُدودِ. قاله ابنُ حَيَّانَ. الرَّابعُ: ضِيقُ المعاشِ، وهذا معنى روايةِ ابنِ جُرَيجٍ). ((تفسير الماوردى)) (5/481، 482). وقال السعدي: (وهذا شامِلٌ لعُمومِ المصائبِ الَّتي تُصيبُ الخَلْقَ مِن خَيرٍ وشَرٍّ، فكُلُّها قد كُتِبَت في اللَّوحِ المحفوظِ؛ صغيرُها وكبيرُها، وهذا أمرٌ عَظيمٌ لا تحيطُ به العقولُ، بل تَذهَلُ عندَه أفئدةُ أُولي الألبابِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 842). والضَّميرُ في قَولِه تعالى: نَبْرَأَهَا قيل: عائِدٌ على المُصيبةِ. وقيل: عائدٌ على الأرضِ. وقيل: عائدٌ على الأنفُسِ. وقيل: عائدٌ إلى جميع ذلك. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/211). والقَولُ بأنَّه يعودُ على المُصيبةِ: مالَ إليه الرازيُّ، واستظهره أبو حيَّانَ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/467)، ((تفسير أبي حيان)) (10/111). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/245)، ((تفسير الماوردي)) (5/482). وممَّن قال بعَودِ الضَّميرِ على الأنفُسِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/244)، ((تفسير ابن جرير)) (22/418). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، والحسَنُ، والضَّحَّاكُ، وابنُ زَيدٍ، وأبو العاليةِ، والكلبيُّ، ومقاتلُ بنُ حيَّانَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/418)، ((تفسير الثعلبي)) (9/245)، ((البسيط)) للواحدي (21/305). وقال ابنُ عاشور: (وضَميرُ النَّصبِ في نَبْرَأَهَا عائِدٌ إلى الأرضِ، أو إلى الأنفُسِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/411). وممَّن قال بعَودِ الضَّميرِ على جَميعِ ذلك: البِقاعي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/295)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 413). قال ابن عطيَّة: (الضَّميرُ عائِدٌ على المصيبةِ. وقيل: على الأرضِ. وقيل: على الأنفُسِ، قاله ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ، وجماعةٌ. وذكَرَ المَهْدويُّ جَوازَ عَودِ الضَّميرِ على جميعِ ما ذُكِرَ، وهي كُلُّها مَعانٍ صِحاحٌ؛ لأنَّ الكتابَ السَّابقَ أَزَليٌّ قبْلَ هذه كُلِّها). ((تفسير ابن عطية)) (5/268)، ويُنظر: ((التحصيل لفوائد كتاب التفصيل)) للمهدوي (6/ 340). .
كما قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [التغابن: 11] .
إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.
أي: إنَّ ذلك [508] قال الرازي: (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وفيه قَولانِ؛ أحدُهما: إنَّ حِفظَ ذلك على اللهِ هَيِّنٌ. والثَّاني: إنَّ إثباتَ ذلك على كثرتِه في الكتابِ يسيرٌ على الله، وإن كان عسيرًا على العبادِ). ((تفسير الرازي)) (29/467). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ -أي: خَلْقَ ذلك وحِفْظَه-: الثعلبيُّ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/245)، ((تفسير القرطبي)) (17/257). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: البغويُّ، وابن الجوزي، والبيضاوي، والخازن، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/32)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/237)، ((تفسير البيضاوي)) (5/189)، ((تفسير الخازن)) (4/251)، ((تفسير الشوكاني)) (5/211). وقال ابن كثير: (أي: أنَّ عِلمَه تعالَى الأشياءَ قبْلَ كَونِها، وكتابَتَه لها طِبقَ ما يُوجَدُ في حِينِها سهلٌ على اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه يَعلَمُ ما كان وما يكونُ وما لم يَكُنْ لو كان كيفَ كان يكونُ). ((تفسير ابن كثير)) (8/26). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/295). أمرٌ سَهلٌ وهَيِّنٌ على اللهِ تعالى، لا يَتعَذَّرُ عليه سُبحانَه؛ لإحاطَةِ عِلمِه، وكمالِ قُدْرَتِه [509] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/26)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/295)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/548)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 413). .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج: 70] .
لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن ذلك الأمرَ العَظيمَ الدَّالَّ على ما لَه سُبحانَه مِنَ الكِبرياءِ والعَظَمةِ؛ بَيَّنَ ثَمَرةَ إعلامِه، بقَولِه تعالى [510] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/295). :
لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ.
