موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (81-82)

ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ

غريب الكلمات:

الْمُخَلَّفُونَ: أي: الذين تخلَّفوا عن غزوةِ تبوكَ، وأصلُ (خلف): يدلُّ على مجيءِ شَيءٍ بعد شيءٍ، وقيامِه مَقامَه [1394] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/210)، ((المفردات)) للراغب (ص: 295)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 143)، ((تفسير القرطبي)) (8/216). .
خِلَافَ: أي: بعدَ، أو مُخالِفينَ [1395] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 215)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 143)، ((تفسير القرطبي)) (8/216)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 227)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 437). .

المعنى الإجمالي:

يخبِرُ اللهُ تعالى أنَّ المنافقينَ الذين ترَكَهم اللهُ، ولم يوفِّقْهم للجهادِ، فَرِحوا بقُعودِهم بعد خروجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى تَبوكَ، مُخالفينَ أمْرَه بالنُّهوضِ للجِهادِ، وكَرِهوا أن يُجاهِدوا الكفَّارَ بأموالِهم وأنفُسِهم؛ لنُصرةِ دينِ اللهِ، وإعلاءِ كَلِمتِه، وقال بعضُهم لبعضٍ: لا تخرُجوا مع المُسلمينَ إلى تَبوكَ لِغَزوِ الرُّومِ في شدَّةِ الحَرِّ، فأمر اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ لهم: إنَّ نارَ جهنَّمَ أشَدُّ حرًّا، لو كان يفهمونَ عن اللهِ، ويعقلونَ كَلامَه.
فلْيَضحكِ المُنافقونَ قليلًا في هذه الدُّنيا الزَّائلةِ، ولْيَبكوا في الآخرةِ الأبديَّةِ كثيرًا في نار جهنَّمَ؛ جزاءً من اللهِ بسبَبِ ما كانوا يعملونَه في الدُّنيا، من الكُفرِ والنِّفاقِ والمعاصي.

تفسير الآيتين:

