موسوعة التفسير

سُورةُ الجُمُعةِ
الآيات (1-4)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ

غريب الكلمات:

الْمَلِكِ: أي: المالِكِ للأشياءِ كلِّها، المُصَرِّفِ لها على إرادتِه، لا يَمتنِعُ عليه منها شَيءٌ، وأصلُ (ملك): يدُلُّ على قوَّةٍ في الشَّيءِ وصحَّةٍ [9] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/625)، ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزجاج (ص: 30)، ((اشتقاق أسماء الله)) للزَّجَّاجي (ص: 43-46)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (1/39)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/351، 352)، ((تفسير ابن كثير)) (8/115)، ((تفسير السعدي)) (ص: 862). .
الْقُدُّوسِ: أي: الطَّاهرِ مِن كلِّ عيبٍ، المُنَزَّهِ عن كُلِّ نَقصٍ، مِن «القُدْس» وهو: الطَّهارةُ، وأصلُ (قدس): يدُلُّ على الطُّهرِ [10] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 8)، ((تفسير ابن جرير)) (22/551)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 40)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/63)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 398)، ((تفسير القرطبي)) (18/45). .
الْعَزِيزِ: أي: الَّذي اتَّصَف بالعِزَّة التَّامَّةِ: عِزَّةِ القَدْرِ -فهو عظيمُ القَدرِ، لا يَبلُغُ أحدٌ قَدْرَه، فلا مِثلَ له، ولا نَظيرَ-، وعِزَّةِ القَهْرِ -فهو قاهرٌ غالبٌ لا يَغلِبُه شَيءٌ-، وعِزَّةِ الامتِناعِ، فهو مُمْتَنِعٌ عليه النَّقصُ بأيِّ وجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وأصلُ (عزز): يدُلُّ على شِدَّةٍ وقُوَّةٍ وما ضاهاهما مِن غَلَبةٍ وقَهْرٍ [11] يُنظر: ((اشتقاق أسماء الله)) للزَّجَّاجي (ص: 239)، ((شأن الدعاء)) للخَطَّابي (ص: 47)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/38)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/241)، ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/10)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة السجدة)) (ص: 40)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 36). .
الْحَكِيمِ: أي: الموصوفِ بكمالِ الحكمةِ، وهي كمالُ العِلمِ والإرادةِ المُتضَمِّنَينِ اتِّساقَ صُنعِه، وجَرَيانَه على أحسَنِ الوُجوهِ وأكمَلِها، ووَضْعَه الأشياءَ مَواضِعَها، فالحكيمُ فَعيلٌ بمعنَى مُفعِلٍ، مِن الإحكامِ، فهو المُحكِمُ الَّذي يُحكِمُ الأشياءَ كَونًا وشرعًا، ويحكِمُها عمَلًا وصُنعًا، ومنه قيل: بِناءٌ مُحكَمٌ، أي: قد أُتقِنَ وأُحكِمَ.
والحكيمُ الموصوفُ بكمالِ الحُكمِ -فَعيلٌ بمعنَى فاعِلٍ- مِن الحُكمِ، وهو الفصلُ والأمرُ، فهو الحاكمُ الَّذي له الحُكمُ، وأصلُ (حكم): هو المنعُ، مِن حَكَمةِ اللِّجامِ، وهي الحديدةُ الَّتي تَمنَعُ الفَرَسَ وتَرُدُّه إلى مَقصدِ الرَّاكبِ، والحِكمةُ هذا قِياسُها؛ لأنَّها تمنَعُ مِن الجهلِ، وكذلك الحاكمُ بيْن النَّاسِ إنَّما هو الفاصلُ بيْنَهم بعِلمِه، والمُلزِمُ لهم ما لا يُمكِنُهم مُخالَفَتُه، ويَمنعُ المحكومَ عليه الخُروجَ عن حُكمِه [12] يُنظر: ((اشتقاق أسماء الله)) للزجاجي (ص: 60)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (1/73)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/91)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/53)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/67)، ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للسعدي (ص: 186)، ((شرح العقيدة الواسطية)) للعثيمين (1/188)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (5/223). .
الْأُمِّيِّينَ: أي: العربِ، الَّذين لم يكُنْ لهم كتابٌ، والأُمِّيُّ هو الَّذي لا يَكتُبُ ولا يَقرَأُ المكتوبَ، وكان أغلَبُ العرَبِ كذلك، قيل: سُمِّيَ الأُمِّيُّ بذلك نِسبةً إلى ما ولَدَتْه عليه أُمُّه، أو نِسبةً إلى أُمِّه؛ لأنَّ الكتابَ كان في الرِّجالِ دونَ النِّساءِ، وقيل: نِسبةً إلى الأُمَّةِ؛ لأنَّه الأصلُ في جِبِلَّةٍ الأمَّةٍ، والكِتابةُ لا تكونُ إلَّا بتَعَلُّمٍ [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/154)، ((البسيط)) للواحدي (21/445)، ((تفسير السمعاني)) (5/430)، ((المفردات)) للراغب (ص: 87)، ((تفسير ابن عطية)) (5/306)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 403)، ((تفسير الشوكاني)) (5/267). .
وَيُزَكِّيهِمْ: أي: يُنمِّيهم بالخَيرِ والتَّربيةِ على الأعمالِ الصَّالحةِ، وحثِّهم على الأخلاقِ الجميلةِ، ويُطهِّرُهم مِن الكُفرِ والمَعاصي والرَّذائلِ وسائرِ الخِصالِ الذَّميمةِ، والتَّزكيةُ: التَّطهيرُ، والزَّكاةُ: النَّماءُ والزِّيادةُ، وأصلُ (زكو): يدُلُّ على النَّماءِ والزِّيادةِ والطَّهارةِ [14] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 31)، ((تفسير ابن جرير)) (2/577)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/17)، ((المفردات)) للراغب (ص: 380)، ((تفسير ابن عطية)) (1/ 212)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 23)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 48)، ((تفسير السعدي)) (ص: 66)، ((تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن)) للسعدي (1/33). .
وَالْحِكْمَةَ: الحِكمةُ هنا: هي السُّنَّةُ، والحِكمةُ: معرفةُ الحقِّ والعملُ به، والإصابةُ في القولِ والعملِ، وأصلُ (حكم): هو المنعُ، والحِكمةُ هذا قِياسُها؛ لأنَّها تمنَعُ مِن الجهلِ [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/627)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/91)، ((تفسير ابن عطية)) (5/306)، ((تفسير القرطبي)) (18/92)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 448). قال ابنُ القيِّم: (الحِكمةُ هى سُنَّةُ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، وهى تتضمَّنُ العِلمَ بالحقِّ، والعملَ به، والخبرَ عنه، والأمرَ به). ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 93). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بالإخبارِ بأنَّه يُنزِّهُه تعالى عن النَّقائصِ والعُيوبِ جَميعُ ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ، وهو سُبحانَه المَلِكُ الحَقُّ المتَّصِفُ بالطُّهرِ التَّامِّ، العَزيزُ الَّذي لا يُغلَبُ، الحَكيمُ الَّذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه الصَّحيحِ.
ثمَّ يذكرُ تعالى جانبًا مِن مَظاهِرِ فضْلِه على خَلقِه، فيقولُ: هو الَّذي أرسَلَ في العَرَبِ رَسولًا أُمِّيًّا مِنهم، يَقرَأُ عليهم آياتِ القُرآنِ، ويُطَهِّرُهم مِن الأخلاقِ الرَّذيلةِ والعقائِدِ المُنحَرِفةِ، ويُعَلِّمُهم القُرآنَ الكريمَ والسُّنَّةَ النَّبَويَّةَ، وقد كانوا قبْلَ إرسالِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهم في انحرافٍ ظاهرٍ عن الحَقِّ، وكذلك بَعَث اللهُ الرَّسولَ في آخَرينَ مِنهم يأتُونَ بَعْدَهم، واللهُ هو العَزيزُ الَّذي لا يُغلَبُ، الحَكيمُ الَّذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه الصَّحيحِ. وذلك فَضلٌ مِنَ اللهِ يُعطيه مَن يَشاءُ مِن عِبادِه، واللهُ صاحِبُ الفَضلِ العَظيمِ.

تفسير الآيات:

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1).
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
أي: يُنزِّهُ اللهَ تعالى وَحْدَه عن النَّقائصِ والعُيوبِ جَميعُ ما في السَّمَواتِ وجَميعُ ما في الأرضِ [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/625)، ((تفسير ابن كثير)) (8/115). وتسبيحُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ تسبيحٌ حقيقيٌّ بلِسانِ المقالِ، وأيضًا بلِسانِ الحالِ. يُنظر ما تقدَّم في تفسير سورة (الإسراء) الآية (44)، وأوَّل سورة (الحديد). .
الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ.
أي: المَلِكِ الحَقِّ، المالِكِ لجَميعِ الأشياءِ، الكاملِ التَّصَرُّفِ في جميعِ خَلْقِه بما يَشاءُ، المتَّصِفِ بالطُّهرِ التَّامِّ والنَّزاهةِ البالِغةِ [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/625)، ((تفسير ابن كثير)) (8/115)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/46)، ((تفسير السعدي)) (ص: 862). .
كما قال اللهُ تعالى حاكيًا قَولَ الملائِكةِ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: 30] .
وقال سُبحانَه: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران: 26، 27].