أي: أخبَرْناكم بأنَّ كلَّ مصيبةٍ تقعُ فهي في كتابٍ [511] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 414). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (10/111)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 723)، ((تفسير الشوكاني)) (5/211). وقال ابنُ جرير: (يعني تعالى ذِكرُه: ما أصابكم -أيُّها النَّاسُ- مِن مُصيبةٍ في أموالِكم ولا في أنفُسِكم إلَّا في كتابٍ قد كُتِبَ ذلك فيه مِن قَبلِ أن نخلُقَ نُفوسَكم؛ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا). ((تفسير ابن جرير)) (22/420). وقال العُلَيمي: (فَعَل اللهُ هذا كُلَّه، وأعلَمَكم به). ((تفسير العليمي)) (6/543). ؛ لِكَيْلا يَشتَدَّ حُزنُكم على شَيءٍ فاتَكم مِن مَتاعِ الدُّنيا [512] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/420)، ((تفسير القرطبي)) (17/258)، ((تفسير ابن كثير)) (8/27)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/295)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/411)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/549)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 413). قال ابنُ كثير: (لِتَعلَموا أنَّ ما أصابكم لم يكُنْ لِيُخطِئَكم، وما أخطأَكم لم يكُنْ لِيُصيبَكم، فلا تأسَوا على ما فاتَكم؛ فإنَّه لو قُدِّرَ شَيءٌ لَكانَ). ((تفسير ابن كثير)) (8/27). وقال البِقاعي: (أي: أعلَمْناكم بأنَّا -على ما لَنا مِنَ العَظَمةِ- قد فرَغْنا مِن التَّقديرِ، فلا يُتصَوَّرُ فيه تقديمٌ ولا تأخيرٌ، ولا تبديلٌ ولا تغييرٌ؛ لأنَّ الحُزنَ لا يَدفَعُه، ولا السُّرورُ يَجلِبُه ويَجمَعُه). ((نظم الدرر)) (19/295). وقال ابنُ عاشور: (فلا تَجزَعوا للمصائِبِ؛ لأنَّ مَن أيقَنَ أنَّ ما عِندَه مِن نِعمةٍ دُنيويَّةٍ مَفقودٌ يومًا لا محالةَ، لم يَتفاقَمْ جَزَعُه عِندَ فَقْدِه؛ لأنَّه قد وطَّنَ نَفْسَه على ذلك). ((تفسير ابن عاشور)) (27/411). .
وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ.
أي: ولِكَيلا تَفرَحوا فَرَحَ بَطَرٍ وفَخْرٍ على غَيرِكم بما أعطاكم اللهُ مِن مَتاعِ الدُّنيا [513] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/420-422)، ((تفسير القرطبي)) (17/258)، ((تفسير ابن كثير)) (8/27)، ((تفسير السعدي)) (ص: 842)، ((تفسير ابن عثيمين- الحديد)) (ص: 414). قال ابن جزي: (النَّهي عن الفَرحِ إنَّما هو عن الذي يقودُ إلى الكِبرِ والطُّغيانِ، وعن الحُزنِ الذي يُخرِجُ عن الصَّبرِ والتَّسليمِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/348). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 76] .
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ.
أي: واللهُ لا يُحِبُّ كلَّ مُتكَبِّرٍ في نَفْسِه بما أُوتِيَ مِنَ الدُّنيا، فَخورٍ به على النَّاسِ [514] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/422)، ((تفسير القرطبي)) (17/258)، ((تفسير ابن كثير)) (8/27)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/297)، ((تفسير السعدي)) (ص: 842)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 415). قال ابنُ تيميَّةَ: (المُختالُ: الَّذي يتخَيَّلُ في نَفْسِه أنَّه عَظيمٌ، فيَعتَقِدُ في نَفْسِه أكثَرَ مِمَّا يَستَحِقُّه). ((درء تعارض العقل والنقل)) (6/17). وقال ابنُ عثيمين: (مُختالٌ في فِعْلِه، فَخورٌ في قَولِه). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 415). .
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن جملةِ صِفاتِ المختالِ المكاثِرِ بالمالِ البُخلُ، وكان قد تقَدَّم الحَثُّ على الإنفاقِ، وكان ما يُوجِبُه لذَّةُ الفَخارِ والاختيالِ الَّتي أوصَلَ إليها المالُ حامِلةً على البُخلِ خَوفًا من الإقتارِ الموجِبِ عندَ أهلِ الدُّنيا للصَّغارِ؛ قال تعالى [515] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/297، 298). :
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ.
أي: وهم مع اختيالِهم وفَخْرِهم هذا يَبخَلونَ بما أُوتُوه مِن نِعَمٍ، فيَمتَنِعونَ عن إخراجِ ما وَجَب عليهم بَذْلُه منها، ويأمُرونَ غَيْرَهم بذلك [516] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/423)، ((تفسير القرطبي)) (17/259)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/212)، ((تفسير ابن كثير)) (8/27)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 415، 416). قال القرطبي: (أي: لا يُحِبُّ المُختاِلينَ الَّذين يَبخَلُونَ. فـ الَّذِينَ في مَوضِعٍ خَفضٍ نَعتًا للمُختالِ. وقيل: رَفعٌ بالابتِداءِ، أي: الَّذين يَبخَلونَ فاللهُ غَنِيٌّ عنهم). ((تفسير القرطبي)) (17/259). ويُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/676، 677)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/413). قال ابن تيميَّةَ في هذه الآيةِ وآيةِ النساء (37): (قد تُؤُوِّلَتْ في البُخلِ بالمالِ، والمَنعِ، والبُخلِ بالعِلمِ ونحوِه، وهي تَعُمُّ البُخلَ بكُلِّ ما يَنفَعُ في الدِّينِ والدُّنيا مِن عِلْمٍ ومالٍ وغَيرِ ذلك). ((مجموع الفتاوى)) (14/212). .
كما قال الله تبارك وتعالى عن المُنافِقينَ: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ [المنافقون: 7] .
وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان التَّقديرُ: «فمَنْ أقبَلَ على ما نُدِبَ إليه مِنَ الإقراضِ الحَسَنِ، والأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المُنكَرِ؛ فإنَّ اللهَ شَكورٌ حَليمٌ»- عَطَف عليه قَولَه ذامًّا للبُخلِ، مُحَذِّرًا منه [517] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/298). :
وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
أي: ومَن يُعْرِضْ فإنَّ اللهَ هو الغَنيُّ عن خَلْقِه غِنًى تامًّا مُطلَقًا؛ المحمودُ في ذاتِه وأسمائِه وصِفاتِه، وأفعالِه وأقوالِه، كثيرُ الحَمدِ لِمَن يَستحِقُّ الحَمدَ منه [518] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/423)، ((تفسير القرطبي)) (17/259)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/298)، ((تفسير السعدي)) (ص: 544)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/414)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 133). قيل: يَتَوَلَّ أي: يُعرِضْ عن الإنفاقِ. وممَّن اختار هذا القولَ: السمرقنديُّ، والبيضاوي، وأبو السعود، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/409)، ((تفسير البيضاوي)) (5/ 190)، ((تفسير أبي السعود)) (8/212)، ((تفسير الشوكاني)) (5/212). وقال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: ومَن يُدْبِرْ مُعرِضًا عن عِظَةِ الله، تاركًا العملَ بما دعاه إليه مِن الإنفاقِ في سبيلِه). ((تفسير ابن جرير)) (22/423). وقيل: يُعرِضْ عن الإيمانِ. وممَّن اختار هذا القولَ: الواحديُّ، وابن الجوزي، والقرطبي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/253)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/237)، ((تفسير القرطبي)) (17/259). وقيل: يُعرِضْ عن أمرِ اللهِ وطاعتِه. وممَّن اختار هذا القولَ في الجملةِ: الزمخشريُّ، والرَّسْعَني، وابن كثير، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/480)، ((تفسير الرسعني)) (7/651)، ((تفسير ابن كثير)) (8/27)، ((تفسير السعدي)) (ص: 842)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 416). وقال ابن عاشور: («مَن يَتَوَلَّ» يَعُمُّ الَّذين يَبخَلون وغيرَهم؛ فإنَّ الَّذين يَبخَلون ويأمُرون النَّاس بالبُخلِ -أي: في سبيلِ الله، وفي النَّفَقاتِ الواجِبةِ- قد تَوَلَّوْا عن أمرِ الله). ((تفسير ابن عاشور)) (27/413). وقال مكِّي: (قولُه: وَمَنْ يَتَوَلَّ أي: يُعرِضْ عن قَبولِ ما أمَر اللهُ عزَّ وجلَّ به مِن الإنفاقِ في سبيلِ الله، وإخراجِ الزَّكاةِ، والإيمانِ بالله وبرسولِه). ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) (11/7331). قولُه: الْحَمِيدُ الأكثَرُ على أنَّه فَعيلٌ بمعنَى مَفعولٍ، أي: مَحمودٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/588) و(22/423)، ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزجاج (ص: 55)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 78)، ((المقصد الأسنى)) للغزالي (ص: 130)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/180)، ((تفسير الرسعني)) (2/321)، ((لسان العرب)) لابن منظور (3/156)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 315)، ((تفسير السعدي)) (ص: 208) و(ص: 856). قال ابنُ القيِّم: (الحَميدُ فَعيلٌ مِن الحَمْدِ، وهو بمعنى مَحمودٍ، وأكثرُ ما يأتي فَعيلًا في أسمائِه تعالَى، بمعنى فاعِل، كـ: سَميع، وبَصير، وعَليم، وقَدير، وعَليٍّ، وحَكيم، وحَليم، وهو كثيرٌ ... وأمَّا الحميدُ فلمْ يأتِ إلَّا بمعنى المحمودِ، وهو أبلغُ مِن المحمودِ؛ فإنَّ فَعيلًا إذا عُدِلَ به عن مَفعولٍ، دلَّ على أنَّ تِلك الصِّفةَ قد صارتْ مِثلَ السَّجيَّةِ والغَريزةِ والخُلُقِ اللَّازمِ). ((جلاء الأفهام)) (ص: 315). وذهب الرَّاغبُ وابنُ عاشور وابنُ عثيمين إلى أنَّه يصحُّ أيضًا أن يكونَ اسمَ فاعِلٍ بمعنى الحامدِ، كما يصحُّ أن يكونَ اسمَ مفعولٍ بمعنى المحمودِ. يُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 256)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/414)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 133). قال ابن عاشور: (اسمه «الحميد» صالحٌ لمعنى المحمودِ، فيكونُ فَعيلًا بمعنَى مفعولٍ، وصالحٌ لمعنَى كثيرِ الحمدِ، فيكونُ مِن أمثلةِ المُبالَغةِ؛ لأنَّ اللهَ يُثيبُ على فِعلِ الخَيرِ ثوابًا جزيلًا، ويُثْني على فاعِلِه ثناءً جميلًا، فكان بذلك كثيرَ الحمدِ. وقد حمَلَه على كِلا المعنيَينِ ابنُ بَرَّجَانَ الإشبيليُّ في شرحِه لأسماءِ الله الحُسْنى، ووافقه كلامُ ابنِ العربي في «أحكام القرآن» في سورةِ الأعرافِ، وهو الحقُّ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/414). ويُنظر: ((شرح أسماء الله الحسنى)) لابن برجان (1/147)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/347). وقال ابنُ عُثَيمين: (كَلِمةُ «حميد» يَصِحُّ أن تكونَ اسمَ فاعلٍ، ويصِحُّ أنْ تكونَ بمعنى اسمِ المفعولِ؛ اسمُ الفاعِلِ: لأنَّه سُبحانَه وتعالَى حامِدٌ يَحمَدُ كُلَّ مَن يَستحِقُّ الحَمدَ منه؛ ولهذا يُثني على رُسُلِه وأنبيائِه وعِبادِه الصَّالحينَ، والثَّناءُ عليهم هو الحَمدُ. وهو أيضًا المحمودُ على أمْرينِ: على ما لَه مِن كَمالِ الصِّفاتِ، وعلى ما له مِن كَمالِ الإنعامِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 133). .
