موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (72- 74)

ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ

غريبُ الكَلِماتِ:

وَجْهَ النَّهَارِ: أي: صدْرَ النَّهار، أو أوَّله؛ فالوجه أوَّل ما يُسْتَقْبَلُ من الشيء يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 106)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 479)، ((المفردات)) للراغب (ص: 855- 856)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 125). .

مشكل الإعراب:

قوله: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ:
أَنْ يُؤْتَى: أنْ والفِعل في تأويل مصدر (إيتاء)، متعلِّق بقوله: وَلَا تُؤْمِنُوا على حذْفِ حرفِ الجرِّ، والأصل: (ولا تؤمنوا بأنْ يُؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلَّا لِمَن تبِع دِينَكم)، فيكون في موضِع جَرٍّ أو نصْبٍ على الخلافِ في موضِع (أن) إذا حُذِف حرفُ الجرِّ، ويكون قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ جملةً اعتراضيَّة، أي: ولا تُظهروا إيمانَكم بأنْ يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتُم إلَّا لأهل دِينكم دونَ غيرهم. وقوله: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ: عطفٌ على أَنْ يُؤْتَى. والضَّميرُ في يُحَاجُّوكُمْ عائدٌ على أَحَدٌ؛ لأنَّه في معنى الجميعِ، أي: ولا تُؤمنوا لغيرِ أتْباعِكم؛ فإنَّ المسلمين يُحاجُّوكم عندَ ربِّكم بالحقِّ، ويُغالِبونَكم عندَ الله. وعلى هذا يكونُ قولُه: إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ مُستثنًى من شيءٍ محذوف، تقديرُه: ولا تُؤمِنوا بأنْ يُؤتَى أحدٌ مِثلَ ما أوتيتُم لأحدٍ مِن الناسِ إلَّا لأشياعِكم دون غيرِهم.
أو يكون قوله: أَنْ يُؤْتَى منصوبًا بفِعلٍ مُقدَّر يدلُّ عليه وَلَا تُؤْمِنُوا إلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ كأنَّه قيل: قل إنَّ الهُدَى هُدَى الله، فلا تُنكروا أنْ يُؤتَى أحدٌ مِثلَ ما أوتيتُم، فـ(لا تُنكروا) ناصبٌ لـ(أن) وما في حَيِّزها، وجازَ حذفُ العامل (فلا تُنكِروا)؛ لوجودِ ما يدلُّ عليه.
أو يكون هُدَى اللهِ بدلًا مِن الهُدَى الذي هو اسمُ إنَّ، ويكونُ خبر إنَّ: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ، والتقدير: قل: إنَّ هدى الله أنْ يُؤتَى أحدٌ، أي: إنَّ هدى الله إيتاءُ أحدٍ مثلَ ما أوتيتُم، وتكون أَوْ بمعنى (حتى)، والمعنى: حتَّى يُحاجُّوكم عند ربِّكم فيَغلبوكم ويَدْحَضوا حُجَّتَكم عند الله، ولا يكون أَوْ يُحَاجُّوكُمْ معطوفًا على أَنْ يُؤْتَى وداخلًا في حيِّز (أن). وفي هذه الآيةِ أقوالٌ أخرى كثيرةٌ يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/270- 271)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/252- 256). .

المَعنَى الإجماليُّ :