وعن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا سلَّمَ مِنَ الوِتْرِ قال: سُبحانَ الملِكِ القُدُّوسِ -ثلاثَ مرَّاتٍ-، وفي روايةٍ: يُطيلُ في آخِرِهنَّ)) [18] أخرجه أبو داودَ (1430)، والنسائيُّ (1699)، وأحمدُ (21142)، وابنُ حِبَّانَ (2450). صَحَّحه ابنُ القطَّانِ في ((بيان الوهم والإيهام)) (5/614)، وابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (3/21)، والألبانيُّ في ((صحيح أبي داود)) (1430). وصحَّح إسنادَه النوويُّ في ((الأذكار)) (120)، وابنُ باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (267). .
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
أي: العَزيزِ الَّذي يَغلِبُ ولا يُغلَبُ، فيَنتَقِمُ مِن أعدائِه ويُذِلُّهم، الحَكيمِ فيما خَلَق وشَرَع وقدَّرَ، فيَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه الصَّحيحِ اللَّائِقِ به [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/625)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/46، 47)، ((تفسير السعدي)) (ص: 862). .
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى بعدَما فرَغ مِن التَّوحيدِ والتَّنزيهِ؛ شرَع في النُّبوَّةِ [20] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/537). .
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ.
أي: اللهُ هو الَّذي أرسَلَ في العَرَبِ رَسولًا أُمِّيًّا مِن جملةِ العَرَبِ [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/625، 626)، ((الوسيط)) للواحدي (4/294)، ((تفسير البيضاوي)) (5/211)، ((تفسير النسفي)) (3/479)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (25/ 167-169)، ((تفسير السعدي)) (ص: 862)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/208). قال الشنقيطي: (الْأُمِّيِّينَ: العَرَبُ، بالإجماعِ، والرَّسولُ المذكورُ: نَبيُّنا محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إجماعًا). ((أضواء البيان)) (1/44). وقال الماوَرْدي: (وفي تسميتِهم أُمِّيِّينَ قَولانِ؛ أحدُهما: لأنَّه لم يَنزِلْ عليهم كتابٌ، قاله ابنُ زَيدٍ. الثَّاني: لأنَّهم لم يَكونوا يَكتُبون، ولا كان فيهم كاتبٌ، قاله قَتادةُ). ((تفسير الماوردي)) (6/5). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: ابنُ تيميَّةَ، والفيروزابادي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/435)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (2/159)، ((تفسير الشوكاني)) (5/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 862). قال ابن تيميَّةَ: (الصَّوابُ: أنَّه نِسبةٌ إلى الأُمَّةِ، كما يُقالُ: عامِّيٌّ، نِسبةً إلى العامَّةِ الَّتي لم تَتمَيَّزْ عن العامَّةِ بما تَمتازُ به الخاصَّةُ، وكذلك هذا لم يتميَّزْ عن الأمَّةِ بما يمتازُ به الخاصَّةُ مِن الكتابةِ والقِراءةِ، ويُقالُ الأُمِّيُّ لِمَن لا يَقرَأُ ولا يَكتُبُ كِتابًا، ثمَّ يُقالُ لِمَن ليس لهم كتابٌ مُنزَّلٌ مِن الله يَقرَؤُونه وإن كان قد يكتبُ ويقرأُ ما لم يُنزَّلْ، وبهذا المعنى كان العربُ كلُّهم أُمِّيِّينَ؛ فإنَّه لم يكُنْ عندَهم كتابٌ مُنزلٌ مِن الله، قال الله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا [آل عمران: 20]، وقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا، وقد كان في العربِ كثيرٌ ممَّن يَكتُبُ ويَقرَأُ المكتوبَ، وكلُّهم أُمِّيُّون، فلمَّا نزَل القرآنُ عليهم لم يَبقوا أُمِّيِّينَ باعتبارِ أنَّهم لا يَقرَؤُون كتابًا مِن حِفظِهم، بل هم يَقرَؤُون القرآنَ مِن حِفظِهم، وأناجيلُهم في صُدورِهم، لكنْ بقُوا أُمِّيِّينَ باعتبارِ أنَّهم لا يَحتاجون إلى كتابةِ دينِهم، بل قرآنُهم محفوظٌ في قُلوبِهم... وبهذا الاعتبارِ فالمسلمونَ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ بعدَ نُزولِ القرآنِ وحِفظِه...). ((مجموع الفتاوى)) (17/435). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: أبو عُبَيدةَ، والبغويُّ، والرَّسْعَني، والبِقاعي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/258)، ((تفسير البغوي)) (5/81)، ((تفسير الرسعني)) (8/118)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/48)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/208). قال السمعاني: (فإن قال قائلٌ: لم يكُنْ كلُّ قُرَيشٍ أُمِّيًّا، وقد قال: فِي الْأُمِّيِّينَ؟ والجوابُ: أنَّ اللهَ تعالَى سمَّاهم أُمِّيِّينَ باعتِبارِ غالِبِ أمْرِهم، وقد كانت الكِتابةُ نادِرةً فيهم). ((تفسير السمعاني)) (5/430). وقال الواحدي: (قال المفسِّرونَ: كانت العربُ أمَّةً لا كِتابَ لهم، ولا يَقرَؤُون كتابًا ولا يَكتُبون). ((البسيط)) (21/445). .
كما قال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48].
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ.
أي: يَقرَأُ مُحمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- على الأُمِّيِّينَ آياتِ القُرآنِ الَّتي أنزَلَها اللهُ عليه، مع كَونِه أُمِّيًّا مِثْلَهم، ويُطَهِّرُهم مِن الأخلاقِ الرَّذيلةِ والعقائِدِ المُنحَرِفةِ، ويُنَمِّيهم بالإيمانِ والأعمالِ الصَّالِحةِ [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/627)، ((تفسير ابن عطية)) (5/306)، ((تفسير القرطبي)) (18/92)، ((تفسير البيضاوي)) (5/211)، ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 84)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/49). .
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.
أي: ويُعَلِّمُهم القُرآنَ الكريمَ والسُّنَّةَ النَّبَويَّةَ، فيَفقَهونَ معانيَ كِتابِ اللهِ، وأحكامَ شَرْعِه [23] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (7/288)، ((تفسير ابن جرير)) (22/627)، ((تفسير ابن عطية)) (5/306)، ((تفسير القرطبي)) (18/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 862). قال ابن تيميَّة: (الْكِتَابَ: هو الكلامُ المُنزَّلُ الَّذي يُكتبُ، وَالْحِكْمَةَ: هي السُّنَّةُ؛ وهي معرفةُ الدِّينِ والعملُ به). ((النبوات)) (2/672). وقال ابنُ القيِّم: (الْكِتَابَ: هو القُرآنُ، وَالْحِكْمَةَ: هي السُّنَّةُ، باتِّفاقِ السَّلَفِ، وما أخبَرَ به الرَّسولُ عن اللهِ فهو في وُجوبِ تَصديقِه والإيمانِ به كما أخبَرَ به الرَّبُّ تعالى على لسانِ رَسولِه، هذا أصلٌ مُتَّفَقٌ عليه بيْن أهلِ الإسلامِ، لا يُنكِرُه إلَّا مَن ليس منهم، وقد قال النَّبيُّ: «إنِّي أُوتيتُ الكِتابَ ومِثْلَه معه» [أبو داود «4604»، والترمذي «2664»، وابن ماجه «12»، وأحمد «17213» وصحَّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» «4604»]). ((الروح)) (ص: 75). وقال ابنُ رجب: (قَولُه: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ: يعني بالكِتابِ: القُرآنَ، والمرادُ: ويُعَلِّمُهم تلاوةَ ألفاظِه، ويعني بالحِكمةِ: فَهْمَ معاني القرآنِ، والعَمَلَ بما فيه، فالحِكمةُ هي: فَهمُ القُرآنِ، والعَمَلُ به، فلا يَكفي تلاوةُ ألفاظِ الكِتابِ حتَّى يُعلَمَ مَعناه، ويُعمَلَ بمُقتَضاه، فمَن جُمِع له ذلك كُلُّه فقد أُوتيَ الحِكمةَ؛ قال تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة: 269]... ومَن قال: «الْحِكْمَةَ»: السُّنَّةُ، فقَولُه الحَقُّ؛ لأنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ القُرآنَ، وتُبَيِّنُ مَعانيَه، وتَحُضُّ على اتِّباعِه والعَمَلِ به، فالحكيمُ هو العالمُ المُستنبِطُ لدقائِقِ العِلمِ، المنتَفِعُ بعِلمِه بالعَمَلِ به). ((لطائف المعارف)) (ص: 84، 85). وممَّن اختار أيضًا أنَّ المرادَ بالكتابِ: القرآنُ، وبالحِكمةِ: السُّنَّةُ: ابنُ جرير، والسمعانيُّ، والزمخشري، وابن عطية، والقاسمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/627)، ((تفسير السمعاني)) (5/431)، ((تفسير الزمخشري)) (4/530)، ((تفسير ابن عطية)) (5/306)، ((تفسير القاسمي)) (9/227)، ((تفسير السعدي)) (ص: 862). قال الماوَرْدي: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ فيه ثلاثةُ تلأويلاتٍ؛ أحدُها: أنَّه القرآنُ، قاله الحسَنُ. الثَّاني: أنَّه الخطُّ بالقلَمِ، قاله ابنُ عبَّاسٍ؛ لأنَّ الخطَّ إنَّما فشَا في العربِ بالشَّرعِ لما أُمِروا بتقييدِه بالخطِّ. الثَّالثُ: معرفةُ الخَيرِ والشَّرِّ كما يَعرِفونه بالكتابِ؛ لِيَفعَلوا الخَيرَ، ويَكُفُّوا عن الشَّرِّ، وهذا معنى قولِ محمدِ بنِ إسحاقَ. وَالْحِكْمَةَ فيه ثلاثةُ تأويلاتٍ؛ أحدُها: أنَّ الحِكمةَ السُّنَّةُ، قاله الحسَنُ. الثَّاني: أنَّه الفِقهُ في الدِّينِ، وهو قولُ مالكِ بنِ أنَسٍ. الثَّالثُ: أنَّه الفَهمُ والاتِّعاظُ، قاله الأعمشُ). ((تفسير الماوردي)) (6/6). واختار الرَّازيُّ أنَّ الحِكمةَ: هي الفرائضُ، واختار السَّمَرْقَنْديُّ أنَّها الحلالُ والحرامُ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/538)، ((تفسير السمرقندي)) (3/447). .