كما قال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38] .
عن أبي ذَرٍّ الغِفاريِّ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما روَى عن اللهِ تبارك وتعالى أنَّه قال: ((يا عبادي إنَّكم لن تَبلُغوا ضَرِّي فتَضُرُّوني، ولن تَبلُغوا نَفعي فتَنفَعوني، يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجِنَّكم كانوا على أتقَى قَلبِ رَجُلٍ واحدٍ منكم، ما زاد ذلك في مُلكي شَيئًا، يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجِنَّكم كانوا على أفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ واحدٍ، ما نقَص ذلك مِن مُلكي شَيئًا، يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجِنَّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كُلَّ إنسانٍ مَسألتَه، ما نقَصَ ذلك ممَّا عندي إلَّا كما يَنقُصُ المِخْيَطُ إذا أُدخِلَ البَحرَ، يا عبادي إنَّما هي أعمالُكم أُحصيها لكم، ثمَّ أُوَفِّيكم إيَّاها، فمَن وَجَد خَيرًا فلْيَحمَدِ اللهَ، ومَن وَجَد غَيرَ ذلك فلا يَلومَنَّ إلَّا نَفْسَه )) [519] رواه مسلم (2577). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلى قَولِه: وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ أنَّه لَمَّا كانتِ المُصيبةُ تتضَمَّنُ فَواتَ مَحبوبٍ أو خَوفَ فَواتِه، أو حُصولَ مَكروهٍ أو خَوفَ حُصولِه؛ نَبَّهَ بالأَسى على الفائتِ على مُفارَقةِ المحبوبِ بعدَ حصولِه، وعلى فَوتِه حيثُ لم يَحْصُلْ، ونَبَّهَ بعَدَمِ الفرحِ به -إذا وُجِدَ- على تَوطينِ النَّفْسِ لِمُفارَقتِه قبْلَ وُقوعِها، وعلى الصَّبرِ على مَرارتِها بعدَ الوُقوعِ، وهذه هي أنواعُ المصائبِ، فإذا تَيَقَّنَ العبدُ أنَّها مَكتوبةٌ مُقَدَّرةٌ، وأنَّ ما أصابه منها لم يكُنْ لِيُخْطِئَه، وما أخطَأَه لَمْ يكن لِيُصيبَه؛ هانتْ عليه، وخَفَّ حَمْلُها، وأنزَلَها مَنزِلةَ الحَرِّ والبَرْدِ [520] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 194). .
2- في قَولِه تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلى قَولِه: وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ أخبَر اللهُ عزَّ وجلَّ عِبادَه بذلك مِن أجْلِ أن تتقرَّرَ هذه القاعدةُ عندَهم، ويَبنوا عليها ما أصابهم مِن الخَيرِ والشَّرِّ، فلا يَأْسَوا ويَحزَنوا على ما فاتهم ممَّا طَمَحتْ له أنفُسُهم وتشَوَّفوا إليه؛ لِعِلْمِهم أنَّ ذلك مكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ، لا بُدَّ مِن نُفوذِه ووُقوعِه، فلا سبيلَ إلى دَفعِه، ولا يَفرَحوا بما آتاهم اللهُ فرَحَ بَطَرٍ وأشَرٍ؛ لعِلْمِهم أنَّهم ما أدرَكوه بحَولِهم وقُوَّتِهم، وإنَّما أدرَكوه بفَضلِ اللهِ ومَنِّه، فيَشتَغِلون بشُكرِ مَن أَولى النِّعَمَ، ودَفَع النِّقَمَ [521] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 842). .
3- قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا فالعبدُ مأمورٌ بالصَّبرِ عندَ المصائبِ نظرًا إلى القَدَرِ، وأمَّا عندَ الذُّنوبِ فمأمورٌ بالاستِغفارِ؛ قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر: 55] ، أمَرَه أن يَصبِرَ على المصائبِ المُقَدَّرةِ ويَستغفِرَ من الذَّنْبِ، وقال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186] ، وقال يوسفُ عليه السَّلامُ: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 90] ، فذكَر الصَّبرَ على المصائبِ، والتَّقْوى بتَرْكِ المعايبِ، فالنَّظَرُ إلى القَدَرِ عندَ المصائبِ، والاستِغفارُ عندَ المعايبِ [522] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (8/420)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/77). .