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما ظهَرَ مِن النِّفاقِ والهُزءِ من الذين خَرَجوا معه إلى غزوةِ تَبوكَ مِن المُنافقين؛ ذكرَ حالَ المُنافِقينَ الذين لم يَخرُجوا معه، وتخلَّفوا عن الجهادِ، واعتَذَروا بأعذارٍ وعِلَلٍ كاذبةٍ، حتى أذِنَ لهم، فكشفَ اللهُ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أحوالِهم، وأعلَمَه بسوءِ فِعالِهم [1396] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/473). .
وأيضًا لَمَّا علَّلَ سُبحانَه عدَمَ المَغفِرةِ للمُنافِقينَ بفِسقِهم؛ علَّلَ رُسوخَهم في الفِسقِ [1397] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/561). .
وأيضًا مُناسبةُ وُقوعِها في هذا الموضِعِ أنَّ فَرَحَ المنافقينَ بتخَلُّفِهم قد قوِيَ لَمَّا استغفَرَ لهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وظنُّوا أنَّهم استغفَلوه فقَضَوا مَأرَبَهم، ثمَّ حَصَّلوا الاستغفارَ؛ ظنًّا منهم أنَّ مُعاملةَ اللهِ إيَّاهم تجري على ظواهرِ الأمورِ [1398] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/280). .
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ.
أي: فَرِحَ المُنافِقونَ- الذين تَرَكَهم اللهُ، ولم يُوفِّقْهم للجهادِ- بقُعودِهم بعد خروجِ رَسولِ اللهِ إلى تَبوكَ؛ مخالفةً منهم لأمْرِه بالنُّهوضِ للجِهادِ [1399] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/602)، ((البسيط)) للواحدي (10/574 - 576)، ((تفسير ابن عطية)) (3/65، 66)، ((تفسير الرازي)) (16/113)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/285)، ((تفسير ابن كثير)) (4/189)، ((تفسير الشوكاني)) (2/441، 442)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/280). قال القرطبي: (المخَلَّفُ: المَتروكُ، أي: خلَّفَهم اللهُ وثبَّطَهم، أو خلَّفهم رسولُ الله والمؤمنونَ لَمَّا عَلِموا تثاقُلَهم عن الجهادِ: قولان، وكان هذا في غزوةِ تَبوكَ). ((تفسير القرطبي)) (8/216). .
وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ.
أي: وكَرِهَ هؤلاءِ المُنافِقونَ أن يجاهِدوا الكفَّارَ ببَذلِ أموالِهم، وغَزْوِهم بأنفُسِهم لنُصرةِ دِينِ اللهِ سبحانَه، وإعلاءِ كَلِمتِه تعالى [1400] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/603)، ((تفسير ابن عطية)) (3/65)، ((تفسير الرازي)) (16/113)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/281). قال ابنُ جرير: (كَرِه هؤلاءِ المخَلَّفونَ أن يغزُوا الكفَّارَ بأموالِهم وأنفُسِهم في سبيلِ الله...؛ ميلًا إلى الدَّعةِ والخَفضِ، وإيثارًا للرَّاحةِ على التعبِ والمشقَّة، وشُحًّا بالمالِ أن يُنفِقوه في طاعةِ اللهِ). ((تفسير ابن جرير)) (11/603). وقال الرازي: (كَرِهَ الخُروجَ إلى الغزوِ؛ لأنَّه تعريضٌ للمالِ والنَّفسِ للقَتلِ والإهدارِ). ((تفسير الرازي)) (16/113). .
وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ.
أي: وقال المُنافِقونَ بعضُهم لبعضٍ: لا تَخرجُوا مع المسلمينَ إلى تبوكَ؛ لِغَزوِ الرُّومِ في وَقتِ شدَّةِ الحرِّ [1401] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/603)، ((البسيط)) للواحدي (10/577)، ((تفسير ابن عطية)) (3/65)، ((تفسير القرطبي)) (8/216)، ((تفسير السعدي)) (ص: 346). .
قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا.
أي: قلْ- يا محمَّدُ- للمُنافِقينَ الذين يتعلَّلونَ عن الجهادِ بسبَبِ شِدَّةِ الحَرِّ: نارُ جهنَّمَ التي يدخُلُها في الآخرةِ مَن خالف أمْرَ اللهِ، وعَصى رسولَ الله- أشَدُّ حرارةً مِن حَرِّ الدُّنيا الذي لا تريدونَ النَّفرَ فيه، فاتَّقوها بالجِهادِ [1402] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/603)، ((تفسير ابن عطية)) (3/65)، ((تفسير القرطبي))(8/216)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/419)، ((تفسير ابن كثير)) (4/189، 191). وقال ابن تيمية: (عاب اللهُ عزَّ وجلَّ المُنافقين الذين يتعلَّلون بالعوائِقِ، كالحرِّ والبرد. فقال سبحانه وتعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ وهكذا الذين يقولونَ: لا تنفِروا في البَردِ، فيقال: نارُ جهنَّمَ أشَدُّ بردًا، كما أخرجاه في الصَّحيحينِ عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((اشتكَتِ النَّارُ إلى ربِّها، فقالت: ربِّي أكلَ بَعضي بعضًا، فأذِنَ لها بنفَسَينِ: نفسٍ في الشِّتاءِ، ونَفَسٍ في الصَّيفِ؛ فأشَدُّ ما تجِدونَ مِن الحرِّ والبَردِ، فهو من زَمهريرِ جهنَّمَ)) ). ((مجموع الفتاوى)) (28/419). .
لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ.
أي: لو كان هؤلاء المُنافقون يفهمونَ عن اللهِ تعالى، ويعقِلونَ كَلامَه، لَنَفَرُوا مَعَ الرَّسُولِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْحَرِّ؛ لِيَتَّقوا به حَرَّ جهنَّمَ، الَّذي هو أضعافُ أضعافِ هذا، ولما فرُّوا مِن المشقةِ الخفيفةِ المنقضيةِ، إلى المشقَّةِ الشديدةِ الدائمةِ [1403] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/603)، ((تفسير ابن كثير)) (4/189، 191)، ((تفسير السعدي)) (ص: 346). قال ابن جرير: (ولكنَّهم لا يفقهونَ عن الله، فهم يحذَرونَ مِن الحرِّ أقَلَّه مَكروهًا وأخفَّه أذًى، ويوافِقونَ أشدَّه مَكروهًا وأعظَمَه على من يَصلاه بلاءً). ((تفسير ابن جرير)) (11/603). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء: 56] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((نارُكم هذه التي يوقِدُ ابنُ آدمَ- جُزءٌ مِن سبعينَ جُزءًا مِن حَرِّ جهنَّمَ، قالوا: واللهِ إن كانت لَكافيةً يا رسولَ اللهِ! قال: فإنَّها فُضِّلَت عليها بتِسعةٍ وسِتِّينَ جُزءًا، كلُّها مثلُ حَرِّها )) [1404] رواه البخاري (3265)، ومسلم (2843) واللفظ له. .
وعن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: سمعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ أهونَ أهلِ النَّارِ عذابًا يومَ القيامةِ لَرَجلٌ تُوضَعُ في أخمَصِ [1405] الأَخمَصُ: باطِنُ القَدَمينِ الذي لا يَصِلُ إلى الأرضِ عند المَشيِ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (9/323). قَدَميه جَمرتانِ، يغلي مِنهما دماغُه )) [1406] رواه البخاري (6561)، ومسلم (213) واللفظ له. .
وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أدنى أهلِ النَّارِ عذابًا، ينتعِلُ بنَعلَينِ مِن نارٍ، يغلي دماغُه من حرارةِ نَعلَيه )) [1407] رواه مسلم (211). .
ثُمَّ قال اللَّهُ جلَّ جلالُه، مُتَوَعِّدًا لهؤلاءِ المنافِقينَ على صَنيعِهم هذا [1408] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/191). :
فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82).
فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا.
أي: فلْيضحَكِ المُنافِقونَ قليلًا في هذه الدُّنيا الزَّائلةِ، ولْيَبكوا في الآخرةِ الأبديَّةِ كَثيرًا، في نارِ جهنَّمَ [1409] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/605)، ((تفسير ابن عطية)) (3/66)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/285)، ((تفسير السعدي)) (ص: 346). قال الرازي: (معنى الآية: أنَّهم وإن فَرِحوا وضَحِكوا في كلِّ عُمرِهم فهذا قليلٌ؛ لأنَّ الدُّنيا بأسرِها قليلةٌ، وأمَّا حَزَنُهم وبكاؤُهم في الآخرةِ فكثيرٌ؛ لأنَّه عقابٌ دائمٌ لا ينقطِعُ، والمنقطِعُ بالنسبةِ إلى الدائمِ قَليلٌ). ((تفسير الرازي)) (16/114). .
جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ.
أي: فسَيبكي المُنافِقونَ كثيرًا في الآخرةِ؛ جزاءً مِن اللهِ لهم بسبَبِ ما كانوا يعمَلونَه في الدُّنيا من الكُفرِ والنِّفاقِ والمعاصي [1410] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/605)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/285)، ((تفسير الرازي)) (16/114)، ((تفسير السعدي)) (ص: 346)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/282). .