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
أي: وقد كان العَرَبُ الأُمِّيُّونَ مِن قَبلِ إرسالِ مُحمَّدٍ إليهم، وإنزالِ القُرآنِ عليهم: في انحرافٍ ظاهرٍ عن الحَقِّ [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/628)، ((الوسيط)) للواحدي (4/294)، ((تفسير القرطبي)) (18/92)، ((تفسير البيضاوي)) (5/211)، ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 85)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/51، 52)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/210). قال البيضاوي: (هو بيانٌ لشِدَّةِ احتياجِهم إلى نبيٍّ يُرشِدُهم، وإزاحةٌ لِما يُتوهَّمُ أنَّ الرَّسولَ تَعلَّمَ ذلك مِن مُعلِّمٍ). ((تفسير البيضاوي)) (5/211). .
وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3).
وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ.
أي: وبَعَث اللهُ الرَّسولَ في آخَرينَ مِنهم يأتُونَ بَعْدَهم [25] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/628، 631)، ((تفسير الزمخشري)) (4/530)، ((تفسير أبي حيان)) (10/171)، ((تفسير ابن كثير)) (8/116)، ((تفسير أبي السعود)) (8/247)، ((تفسير القاسمي)) (9/228). قال السمين الحلبي: (قوله: وَآَخَرِينَ فيه وجهان: أحدُهما: أنَّه مجرورٌ عطفًا على الْأُمِّيِّينَ، أي: وبَعَثَ في آخَرينَ مِن الأمِّيِّينَ. و لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ صفةٌ لـ «آخَرِينَ» قبْلُ. والثَّاني: أنَّه منصوبٌ عَطْفًا على الضَّميرِ المنصوبِ في «يُعَلِّمُهم»، أي: ويُعَلِّمُ آخَرينَ لم يَلْحقوا بهم وسيَلْحقون، وكلُّ مَنْ يَعْلَمُ شريعةَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ إلى آخِرِ الزَّمانِ فرسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مُعَلِّمُه بالقوَّةِ؛ لأنَّه أصْلُ ذلك الخَيرِ العظيمِ، والفَضلِ الجَسيمِ). ((الدر المصون)) (10/325). واختلَف المفسِّرونَ في المرادِ بالآخَرينَ؛ على أقوالٍ: الأوَّلُ: أنَّهم العَجَمُ. الثَّاني: أنَّهم التَّابِعون مِن أبناءِ العَرَبِ. الثَّالثُ: أنَّهم جميعُ مَن دخَل في الإسلامِ إلى يومِ القيامةِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/281). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ -أنَّ المرادَ بالآخَرينَ: الأعاجِمُ، ومَن لم يَتكَلَّمْ بلُغةِ العَرَبِ-: الواحديُّ ونسَبَه إلى قولِ المفسِّرينَ، وهو ظاهرُ اختيارِ الرَّازيِّ، واختاره القُرطبيُّ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/294)، ((البسيط)) للواحدي (21/446)، ((تفسير الرازي)) (30/538، 539)، ((تفسير القرطبي)) (18/93). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عُمرَ في روايةٍ عنه، وابنُ عبَّاسٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، ومجاهدٌ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/628)، ((تفسير الثعلبي)) (9/306)، ((البسيط)) للواحدي (21/446)، ((تفسير البغوي)) (5/81). قال الواحدي: (قولُه: مِنْهُمْ؛ لأنَّهم إذا أسلَموا صاروا منهم، والمُسلِمونَ كُلُّهم يدٌ واحِدةٌ، وأمَّةٌ واحدةٌ، وإن اختَلَفَت أجناسُهم). ((الوسيط)) (4/294). وقال الواحديُّ أيضًا: (وقولُ المفسِّرينَ: هم الأعاجمُ، يَعنون بالأعاجِمِ مَن ليس مِن العربِ، والعربُ تُسمِّي مَن لا يَتكلَّمُ بلُغَتِهم عجَميًّا، مِن أيِّ جنسٍ كان). ((البسيط)) (21/446). وخصَّهم ابنُ جُزَي بفارِسَ؛ لِوُرودِ ذلك في الحديثِ الصَّحيحِ: ((أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم سُئل: مَن هؤلاء الآخَرونَ؟ فأخَذ بيَدِ سَلْمانَ الفارِسيِّ، وقال: لو كان العِلمُ بالثُّرَيَّا، لَنالَه رِجالٌ مِن هؤلاء، يعني: فارِسَ)). يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/373). وقال ابن رجب: (الأُمِّيُّون هم العربُ، والآخَرونَ الَّذين لم يَلحَقوا بهم هم أهلُ فارِسَ والرُّومُ، فكانت أهلُ فارِسَ مجوسًا، والرُّومُ نصارى، فهدى الله تعالى جميعَ هؤلاء برسالةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ إلى التَّوحيدِ). ((لطائف المعارف)) (ص: 85). واختار البِقاعي أنَّ المعنى: بَعَثَه في آخَرينَ مِنْهُمْ في الأُمِّيَّةِ لا في العَرَبيَّةِ، كعَوامِّ المَجوسِ واليهودِ والنَّصارى والبَرابرِ، ونحوِهم مِن طوائِفِ العَجَمِ. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/ 53). وذكر ابنُ عطيَّةَ أنَّ قَولَه تعالى: مِنْهُمْ بِناءً على القولِ بأنَّهم الأعاجمُ: إنَّما يريدُ في البَشَريَّةِ والإيمانِ، كأنَّه قال: وفي آخَرينَ مِنَ النَّاسِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/307). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ -أنَّهم التَّابِعونَ مِن هذه الأمَّةِ مِن العربِ ممَّن بَقيَ منهم-: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/325)، ((تفسير السمرقندي)) (3/447). قال ابن عطيَّة: (قال مجاهِدٌ وعِكْرِمةُ ومُقاتِلٌ: أراد التَّابِعينَ مِن أبناءِ العَرَبِ، فقَولُه: مِنْهُمْ يريدُ به النَّسَبَ والإيمانَ). يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/307). وقال الشَّوكاني: (الضَّميرُ في مِنْهُمْ وبِهِمْ راجعٌ إلى الأُمِّيِّينَ، وهذا يؤيِّدُ أنَّ المرادَ بالآخَرينَ: هم مَن يأتي بعدَ الصَّحابةِ مِن العربِ خاصَّةً إلى يومِ القيامةِ، وهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإن كان مُرسَلًا إلى جميعِ الثَّقَلَينِ، فتَخصيصُ العرَبِ هاهنا؛ لقَصدِ الامتنانِ عليهم، وذلك لا يُنافي عُمومَ الرِّسالةِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/268). وممَّن ذهب إلى القولِ الثَّالثِ وقال بالعُمومِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، وهو ظاهرُ اختيارِ الزمخشري، والبيضاوي، وأبي السعود، واختاره القاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/631)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/169)، ((تفسير الزمخشري)) (4/530)، ((تفسير البيضاوي)) (5/211)، ((تفسير أبي السعود)) (8/247)، ((تفسير القاسمي)) (9/228). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ في روايةٍ عنه، وابنُ زَيدٍ، والضَّحَّاكُ، ومقاتلُ بنُ حَيَّانَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/631)، ((تفسير الثعلبي)) (9/306)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/153). قال ابنُ جرير: (عُنيَ بذلك كلُّ لاحِقٍ لَحِقَ بالَّذين كانوا صَحِبوا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم في إسلامِهم مِن أيِّ الأجناسِ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عمَّ بقولِه: وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ كلَّ لاحِقٍ بهم مِن آخَرينَ، ولم يَخْصُصْ منهم نَوعًا دونَ نَوعٍ، فكلُّ لاحِقٍ بهم فهو مِن الآخَرينَ الَّذي لم يَكونوا في عِدادِ الأوَّلِينَ الَّذين كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يَتلو عليهم آياتِ الله). ((تفسير ابن جرير)) (22/631). وقال الزَّجَّاجُ: (وبَعَثَ في الَّذين لم يَلحَقوا بهم، أي: في آخَرينَ منهم لَمَّا يَلْحَقوا بهم، فالنَّبيُّ عليه السَّلامُ مَبعوثٌ إلى مَن شاهَدَه، وإلى كلِّ مَن كان بَعْدَهم مِن العربِ والعجَمِ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/169). وقال البيضاوي: (وهم الَّذين جاؤُوا بعدَ الصَّحابةِ إلى يومِ الدِّينِ؛ فإنَّ دَعوتَه وتعليمَه يَعُمُّ الجميعَ). ((تفسير البيضاوي)) (5/211). وقال ابن عطيَّةَ بِناءً على هذا القولِ: (ويكونُ مِنْهُمْ في البَشَريَّةِ والإيمانِ). يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/307). وقال أبو حيَّانَ بعدَ أن ذكر عددًا مِن الأقوالِ في معنى الآيةِ: (ويَنبغي أن تُحملَ هذه الأقوالُ على التَّمثيلِ، كما حمَلوا قولَ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ في فارِسَ). ((تفسير أبي حيان)) (10/ 171). قال الواحدي: (جميعُ الأقوالِ في هذا معناها أنَّ المرادَ بالآخَرينَ: كُلُّ مَن دخل في الإسلامِ بعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى يومِ القيامةِ). ((البسيط)) (21/446). واختُلِف في قولِه تعالى: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ، قال الرَّسْعَني: (قولُه تعالى: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أي: لم يَلحَقوا بهم بعدُ، أو لم يَلحَقوا بهم في الفضيلةِ والسَّبقِ؛ لأنَّ التَّابِعينَ إلى يوم القيامةِ لم يُدرِكوا فضلَ الصَّحابةِ رضيَ الله عنهم أجمعينَ). ((تفسير الرسعني)) (8/120). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ -أي: لم يَكونوا في زمانِهم ولم يُدرِكوهم، وسيَجيئون بعدَهم وسيَلْحَقون بهم-: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، ومكِّي، والسمعاني، والبغوي، والزمخشري، والقرطبي، والبيضاوي، والخازن، وابن جُزَي، وأبو حيان، والألوسي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/631)، ((تفسير السمرقندي)) (3/447)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/ 7460)، ((تفسير السمعاني)) (5/431)، ((تفسير البغوي)) (5/82)، ((تفسير الزمخشري)) (4/530)، ((تفسير القرطبي)) (18/93)، ((تفسير البيضاوي)) (5/211)، ((تفسير الخازن)) (4/289)، ((تفسير ابن جزي)) (2/373)، ((تفسير أبي حيان)) (10/171)، ((تفسير الألوسي)) (14/289). قال ابن جُزَي: (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ بالنَّفيِ، وسيَلحَقون؛ وذلك أنَّ «لَمَّا» لِذِكْرِ الماضي القريبِ مِن الحالِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/373) وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: الواحديُّ، والعُلَيمي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/294)، ((تفسير العليمي)) (7/49). قال الواحدي: (قولُه: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أي: في الفضلِ والسَّابقةِ؛ لأنَّ التَّابِعينَ لا يُدرِكون شأْوَ الصَّحابةِ). ((الوسيط)) (4/294). وقال ابن القيِّم: (الأَوَّلونَ: هم الَّذين أدرَكوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصَحِبوه، والآخَرون: هم الَّذين لَمْ يَلحَقوهم، وهم كلُّ مَن بَعْدَهم على مِنهاجِهم إلى يومِ القيامةِ؛ فيكونُ التَّأخُّرُ وعَدَمُ اللَّحاقِ في الزَّمانِ. وفي الآيةِ قَولٌ آخَرُ: أنَّ المعنى: لَمْ يَلحَقوا بهم في الفَضلِ والمرتَبةِ، بل هم دونَهم؛ فيكونُ عدمُ اللَّحاقِ في الرُّتبةِ، والقَولانِ كالمتلازِمَينِ؛ فإنَّ مَن بَعْدَهم لا يَلحَقونَ بهم لا في الفَضلِ ولا في الزَّمانِ، فهؤلاء الصِّنفانِ هم السُّعَداءُ، وأمَّا مَن لم يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذي بَعَثَ به رَسولَه، ولم يَرْفَعُ به رَأسًا؛ فهو مِن الصِّنفِ الثَّالِثِ، وهم: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا). ((الرسالة التبوكية)) (ص: 54). وقال السعدي: (وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أي: وامتَنَّ على آخَرينَ مِن غيرِهم، أي: مِن غيرِ الأُمِّيِّينَ، ممَّن يأتي بعدَهم، ومِن أهلِ الكتابِ، لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ، أي: فيمَن باشَرَ دَعوةَ الرَّسولِ. ويحتملُ أنَّهم لَمَّا يَلحَقوا بهم في الفضلِ، ويحتملُ أن يَكونوا لَمَّا يَلحَقوا بهم في الزَّمانِ، وعلى كلٍّ، فكِلا المعنيَينِ صحيحٌ؛ فإنَّ الَّذين بعَثَ الله فيهم رسولَه وشاهَدوه وباشَروا دَعوتَه، حصَل لهم مِن الخصائصِ والفضائلِ ما لا يُمكِنُ أحدًا أن يَلحَقَهم فيها). ((تفسير السعدي)) (ص: 862). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كنَّا جُلوسًا عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ نزَلَت عليه سُورةُ الجُمُعةِ، فلمَّا قرأ: وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قال رجُلٌ: مَنْ هؤلاء يا رَسولَ اللهِ؟ فلم يُراجِعْه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى سأله مرَّةً أو مرَّتَينِ أو ثلاثًا، قال: وفينا سَلْمانُ الفارِسيُّ، فوَضَع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه على سَلْمانَ، ثمَّ قال: لو كان الإيمانُ عِندَ الثُّرَيَّا [26] الثُّرَيَّا: نَجمٌ معروفٌ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/642). لَناله رِجالٌ مِن هؤلاء!)) [27] رواه البخاري (4897) واللفظُ له، ومسلم (2546). قال ابنُ عاشور: (اعلَمْ أنَّ قَولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لو كان الإيمانُ بالثُّرَيَّا لَناله رجالٌ مِن هؤلاء»: إيماءٌ إلى مِثالٍ مِمَّا يَشملُه قَولُه تعالى: وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ؛ لأنَّه لم يُصَرِّحْ في جوابِ سؤالِ السَّائِلِ بلَفظٍ يَقتضي انحصارَ المرادِ بـ «آخَرِينَ» في قَومِ سَلْمانَ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/212). .
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: واللهُ هو العَزيزُ الَّذي يَغلِبُ ولا يُغلَبُ، وهو الحكيمُ الَّذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/632)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/53)، ((تفسير السعدي)) (ص: 862). .
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4).
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
أي: ذلك فَضلٌ مِنَ اللهِ تَفَضَّل به، واللهُ يُعطي فَضْلَه مَن يَشاءُ مِن عِبادِه بحَسَبِ ما تَقتَضيه حِكمَتُه سُبحانَه [29] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/632)، ((تفسير السمرقندي)) (3/447)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/213)، ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/116، 117). قيل: الإشارةُ إلى ما تقدَّم مِن إرسالِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالآياتِ إلى العربِ ومَن بَعْدَهم، والتَّزكيةِ وتَعليمِ الكِتابِ والحِكمةِ؛ فالإشارةُ إلى جميعِ المذكورِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، والألوسي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/632)، ((تفسير الألوسي)) (14/290)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/213). وقيل: فَضْلُ اللهِ هنا هو: الإسلامُ، يُعطيه اللهُ تعالى لِمَن يشاءُ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: مقاتلُ ابنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنِين، والخازنُ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/325)، ((تفسير السمرقندي)) (3/447)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/390)، ((تفسير الخازن)) (4/290). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/632)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/153). وقيل: المرادُ: النُّبُوَّةُ، أي: ذلك الفَضلُ الَّذي أعطاه محمَّدًا، وهو أن يكونَ نبيَّ أبناءِ عَصرِه وأبناءِ العُصورِ التَّاليةِ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: السمعانيُّ، والزمخشري، والنسفي، وأبو حيان. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/432)، ((تفسير الزمخشري)) (4/530)، ((تفسير النسفي)) (3/480)، ((تفسير أبي حيان)) (10/172). قال ابن كثير: (قوله: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يعني: ما أعطاه الله محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ مِن النُّبوَّةِ العظيمةِ، وما خصَّ به أُمَّتَه مِن بَعثتِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ إليهم). ((تفسير ابن كثير)) (8/117). وقال البِقاعي: (ذَلِكَ أي: الأمرُ العظيمُ الرُّتبةِ مِن تَفضيلِ الرَّسولِ وقَومِه، وجَعْلِهم مَتبوعينَ بعدَ أن كان العرَبُ أتْباعًا لا وَزْنَ لهم عندَ غَيرِهم مِن الطَّوائِفِ فَضْلُ اللَّهِ). ((نظم الدرر)) (20/54). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/93). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [آل عمران: 72 - 74] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء: 69، 70].
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
أي: واللهُ صاحِبُ الفَضلِ العَظيمِ الَّذي يَقِلُّ معه كُلُّ فَضلٍ مِن غَيرِه، فلا يُساويه ولا يُدانيه [30] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/632)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/54). .

الفوائد التربوية:

في قَولِه تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أنَّ مَن حَصَل له نصيبٌ مِن دِينِ الإسلامِ فقد حَصَل له الفَضلُ العَظيمُ، وقد عَظُمَتْ عليه نِعمةُ اللهِ، فما أحْوَجَه إلى القيامِ بشُكرِ هذه النِّعمةِ، وسؤالِه دوامَها، والثَّباتَ عليها إلى المماتِ، والموتَ عليها؛ فبذلك تَتِمُّ النِّعمةُ [31] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 85). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فيه سؤالٌ: لم يَقُلْ: (يُسَبِّحُ اللهَ)، فما الفائِدةُ؟
الجوابُ: هذا مِن جملةِ ما يَجْري فيه اللَّفظانِ: كشَكَرَه وشكَرَ له، ونصَحَه ونصَحَ له [32] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/537). .
