موسوعة التفسير

سُورةُ المُنافِقونَ
الآيتان (7-8)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غريب الكلمات:

يَنْفَضُّوا: أي: يَتفَرَّقوا، وأصلُ (فضض): يدُلُّ على تفريقٍ وتَجزِئةٍ [113] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/440)، ((تفسير البغوي)) (8/133). .

المعنى الإجمالي:

يخبرُ الله سبحانَه عن جانبٍ مِن أقوالِ المنافِقينَ القبيحةِ، فيقولُ: همُ الَّذين يَقولونَ: لا تُنفِقوا على أصحابِ رَسولِ اللهِ حتَّى يَتفَرَّقوا عنه. وللهِ خزائِنُ السَّمَواتِ والأرضِ، ولكِنَّ المُنافِقينَ لا يَعلَمونَ ذلك. يقولُ المُنافِقونَ: لَئِنْ رَجَعْنا مِن غَزوةِ بَني المُصْطَلِقِ إلى المدينةِ، لَيُخرِجَنَّ الأقوى منها الضَّعيفَ الأذَلَّ. وقد أخطَؤوا مصداقَ الوصفِ، فلِلَّهِ القُوَّةُ والغَلَبةُ ولِرَسولِه وللمُؤمِنينَ، وليست لهم، ولكنَّ المُنافِقينَ لا يَعلَمونَ ذلك، فيَظنُّونَ أنَّ العِزَّةَ لهم!

تفسير الآيتين:

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8).
سَبَبُ النُّزولِ:
عن زَيدِ بنِ أرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا قال عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ: لا تُنفِقُوا على مَن عِندَ رَسولِ اللهِ، وقال أيضًا: لَئِنْ رجَعْنا إلى المدينةِ؛ أخبَرَتُ به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلامني الأنصارُ، وحَلَفُ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ما قال ذلك، فرجَعْتُ إلى المنزِلِ فنِمْتُ، فدعاني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأتَيْتُه، فقال: إنَّ اللهَ قد صَدَّقَك، ونَزَل: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا ... الآيةَ)) [114] أخرجه البخاري (4902). .
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه انتِقالٌ مِن وَصفِ إعراضِهم عن التَّقَرُّبِ مِن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلى وَصفِ لَونٍ آخَرَ مِن كُفرِهم، وهو الكَيدُ للدِّينِ في صورةِ النَّصيحةِ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/246). .
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا.
أي: المُنافِقونَ هم الَّذين يَقولونَ [116] قيل: يقولونَ لأصحابِهم وقَومِهم مِن المُنافِقينَ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ جرير، ومكِّي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/659، 660)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7487)، ((تفسير السعدي)) (ص: 865)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/246). قال ابن عاشور: (هذا أيضًا مِن مقالاتِهم في مَجامِعِهم وجماعتِهم، يَقولونَها لإخوانِهم الَّذين كانوا يُنفِقون على فُقراءِ المسلِمينَ تَظاهُرًا بالإسلامِ، كأنَّهم يقولُ بعضُهم لبعضٍ: تظاهَرْ بالإسلامِ بغيرِ الإنفاقِ، مثل قولِهم لِمَن يقولُ لهم: تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: 5] ؛ ولذلك عُقِّبَتْ بها. وقد جاء في الأحاديثِ الصَّحيحةِ أنَّ قائلَ هذه المقالةِ عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولَ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/246). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/660). وقيل: يقولونَ للأنصارِ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: البيضاويُّ، والمراغي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/215)، ((تفسير المراغي)) (28/113). ويُنظر أيضًا: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/199). : لا تُنفِقوا على أصحابِ رَسولِ اللهِ حتَّى يَتفَرَّقوا عنه [117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/659)، ((تفسير ابن عطية)) (5/313)، ((تفسير البيضاوي)) (5/215). قيل: المرادُ بقولِه: مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ فُقَراءُ المهاجِرينَ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: البيضاوي، والبِقاعي، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/215)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/86)، ((تفسير الشوكاني)) (5/277)، ((تفسير القاسمي)) (9/236). قال ابنُ عاشور: (هذا كلامُ مَكرٍ؛ لأنَّ ظاهِرَه قَصدُ الرِّفقِ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن كُلْفةِ إنفاقِ الأعرابِ الَّذين ألَمُّوا به في غَزوةِ بني المُصْطَلِقِ، وباطِنَه إرادةُ إبعادِ الأعرابِ عن تلَقِّي الهَدْيِ النَّبَويِّ، وعن أن يَتقَوَّى بهم المُسلِمونَ، أو تفَرُّقُ فُقَراءِ المهاجِرينَ لتَضعُفَ بتَفَرُّقِهم بعضُ قُوَّةِ المسلِمينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/246). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 865). .
وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: وللهِ جَميعُ ما في السَّمَواتِ والأرضِ مِن الأرزاقِ وغَيرِها، وهو وَحْدَه المتصَرِّفُ في أسبابِ حُصولِ الأرزاقِ بمَشيئتِه؛ فيُعطي مَن يَشاءُ بفَضْلِه، ويَمنَعُ مَن يَشاءُ بحِكْمتِه [118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/659)، ((تفسير الشوكاني)) (5/277)، ((تفسير السعدي)) (ص: 865)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/248). .
كما قال تعالى: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى: 12] .
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ.
أي: ولكِنَّ المُنافِقينَ لا يُدرِكونَ ذلك، فلا يَعلَمونَ كَمالَ قُدرةِ اللهِ، وأنَّ ما شاء حُصولَه يَسَّرَه، وأنَّه المتصَرِّفُ في الكَونِ بمَشيئتِه، وبيَدِه الأرزاقُ يُقَسِّمُها بيْنَ عِبادِه بحِكْمَتِه [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/659)، ((تفسير السمرقندي)) (3/453)، ((تفسير القرطبي)) (18/128)، ((تفسير البيضاوي)) (5/215)، ((تفسير السعدي)) (ص: 865)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/248). .
كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الروم: 37].
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر في الآيةِ السَّابِقةِ أنَّهم لا يَفقَهونَ؛ دَلَّ على عَدَمِ فِقْهِهم بقَولِه تعالى [120] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/89). :
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ.
أي: يقولُ المُنافِقونَ: لَئِنْ رَجَعْنا مِن غَزوةِ بَني المُصطَلِقِ إلى المدينةِ الَّتي هي بَلدَتُنا، لَيُخرِجَنَّ الأقوى والأشَدُّ فيها الضَّعيفَ الأذَلَّ الَّذي جاء إلى مدينتِنا وسَكَن فيها [121] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/661)، ((الوسيط)) للواحدي (4/304)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/249). قال ابنُ القيِّمِ: (غزوةُ بني المُصطَلِقِ هي غَزوةُ المُرَيْسِيعِ، والجُمهورُ أنَّها كانت بعدَ الخَندَقِ سنةَ سِتٍّ). ((زاد المعاد)) (3/237). قيل: يعني بالأعزِّ نَفْسَه، أي: عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ ابنَ سَلولَ، وبالأذَلِّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: الزَّجَّاجُ، والواحديُّ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/177)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1100). وقيل: أراد أنَّه هو وإخوانَه مِن المُنافِقينَ الأعَزُّونَ، وأراد أنَّ رَسول اللهِ ومَن معه هم الأذَلُّونَ! وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: أبو حيَّان، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/183)، ((تفسير الشوكاني)) (5/277)، ((تفسير السعدي)) (ص: 865). قال الشوكاني: (إنَّما أُسنِدَ القَولُ إلى المُنافِقينَ مع كَونِ القائِلِ هو فَردٌ مِن أفرادِهم، وهو عبدُ اللهِ ابنُ أُبَيٍّ؛ لكَونِه كان رئيسَهم، وصاحِبَ أمْرِهم، وهم راضُونَ بما يقولُه، سامِعونَ له مُطيعونَ). ((تفسير الشوكاني)) (5/277). وقال ابنُ عاشور: (أراد بالأعَزِّ فريقَ الأنصارِ؛ فإنَّهم أهلُ المدينةِ وأهلُ الأموالِ، وهم أكثَرُ عَدَدًا مِن المهاجِرينَ، فأراد: لَيُخرِجَنَّ الأنصارُ مِن مَدينتِهم مَن جاءَها مِنَ المُهاجِرينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/249). .
عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كُنَّا في غَزاةٍ، فكَسَعَ [122] كَسَعَ: أي: ضَرَب دُبُرَه وعَجِيزتَه بيَدٍ أو رِجلٍ أو سَيفٍ وغَيرِه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/138). رَجُلٌ مِن المهاجِرينَ رَجُلًا من الأنصارِ، فقال الأنصاريُّ: يا لَلأنصارِ! وقال المُهاجِريُّ: يا لَلمُهاجِرينَ! فسَمَّعها اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ما هذا؟! فقالوا: كَسَع رَجُلٌ مِن المهاجِرينَ رَجُلًا مِن الأنصارِ، فقال الأنصاريُّ: يا لَلأنصارِ، وقال المهاجِريُّ: يا لَلمُهاجِرينَ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَعُوها؛ فإنَّها مُنْتِنةٌ. قال جابِرٌ: وكانت الأنصارُ حينَ قَدِمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكثَرَ، ثمَّ كَثُرَ المهاجِرونَ بَعْدُ، فقال عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ: أوَقَد فَعَلوا؟! واللهِ لَئِنْ رجَعْنا إلى المدينةِ لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ. فقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: دَعْني يا رَسولَ اللهِ أضرِبْ عُنُقَ هذا المُنافِقِ. قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَعْه، لا يَتحدَّثُ النَّاسُ أنَّ محمَّدًا يقتُلُ أصحابَه)) [123] رواه البخاريُّ (4907) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2584). .
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.
أي: وللهِ القُوَّةُ والغَلَبةُ والـمَنَعةُ ولِرَسولِه وللمُؤمِنينَ، أمَّا المُنافِقونَ فهم الأذِلَّاءُ المهانُونَ حقًّا [124] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/661)، ((تفسير القرطبي)) (18/129)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/400)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/176-183)، ((تفسير الشوكاني)) (5/277). .
كما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر: 10] .
وقال سُبحانَه: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 180] .
وعن تميمٍ الدَّاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((لَيَبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بَلَغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يَترُكُ اللهُ بَيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ [125] بَيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ: المَدَرُ: جَمعُ مَدَرةٍ، وهي: اللَّبِنةُ، والمرادُ به هنا البُيوتُ المُحكَمةُ المَبنيَّةُ مِن الأحجارِ والطُّوبِ واللَّبِنِ، كبُيوتِ المُدُنِ والقُرى. والوَبَرُ: شَعرُ الإبِلِ، والمرادُ به هنا البُيوتُ غيرُ المُحكَمةِ، كبُيوتِ البوادي وأهلِ الخِيامِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (1/116)، ((الكوكب الوهاج)) لمحمد الأمين الهَرري (26/259). إلَّا أدخَلَه اللهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذَليلٍ؛ عِزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذُلًّا يُذِلُّ اللهُ به الكُفْرَ)) [126] أخرجه أحمدُ (16957) واللَّفظُ له، والحاكمُ (8326)، والبيهقيُّ (19090). صحَّحه الحاكمُ على شرطِ الشَّيخَينِ، وقال الهيثميُّ في ((مجمع الزوائد)) (6/17): (رجالُه رجالُ الصَّحيحِ). وقال الألبانيُّ في ((تحذير الساجد)) (158): (على شرطِ مُسلمٍ). وصَحَّح إسنادَه على شرط مسلمٍ: شُعَيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (28/155). .