4- في قَولِه تعالى: لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ تنبيهٌ على أنَّ المُفرِحاتِ صائِرةٌ إلى زَوالٍ، وأنَّ زَوالَها مُصيبةٌ، واعلَمْ أنَّ هذا مَقامُ المُؤمِنِ مِن الأدَبِ بعْدَ حُلولِ المُصيبةِ، وعِندَ نَوالِ الرَّغيبةِ [523] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/412). . قال يحيى بنُ مُعاذٍ الرَّازيُّ: (يا ابنَ آدَمَ، لا تأسَفْ على مَفقودٍ لا يَرُدُّه عليك الفَوتُ، ولا تَفرَحْ بموجودٍ لا يَترُكُه في يديك الموتُ) [524] يُنظر: ((شُعَب الإيمان)) للبيهقي (1/397). ونُسِب إلى جعفرٍ الصَّادقِ في ((تفسير الثعلبي)) (9/245). .
5- في قَولِه تعالى: وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ مَنْعُ إعجابِ المرءِ بعَمَلِه إذا عَمِلَ عَمَلًا يُشْكَرُ عليه؛ لأنَّ اللهَ تعالى هو الَّذي مَنَّ عليه، وقَدَّرَه له [525] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/408). .
6- في قَولِه تعالى: لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ الطُّمَأنينةُ والرَّاحةُ النَّفْسيَّةُ بما يَجري على العَبدِ مِن أقدارِ اللهِ تعالى، فلا يَقْلَقُ بفَواتِ محبوبٍ، أو حُصولِ مَكروهٍ؛ لأنَّ ذلك بقَدَرِ اللهِ الَّذي له مُلْكُ السَّمَواتِ والأرضِ، وهو كائِنٌ لا محالةَ [526] يُنظر: ((شرح ثلاثة الأصول)) لابن عثيمين (ص: 115). .
7- قال ابنُ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما: (ليس أحدٌ إلَّا وهو يَحزَنُ ويَفرَحُ، ولكنْ إذا أصابَتْه مصيبةٌ جعَلَها صبرًا، فإن أصابه خيرٌ جعَلَه شُكرًا) [527] أخرجه ابنُ أبي شَيْبةَ في ((المصنف)) (7/137)، وابنُ جرير في ((تفسيره)) (22/421) والحاكمُ في ((المستدرك)) (2/521) وقال: (صحيحُ الإسنادِ)، والبَيْهَقيُّ في ((شُعَب الإيمان)) (1/397). .
8- قال تعالى: لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ متى آمَنَ العبدُ بالقَدَرِ وعَلِمَ أنَّ المصيبةَ مُقَدَّرةٌ في الحاضرِ والغائبِ لم يَجزَعْ ولم يَفرَحْ، ولا يُنافي هذا رقَّةَ القلبِ؛ فإنَّها ناشئةٌ مِن صِفةِ الرَّحمةِ الَّتي هي كمالٌ، والله سُبحانَه إنَّما يَرحَمُ مِن عِبادِه الرُّحماءَ، وقد كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أرَقَّ النَّاسِ قلبًا، وأبْعَدَهم مِن الجَزَعِ، فرِقَّةُ القلبِ رأفةٌ ورحمةٌ، وجَزَعُه مرَضٌ وضَعفٌ [528] يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 250). .
9- لقد عزَّى اللهُ المؤمنينَ رحمةً لهم في مصائبِهِم، وزهَّدَهم في رغائبِهم، بأنَّ أسَفَهم على فَوتِ المطلوبِ لا يُعيدُه، وفرَحَهم بحُصولِ المحبوبِ لا يُفيدُهم، ولأنَّ ذلك لا مَطمَعَ في بقائِه إلَّا بادِّخارِه عندَ الله، فلا يزالُ العبدُ خائفًا عندَ النِّقمةِ، راجيًا أثَرَ النِّعمةِ، قائلًا في الحالَينِ: ما شاء اللهُ كان، وما لم يَشَأْ لم يكُنْ، وأكمَلُ مِن هذا أن يكونَ مسرورًا بذِكرِ رَبِّه له في كِلْتا الحالتَينِ، وقيمةُ الرِّجالِ إنَّما تُعرَفُ بالوارداتِ المغَيِّرةِ، ومَن لم تُغَيِّرْه المَضارُّ ولم يَتأثَّرْ بالمَسارِّ فهو سَيِّدُ وَقْتِه [529] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/296، 297). .
10- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ تحذيرٌ مِنَ الفَرَحِ، وفيه بيانٌ للمُرادِ مِنَ الفَرَحِ أنَّه الفَرَحُ المُفرِطُ البالِغُ بصاحِبِه إلى الاختيالِ والفَخْرِ [530] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/412). .
11- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ دَلالةٌ على أنَّ البُخلَ صِفةُ ذَمٍّ؛ حيثُ قَرَنَ البُخْلَ بالاختيالِ والفَخرِ والأمرِ بالبُخلِ، وذَمَّ على المجموعِ [531] يُنظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 385). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا أنَّ اللهَ تعالى كَتَب في اللَّوحِ المحفوظِ مَقاديرَ كُلِّ شَيءٍ [532] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (5/46). .