الفوائد التربوية:

في قَولِه تعالى: وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا إشارةٌ إلى أنَّه ينبغي لِمَن لا يصبِرُ على حرِّ الشَّمسِ في الدُّنيا أنْ يجتَنِبَ من الأعمالِ ما يَستوجِبُ به صاحبُه دُخولَ النَّارِ؛ فإنَّه لا قوَّةَ لأحدٍ عليها ولا صبْرَ [1411] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 321). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ قَولُه: الْمُخَلَّفُونَ لفظٌ يقتضي تحقيرَهم، وأنَّهم الذين أبعَدَهم اللهُ مِن رِضاه، وهذا أمكَنُ في هذا مِن أن يُقالَ (المتخَلِّفون)، ولم يفرَحْ إلَّا مُنافِقٌ، فخرج من ذلك الثلاثةُ الذين خُلِّفوا، وتاب اللهُ عليهم، وأصحابُ العُذرِ [1412] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/65). .
2- قال الله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ ذِكرُ فَرَحِهم دَلالةٌ على نفاقِهم؛ لأنَّهم لو كانوا مؤمنينَ لكان التخلُّفُ نَكدًا عليهم ونَغصًا، كما وقعَ للثَّلاثةِ الذين خُلِّفوا فتاب اللهُ عليهم [1413] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/280). .
3- مِن نُكتةِ اختيارِ لَفْظِ خِلَافَ دُونَ (خَلْفَ)- معَ أنَّ (خِلاف) لغةٌ في خَلْف- أنَّه يُشيرُ إلى أنَّ قُعودَهم كان مُخالفةً لإرادةِ رَسولِ اللهِ، حين استنفَرَ النَّاسَ كُلَّهم للغَزوِ [1414] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/280). .
4- قال الله تعالى: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا المؤمِنُ يَدفَعُ- بِصَبرِه على الحرِّ والبَردِّ في سَبيلِ اللهِ- حرَّ جهنَّمَ وبَردَها؛ والمنافِقُ يفِرُّ مِن حرِّ الدُّنيا وبَرْدِها، حتى يقعَ في حرِّ جهنَّمَ وزَمهريرِها [1415] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/419). .

بلاغة الآيتين:

1- قَولُه تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ
قولُه: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ.. هذه الآيةُ تَقْتضي التَّوبيخَ والوعيدَ، ولَفْظةُ الْمُخلَّفُونَ تَقْتضي الذَّمَ والتَّحقيرَ [1416] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/473). ، وهذا فيه اسْتِجهالٌ لهم؛ لأنَّ مَنْ تَصوَّنَ مِنْ مَشقَّةِ ساعةٍ، فوَقَعَ بذَلِكَ التَّصونِ في مَشقَّةِ الأَبَدِ، كان أَجْهلَ مِنْ كُلِّ جاهلٍ [1417] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/296)، ((تفسير أبي حيان)) (5/475). ، فأظهَرَ الوصفَ بالتخَلُّفِ الْمُخَلَّفُونَ موضِعَ الضَّميرِ (فَرِحوا)؛ زيادةً في تهجينِ ما رَضُوا به لأنفُسِهم [1418] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/561). .
وقال: وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا، ولم يَقُلْ: (وكَرِهوا أنْ يَخْرجوا إلى الغزوِ)؛ إيذانًا بأنَّ الجِهادَ في سَبيلِ اللهِ- مَعْ كونِهِ مِنْ أَجَلِّ الرَّغائبِ، وأَشْرفِ المطالِبِ التي يَجِبُ أنْ يَتنافَسَ فيها المتنافِسونَ- قد كَرِهوهُ، كما فَرِحوا بأقبحِ القبائحِ، الذي هو القُعودُ خِلافَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1419] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/88). .
وفي قولِه: (فَرِحَ وكَرِهوا) مُقابَلةٌ مَعنويَّةٌ؛ لأنَّ الفَرَحَ مِن ثَمَراتِ المَحبَّةِ [1420] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/474). .
والفَرَحُ بالإقامةِ يدُلُّ على كراهةِ الذَّهابِ؛ إلَّا أنه تعالى أعاده للتأكيدِ [1421] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/113). .
وفي قولِه: بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ تنويهٌ بالمؤمنينَ، وبتحمُّلِهم المشاقَّ العظيمةَ لوَجْهِ اللهِ تعالى، وبما فَعَلوا مِنْ بَذْلِ أموالِهم وأرواحِهم في سَبيلِ اللهِ تعالى، وإيثارِهم ذلك على الدَّعةِ والخَفْضِ [1422] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/296)، ((تفسير أبي حيان)) (5/474). .
قولُه: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا خَبَرٌ مُسْتَعملٌ في التَّذكيرِ بما هو مَعْلومٌ- لأنَّ كونَ نارِ جَهنَّمَ أشدَّ حرًّا مِنْ حَرِّ القيظِ أَمْرٌ مَعلومٌ، لا يتعلَّقُ الغرضُ بالإخبارِ عنه-؛ تعريضًا بتجهيلِهم؛ لأنَّهم حَذِروا مِنْ حَرٍّ قليلٍ، وأَقْحَموا أَنْفُسَهم فيما يَصيرُ بِهم إلى حَرٍّ أَشَدَّ، فيكونُ هذا التَّذكيرُ كِنايةً عَنْ كونِهم واقعينَ في نارِ جَهنَّمَ؛ لأَجْلِ قُعودِهم عَنِ الغزوِ في الحَرِّ [1423] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/281). .
وجُمْلةُ: لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ تَتميمٌ للتَّجهيلِ والتَّذكيرِ، أي: يُقالُ لهم ذلك لو كانوا يَفْقهونَ الذِّكرى، ولكِنَّهُمْ لا يَفْقهونَ، فلا تُجْدي فيهم الذِّكرى والموعظةُ [1424] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/281).. ، وهذه الجملةُ أيضًا اعْتِراضٌ تذييليٌّ مِنْ جِهتِه سُبْحانَه وتعالى غيرُ داخلٍ تَحْتَ القولِ المأمورِ بِه، وهو مُؤكِّدٌ لِمَضمونِه [1425] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/88). ، ولَفْتُ الكلامِ إلى الغَيبةِ يدُلُّ على أنَّ أعظَمَ المُرادِ بهذا الوَعظِ ضُعَفاءُ المُؤمِنينَ؛ لئلَّا يتشبَّهوا بهم طَمعًا في الحِلمِ [1426] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/562-563). .
2- قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
قولُه: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا إخبارٌ عمَّا يؤولُ إليهِ حالُهم في الدُّنيا والآخِرةِ، أي: فسَيَضْحكونَ قليلًا، ويبكونَ كثيرًا؛ إلَّا أنَّه أَخْرَجَه على صِيغةِ الأَمْرِ؛ للدَّلالةِ على أنَّه حَتْمٌ واجِبٌ، لا يكونُ غيرُه، وعلى تَحتُّمِ وقوعِ المُخبَرِ به؛ فإنَّ أَمْرَ الآمرِ المُطاعِ ممَّا لا يَكادُ يتخلَّفُ عنه المأمورُ [1427] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/296)، ((تفسير البيضاوي)) (3/91)، ((تفسير أبي السعود)) (4/89). .
ويَجوزُ أن يكونَ (الضَّحِك) كنايةً عَنِ الفَرَحِ، و(البُكاء) كِنايةً عَنِ الغَمِّ [1428] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/89). .
قولُه: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فيه الجَمْعُ بين صِيغتَي الماضي والمُسْتقبَلِ كَانُوا يَكْسِبُونَ؛ للدَّلالةِ على الاسْتِمرارِ التَّجدُّدي ما داموا في الدُّنيا [1429] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/89). .