2- إنْ قيل: لمَ جاز يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ، ومَا إنَّما يقَعُ على ما لا يعقِلُ، والتَّسبيحُ إنَّما هو لمَن يعقِلُ؟
وعن هذا جوابانِ:
أحدُهما: أنَّ مَا هاهنا بمعنى (مَن) فهما يتناوبانِ، بمعنَى أنَّ أحدَهما يقعُ مكانَ الآخَرِ، يدلُّ على ذلك قولُه تعالى هنا: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ، وفي آيةٍ أُخرَى مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ [النور: 41] ، وإن كان الأكثرُ استعمالًا أنَّ (ما) لغيرِ العاقِلِ، و (مَنْ) للعاقلِ.
والثاني: أنَّ (ما) أعمُّ مِن (مَن)، وذلك أنَّها تقعُ على ما لا يعقِلُ وعلى صفاتِ مَن يعقِلُ، فقد شاركت (من) فيمَن يعقِلُ، وزادت عليها بكونِها لما لا يعقِلُ، فصارت أعمَّ منها، فجاءَتْ لتدلَّ على أنَّ التَّسبيحَ عامٌّ مِن العاقلِ وغيرِ العاقلِ، ويدلُّ على هذا قولُه تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [33] يُنظر: ((النكت في القرآن الكريم)) لأبي الحسن القيرواني (ص: 494)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 67). [الإسراء: 44] .
وأيضًا فمجيئُها هنا لغيرِ العاقلِ تغليبًا له؛ لكثرتِه، فتكونُ شاملةً للعاقلِ مِن بابِ أولَى [34] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/4). .
3- حيث وقَع في القرآنِ ذِكرُ الأرضِ فإنَّها مُفرَدةٌ ولم تُجمَعْ؛ لِثِقَلِ جَمعِها، وهو أرَضونَ، ولهذا لَمَّا أُريدَ ذِكرُ جميعِ الأرَضينَ قال: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12] ، وأمَّا السَّماءُ فذُكِرتْ تارةً بصيغةِ الجَمعِ -الدَّالَّةِ على سَعةِ العظَمةِ والكثرةِ- وتارةً بصيغةِ الإفرادِ، وذلك إذا أُرِيدَ الجهةُ؛ لِنُكَتٍ تليقُ بذلك المحلِّ [35] يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (2/355). ، فانظُرْ كيف جاءت مجموعةً في قولِه تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ في جميعِ السُّوَرِ، لَمَّا كان المرادُ الإخبارَ عن تَسبيحِ سُكَّانِها -على كَثرتِهم، وتبايُنِ مَراتبِهم- لم يَكُنْ بُدٌّ مِن جَمْعِ مَحَلِّهم، ونظيرُ هذا جَمْعُها في قَولِه تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ [36] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/116). [الأنبياء: 19] .
4- قَولُ الله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ فيه سُؤالٌ: ما وَجهُ الامتنانِ بأنْ بَعَث نَبيًّا أُمِّيًّا؟
الجوابُ عنه مِن ثلاثةِ أوجُهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: لِمُوافَقتِه ما تقَدَّمَت بِشارةُ الأنبياءِ به.
الوجهُ الثَّاني: لمُشاكلةِ حالِه لأحوالِهم، فيكونُ أقرَبَ إلى موافقتِهم.
الوجهُ الثَّالثُ: لِيَنتفيَ عنه سوءُ الظَّنِّ في تعَلُّمِه ما دعا إليه مِنَ الكتُبِ الَّتي قرَأَها، والحِكَمِ الَّتي تلاها [37] يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/6). .
5- الأُمِّيُّونَ هم العَرَبُ، وتخصيصُ الْأُمِّيِّينَ بالذِّكْرِ لا يَنفي مَن عَدَاهم، ولكِنَّ المِنَّةَ عليهم أبلَغُ وآكَدُ، كما في قَولِه تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] ، وهو ذِكرٌ لِغَيرِهم يتَذَكَّرونَ به، وكذا قَولُه تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ، وهذا وأمثالُه لا يُنافي قَولَه تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف: 158] ، وقَولَه تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] ، وقولَه تعالى إخبارًا عن القُرآنِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ الدَّالَّةِ على عُمومِ بَعْثَتِه -صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه- إلى جميعِ الخَلْقِ؛ أحمَرِهم وأسْوَدِهم [38] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/56). .
6- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ ذِكْرُ الآياتِ الشَّرعيَّةِ -وهي: ما أنْزَلَه اللهُ تعالى على رُسُلِه مِن الشَّرائعِ-، ويقابِلُها الآياتُ الكَونيَّةُ -وهي: مخلوقاتُه، كالشَّمسِ، والقَمَرِ، والنُّجومِ، والإنسانِ، وغيرِ ذلك-، كما في قَولِه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [39] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (1/321). [فصلت: 37] .
7- البَعثُ بَعثانِ: كَوْنيٌّ، ودينيٌّ؛ ففي قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ذِكْرُ البَعثِ الدِّينيِّ، وفي قولِه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء: 5] ذِكرُ البعثِ الكَونيِّ [40] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (1/149). .
8- قَولُ الله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ هذه الآيةُ نَصٌّ في أنَّ اللهَ تعالى استجابَ دَعوةَ نَبيِّه إبراهيمَ عليه السَّلامُ فيهم [41] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/115). ، وهي قولُه: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129] .
9- التَّزَكِّي يَحصُلُ بامتِثالِ أمرِ الرَّسولِ، وإن كان صاحِبُه لا يتذكَّرُ عُلومًا عنه، كما قال تعالى: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ، ثمَّ قال: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ؛ فالتِّلاوةُ عليهم والتَّزكيةُ عامٌّ لجميعِ المؤمِنينَ، وتعليمُ الكِتابِ والحِكمةِ خاصٌّ ببَعْضِهم، وكذلك التزَكِّي عامٌّ لكلِّ مَنْ آمَنَ بالرَّسولِ، وأمَّا التَّذَكُّرُ فهو مختَصٌّ لِمَن له عُلومٌ يُذَكَّرُها، فعَرَفَ بتَذَكُّرِه ما لم يَعلَمْه غَيرُه مِن تِلْقاءِ نَفْسِه [42] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/185). .
10- قولُه تعالى: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ في وَصْفِ الرَّسولِ الأُمِّيِّ بأنَّه يتْلو على الأُمِّيِّينَ آياتِ اللهِ، أي: وحْيَه، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ أي: يُلقِّنُهم إيَّاه كما كانَتِ الرُّسلُ تُلقِّنُ الأُمَمَ الكتابَ بالكِتابةِ، ويُعلِّمُهُم الحِكمةَ الَّتي علَّمَتْها الرُّسلُ السَّابقونَ أُمَمَهُم -في كلِّ هذِه الأوصافِ تَحَدٍّ بمُعجزةِ الأُمِّيَّةِ في هذا الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: هو مع كَونِه أُمِّيًّا قد أتى أُمَّتَه بجميعِ الفوائدِ الَّتي أتى بها الرُّسُلُ غيرُ الأُمِّيِّينَ أُمَمَهم، ولم يَنقُصْ عنهم شيئًا، فتمَحَّضَتِ الأُمِّيَّةُ للكَونِ مُعجِزةً حصَلَ مِن صاحبِها أفضلُ ممَّا حصَلَ مِنَ الرُّسلِ الكاتِبينَ مِثْلِ موسى عليه السَّلامُ [43] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/209). .
11- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ الرَّدُّ على قَولِ القائلِ: «إنَّه لا يُتَعَرَّضُ لأحاديثِ الصِّفاتِ وآياتِها عندَ العَوامِّ؛ ولا يُكتَبُ بها إلى البلادِ ولا في الفَتاوى المتعَلِّقةِ بها»؛ فإنَّ ذلك يَتضمَّنُ إبطالَ أعظمِ أصولِ الدِّينِ ودَعائمِ التَّوحيدِ، وإنَّ أسوأَ أحوالِ العامَّةِ أنْ يكونوا أُمِّيِّينَ، فهل يجوزُ أنْ يُنهَى أنْ يُتلى على الأُمِّيِّينَ آياتُ اللهِ، أو عن أنْ يُعَلَّمَ الكِتابُ والحِكمةُ؟! ومَعلومٌ أنَّ جميعَ مَن أُرسِلَ إليه الرَّسولُ مِن العَرَبِ كانوا قبْلَ مَعرفةِ الرِّسالةِ أجهَلَ مِن عامَّةِ المؤمِنينَ اليومَ، فهل كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ممنوعًا مِن تلاوةِ ذلك عليهم وتعليمِهم إيَّاه، أو مأمورًا به؟! أَوَليس هذا مِن أعظَمِ الصَّدِّ عن سَبيلِ اللهِ؟! وقد قال اللهُ تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ [آل عمران: 99] الآيةَ [44] يُنظر: ((التسعينية)) لابن تيمية (1/125). .