2- في قَولِه تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا حُجَّةٌ على القَدَريَّةِ والمُعتزِلةِ واضِحةٌ؛ إذْ قد أخبَر سُبحانَه نصًّا بإيداعِ المصائبِ كتابَه السَّابِقَ قبْلَ وُقوعِها، والهاءُ في نَبْرَأَهَا لا تَخْلو مِن أنْ تكونَ راجِعةً على الأنْفُسِ، أو على الأرضِ؛ فإنْ كانت على الأرضِ فالأنفُسُ مَخلوقةٌ بَعْدَها، وإنْ كانت على الأنفُسِ فمَصائِبُها مَكتوبةٌ عليها قبْلَ خَلْقِها، وهي على كُلِّ الأحوالِ قبْلَ الأنفُسِ، والمعاصي أكبَرُ المصائبِ، والجِناياتُ مِن جانبِها، ومَن كُتِب عليه فِعلٌ يَفعَلُه أو يُفعَلُ به فلا بُدَّ مِن كَونِه [533] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/236، 237). . وهذه الآيةُ الكريمةُ مِن أدَلِّ دليلٍ على القَدَريَّةِ نُفاةِ العِلمِ السَّابِقِ [534] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/26). ، فقد استُدِلَّ بها على أنَّه تعالى عالِمٌ بالأشياءِ قبْلَ وُقوعِها. ووَجهُ الاستِدلالِ: أنَّه تعالى لَمَّا كَتَبَها في الكِتابِ قبْلَ وُقوعِها، وجاءت مُطابِقةً لذلك الكِتابِ؛ عَلِمْنا أنَّه تعالى عالِمٌ بها بأَسْرِها [535] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/467). .
3- في قَولِه تعالى: لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ أنَّ المرادَ ذَمُّ الفَرَحِ الَّذي يَختالُ فيه صاحِبُه ويَبطَرُ، وأمَّا الفَرَحُ بنِعمةِ اللهِ والشُّكرُ عليها فغَيرُ مَذمومٍ [536] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/468). ؛ فليس المرادُ به الانتِهاءَ عن الحُزنِ والفَرَحِ -اللَّذَينِ لا ينفَكُّ عنهما الإنسانُ بطَبْعِه-، بل المرادُ الحُزنُ المُخرِجُ لصاحِبِه إلى الذُّهولِ عن الصَّبرِ والتَّسليمِ لأمرِ اللهِ تعالى، والفَرَحِ المُلْهي عن الشُّكرِ [537] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 552، 553). .
4- في قَولِه تعالى: بِمَا آَتَاكُمْ دَلالةٌ على أنَّ النِّعَمَ لا بُدَّ في إيجادِها وإبقائِها مِن حافِظٍ، ثُمَّ إنَّها لو خُلِّيَت ونَفْسَها فاتَت؛ لأنَّ الأشياء ليس مِن ذاتِها إلَّا العَدَمُ [538] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/296). . فالفواتُ والعَدمُ ذاتيٌّ للأشياءِ، فلو خُلِّيتْ ونفسَها لم تَبْقَ، بخلافِ حصولِها وبقائِها؛ فإنَّه لا بدَّ مِن استنادِهما إليه عز وجل [539] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/187). ويُنظر أيضًا: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/160). .
5- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ دليلٌ على أنَّ الإنسانَ الَّذي يَتولَّى عن طاعةِ اللهِ إنَّما يَضُرُّ نفْسَه، ولا يَضُرُّ اللهَ شيئًا؛ فإنَّ اللهَ غنيٌّ، وفي الحَديثِ القُدُسيِّ: ((يا عِبادي، لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإِنْسَكم وجِنَّكم كانوا على أفْجَرِ قَلبِ رَجُلٍ واحدٍ، ما نَقَصَ ذلك مِن مُلكي شَيئًا )) [540] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 417). والحديثُ المذكورُ  رواه مسلم (2577). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
- قولُه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا (ما) نافيةٌ، و(مِن) صِلةٌ في النفْيِ؛ للدَّلالةِ على نفْيِ الجِنسِ؛ قَصْدًا للعُمومِ [541] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/410). .
- ومَفعولُ أَصَابَ مَحذوفٌ، تَقديرُه: ما أصابَكُم، أو ما أصابَ أحَدًا [542] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/410). .
- وتَكريرُ حرْفِ النَّفيِ (لا) في المَعطوفِ على المنْفيِّ في قولِه: وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ؛ لقَصْدِ الاهتِمامِ بذلك المذكورِ بخُصوصِه؛ فإنَّ المصائبَ الخاصَّةَ بالنَّفْسِ أشدُّ وقْعًا على المُصابِ؛ فإنَّ المصائِبَ العامَّةَ إذا أخطَأَتْه فإنَّما يَتأثَّرُ لها تأثُّرًا بالتَّعقُّلِ لا بالحِسِّ، فلا تَدومُ مُلاحظةُ النَّفْسِ إيَّاها [543] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/410). .