وعن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بَشِّرْ هذه الأُمَّةَ بالسَّناءِ والرِّفْعةِ، والنَّصرِ والتَّمكينِ في الأرضِ، فمَن عَمِلَ منهم عَمَلَ الآخِرةِ للدُّنيا، لم يَكُنْ له في الآخِرةِ نَصيبٌ)) [127] أخرجه أحمد (21220) واللَّفظُ له، وابنُ حِبَّانَ (405)، والحاكمُ (7862). قال الهيثميُّ في ((مجمع الزوائد)) (10/223): (رجالُه رجالُ الصَّحيحِ). ووثَّق رواتَه البوصيريُّ في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (7/348)، وصحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (2825). .
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
أي: ولكنَّ المُنافِقينَ لا يَعلَمونَ ذلك، فيَظنُّونَ أنَّ العِزَّةَ لهم؛ اغتِرارًا بباطِلِهم [128] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/661)، ((تفسير الشوكاني)) (5/277)، ((تفسير السعدي)) (ص: 865). .

الفوائد التربوية:

يُوجَدُ في المتَّبِعِ هواه مِن ذُلِّ النَّفسِ وضَعْفِها ومَهانتِها ما جعَلَه اللهُ لِمَن عَصاه؛ فإنَّ اللهَ تعالى جَعَل العِزَّةَ لِمَن أطاعَه، والذِّلَّةَ لِمَن عَصاه؛ قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [129] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (1/293). ، فجَعَل اللهُ سُبحانَه العِزَّ قَرينَ طاعتِه، والذُّلَّ قَرينَ مَعصِيتِه [130] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 179). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- لا ريبَ أنَّ المُنافِقينَ كانوا مَغمورينَ أذِلَّاءَ مَقهورينَ، لا سيَّما في آخرِ أيَّامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي غَزوةِ تَبُوكَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ، فأَخبرَ أنَّ العِزَّةَ للمُؤمِنينَ لا للمُنافِقينَ، فعُلِمَ أنَّ العِزَّةَ والقُوَّةَ كانت في المؤمِنينَ، وأنَّ المُنافِقينَ كانوا أذِلَّاءَ بيْنَهم، فيَمْتَنِعُ أنْ يكونَ الصَّحابةُ -الَّذين كانوا أَعَزَّ المُسلِمينَ- مِن المُنافِقينَ، بل ذلك يَقتَضي أنَّ مَن كان أَعَزَّ كان أعظمَ إيمانًا، ومِن المعلومِ أنَّ السَّابِقينَ الأَوَّلِينَ مِن المهاجِرينَ والأنصارِ؛ الخُلفاءَ الرَّاشِدينَ وغَيرَهم، كانوا أعَزَّ النَّاسِ، وهذا كلُّه ممَّا يُبَيِّنُ أنَّ المُنافِقينَ كانوا ذَليلينَ في المؤمِنينَ؛ فلا يجوزُ أنْ يكونَ الأعِزَّاءُ مِن الصَّحابةِ منهم، ولكنَّ هذا الوَصفَ مطابِقٌ للمُتَّصِفِين به مِن الرَّافضةِ وغيرِهم، والنِّفاقُ والزَّنْدقةُ في الرَّافضةِ أكثرُ منه في سائِرِ الطَّوائفِ، بل لا بُدَّ لكلٍّ منهم مِن شُعْبةِ نِفاقٍ؛ فإنَّ أساسَ النِّفاقِ الَّذي بُنيَ عليه: الكذبُ، وأنْ يقولَ الرَّجُلُ بلِسانِه ما ليس في قَلْبِه، كما أَخبرَ اللهُ تعالى عن المُنافِقينَ أنَّهم: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [131] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (2/45). [الفتح: 11] .