12- في قَولِه تعالى: فِي الْأُمِّيِّينَ تَنبيهٌ للعَرَبِ على قَدْرِ هذه النِّعمةِ وعِظَمِها؛ حيثُ كانوا أُمِّيِّينَ لا كِتابَ لهم، وليس عِندَهم شَيءٌ مِن آثارِ النُّبُوَّاتِ كما كان عندَ أهلِ الكِتابِ، فمَنَّ اللهُ عليهم بهذا الرَّسولِ وبهذا الكِتابِ حتَّى صاروا أفضَلَ الأُمَمِ وأعْلَمَهم، وعَرَفوا ضَلالةَ مَن ضَلَّ مِن الأُمَمِ قَبْلَهم، وفي كَونِه منهم فائِدتانِ:
إحداهما: أنَّ هذا الرَّسولَ كان أيضًا أُمِّيًّا كأُمَّتِه المبعوثِ إليهم، لم يَقرأْ كتابًا قَطُّ، ولم يَخُطَّه بيَمينِه، كما قال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: 48] الآياتِ، ولا خَرَج عن ديارِ قَومِه فأقام عندَ غيرِهم حتَّى تَعَلَّمَ منهم شَيئًا، بل لم يَزَلْ أُمِّيًّا بيْنَ أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ لا يَكتُبُ ولا يَقرأُ، ثُمَّ جاء بعدَ ذلك بهذا الكتابِ المبِينِ، وهذه الشَّريعةِ الباهِرةِ، وهذا الدِّينِ القَيِّمِ الَّذي اعترفَ حُذَّاقُ أهلِ الأرضِ ونُظَّارُهم أنه لم يَقْرَعِ العالَمَ ناموسٌ أعظَمُ منه، وفي هذا برهانٌ ظاهرٌ على صِدْقِه.
والفائدةُ الثَّانيةُ: التَّنبيهُ على أنَّ المبعوثَ منهم -وهم الأُمِّيُّون خُصوصًا أهلَ مكَّةَ- يَعرِفونَ نَسَبَه وشَرَفَه، وصِدْقَه وأمانتَه وعِفَّتَه، وأنَّه نَشَأَ بيْنَهم مَعروفًا بذلك كُلِّه؛ وأنَّه لم يَكذِبْ قَطُّ؛ فكيف كان يَدَعُ الكَذِبَ على النَّاسِ ثُمَّ يَفتَري الكَذِبَ على اللهِ عزَّ وجلَّ؟! فهذا هو الباطِلُ، ولذلك سألَ هِرَقْلُ عن هذه الأوصافِ، واستَدلَّ بها على صِدْقِه فيما ادَّعاه مِن النُّبُوَّةِ والرِّسالةِ [45] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 83). ويُنظر البخاري (7)، ومسلم (1773). .
13- في قَولِه تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ أنَّه إذا قُرِنَتِ الحِكمةُ بالكتابِ، فالمرادُ بها السُّنَّةُ، لأنَّ السُّنَّةَ أيضًا تتضمَّنُ الحِكمةَ، واللهُ عزَّ وجلَّ لَمْ يَصِفِ السُّنَّةَ بالحِكمةِ لأنَّ القرآنَ ليس فيه حكمةٌ! ولكنْ لَمَّا كان القرآنُ مِن عندِ اللهِ، وكلامَ اللهِ؛ فإنَّ احتمالَ ألَّا يَتضمَّنَ الحِكمةَ بعيدٌ جدًّا، إلَّا أنَّه لَمَّا كانتِ السُّنَّةُ مِن كلامِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فإنَّ كلامَ البشرِ قد يَرِدُ عليه احتمالُ ألَّا يكونَ مُشتَمِلًا على الحِكمةِ؛ فبَيَّنَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ السُّنَّةَ حِكمةٌ وإنْ كانت مِن كلامِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، أو مِن فِعْلِه؛ فإنَّها حِكمةٌ لأنَّها مُوافِقةٌ للصَّوابِ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 252). .
14- في قَولِه تعالى: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إشارةٌ إلى ما كان النَّاسُ عليه قبْلَ إنزالِ هذا الكِتابِ مِن الضَّلالِ؛ فإنَّ اللهَ نَظَرَ حينَئذٍ إلى أهلِ الأرضِ فمَقَتَهم، عَرَبَهم وعَجَمَهم، إلَّا بقايا مِن أهلِ الكتابِ [47] يُنظر الحديثُ الَّذي رواه مسلم (2865) عن عِيَاضٍ المُجاشِعيِّ رضيَ الله عنه. تمسَّكوا بدينِهم الَّذي لم يُبَدَّلْ ولم يُغَيَّرْ، وكانوا قليلًا جدًّا، فأمَّا عامَّةُ أهلِ الكِتابِ فكانوا قد بَدَّلُوا كُتُبَهم وغَيَّروها وحَرَّفوها، وأدْخَلوا في دينِهم ما ليس منه، فضَلُّوا وأضَلُّوا، وأمَّا غيرُ أهلِ الكتابِ فكانوا على ضَلالٍ بَيِّنٍ؛ فالأُمِّيُّون أهلُ شِرْكٍ يَعبدونَ الأوثانَ، والمجوسُ يَعبُدونَ النِّيرانَ، ويقولونَ بإلهَينِ اثنَينِ! وكذلك غَيْرُهم مِن أهلِ الأرضِ؛ منهم مَن كان يَعبُدُ النُّجومَ، ومنهم مَن كان يَعبُدُ الشَّمسَ أو القَمَرَ؛ فهدى اللهُ المؤمِنينَ بإرسالِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى ما جاء به مِن الهُدى والدِّينِ الحَقِّ، وأظهَرَ اللهُ دينَه حتَّى بَلَغ مَشارِقَ الأرضِ ومَغارِبَها؛ فظَهَرتْ فيها كَلِمةُ التَّوحيدِ والعَمَلُ بالعَدلِ بعدَ أنْ كانتِ الأرضُ كلُّها ممتلئةً مِن الشِّركِ والظُّلمِ، فالأُمِّيُّون همُ العَرَبُ، والآخَرونَ الَّذين لم يَلْحَقوا بهم هم أهلُ فارِسَ والرُّومُ -وذلك على قولٍ-، فكانت أهلُ فارِسَ مجوسًا، والرُّومُ نصارى؛ فهدى اللهُ جميعَ هؤلاء برِسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى التَّوحيدِ [48] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 85). .
15- قَولُ الله تعالى: وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ فيه تفضيلُ الصَّحابةِ على مَن سِواهم [49] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 263). . على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.
16- قال اللهُ تعالى: وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قال بعضُ المحَقِّقينَ: (في الآيةِ مُعجِزةٌ مِن مُعجِزاتِ النُّبُوَّةِ، وذلك في الإخبارِ عن غَيبٍ وَقَع، والبِشارةِ بدُخولِ أُمَمٍ غيرِ العَرَبِ -على قولٍ- في الإسلامِ قد حصل، فقد صارت تلك الأُمَمُ الَّتي أسلَمَت: مِنَ العَرَبِ؛ لأنَّ بلادَهم صارت بلادَ العَرَبِ، ولُغتُهم لغةَ العَرَبِ، وكذلك دينُهم وعاداتُهم، حتَّى أصبَحوا مِن العَرَبِ جِنسًا ودِينًا ولُغةً، وحتَّى صار لفظُ العَرَبِ يُطلَقُ على كلِّ المسلِمينَ مِن جَميعِ الأجناسِ؛ لأنَّهم أمَّةٌ واحِدةٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المؤمنون: 52] ، فصَدَق اللهُ العظيمُ) [50] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/228، 229). .
17- قَولُ الله تعالى: وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ فيه دَلالةٌ على عُمومِ رِسالةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لجَميعِ الأُمَمِ [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/212). ، وأنَّه مَبعوثٌ إلى جميعِ الخَلْقِ [52] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 57). ، وفي ذلك رَدٌّ على شُبهةِ عَوَامِّ بني إسرائيلَ، وهي أنَّ علماءَهم يقولونَ: «إنَّ محمَّدًا عَرَبيٌّ، واللهُ جلَّ وعلا يقولُ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ»، ثُمَّ لا يَذْكرونَ قولَه تعالى: وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فيُشَبِّهُونَ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/407). .
18- قال تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ لذلك فالفَضائِلُ لا يُسْأَلُ عنها؛ لأنَّ الإنسانَ قد يَصِلُ فيها إلى نتيجةٍ، وقد لا يَصِلُ، فكما أنَّ اللهَ تعالى فَضَّل بني آدَمَ بَعْضَهم على بَعضٍ في الرِّزقِ، وفي كمالِ الأخلاقِ والآدابِ، وكذلك فَضَّل بَعْضَهم على بَعضٍ في العِلْمِ، وكذلك في البَدَنِ والفِكْرِ وغَيرِ ذلك؛ فاللهُ تعالى يُؤتي فَضْلَه مَن يَشاءُ [54] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/307). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
- افتِتاحُ السُّورةِ بالإخبارِ عن تَسبيحِ أهلِ السَّمواتِ والأرضِ للهِ تعالَى بَراعةُ استِهلالٍ [55] براعةُ الاستِهلالِ: هي كَونُ ابتداءِ الكلامِ مُناسِبًا للمقصودِ، وأنْ يكونَ أوَّلُ الكلامِ دالًّا على ما يُناسِبُ حالَ المتكلِّمِ، مُتضمِّنًا لِمَا سِيق الكلامُ مِن أجْلِه مِن غيرِ تصريحٍ، بلْ بألْطَفِ إشارةٍ يُدرِكُها الذَّوقُ السَّليمُ، ومِن أحسَنِ صُوَرِ براعةِ الاستِهلالِ مَوقِعًا، وأبلَغِها معنًى: فواتحُ سُوَرِ القرآنِ الكريمِ، ومنها الحُروفُ المقطَّعةِ؛ فإنَّها تُوقِظُ السَّامِعينَ للإصغاءِ إلى ما يَرِدُ بعدَها؛ لأنَّهم إذا سمِعوها مِن النَّبيِّ الأُمِّيِّ عَلِموا أنَّها والمَتْلُوَّ بعْدَها مِن جِهةِ الوحيِ، وفيها تنبيهٌ على أنَّ المتلوَّ عليهم مِن جِنسِ ما يَنظِمونَ منه كلامَهم، مع عجْزِهم عن أنْ يأتوا بمِثلِه. يُنظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 45)، ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (1/129)، ((تفسير أبي السعود)) (4/282)، ((أنوار الربيع في أنواع البديع)) لابن معصوم (1/53)، ((علوم البلاغة)) لأحمد المراغي (ص: 378). ؛ لأنَّ الغرضَ الأوَّلَ مِنَ السُّورةِ التَّحريضُ على شُهودِ الجُمُعةِ، والنَّهيُ عن الأشغالِ الَّتي تَشغَلُ عن شُهودِها، وزَجْرُ فَريقٍ مِنَ المُسلِمينَ انصَرَفوا عن صَلاةِ الجُمُعةِ؛ حِرصًا على الابتياعِ مِن عِيرٍ وردَتِ المدينةَ في وقتِ حُضورِهِم لصلاةِ الجُمُعةِ [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/206). .