- والاستِثناءُ في قولِه: إِلَّا فِي كِتَابٍ استِثناءٌ مِن أحوالٍ مَنفيَّةٍ بـ (ما)؛ إذ التَّقديرُ: ما أصابَ مِن مُصيبةٍ في الأرضِ كائنةٍ في حالٍ إلَّا في حالِ كَونِها مَكتوبةً في كتابٍ، أي: مُثبَتةً فيه. والقصْرُ المُفادُ بـ (إلَّا) قصْرُ مَوصوفٍ على صِفةٍ، وهو قصْرٌ إضافيٌّ [544] القصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه، أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وتردُّدِه؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ يدورُ حولَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويستدلُّ عليها بالقرائنِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكة الميداني (1/525). ، أي: إلَّا في حالِ كَونِها في كتابٍ دونَ عدَمِ سبْقِ تَقديرِها في عِلمِ اللهِ، ردًّا على اعتقادِ المُشرِكين والمنافقينَ المذكورِ في قولِه تعالى: وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران: 156] ، وقولِه: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [545] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/410). [آل عمران: 168] .
- وجُملةُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ردٌّ على أهْلِ الضَّلالِ مِن المشركين وبَعضِ أهلِ الكتابِ الَّذين لا يُثبِتون للهِ عُمومَ العِلمِ، ويُجوِّزون عليه البَداءَ [546] البَداءُ له مَعانٍ؛ منها: البَداءُ في العِلمِ، وهو أن يَظهَرَ له خِلافُ ما عَلِم. والبَداءُ في الإرادةِ، وهو أن يَظهَرَ له صوابٌ على خِلافِ ما أراد وحكمَ. والبَداءُ في الأمرِ: وهو أن يأمُرَ بشَيءٍ، ثمَّ يأمُرَ بشَيءٍ آخَرَ بَعْدَه بخِلافِ ذلك. يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتاني (1/148، 149). وتَمشِّي الحِيَلِ، ومِن أجْلِ قصْدِ الرَّدِّ على المُنكِرين أُكِّدَ الخبَرُ بـ(إنَّ) [547] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/411). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، فقد قال سُبحانه هنا: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، وقال في (التَّغابُنِ): مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [التغابن: 11] ، ففصَّل هنا، وأَجمَلَ ثَمَّ؛ مُوافَقةً لِما قبْلَهما؛ لأنَّه فصَّلَ هنا بقولِه: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا... الآيةَ [الحديد: 20] ، بخلافِه ثَمَّ [548] يُنظر: ((أسرار التَّكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 233)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 552). .
2- قولُه تعالَى: لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
- قولُه: لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ التَّعليلُ بلامِ العِلَّةِ و(كَي) مُتعلِّقٌ بمُقدَّرٍ دلَّ عليه هذا الإخبارُ الحكيمُ، أي: أعلَمْناكم بذلك لكَي لا تَأْسَوا على ما فاتَكُم... إلخ [549] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/411). .
- وقولُه: وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ تَتميمٌ لقولِه: لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ؛ فإنَّ المقصودَ مِن الكلامِ ألَّا يَأْسَوا عندَ حُلولِ المصائبِ؛ لأنَّ المقصودَ هو قولُه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ، ثمَّ يُعلَمُ أنَّ المَسرَّاتِ كذلك بطَريقِ الاكتفاءِ [550] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/411). ويُنظر أيضًا: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/160)، ((تفسير الألوسي)) (14/187). والاكتفاء: هو أنْ يَقتضيَ المقامُ ذِكْرَ شيئَينِ بَيْنَهما تَلازُمٌ وارتباطٌ، فيُكتفَى بأحدِهما عن الآخَرِ؛ لنُكتةٍ بلاغيَّةٍ؛ ومثالُ ذلك قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] ؛ ففي قولِه: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ إيجازٌ بالحذفِ، على سَبيلِ الاكتِفاءِ؛ إذِ التَّقْديرُ: تقيكُمُ الحرَّ والبَرْدَ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/118)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 335)، ((البلاغة العربية)) للميداني (2/48). .