2- في قَولِه تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ كان المتوقَّعُ أنْ يكونَ الجوابُ: «واللهُ هو الأَعَزُّ ورسولُه والمؤمِنونَ»، لكنْ لو كانتِ العِبارةُ هكذا لَصار للمُنافِقينَ عِزَّةٌ لكنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه أَعَزُّ، لكنْ نفى عنهم العِزَّةَ مُطلقًا، وللهِ العِزَّةُ وَحْدَه ولِرَسولِه وللمُؤمِنينَ، وهذا نظيرُ قَولِ اللهِ تعالى: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ [غافر: 20] لا حقَّ ولا باطِلَ [132] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (2/139). .
3- لا مُنافاةَ بيْن قَولِه تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وبيْن قَولِه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر: 10] ؛ فإنَّ العِزَّةَ للهِ أصلًا، ولرَسولِه مِن اللهِ، وللمُؤمِنينَ مِن اللهِ؛ فحينَئذٍ فالعِزَّةُ كلُّها للهِ، كما قال اللهُ تعالى في سورةِ آلِ عِمْرانَ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26] ، فكلُّ مَن عِندَه عِزَّةٌ فإنَّها ليست عِزَّةً ذاتيَّةً له مِن ذاتِ نفْسِه، ولكِنَّها مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، وبماذا تكونُ العِزَّةُ الَّتي يَكتسبُها الإنسانُ، وهي مِن اللهِ؟ تكونُ بما عَلَّقَ اللهُ العِزَّةَ عليه، وهو الإيمانُ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فمتى أراد الإنسانُ العِزَّةَ فلْيَكُنْ مُؤمِنًا، وكلَّما كان أكثرَ إيمانًا باللهِ وأقوى إيمانًا باللهِ كان أكثَرَ عِزَّةً وأقوى عِزَّةً [133] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 81). .
4- قال الله تعالى: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ إنَّما نُفِيَ عنهُم هنا العِلمُ تجهيلًا بسُوءِ التَّأمُّلِ في أماراتِ الظُّهورِ والانحطاطِ، فلَمْ يَفْطَنُوا للإقبالِ الَّذي في أحوالِ المُسلِمينَ، وازديادِ سُلطانِهِم يومًا فيومًا، وتناقُصٍ مِن أعدائِهم؛ فإنَّ ذلك أمْرٌ مُشاهَدٌ، فكيف يظُنُّ المُنافِقونَ أنَّ عزَّتَهُم أقوَى مِن عزَّةِ قبائلِ العربِ الَّذينَ يَسقُطونَ بأيدي المُسلِمينَ كلَّما غَزَوْهم مِن يومِ بدرٍ فما بَعْدَه [134] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/250). ؟!

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ
- قولُه: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا كلامٌ مُستأنَفٌ جارٍ مَجْرَى التَّعليلِ لفِسقِهِم، أو لعدَمِ مَغفرتِه تعالَى لَهُم [135] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/253)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/101). .
- وقد ثبَت أنَّ قائِلَ هذه المقالةِ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولَ؛ فإسنادُ هذا القَولِ إلى ضَميرِ المُنافِقينَ لأنَّهم تَقبَّلوهَ مِنه؛ إذْ هو رأسُ المُنافِقينَ، أو فَشَا هذا القولُ بيْنَ المُنافِقينَ فأخَذوا يَبُثُّونَه في المُسلِمينَ [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/246). .
- وافتُتِحَتِ الجُملةُ بضميرِهمُ الظَّاهِرِ دونَ الاكتِفاءِ بالمُسْتَتِرِ في يَقُولُونَ؛ مُعامَلةً لهم بنقيضِ مَقصودِهم؛ فإنَّهم ستَروا كيدَهم بإظهارِ قصْدِ النَّصيحةِ، ففضَحَ اللهُ أمْرَهم بمَزيدِ التَّصريحِ، أي: قد علِمْتُ أنَّكُم تقولونَ هذا. وفي إظهارِ الضَّميرِ أيضًا تعريضٌ بالتَّوبيخِ، ولِيَكونَ للجملةِ الاسميَّةِ إفادةُ ثباتِ الخبرِ، وليكونَ الإتيانُ بالموصولِ مُشعِرًا بأنَّهم عُرِفوا بهذه الصِّلةِ [137] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/183). .