- وأُوثِرَ المضارعُ في قولِه: يُسَبِّحُ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ أهلَ السَّمواتِ والأرضِ يُجدِّدونَ تَسبيحَ اللهِ، ولا يَفْتُرونَ عنه [57] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/206). .
- وقيل: جاءَ فِعلُ التَّسبيحِ في هذه السُّورةِ مضارعًا، وجِيءَ به في سِواها -سُورة الحديدِ والحَشرِ والصَّفِّ- ماضيًا؛ لمُناسَبةٍ فيها، وهي: أنَّ الغرَضَ منها التَّنويهُ بصلاةِ الجُمُعةِ، والتَّنديدُ على نَفَرٍ قُطِعوا عن صَلاتِهم وخرَجوا لتجارةٍ أو لَهْوٍ؛ فمُناسِبٌ أنْ يُحكَى تسبيحُ أهلِ السَّمواتِ والأرضِ بما فيه دَلالةٌ على استِمرارِ تسبيحِهِم وتجَدُّدِه؛ تَعريضًا بالَّذينَ لم يُتِمُّوا صلاةَ الجُمُعةِ [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/206). .
- قولُه: الْقُدُّوسِ وصْفُ مُبالَغةٍ. وعُقِّبَ بوَصْفِ الْقُدُّوسِ وصْفُ الْمَلِكِ للاحتِراسِ؛ إشارةً إلى أنَّه مُنزَّهٌ عن نَقائصِ المُلوكِ المعروفةِ، مِن الغُرورِ، والاستِرسالِ في الشَّهواتِ، ونحْوِ ذلك مِن نَقائصِ النُّفوسِ [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/120). .
2- قولُه تعالَى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
- قولُه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ... استئنافٌ بيانيٌّ ناشِئٌ عن إجراءِ الصِّفاتِ المذكورةِ آنِفًا على اسمِ الجلالةِ؛ إذْ يَتساءَلُ السَّامِعُ عن وجهِ تخصيصِ تلك الصِّفاتِ بالذِّكْرِ مِن بَينِ صِفاتِ اللهِ تعالَى، فكان الحالُ مُقتضِيًا أنْ يُبيَّنَ شَيءٌ عظيمٌ مِن تعلُّقِ تلك الصِّفاتِ بأحوالِ خَلْقِه تعالَى؛ إذْ بعَثَ فيهم رسولًا يُطهِّرُ نُفوسَهم ويُزكِّيهم ويُعلِّمُهم، فصِفةُ الْمَلِكِ تعلَّقَتْ بأنْ يُدبِّرَ أمْرَ عِبادِه ويُصلِحَ شُؤونَهم، وصِفةُ الْقُدُّوسِ تعلَّقَتْ بأنْ يُزكِّيَ نُفوسَهم، وصفةُ الْعَزِيزِ اقتضَتْ أنْ يُلحِقَ الأُمِّيِّينَ مِن عبادِه بمراتبِ أهلِ العِلمِ، ويُخرِجَهُم مِن ذِلَّةِ الضَّلالِ؛ فيَنالوا عِزَّةَ العِلمِ وشرَفَه، وصِفةُ الْحَكِيمِ اقتضَتْ أنْ يُعلِّمَهمُ الحِكمةَ والشَّريعةَ [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/207). .
- وابتداءُ الجُملةِ بضميرِ اسمِ الجَلالةِ؛ لتكونَ جُملةً اسميَّةً، فتُفيدَ تقويةَ هذا الحُكمِ وتأكيدَه، أي: إنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مبعوثٌ مِنَ اللهِ لا مَحالةَ [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/207). .
- حرْفُ (فِي) مِن قولِه: فِي الْأُمِّيِّينَ للظَّرفيَّةِ، أي: ظرفيَّةِ الجماعةِ ولأحَدِ أفرادِها، ويُفهَمُ مِنَ الظَّرفيَّةِ معنى الملازمةِ، أي: رسولًا لا يُفارِقُهم، فليس مارًّا بهم كما يمُرُّ المُرسَلُ بمقالةٍ أو برِسالةٍ يُبلِّغُها إلى القومِ ويُغادِرُهم [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/207). .
- والمرادُ بـ الْأُمِّيِّينَ العربُ؛ لأنَّ وصْفَ الأُمِّيَّةِ غالبٌ على الأُمَّةِ العربيَّةِ يومَئذٍ. والْأُمِّيِّينَ صِفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ دلَّ عليه صيغةُ جمْعِ العقلاءِ، أي: في النَّاسِ الأُمِّيِّينَ، وصِيغةُ جمْعِ الذُّكورِ في كلامِ الشَّارِعِ تَشملُ النِّساءَ بطريقةِ التَّغليبِ الاصطلاحيِّ، أي: في الأُمِّيِّينَ والأُمِّيَّاتِ؛ فإنَّ أدِلَّةَ الشَّريعةِ قائمةٌ على أنَّها تعُمُّ الرِّجالَ والنِّساءَ إلَّا في أحكامٍ معلومةٍ [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/208). .
- وأُوثِرَ التَّعبيرُ بـ الْأُمِّيِّينَ هُنا تورُّكًا على اليهودِ؛ لأنَّهم كانوا يَقصِدونَ به الغضَّ مِنَ العربِ، ومِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ جهلًا منهم، فيقولونَ: هو رسولُ الأُمِّيِّينَ، وليس رسولًا إلينا [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/208). .
- ووصَفَ الرَّسولَ بأنَّه منهم، أي: لم يكُنْ غريبًا عنهم، وهذه مِنَّةٌ مُوجَّهةٌ للعربِ لِيَشكُروا نعمةَ اللهِ على لُطفِه بهم؛ فإنَّ كَوْنَ رسولِ القومِ منهم نِعمةٌ زائدةٌ على نِعمةِ الإرشادِ والهَدْيِ، وهذا استِجابةٌ لدَعوةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ إذ قال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: 129] ؛ فتذكيرُهم بهذه النِّعمةِ استِنزالٌ لطائرِ نُفوسِهم وعنادِهم. وفيه تورُّكٌ عليهم إذْ أعرَضوا عن سَماعِ القُرآنِ؛ فإنَّ كَونَ الرَّسولِ منهم وكِتابَه بلُغَتِهِم، هو أعوَنُ على تلَقِّي الإرشادِ منه؛ إذْ يَنطِقُ بلِسانِهِم، ويَحمِلُهم على ما يُصلِحُ أخلاقَهُم؛ لِيَكونوا حمَلةَ هذا الدِّينِ إلى غيرِهم [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/208). .
- ووَصْفُ الرَّسولِ بأنَّه منهم -أيْ: مِنَ الأُمِّيِّينَ- شاملٌ لمُماثَلتِه لهم في الأُمِّيَّةِ وفي القَوميَّةِ، وهذا مِن إيجازِ القرآنِ البديعِ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/208). .
- وابتُدِئَ بالتِّلاوةِ؛ لأنَّ أوَّلَ تبليغِ الدَّعوةِ بإبلاغِ الوحْيِ، وثُنِّيَ بالتَّزكيةِ؛ لأنَّ ابتداءَ الدَّعوةِ بالتَّطهيرِ مِنَ الرِّجْسِ المعنويِّ، وهو الشِّرْكُ وما يَعْلَقُ به مِن مَساوِي الأعمالِ والطِّباعِ، وعُقِّبَ بذِكْرِ تعليمِهِمُ الكتابَ؛ لأنَّ الكِتابَ بعْدَ إبلاغِه إليهم تُبيَّنُ لهم مَقاصِدُه ومعانيه، وتعليمُ الحِكمةِ هو غايةُ ذلك كلِّه؛ لأنَّ مَنْ تدبَّرَ القُرآنَ وعمِلَ به وفَهِمَ خفاياهُ نالَ الحِكمةَ [67] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/208). .