- وقُرِئَ قولُه: بِمَا آَتَاكُمْ بمَدٍّ بعْدَ الهَمزةِ مُحوَّلٍ عن هَمزةٍ ثانيةٍ، هي فاءُ الكَلمةِ، أي: ما جعَلَه آتيًا لكم، أي: حاصِلًا عِندَكم؛ فالهمزةُ الأُولى للتَّعديةِ إلى مَفعولٍ ثانٍ، والتَّقديرُ: بما آتاكُمُوه. وعلى هذه القِراءةِ فعائدُ الموصولِ مَحذوفٌ؛ لأنَّه ضَميرٌ مُتَّصلٌ مَنصوبٌ بفِعلٍ، وفيه إدماجُ [551] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). المِنَّةِ مع الموعظةِ؛ تَذكيرًا بأنَّ الخَيراتِ مِن فَضلِ اللهِ. وقُرِئ بِمَا أَتَاكُمْ بهمْزةٍ واحدةٍ [552] وهي قراءةُ أبي عَمرٍو، وقرأ الباقون بمدِّ الهمزةِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/384). والقِراءتانِ مُتلازِمتانِ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/27). ، على أنَّه مِن (أتى)؛ إذا حصَلَ، فعائدُ الموصولِ هو الضَّميرُ المستتِرُ المرفوعُ بـ (أتى)، وفي هذه القراءةِ مُقابَلةُ أَتَاكُمْ بـ فَاتَكُمْ، وهو مُحسِّنُ الطِّباقِ [553] الطِّباق: هو الجمعُ بيْنَ مُتضادَّينِ معَ مُراعاةِ التَّقابُلِ؛ كالبَياضِ والسَّوادِ، واللَّيلِ والنَّهارِ، وهو قِسْمانِ: لفظيٌّ، ومعنويٌّ؛ فمِن الطِّباقِ اللَّفظيِّ: قولُه تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة: 82] ، طابَقَ بيْنَ الضَّحِكِ والبكاءِ، والقليلِ والكثيرِ. ومِن الطِّباقِ المعنويِّ: قولُه تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس: 15، 16]؛ معناه: ربُّنا يَعلَمُ إنَّا لَصادقونَ. ومنه: طِباقٌ ظاهرٌ، وهو ما كان وجْهُ الضِّدِّيَّةِ فيه واضحًا. وطباقٌ خفيٌّ: وهو أن تكونَ الضِّدِّيَّةُ في الصُّورةِ متَوهَّمةً، فتَبدو المُطابَقةُ خفيَّةً لتعلُّقِ أحدِ الرُّكنَينِ بما يُقابِلُ الآخَرَ تعلُّقَ السَّببيَّةِ أو اللُّزومِ، كقولِه تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: 25]؛ فإنَّ إدخالَ النَّارِ يستلزِمُ الإحراقَ المُضادَّ للإغراقِ، ومنه: قولُه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ؛ لأنَّ معنى القِصاصِ القتلُ، فصار القتلُ سببَ الحياةِ. وهذا مِن أملَحِ الطِّباقِ وأخفاه. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 111)، ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) للبهاء السبكي (2/225)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/455 - 457)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 567). ، ففي كِلْتا القراءتينِ مُحسِّنٌ [554] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/412، 413). .
- وفي تَخصيصِ التَّذييلِ بالنَّهيِ عن الفرَحِ المذكورِ: إيذانٌ بأنَّه أقبَحُ مِن الأَسَى [555] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/211). .
3- قولُه تعالَى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
- يَجوزُ أنْ يكونَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ابتِداءَ كلامٍ على الاستِئنافِ؛ لأنَّ الكلامَ الَّذي قبْلَه خُتِمَ بالتَّذييلِ بقولِه: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد: 23] ؛ فيكونَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ مُبتدأً، وخبَرُه مَحذوفًا يدُلُّ عليه جَوابُ الشَّرطِ، وهو فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، والتَّقديرُ: فإنَّ اللهَ غنيٌّ عنهم، وحامدٌ للمُنفِقينَ. ويَجوزُ أنْ يكونَ مُتَّصِلًا بما قبْلَه على طَريقةِ التَّخلُّصِ؛ فيكونَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدَلًا مِن كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، أو خبَرًا لِمُبتدَأٍ مَحذوفٍ هو ضَميرُ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، تَقديرُه: هم الَّذين يَبخَلون، وعلى هذا الاحتِمالِ الأخيرِ فهو مِن حذْفِ المُسنَدِ إليه اتِّباعًا للاستِعمالِ [556] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/413). .
- وجُملةُ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ تَذييلٌ؛ لأنَّ (مَن يَتولَّ) يَعُمُّ الَّذين يَبخَلون وغيرَهم -على قولٍ-؛ فإنَّ الَّذين يَبخَلون ويأْمُرون بالبُخلِ قد تَولَّوا عن أمْرِ اللهِ، و(مَنْ) شَرطيَّةٌ عامَّةٌ [557] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/413). .
- وجُملةُ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ قائِمةٌ مَقامَ جَوابِ الشَّرطِ؛ لأنَّ مَضمونَها عِلَّةٌ للجوابِ، فالتَّقديرُ: ومَن يَتولَّ فلا يَضُرُّ اللهَ شيئًا، ولا يَضُرُّ الفقيرَ؛ لأنَّ اللهَ غنِيٌّ عن مالِ المُتولِّينَ، ولأنَّ له عِبادًا يُطيعون أمْرَه فيَحمَدُهم [558] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/414). .
- وجُملةُ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ تهديدٌ وإشعارٌ بأنَّ الأمرَ بالإنفاقِ إنَّما هو لمصلحةِ المُنفِقِ فقط [559] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/190)، ((تفسير أبي السعود)) (8/212). ، وقولُه: هُوَ تنصيصٌ على الحصرِ والتَّأكيدِ [560] يُنظر: ((تفسير ابن عجيبة)) (7/326). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (27/414، 415). .
- والغَنِيُّ: الموصوفُ بالغِنَى، أي: عدَمِ الاحتِياجِ. ولَمَّا لم يُذكَرْ له مُتعلِّقٌ كان مُفيدًا الغِنى العامَّ [561] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/414). .
- والحميدُ: وصْفُ مُبالَغةٍ، أي: كثيرُ الحمْدِ للمُنفِقينَ؛ لأنَّ اللهَ يُثِيبُ على فِعلِ الخَيرِ ثَوابًا جَزيلًا، ويُثْني على فاعِلِه ثَناءً جَميلًا؛ فكان بذلك كَثيرَ الحمْدِ [562] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/414). . وذلك على قولٍ في معناه.