يُخبر الله تعالى عن طائفةٍ خبيثةٍ أرادتِ المكيدةَ للمسلمين، بالتلبيسِ على الضُّعفاء أمرَ دِينهم، فتشاوروا بينهم أنْ يُظهروا الإيمانَ بما جاء به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أوَّل النهار، فإذا جاء آخِرُ النهار كفَروا به؛ ليقول الضعفاءُ من النَّاس: لو كان هذا الدِّين حقًّا، ما ارتدَّ عنه مَنْ آمَن به من أهل الكتاب؛ يُريدون بذلك أنْ يَرجِعَ المسلمون عن دِينهم ويَتركوه.
كما أخْبَر الله تبارَك وتعالَى عنهم بأنَّهم تواصَوْا فيما بينهم بألَّا يؤمنوا إلَّا لِمَن كان على دِينِهم ومِلَّتهم، ثمَّ أَمَرَ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأن يردَّ عليهم بجملةٍ اعتراضيَّة، فقال له: قل لهم- يا محمَّدُ-: إنَّ الهُدَى والتوفيقَ مِن الله؛ فهو المتكفِّلُ بهدايةِ المؤمنين إلى الإيمانِ بما أَنزلَه على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
ثم عادَ السِّياقُ إلى كَلامِ اليَهودِ بَعضِهم لبعضٍ، ووصاياهم فيما بَينَهم؛ إذ قالوا: ولا تُصدِّقوا أنْ يُؤْتَى أحدٌ من البَشر مِثلَ الَّذي أُوتيتُم مِن الكتابِ والحكمةِ والفضائلِ والكراماتِ، أو أنَّ أحدًا يُجادِلُكم عند ربِّكم؛ فأنتُم أصحُّ دِينًا منهم، وأكرمُ عندَ الله، فقال اللهُ لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قلْ لهم- يا محمَّد-: إنَّ التَّوفيقَ والهِدايةَ والإحسانَ يُعطيها اللهُ مَن أراد مِن عِبادِه؛ فهو واسعُ الفضلِ، كثيرُ الإحسان، عليمٌ بمَن هو أهلٌ للإحسانِ؛ فيَهَبه له، ومَن لا يَستحقُّه فيَحْرِمه منه، وهو يَختصُّ برحمتِه مَن يشاءُ مِن عِبادِه؛ فهو صاحبُ الفضلِ الواسعِ الكثيرِ.

تفسير الآيات:

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ
 أي: وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب من اليهود: أظهِروا الإيمانَ بما جاءَ به محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وادْخُلوا في دِينه أوَّل النهار ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/498)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/449)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (2/355)، ((تفسير ابن كثير)) (2/59). وممَّن قال بهذا القول وبنحوه: ابن عبَّاس وقتادة، وأبو مالك، والسُّدِّي، والربيع بن أنس. ((تفسير ابن جرير)) (5/495)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/679). .
وَاكْفُرُوا آخِرَهُ
 أي: إذا كان آخِرُ النهارِ اكفُروا بدِينهم ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/499)، ((تفسير ابن كثير)) (2/59)، ((تفسير السعدي)) (ص: 135). .
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
 أي: لعلَّهم يَرجعون عن دِينهم ويَتركونه؛ لأنَّه يُقال: لو كان هذا الدِّين صحيحًا ما خرَج منه مَنْ آمَن به مِن أهلِ الكِتاب ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/499)، ((تفسير ابن كثير)) (2/59)، ((تفسير السعدي)) (ص: 135). .
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ
أي: وقالتْ هذه الطَّائفة أيضًا: ولا تُصدِّقوا ولا تَطمئنُّوا إلَّا لمن تَبِعَ دِينَكم، فكان يهوديًّا ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/500)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/450)، ((تفسير السعدي)) (ص: 135). .
فأمَر الله نبيَّه أنْ يردَّ عليهم بهذه الجملةِ الاعتراضيَّة:
قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ
أي: قل- يا محمَّدُ-: إنَّ التوفيقَ توفيقُ الله، والبيانَ بيانُه؛ فهو الَّذي يَهدي المؤمنين إلى الإيمانِ بما نزَّله على نبيِّه محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنْ فعلتُم ما فعلتُم، فلن يَنفعَكم ذلك شيئًا ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/505)، ((تفسير ابن كثير)) (2/59)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/408). .
ثم عادَ السِّياقُ إلى كلامِ اليهودِ بعضِهم لبعض وهذا اختيارُ ابن جريرٍ في ((تفسيره)) (5/504)، والواحديِّ في ((تفسيره)) (1/450) وابنِ كثير في ((تفسيره)) 2/60 والسعديِّ في ((تفسيره))  (ص: 134) وغيرهم. وهو قولُ مجاهد والأخفش. ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/501)،  ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/294). وقيل: بل إنَّ كلامَ اليهود تامٌّ عندَ قوله: لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، والباقي مِن قول الله تعالى، لا يَعترِضه شيءٌ من قولِهم، وهو قولُ الحسن، وسعيدِ بن جُبير. ينظر: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/294). :
أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: أَنْ يُؤْتَى قِراءتان قرأ ابن كثير (ءانْ) بالمد، وقرأ الباقون (أَنْ) من غير مد. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 191). ويُنظر لمعنى القراءتين: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/257)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص:166)، ((الكشف)) لمكي (1/347). :
1- (ءانْ يُؤْتَى) بالمدِّ في (ءَان)، وهو استفهامٌ معناه الإِنكار؛ وذلك أنَّ أحبارَ اليهود قالوا لِذَوِيهم: أيُؤتَى أحَدٌ مثلَ مَا أوتيتُم؟ أي: لا يُؤتى أحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ قرأ بها ابن كثير. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 191). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/257)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص:166)، ((الكشف)) لمكي (1/347). .
2- (أَنْ يُؤْتَى) من غير مدٍّ في (أنْ)، وهي المصدريَّة، والمعنى: ولا تُؤمنوا إلَّا لِمَن تبِع دِينَكم ولا تُؤمنوا أنْ يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 191). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/257)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص:166)، ((الكشف)) لمكي (1/347). .
أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ
أي: ولا تُصدِّقوا أن يُؤْتَى أحدٌ من البشرِ مِثلَ الَّذي أوتيتُم يا بني إسرائيل ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/504)، وفي الآية أوجه أخرى: منها: أنَّ معنى أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أي: ولا تُؤمنوا إلَّا لِمَن تبِع دِينَكم لئلَّا يُؤتَى أحدٌ...، و(لَا) فيه مضمرة كقوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا*النِّسَاءِ: 176*، أي: لئلَّا تَضلُّوا، فيكون المعنى على ذلك: لا تُصدِّقوهم لئلَّا يَعلَموا مثلَ ما علمتُم فيكونَ لكم الفضلُ عليهم في العِلم، ولئلَّا يُحاجُّوكم عند ربِّكم فيقولوا: عرفتُم أنَّ دِيننا حقٌّ، وهذا معنى قول ابن جريج. ((تفسير البغوي)) (1/456). ومنها: أنَّ قولَ اليهود انتهى عند قوله: إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وما بَعدَه مِن قولِ الله تعالى كما تقدَّمت الإشارةُ إليه. ويكون المعنى على ذلك: قل يا محمَّد، إنَّ الهدى هدى الله أَنْ يُؤْتَى أنْ بمعنى: الجَحْد، أي: ما يُؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتُم- يا أمَّة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم- أو يُحاجُّوكم عند ربكم، يعني: إلَّا أنْ يُجادلكم اليهودُ بالباطل فيقولوا: نحن أفضلُ منكم، فقوله عزَّ وجلَّ: عند ربِّكم، أي: عند فِعل ربِّكم بكم ذلك، وهذا معنى قولِ سعيد بن جُبَير والحسن والكلبي ومقاتل. ((تفسير البغوي)) (1/457). أو يكون المعنى: كراهةَ أن يُؤتى أحدٌ مِثلَ ما أوتيتُم وقلتُم ما قلتُم، ودبَّرتم ما دبَّرتم من الخداع، فموضع أَنْ يُؤْتَى مفعولٌ من أجله، أو منصوب بفِعل مضمر، تقديره: فلا تُنكروا أن يُؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتُم من الكتاب والنبوة). واستظهر أبو حيَّان هذا المعنى وقال: (ويؤيِّد هذا المعنى قوله: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ... إلى آخرِه، ويؤيِّد هذا المعنى أيضًا قراءةُ ابن كثير (ءانْ يُؤتَى) على الاستفهام الذي معناه الإنكار عليهم والتقرير والتوبيخ. والاستفهامُ الذي معناه الإنكار هو مُثبَت من حيث المعنى، أي: أَلِمَخافةِ أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم؟ أو يحاجوكم عند ربكم قلتُم ذلك وفعلتموه؟ ويكون: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ، معطوفًا على: يُؤْتَى، وأَوْ: للتنويع) ((تفسير أبي حيان)) (3/212). وفي الآية أوجهٌ أخرى ينظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/454)، ((زاد المسير)) (1/294). وهذه الآية أشكلُ ما في السُّورة، كما قال غيرُ واحدٍ كالقرطبيِّ في ((تفسيره)) (4/112). مِن العلمِ والحِكمةِ والكتابِ والفضائلِ والكراماتِ ((تفسير الواحدي)) (1/450). .
أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ
أي: ولا تُصدِّقوا أنَّ أحدًا يجادلكم عند ربِّكم؛ لأنَّكم أصحُّ منهم دِينًا، وأكرمُ على الله منهم ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/504)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/450). وهو قول الحسن وقتادة ينظر: ((زاد المسير)) (1/295) ((تفسير الماوردي)) (1/402). وقيل: ويجوزُ أنْ تكون أَوْ بمعنى حتَّى فيكون معنى أَوْ يُحاجُّوكُمْ أي: حتى يُحَاجُّوكم عند ربكم, على طريق التبعيد, كما يُقال: لا تلقاه أو تقوم الساعة. وتعلَّق به أو يعطيك حقَّك، أي: حتى يعطيَك حقَّك، وهذا قول الكسائي والفرَّاء. ينظر: ((تفسير الماوردي)) (1/402) ((تفسير الشربيني)) (1/225). وقيل: معنى أَوْ يُحَاجُّوكُمْ أي: ما يُؤتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يا أمَّة محمد إلَّا أنْ يجادلكم اليهودُ بالباطل فيقولوا: نحن أفضلُ منكم، وقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكُمْ، أي: عند فِعل ربكم بكم ذلك، وهذا معنى قول سعيد بن جبير والكلبيِّ ومقاتل والحسن، واستحسنه الشربيني. ينظر ((تفسير الشربيني)) (1/225). .
قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
أي: قلْ لهم- يا محمَّدُ-: إنَّ التوفيقَ للإيمانِ، والهدايةَ للإسلامِ، والإحسانِ بشتَّى أنواع الإحسانِ، يُعطيه اللهُ مَن أراد مِن عِبادِه ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/506)، ((تفسير ابن كثير)) (2/59)، ((تفسير السعدي)) (ص: 135). ، وقد آتَى الله هذه الأمَّةَ ما يَربو بكثيرٍ على الفضائلِ الَّتي آتاها بني إسرائيل يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/409). .
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
أي: واللهُ ذو سَعةٍ بفضلِه على مَن يشاءُ، ذو عِلمٍ بمَن يَستحقُّ الفضلَ، وهو له أهلٌ؛ فهو يُؤتي فضلَه عن عِلم وحِكمة سبحانه وتعالى ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/506)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/409). .
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ
أي: يَخُصُّ بالنُّبوَّةِ والإسلامِ والقرآنِ مَن يشاء ممَّن هو أهل لذلك ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/507). ، وقد خَصَّ هذه الأمَّةَ ونبيَّها بما لا يُحَدُّ ولا يُوصَفُ من الفضل ينظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/60). .
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
أي: واللهُ صاحِبُ الإحسانِ الواسعِ الكثير، الَّذي يَتفضَّلُ به على مَن أحبَّ مِن خلْقه ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/507)، ((تفسير الراغب)) (2/648)، ((تفسير السعدي)) (ص: 134)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/410). .