- وفي قولِه: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَسَّطَ بيْنَ التِّلاوةِ وتعليمِهم الكتابَ التَّزكيةَ الَّتي هي عبارةٌ عن تَكميلِ النَّفْسِ بحسَبِ قوَّتِها العمَليَّةِ وتَهذيبِها المُتفرِّعِ على تَكميلِها بحسَبِ القوَّةِ النَّظريَّةِ الحاصلِ بالتَّعليمِ المُترتِّبِ على التِّلاوةِ؛ للإيذانِ بأنَّ كلًّا مِنَ الأمورِ المُترتِّبةِ نِعمةٌ جليلةٌ على حِيالِها مُستوجِبةٌ للشُّكرِ، فلو رُوعيَ ترتيبُ الوجودِ لَتَبادَرَ إلى الفَهْمِ كَونُ الكلِّ نعمةً واحدةً، وهو السِّرُّ في التَّعبيرِ عن القرآنِ تارةً بالآياتِ، وأخرى بالكتابِ والحِكمةِ؛ رمْزًا إلى أنَّه باعتبارِ كلِّ عُنوانٍ نعمةٌ على حِدَةٍ، ولا يَقدَحُ فيه شُمولُ الحِكمةِ لِما في تضاعيفِ الأحاديثِ النَّبويَّةِ مِنَ الأحكامِ والشَّرائعِ [68] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/247). .
- قولُه: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ بَيانٌ لشِدَّةِ احتياجِهم إلى نبيٍّ يُرشِدُهم، وإزاحةٌ لِمَا يُتَوَهَّمُ أنَّ الرَّسولَ تعلَّمَ ذلك مِن مُعلِّمٍ [69] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/211)، ((تفسير أبي السعود)) (8/247). . وهو في موضِعِ الحالِ مِنَ الْأُمِّيِّينَ، أي: ليسَتْ نِعمةُ إرسالِ هذا الرَّسولِ إليهم قاصِرةً على رفْعِ النَّقائِصِ عنهم، وعلى تحلِيَتِهم بكمالِ عِلمِ آياتِ اللهِ تعالَى، وزكاةِ أنفُسِهم، وتعليمِهِمُ الكتابَ والحِكمةَ، بل هي أجَلُّ مِن ذلك؛ إذْ كانت مُنقِذةً لهم مِن ضلالٍ مُبينٍ كانوا فيه، وهو ضلالُ الإشراكِ باللهِ، وإنَّما كان ضلالًا مُبِينًا؛ لأنَّه أفحَشُ ضلالٍ، وقد قامَتْ على شَناعتِه الدَّلائلُ القاطعةُ [70] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/210). .
3- قولُه تعالَى: وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- قولُه: وَآَخَرِينَ قيل: مجرورٌ عطفًا على الْأُمِّيِّينَ، يعنى: أنَّه بعَثَه في الأُمِّيِّينَ الَّذين على عهدِه، وفي آخَرِينَ مِنَ الأُمِّيِّينَ لم يَلْحَقوا بهم بَعْدُ، وسيَلْحَقونَ بهم -على قولٍ-، وهُمُ الَّذين بَعْدَ الصَّحابةِ رضيَ اللهُ عنهم. ويجوزُ أنْ ينتصِبَ عطفًا على المنصوبِ في وَيُعَلِّمُهُمُ، أي: يُعلِّمُهم ويُعلِّمُ آخَرِينَ؛ فأُسنِدَ تعليمُ الآخَرينَ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لأنَّ التَّعليمَ إذا تناسَقَ إلى آخِرِ الزَّمانِ كان كلُّه مُستنِدًا إلى أوَّلِه، فكأنَّه هو الَّذي تولَّى كلَّ ما وُجِدَ مِنه؛ فصحَّ إسنادُ التَّعليمِ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للأُمَمِ الفائتةِ للحَصْرِ إلى انقراضِ العالَمِ؛ لأنَّه إذا تَناسَقَت العَنْعنةُ مِن الثِّقاتِ المُتْقنينَ الَّذين حَمَوُا المُتونَ مِن تَحريفِ الزَّائغينَ، والإسنادَ مِن توَلِّي الكاذبينَ؛ صحَّ أنْ يُقالَ: هو الَّذي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رسولًا منهم يُعلِّمُهم الكِتابَ والحِكمةَ، ويُعلِّمُ آخَرَين منهم لَمَّا يَلحَقوا بهم، وهذا يدُلُّ على جَلالةِ قدْرِ المُحدِّثينَ، وعُلوِّ مَرتبتِهم [71] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/530)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/403)، ((تفسير أبي حيان)) (10/171)، ((تفسير أبي السعود)) (8/247). .
وقيل: وَآَخَرِينَ إمَّا معطوفٌ على الضَّميرِ في عَلَيْهِمْ مِن قولِه: يَتْلُو عَلَيْهِمْ [الجمعة: 2] ، والتَّقديرُ: ويَتْلُو على آخَرِينَ، وإذا كان يَتْلُو عليهم فقَدْ عُلِمَ أنَّه مُرسَلٌ إليهِم؛ لأنَّ تِلاوةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا تكونُ إلَّا تلاوةَ تبليغٍ لِمَا أُوحِيَ به إليه. وإمَّا أنْ يُجعَلَ وَآَخَرِينَ مفعولًا معه، والواوُ للمَعيَّةِ، ويَتنازَعه الأفعالُ الثَّلاثةُ، وهي: (يَتْلُو، ويُزكِّي، ويُعلِّمُ)، والتَّقديرُ: يَتْلُو على الأُمِّيِّينَ آياتِنا ويُزكِّيهِمْ ويُعلِّمُهمُ الكتابَ والحِكمةَ مع آخَرِينَ، وجُملةُ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2] مُعترِضةٌ بيْنَ المعطوفِ والمعطوفِ عليها، أو بيْنَ الضَّمائرِ والمفعولِ معه [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/210، 211). .
- قولُه: وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ يجوزُ جعْلُ (مِن) تَبعيضيَّةً، كما هو المُتبادَرُ مِن مَعانيها، فيكونُ الضَّميرُ المجرورُ بـ (مِن) عائدًا إلى ما عاد إليه ضميرُ كَانُوا مِن قولِه: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2] ؛ فالمعنى: وَآَخَرِينَ مِنَ الضَّالِّينَ يَتْلُو عليهِم آياتِ اللَّهِ ويُزكِّيهم ويُعلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكمةَ. ويجوزُ جعْلُ (مِن) اتِّصاليَّةً، والمعنى: وآخَرينَ يتَّصِلونَ بهِم، ويَصيرونَ في جملتِهِم، ويكونُ قولُه: مِنْهُمْ في مَوضعِ الحالِ، وهذا الوجهُ يُناسِبُ قولَه تعالَى: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ؛ لأنَّ اللُّحوقَ هو معنى الاتِّصالِ، وموضِعُ جُملةِ وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ مَوضِعُ الحالِ، ويَنشأُ عن هذا المعنى إيماءٌ إلى أنَّ الأممَ الَّتي تَدخُلُ في الإسلامِ بعْدَ المُسلِمينَ الأوَّلينَ يَصيرونَ مِثلَهُم، ويَنشأُ منه أيضًا رمْزٌ إلى أنَّهم يَتعرَّبونَ لفَهْمِ الدِّينِ، والنُّطقِ بالقرآنِ [73] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/211، 212). .
- والنَّفيُ بـ لَمَّا يَقتضي أنَّ المنفيَّ بها مُستمرُّ الانتفاءِ إلى زمَنِ التَّكلُّمِ، فيُشعِرُ بأنَّه مُترقَّبُ الثُّبوتِ، أي: وسَيَلْحَقون، والمعْنى: أنَّ آخَرِينَ هُمْ في وقتِ نُزولِ هذه الآيةِ لم يَدخُلوا في الإسلامِ، ولم يَلتحِقوا بمَنْ أسلَمَ مِنَ العَربِ، وسيَدخُلونَ في أزمانٍ أُخرَى [74] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/530)، ((تفسير البيضاوي)) (5/211)، ((تفسير أبي حيان)) (10/171)، ((تفسير أبي السعود)) (8/247)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/212). . وذلك على قولٍ.
- قولُه: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، أي: المبالِغُ في العِزَّةِ والحِكمةِ، وهو تَذييلٌ للتَّعجيبِ مِن هذا التَّقديرِ الإلهيِّ لانتشارِ هذا الدِّينِ في جَميعِ الأممِ؛ فإنَّ العزيزَ لا يَغلِبُ قدرتَهُ شيءٌ، والحكيمَ تأتي أفعالُه عن قدَرٍ مُحكَمٍ [75] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/211)، ((تفسير أبي السعود)) (8/247، 248)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/212). .
4- قولُه تعالَى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
- الإشارةُ بـ ذَلِكَ إلى جَميعِ المذكورِ -على قولٍ-؛ مِن إرسالِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالآياتِ والتَّزكيةِ، وتعليمِ الكِتابِ والحِكمةِ، والإنقاذِ مِنَ الضَّلالِ، ومِن إفاضةِ هذه الكمالاتِ على الأُمِّيِّينَ الَّذين لم تكُنْ لهم سابقةُ عِلمٍ ولا كِتابٍ، ومِن لَحاقِ أُمَمٍ آخَرِينَ في هذا الخبرِ، فزال اختِصاصُ اليهودِ بالكِتابِ والشَّريعةِ، وهذا أجدَعُ لأَنْفِهِم؛ إذْ حالوا أنْ يجيءَ رسولٌ أُمِّيٌّ بشريعةٍ إلى أمَّةٍ أُمِّيَّةٍ، فضلًا عن أنْ يَلتحِقَ بها أُممٌ عظيمةٌ كانوا أمكَنَ في المعارفِ والسُّلطانِ، وهذا تَمهيدٌ ومُقدِّمةٌ لقولِه: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5] الآياتِ [76] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/213). .