بلاغة الآيتين:
1- قولُه تعالَى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ
- قولُه: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا كلامٌ مُستأنَفٌ جارٍ مَجْرَى التَّعليلِ لفِسقِهِم، أو لعدَمِ مَغفرتِه تعالَى لَهُم [135] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/253)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/101). .
- وقد ثبَت أنَّ قائِلَ هذه المقالةِ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولَ؛ فإسنادُ هذا القَولِ إلى ضَميرِ المُنافِقينَ لأنَّهم تَقبَّلوهَ مِنه؛ إذْ هو رأسُ المُنافِقينَ، أو فَشَا هذا القولُ بيْنَ المُنافِقينَ فأخَذوا يَبُثُّونَه في المُسلِمينَ [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/246). .
- وافتُتِحَتِ الجُملةُ بضميرِهمُ الظَّاهِرِ دونَ الاكتِفاءِ بالمُسْتَتِرِ في يَقُولُونَ؛ مُعامَلةً لهم بنقيضِ مَقصودِهم؛ فإنَّهم ستَروا كيدَهم بإظهارِ قصْدِ النَّصيحةِ، ففضَحَ اللهُ أمْرَهم بمَزيدِ التَّصريحِ، أي: قد علِمْتُ أنَّكُم تقولونَ هذا. وفي إظهارِ الضَّميرِ أيضًا تعريضٌ بالتَّوبيخِ، ولِيَكونَ للجملةِ الاسميَّةِ إفادةُ ثباتِ الخبرِ، وليكونَ الإتيانُ بالموصولِ مُشعِرًا بأنَّهم عُرِفوا بهذه الصِّلةِ [137] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/183). .
- قولُه: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ صِيغةُ المضارِعِ في يَقُولُونَ تُشعِرُ بأنَّ هذه المَقالةَ تتكرَّرُ مِنْهم لقَصْدِ إفشائِها [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/246). .
- قولُه: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إنْ كان اللهُ تعالَى حكَى نصَّ كَلامِهم، فقولُهم: عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ هو على سَبيلِ الهُزءِ، أو لِكَونِه جَرَى عِندَهم مَجْرَى اللَّعِبِ، أي: هو معروفٌ بإطلاقِ هذا اللَّفظِ عليه؛ إذْ لو كانوا مُقِرِّينَ برسالتِه ما صدَرَ منهم ما صدَرَ، فالظَّاهرُ أنَّهم لم يَنطِقوا بنَفْسِ ذلك اللَّفظِ، ولكنَّه تعالَى عبَّرَ بذلك عن رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إكرامًا له وإجلالًا [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/246). . وقيل: إنَّه صَدَر مِن عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ ومَن معه مِن المُنافِقين بهذا اللَّفظِ؛ إذا كانوا قالوا ذلك جَهرًا في ملأِ المسلِمينَ؛ إذ هم يَتظاهَرونَ ساعتَئِذٍ بالإسلامِ [140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/247). .
- وحرفُ (حَتَّى) مُستعمَلٌ في التَّعليلِ؛ لأنَّ معنى (حَتَّى) انتهاءُ الفِعلِ المذكورِ قبْلَها، وغايةُ الفِعلِ يَنتهي الفاعِلُ عن الفِعلِ إذا بلَغَها؛ فهي سبَبٌ للانتهاءِ وعِلَّةٌ له، وليس المرادُ: فإذا انفَضُّوا فأنفِقوا عليهِم [141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/247)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/101). .
- قولُه: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ عَطْفٌ على جُملةِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، وفيه إبطالٌ لِمَكْرِ المُنافِقينَ، وردٌّ وإبطالٌ لِمَا زعَمُوا مِن أنَّ عدمَ إنفاقِهم يُؤدِّي إلى انفضاضِ الفقراءِ مِن حَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ببيانِ أنَّ خزائنَ الأرزاقِ بيَدِ اللهِ تعالَى خاصَّةً، يُعطِي مَن يشاءُ، ويمنعُ مَن يشاءُ، وهذا جوابٌ مِن بابِ طريقةِ النَّقْضِ لكلامِهم [142] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/253)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/247). .
- قولُه: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ اللَّامُ في (لِلَّهِ) للمِلْكِ، أيِ: التَّصرُّفُ في ذلك مِلْكٌ للَّهِ تعالى [143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/248). .