الفوائد التربوية :

 
1- يُستفادُ من قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ: أنَّ المسلمَ يَرُدُّ كيدَ أهل الباطل بإعلانه أنَّ الهدى هُدى الله، وأنَّهم مهما حاولوا أنَّ يَصُدُّوه عن دِينه وقد أرادَ اللهُ هدايتَه؛ فإنَّ ذلك لا يَضُرُّه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/411). .
2- يَنبغي للإنسان أن يُعلِّقَ الرجاء بالله؛ خوفًا وطمعًا؛ لقوله: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/416). .
3- يَحصُل من مجموعِ قوله: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ...، والآية الَّتي تَليها: أنَّه لا نِهايةَ لمراتب إعزازِ الله وإكرامِه لعِبادِه، وأنَّ قصْرَ إنعامِه وإكرامِه على مراتبَ معيَّنة وعلى أشخاصٍ معيَّنين جَهلٌ بكمالِ اللهِ في القُدرة والحِكمة يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/262). .

الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- الفائدةُ في إخبارِ الله تعالى عن تواطئهم على إظهارِ الإيمانِ أوَّلَ النَّهار والكفرِ آخرَه كما في قوله تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ... من وجوهٍ:
 الأولُ: أنَّ هذه الحيلةَ كانت مَخفيَّةً فيما بينهم، وما أَطْلعوا عليها أحدًا مِن الأجانب، فلمَّا أَخبر الرسولُ عنها كان ذلك إخبارًا عن الغيبِ، فيكون معجزًا.
الثاني: أنَّه تعالى لَمَّا أطْلَع المؤمنين على تواطئِهم على هذه الحيلةِ لم يَحصُلْ لهذه الحيلةِ أثرٌ في قلوبِ المؤمنين، ولولا هذا الإعلانُ لكان ربَّما أثَّرت هذه الحيلةُ في قلبِ بعضِ مَن كان في إيمانِه ضعفٌ.
الثالث: أنَّ القومَ لَمَّا افتَضحوا في هذه الحيلةِ صارَ ذلك رادعًا لهم عن الإقدامِ على أمثالِها مِن الحيلِ والتَّلبيس ينظر: ((تفسير الرازي)) (8/268). .
2- في قوله: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ تعدَّى الإيمانُ باللام؛ لبيان أنَّ التَّصديقَ مضمَّنٌ معنى الثِّقة والرُّكون، فيكون تصديقًا خاصًّا تضمَّن معنًى زائدًا، وفي هذا بيانُ أنَّ اليهود حصَروا الثِّقة بأنفسهم؛ لزَعمِهم أنَّ النبوَّة لا تكون إلَّا فيهم يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/276). .
3- وفائِدةُ الاعتراضِ في أثناءِ كلامِهِم بقولِه: قل إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ المـُبادرةُ بما يُفِيدُ ضلالَهم؛ لأنَّ اللَّه حرَمهم التَّوفيقَ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/282). وأيضا فيه الإشارةُ إلى أنَّ كيدَهم غيرُ ضارٍّ لِمَن لَطَف اللهُ تعالى به بالدُّخولِ في الإسلام، أو زيادة التصلُّب فيه. ويُفيد أيضًا أنَّ الهُدى هداه؛ فهو الذي يتولَّى ظُهورَه يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (2/192). .
5- في قوله: قُلْ إِنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ... الآية: زيادةُ تذكيرٍ لهم، وإبطالٌ لإحالتهم أنْ يكون محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رسولًا من الله، وتذكيرٌ لهم على طرْح الحسَد على نِعم الله تعالى يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/283). .
5- في قوله: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ تأكيدٌ لمعنى قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ؛ لأنَّ كونه واسعًا، يدلُّ على كمال القُدرة، وكونه عليمًا يدلُّ على كمال العِلم، فيَصِحُّ منه لمكان القُدرة أن يتفضَّل على مَن شاء بما شاء، ويَصِحُّ منه لمكان كمال العِلم ألَّا يكون شيءٌ من أفعاله إلَّا على وجه الحِكمة والصَّواب يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/262). .
6- لا اعتراضَ على الله في كونِه يَختصُّ برحمته شخصًا ويمنع رحمته آخرَ؛ لأنَّ الأمرَ إليه وهو فضلٌ؛ إنْ شاء أعطاه، وإنْ شاء منَعَه، كما قال تعالى: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/521). [آل عمران: 75].