- قولُه: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ صِيغةُ المضارِعِ في يَقُولُونَ تُشعِرُ بأنَّ هذه المَقالةَ تتكرَّرُ مِنْهم لقَصْدِ إفشائِها [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/246). .
- قولُه: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إنْ كان اللهُ تعالَى حكَى نصَّ كَلامِهم، فقولُهم: عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ هو على سَبيلِ الهُزءِ، أو لِكَونِه جَرَى عِندَهم مَجْرَى اللَّعِبِ، أي: هو معروفٌ بإطلاقِ هذا اللَّفظِ عليه؛ إذْ لو كانوا مُقِرِّينَ برسالتِه ما صدَرَ منهم ما صدَرَ، فالظَّاهرُ أنَّهم لم يَنطِقوا بنَفْسِ ذلك اللَّفظِ، ولكنَّه تعالَى عبَّرَ بذلك عن رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إكرامًا له وإجلالًا [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/246). . وقيل: إنَّه صَدَر مِن عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ ومَن معه مِن المُنافِقين بهذا اللَّفظِ؛ إذا كانوا قالوا ذلك جَهرًا في ملأِ المسلِمينَ؛ إذ هم يَتظاهَرونَ ساعتَئِذٍ بالإسلامِ [140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/247). .
- وحرفُ (حَتَّى) مُستعمَلٌ في التَّعليلِ؛ لأنَّ معنى (حَتَّى) انتهاءُ الفِعلِ المذكورِ قبْلَها، وغايةُ الفِعلِ يَنتهي الفاعِلُ عن الفِعلِ إذا بلَغَها؛ فهي سبَبٌ للانتهاءِ وعِلَّةٌ له، وليس المرادُ: فإذا انفَضُّوا فأنفِقوا عليهِم [141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/247)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/101). .
- قولُه: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ عَطْفٌ على جُملةِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، وفيه إبطالٌ لِمَكْرِ المُنافِقينَ، وردٌّ وإبطالٌ لِمَا زعَمُوا مِن أنَّ عدمَ إنفاقِهم يُؤدِّي إلى انفضاضِ الفقراءِ مِن حَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ببيانِ أنَّ خزائنَ الأرزاقِ بيَدِ اللهِ تعالَى خاصَّةً، يُعطِي مَن يشاءُ، ويمنعُ مَن يشاءُ، وهذا جوابٌ مِن بابِ طريقةِ النَّقْضِ لكلامِهم [142] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/253)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/247). .
- قولُه: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ اللَّامُ في (لِلَّهِ) للمِلْكِ، أيِ: التَّصرُّفُ في ذلك مِلْكٌ للَّهِ تعالى [143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/248). .
- ولَمَّا كان الإنفاقُ على فُقراءِ المُسلِمينَ ممَّا يُعِينُ على ظُهورِ الدِّينِ الَّذي أرسَلَ اللهُ به رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم، كان الإخبارُ بأنَّ الخزائنَ للَّهِ كِنايةً عن تيسيرِ اللهِ تعالَى لرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم حصولَ ما يُنفِقُ منه، وذلك بما يسَّره اللهُ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن زَكَواتِ المُسلِمينَ وغنائمِ الغزَواتِ، وما فتَحَ اللهُ عليه مِنَ البلادِ بخَيْراتِها، وما أفاءَ اللهُ عليه بغَيرِ قتالٍ [144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/248). .