- ولَمَّا كان الإنفاقُ على فُقراءِ المُسلِمينَ ممَّا يُعِينُ على ظُهورِ الدِّينِ الَّذي أرسَلَ اللهُ به رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم، كان الإخبارُ بأنَّ الخزائنَ للَّهِ كِنايةً عن تيسيرِ اللهِ تعالَى لرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم حصولَ ما يُنفِقُ منه، وذلك بما يسَّره اللهُ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن زَكَواتِ المُسلِمينَ وغنائمِ الغزَواتِ، وما فتَحَ اللهُ عليه مِنَ البلادِ بخَيْراتِها، وما أفاءَ اللهُ عليه بغَيرِ قتالٍ [144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/248). .
- وتَقديمُ المجرورِ مِن قولِه: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لإفادةِ قصْرِ القَلبِ [145] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، وهو قلبٌ للازمِ قولِهم لا لصريحِه؛ لأنَّ المُنافِقينَ لَمَّا قالوا: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [المنافقون: 7] ، حسِبوا أنَّهم إذا قطَعوا الإنفاقَ على مَن عِندَ رسولِ اللهِ لا يَجِدُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يُنفِقُ مِنه عليهم، فأعلَمَ اللهُ رسولَه مُباشَرةً، وأعلَمَهم تَبَعًا بأنَّ ما عِندَ اللهِ مِنَ الرِّزقِ أعظَمُ وأوسَعُ [146] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/248). .
- واستِدراكُ قولِه: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ لرفْعِ ما يُتَوهَّمُ مِن أنَّهم حِينَ قالوا: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ كانوا قالوهُ عن بصيرةٍ ويقينٍ بأنَّ انقطاعَ إنفاقِهم على الَّذينَ يَلُوذونَ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقطَعُ رِزقَهُم، فيَنفضُّونَ عنه بِناءً على أنَّ القُدرةَ على الإنفاقِ مُنحصِرةٌ فيهم؛ لأنَّهم أهلُ الأحوالِ -وهذا بِناءً على أنَّ الخِطابَ لأصحابِهم مِن المنافِقينَ-، وقد غفَلوا عن تعدُّدِ أسبابِ الغِنى وأسبابِ الفقرِ، والمعنى: أنَّهم لا يُدرِكونَ دقائقَ المُدرَكاتِ وخَفاياها [147] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/248). .
- ومَفعولُ يَفْقَهُونَ مَحذوفٌ، أي: لا يَفقَهونَ ذلك، وهو مضمونُ (لِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ)، أو نُزِّلَ الفِعلُ مَنزِلةَ اللَّازِمِ؛ مُبالَغةً في انتفاءِ فِقهِ الأشياءِ عنهم في كلِّ حالٍ [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/248). .
- قولُه: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث ختَمَه هنا بـ لَا يَفْقَهُونَ، وبَعْدَه: لَا يَعْلَمُونَ؛ لأنَّ الأوَّلَ مُتَّصِلٌ بقولِه: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وفي مَعرفتِها غُموضٌ يَحتاجُ إلى فِطْنةٍ وفِقهٍ؛ فناسَبَ نَفْيُ الفِقهِ عنهم، والثَّانيَ مُتَّصِلٌ بقولِه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وفي مَعرفتِها غُموضٌ زائدٌ يَحتاجُ إلى عِلمٍ؛ فناسَبَ نَفْيُ العِلمِ عنهم، فالمعْنى: لا يَعلَمونَ أنَّ اللهَ مُعِزٌّ أولياءَهُ ومُذِلٌّ أعداءَهُ [149] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1275-1277)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 236، 237)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/465)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 566). ويُنظر أيضًا: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/474). . وقيل: خُصَّ الأوَّلُ بـ لَا يَفْقَهُونَ، والثَّاني بـ لَا يَعْلَمُونَ؛ لأنَّ إثباتَ الفِقهِ للإنسانِ أبلَغُ مِن إثباتِ العِلمِ له، فيَكونُ نَفْيُ العِلمِ أبلَغَ مِن نَفْيِ الفِقهِ، فأُوثِرَ ما هو أبلَغُ لِمَا هو أَدْعى له [150] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/437). . أو نفيُ العِلمِ فيما ظهرتْ أعلامُه، والفِقهِ فيما خَفيَ أمرُه [151] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/204). .