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهْ فيه اختصاصٌ لذِكر وجْه النَّهار؛ لأنَّه وقتُ اجتماعِهم بالمؤمنين يُراؤونهم، وآخِره؛ لأنَّه وقتُ خَلوتِهم بأمثالهم من الكفَّار   يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/210). .
2- قوله تبارَك وتعالَى: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهْ، وقوله: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ: فيه لفٌّ ونشر معكوس؛ فقوله: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ إبطالٌ لقولهم: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، أي: قلتُم ذلك حسدًا من أن يُؤتَى أحدٌ مِثل ما أوتيتُم، وقوله: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ ردٌّ لقولهم: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهْ على طريقة التهكُّم، أي: مرادكم التنصُّل من أنْ يُحاجُّوكم، فجمعتُم بين الإيمان بما آمَن به المسلمون، حتى إذا كان لهم الفوزُ يومَ القيامة لا يُحاجُّونكم عند الله بأنَّكم كافِرون، وإذا كان الفوزُ لكم، كنتم قد أخذتُم بالحزم؛ إذ لم تُبطلوا دِينَ اليهوديَّة   يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/281). .
3- قوله: قُلْ إنَّ الهُدَى هُدَى اللهِ: كلامٌ معترض، أُمِر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يقولَه لهم؛ كنايةً عن استبعادِ حُصول اهتدائِهم، وأنَّ الله لم يَهدِهم؛ لأنَّ هُدى غيره- أي: محاولته هدى الناس- لا يَحصُل منه المطلوبُ إذا لم يُقدِّره الله، فالقصر حقيقي؛ لأنَّ ما لم يُقدِّره الله، فهو صورةُ الهدى، وليس بهُدى، وهو مقابل قولهم: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ، ووَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ؛ إذ أرادوا صورةَ الإيمان، وما هو بإيمان، وفي هذا الجوابِ إظهارُ الاستغناءِ عن متابعتِهم. وفائدةُ الاعتراضِ في أثناء كلامِهم: المبادرةُ بما يُفيد ضلالَهم؛ لأنَّ الله حرَمَهم التوفيق   يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/279- 280). .
4- قوله تعالى: أَحَدٌ: اسمٌ نكرةٌ غلَب استعمالها في سِياق النَّفي، أو الإنكار؛ فيُفيد العمومَ، وندَر وقوعُه في حيِّز الإيجاب   يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/282- 283). .
5- قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
- قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ: تذييلٌ لِمَا قبله، مقرِّرٌ لمضمونه، وفيه تأكيدُ الكلامِ بـإنَّ؛ لتنزيلهم منزلةَ مَن يُنكر أنَّ الفضل بيد الله، ومن يَحْسَبُ أنَّ الفضل تَبَعٌ لشهواتهم   يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/283). .
- قوله تعالى: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ: فيه تأكيدٌ لتعظيمِ ما لَديه؛ دفعًا لتوهُّم مَن يَظنُّ أنَّ اختصاص البعض لضِيق الرحمة عن العموم. وكرَّر الاسم العظيم (الله)؛ تعظيمًا لِمَا ذُكِر من النِّعم، ومُشيرًا بذلك كلِّه إلى التمكُّنِ من الإعطاء، وغزارةِ فضلِه   يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/252)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/450). .
- قوله تعالى: وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ كالتأكيدِ لِمَا تَقدَّم يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وبينهما فرقٌ؛ فإنَّ هذه الرَّحمةَ ربَّما بلغَتْ في الشَّرفِ وعلوِّ الرُّتبة إلى أنْ لا تكون من جِنس ما آتاهم، بل تكونُ أعْلى وأجلَّ مِن أن تُقاس إلى ما آتاهم.
- قوله تعالى: وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ: فيه تأكيدٌ للمَعنى السَّابق أيضًا؛ لأنَّ كونه واسعًا يدلُّ على كمال القُدرة، وكونه عليمًا على كمال العِلم، فيَصحُّ منه لمكان القُدرة أنْ يتفضَّل على أيِّ عبدٍ شاء بأيِّ تفضُّل شاء، ويَصحُّ منه- لمكان كمال العلم- أنْ لا يكون شيءٌ من أفعاله إلَّا على وجه الحِكمة والصَّواب   يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/252)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/450)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/283). .