- وتَقديمُ المجرورِ مِن قولِه: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لإفادةِ قصْرِ القَلبِ [145] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، وهو قلبٌ للازمِ قولِهم لا لصريحِه؛ لأنَّ المُنافِقينَ لَمَّا قالوا: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [المنافقون: 7] ، حسِبوا أنَّهم إذا قطَعوا الإنفاقَ على مَن عِندَ رسولِ اللهِ لا يَجِدُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يُنفِقُ مِنه عليهم، فأعلَمَ اللهُ رسولَه مُباشَرةً، وأعلَمَهم تَبَعًا بأنَّ ما عِندَ اللهِ مِنَ الرِّزقِ أعظَمُ وأوسَعُ [146] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/248). .
- واستِدراكُ قولِه: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ لرفْعِ ما يُتَوهَّمُ مِن أنَّهم حِينَ قالوا: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ كانوا قالوهُ عن بصيرةٍ ويقينٍ بأنَّ انقطاعَ إنفاقِهم على الَّذينَ يَلُوذونَ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقطَعُ رِزقَهُم، فيَنفضُّونَ عنه بِناءً على أنَّ القُدرةَ على الإنفاقِ مُنحصِرةٌ فيهم؛ لأنَّهم أهلُ الأحوالِ -وهذا بِناءً على أنَّ الخِطابَ لأصحابِهم مِن المنافِقينَ-، وقد غفَلوا عن تعدُّدِ أسبابِ الغِنى وأسبابِ الفقرِ، والمعنى: أنَّهم لا يُدرِكونَ دقائقَ المُدرَكاتِ وخَفاياها [147] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/248). .
- ومَفعولُ يَفْقَهُونَ مَحذوفٌ، أي: لا يَفقَهونَ ذلك، وهو مضمونُ (لِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ)، أو نُزِّلَ الفِعلُ مَنزِلةَ اللَّازِمِ؛ مُبالَغةً في انتفاءِ فِقهِ الأشياءِ عنهم في كلِّ حالٍ [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/248). .
- قولُه: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث ختَمَه هنا بـ لَا يَفْقَهُونَ، وبَعْدَه: لَا يَعْلَمُونَ؛ لأنَّ الأوَّلَ مُتَّصِلٌ بقولِه: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وفي مَعرفتِها غُموضٌ يَحتاجُ إلى فِطْنةٍ وفِقهٍ؛ فناسَبَ نَفْيُ الفِقهِ عنهم، والثَّانيَ مُتَّصِلٌ بقولِه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وفي مَعرفتِها غُموضٌ زائدٌ يَحتاجُ إلى عِلمٍ؛ فناسَبَ نَفْيُ العِلمِ عنهم، فالمعْنى: لا يَعلَمونَ أنَّ اللهَ مُعِزٌّ أولياءَهُ ومُذِلٌّ أعداءَهُ [149] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1275-1277)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 236، 237)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/465)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 566). ويُنظر أيضًا: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/474). . وقيل: خُصَّ الأوَّلُ بـ لَا يَفْقَهُونَ، والثَّاني بـ لَا يَعْلَمُونَ؛ لأنَّ إثباتَ الفِقهِ للإنسانِ أبلَغُ مِن إثباتِ العِلمِ له، فيَكونُ نَفْيُ العِلمِ أبلَغَ مِن نَفْيِ الفِقهِ، فأُوثِرَ ما هو أبلَغُ لِمَا هو أَدْعى له [150] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/437). . أو نفيُ العِلمِ فيما ظهرتْ أعلامُه، والفِقهِ فيما خَفيَ أمرُه [151] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/204). .
2- قولُه تعالَى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ
- قولُه: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ استِئنافٌ على أُسلوبِ التَّعدادِ والتَّكريرِ؛ ولذلك لم يُعطَفْ، ومِثلُه يَكثُرُ في مَقامِ التَّوبيخِ، وهذا وصْفٌ لخُبثِ نيَّاتِهم؛ إذْ أرادوا التَّهديدَ وإفسادَ إخلاصِ الأنصارِ وأُخُوَّتِهم مع المُهاجِرينَ بإلْقاءِ هذا الخاطِرِ في نفوسِ الأنصارِ؛ بَذْرًا للفتنةِ والتَّفرِقةِ، وانتهازًا لخصومةٍ طفيفةٍ حدَثَتْ بيْنَ شخصَيْنِ مِن موالي الفريقَيْنِ [152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/249). .