2- قولُه تعالَى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ
- قولُه: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ استِئنافٌ على أُسلوبِ التَّعدادِ والتَّكريرِ؛ ولذلك لم يُعطَفْ، ومِثلُه يَكثُرُ في مَقامِ التَّوبيخِ، وهذا وصْفٌ لخُبثِ نيَّاتِهم؛ إذْ أرادوا التَّهديدَ وإفسادَ إخلاصِ الأنصارِ وأُخُوَّتِهم مع المُهاجِرينَ بإلْقاءِ هذا الخاطِرِ في نفوسِ الأنصارِ؛ بَذْرًا للفتنةِ والتَّفرِقةِ، وانتهازًا لخصومةٍ طفيفةٍ حدَثَتْ بيْنَ شخصَيْنِ مِن موالي الفريقَيْنِ [152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/249). .
- وصِيغةُ المضارِعِ في حِكايةِ هذه المقالةِ يَقُولُونَ؛ لاستِحضارِ الحالةِ العجيبةِ [153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/249). .
- وقد أبطَلَ اللهُ كلامَهم بقولِه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وهو جوابٌ بالطَّريقةِ الَّتي تُسمَّى القولَ بالموجَبِ في عِلِم الجدَلِ، وهي ممَّا يُسمَّى بالتَّسليمِ الجدَلِيِّ في عِلمِ آدابِ البحثِ [154] القولُ بالموجَبِ: هو عبارةٌ عن تسليمِ مقتضَى ما جعَله المستدِلُّ دليلًا لحُكمٍ، مع بقاءِ الخلافِ بيْنَهما فيه. أو: تسليمُ الدَّليلِ معَ بقاء النِّزاعِ، ومعنى ذلك: أن يُسلِّمَ الخَصمُ الدَّليلَ الَّذى استدَلَّ به المُستدِلُّ، إلَّا أنَّه يقولُ: هذا الدَّليلُ ليس فى محلِّ النِّزاعِ، إنَّما هو في غيرِه؛ فيبقَى الخلافُ بيْنَهما. يُنظر: ((تقريب الوصول إلي علم الأصول)) لابن جُزَي (ص: 189)، ((نهاية السول شرح منهاج الوصول)) للإسنوي (ص: 346)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/201). ، والمعنى: إنْ كان الأعزُّ يُخرِجُ الأذلَّ، فإنَّ المُؤمِنينَ هُمُ الفريقُ الأعزُّ، وعزَّتُهم بكَونِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيهم، وبتأييدِ اللهِ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأولياءَه؛ لأنَّ عزَّةَ اللهِ هي العزَّةُ الحقُّ المُطلَقةُ، وعزَّةَ غَيرِه ناقِصةٌ، فلا جَرَمَ أنَّ أولياءَ اللهِ هُمُ الَّذينَ لا يُقهَرونَ إذا أراد اللهُ نصرَهُم ووعَدَهُم به؛ فإنْ كان إخراجٌ مِنَ المدينةِ فإنَّما يخرُجُ منها أنتُم يا أهلَ النِّفاقِ [155] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/249)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/103، 104). .
- وتقديمُ المُسنَدِ على المُسنَدِ إليه في وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ لقَصْدِ القصْرِ، وهو قصْرُ قلبٍ [156] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، أي: العزَّةُ للَّهِ ولرسولِه وللمُؤمِنينَ، لا لكُمْ كما تَحسَبونَ [157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/250). .
- وإعادةُ اللَّامِ في قولِه: وَلِرَسُولِهِ مع أنَّ حرفَ العطفِ مُغْنٍ عنها؛ لتأكيدِ عزَّةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّها بسببِ عزَّةِ اللهِ، ووَعْدِه إيَّاه [158] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/250). .
- وإعادةُ اللَّامِ أيضًا في قولِه: وَلِلْمُؤْمِنِينَ للتَّأكيدِ أيضًا؛ إذْ قد تَخْفى عزَّتُهم، وأكثرُهم في حالِ قِلَّةٍ وحاجةٍ [159] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/250). .
- وعُدِلَ عن الإضمارِ في قولِه: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وقد سبَقَ اسمُهم في نظيرِها قبْلَها؛ لتكونَ الجملةُ مُستقِلَّةَ الدَّلالةِ بذاتِها، فتسيرَ سَيْرَ المثَلِ [160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/250). .