- وصِيغةُ المضارِعِ في حِكايةِ هذه المقالةِ يَقُولُونَ؛ لاستِحضارِ الحالةِ العجيبةِ [153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/249). .
- وقد أبطَلَ اللهُ كلامَهم بقولِه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وهو جوابٌ بالطَّريقةِ الَّتي تُسمَّى القولَ بالموجَبِ في عِلِم الجدَلِ، وهي ممَّا يُسمَّى بالتَّسليمِ الجدَلِيِّ في عِلمِ آدابِ البحثِ [154] القولُ بالموجَبِ: هو عبارةٌ عن تسليمِ مقتضَى ما جعَله المستدِلُّ دليلًا لحُكمٍ، مع بقاءِ الخلافِ بيْنَهما فيه. أو: تسليمُ الدَّليلِ معَ بقاء النِّزاعِ، ومعنى ذلك: أن يُسلِّمَ الخَصمُ الدَّليلَ الَّذى استدَلَّ به المُستدِلُّ، إلَّا أنَّه يقولُ: هذا الدَّليلُ ليس فى محلِّ النِّزاعِ، إنَّما هو في غيرِه؛ فيبقَى الخلافُ بيْنَهما. يُنظر: ((تقريب الوصول إلي علم الأصول)) لابن جُزَي (ص: 189)، ((نهاية السول شرح منهاج الوصول)) للإسنوي (ص: 346)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/201). ، والمعنى: إنْ كان الأعزُّ يُخرِجُ الأذلَّ، فإنَّ المُؤمِنينَ هُمُ الفريقُ الأعزُّ، وعزَّتُهم بكَونِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيهم، وبتأييدِ اللهِ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأولياءَه؛ لأنَّ عزَّةَ اللهِ هي العزَّةُ الحقُّ المُطلَقةُ، وعزَّةَ غَيرِه ناقِصةٌ، فلا جَرَمَ أنَّ أولياءَ اللهِ هُمُ الَّذينَ لا يُقهَرونَ إذا أراد اللهُ نصرَهُم ووعَدَهُم به؛ فإنْ كان إخراجٌ مِنَ المدينةِ فإنَّما يخرُجُ منها أنتُم يا أهلَ النِّفاقِ [155] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/249)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/103، 104). .
- وتقديمُ المُسنَدِ على المُسنَدِ إليه في وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ لقَصْدِ القصْرِ، وهو قصْرُ قلبٍ [156] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، أي: العزَّةُ للَّهِ ولرسولِه وللمُؤمِنينَ، لا لكُمْ كما تَحسَبونَ [157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/250). .
- وإعادةُ اللَّامِ في قولِه: وَلِرَسُولِهِ مع أنَّ حرفَ العطفِ مُغْنٍ عنها؛ لتأكيدِ عزَّةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّها بسببِ عزَّةِ اللهِ، ووَعْدِه إيَّاه [158] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/250). .
- وإعادةُ اللَّامِ أيضًا في قولِه: وَلِلْمُؤْمِنِينَ للتَّأكيدِ أيضًا؛ إذْ قد تَخْفى عزَّتُهم، وأكثرُهم في حالِ قِلَّةٍ وحاجةٍ [159] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/250). .
- وعُدِلَ عن الإضمارِ في قولِه: وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وقد سبَقَ اسمُهم في نظيرِها قبْلَها؛ لتكونَ الجملةُ مُستقِلَّةَ الدَّلالةِ بذاتِها، فتسيرَ سَيْرَ المثَلِ [160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/250). .