موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات: (69-71)

ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ

غريبُ الكَلِماتِ:

تَلْبِسُونَ: تَخلِطون، وأصل اللَّبس: المُخالَطةُ والمداخلة يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 134)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/230)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 47). .

المَعنَى الإجماليُّ :

يُحذِّر اللهُ تعالى عبادَه من مَكْر طائفةٍ خبيثةٍ من اليهود والنَّصارى، أُمنيتُها وغايتُها إضلالُ المسلمين وإخراجُهم من النورِ إلى الظُّلمات؛ حَسدًا من عند أنفسِهم، إلَّا أنَّ مَكْرَهم هذا لا يَحيقُ إلَّا بهم، وإضلالهم للمسلمين يَرتدُّ عليهم، فيكون جُهدُهم الَّذي يبذلونه في الإضلالِ سببًا في زيادةِ ضلالهم؛ فهُم بهذا السعيِ لا يُضِلُّون إلَّا أنفسَهم وهم لا يَدْرُون.
ثم يقول الله تبارَك وتعالَى- مُنكِرًا على أهل الكتاب ما يفعلونه-: يا أهلَ الكتاب، ما الَّذي يَحمِلكم على الكُفْرِ بالقرآن، وأنتم تشهدون بصحَّته، وتُوقِنون بصدقه، وأنَّه منزَّلٌ من ربِّكم بالحقِّ؟! يا أهلَ الكتاب، لِمَ تَخْلِطون الحقَّ بالباطل حتَّى يلتبسَ بعضُه ببعض، وتكتمونَ الحقَّ وتُخفونه، وأنتم تعلمونَ أنَّكم تَلبسونَ الحقَّ بالباطلِ وتكتمون الحقَّ؟!

تفسير الآيات:

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
يقول اللهُ تعالى محذِّرًا من مَكْرِ هذه الطَّائفة مِن أهل الكتابِ:
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ
 أي: تمنَّتْ جماعةٌ من أهل التَّوراة مِن اليهودِ، وأهلِ الإنجيل مِن النَّصارى- أنْ يُخرجوكم من الهُدى إلى الضَّلال، ومِن الإسلامِ إلى الكفرِ ينظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/449)، ((تفسير ابن عطية)) (1/452)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/398). - ومِن المعلوم أنَّ مَن ودَّ شيئًا سعَى بجهدِه لتحصيلِ مرادِه، فهذه الطائفة تَسعى وتبذُل جهدَها في ردِّ المؤمنين وإدخال الشُّبه عليهم بكلِّ طريقٍ يقدرون عليه. ينظر ((تفسير السعدي)) (ص: 134). - وقوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ تحتمل مِنْ أن تكون للتبعيض، وتكون الطائفة الرؤساء والأحبار الذين يسكُن الناس إلى قولهم، ويحتمل أنْ تكون لبيان الجِنس، وتكون الطائفةُ جميعَ أهل الكتاب. ((تفسير ابن عطية)) (1/452). .
 كما في قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة: 109] .
 وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
 أي: هم بذلك لا يُضِلُّون إلَّا أنفسَهم؛ لأنَّهم ابتعدوا عن الإسلامِ، وانْشَغلوا بمحاولةِ إضلالِ المؤمنينَ عن طلبِ الهِداية يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/452)، ((تفسير السعدي)) (ص: 134)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/398). .
وَمَا يَشْعُرُونَ
أي: وما يَدْرُون، ولا يَعلمون أنَّهم لا يُضِلُّون إلَّا أنفسَهم، وأنَّهم لا يَصِلون إلى إضلالِ المؤمنين ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/489، 491)، ((تفسير ابن عطية)) (1/452)، ((تفسير القرطبي)) (4/110). .
ثم قال تعالى مُنْكِرًا عليهم:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ختَم الكلامَ فيهم بنَفْي شُعورِهم، بَيَّنَ تعالى في مَعرِضِ التبكيتِ أنَّ نفيهم عنه إنَّما هو لأنَّهم معانِدون، لا يَعملون بعِلمهم، بل يعَملون بخِلافه، فقال مستأنِفًا بما يدلُّ على غايةِ التبكيتِ المُؤْذِنة بشديد الغضب يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/455- 456). :
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
 أي: يا أهلَ الكتاب، ما الَّذي دعاكم إلى الكُفر بالقرآن ينظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/449)، ((تفسير ابن عطية)) (1/452)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيِّم (1/91)، ((تفسير السعدي)) (ص: 134).  وقال ابنُ عثيمين: آياتُ الله تشمل: التوراة والإنجيل والقرآن. ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/403). ؟!
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
 أي: وأنتُم تَشهدون بصحَّةِ القرآن، وتعلمون صِدقَه، وأنَّه حقٌّ من عند ربِّكم ينظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/449)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيِّم (1/91)، ((تفسير ابن كثير)) (2/59). .
فهم يَعلمون نعْتَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الَّذي جاء في كتبهم وأنَّ ما جاء به حقٌّ، قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157] ، وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة: 146] .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
 أي: يا أهلَ الكتاب، لِمَ تَخْلِطون الحقَّ بالباطلِ حتَّى يلتبسَ أحدُهما بالآخَر ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/492)، ((تفسير ابن عطية)) (1/453)، ((مختصر الصواعق المرسلة)) لابن القيِّم (ص: 134). .
ثم ذكَر لازِمَ لَبْسِ الحقِّ بالباطِل، وهو كتمانُ الحقِّ وإنَّما كان اللبسُ مستلزمًا للكِتمان؛ لأنَّ مَن لبس الحقَّ بالباطل، كما فعله أهل الكتاب- حيث ابتدعوا دينًا لم يَشرَعه الله، فأمروا بما لم يأمر به، ونهوا عمَّا لم ينه عنه، وأخبروا بخلاف ما أخبر به- فلا بدَّ له أن يكتم من الحقِّ المنزل ما يناقض بِدعتَه؛ إذ الحقُّ المنزل الذي فيه خبر، بخِلاف ما أخبر به إنْ لم يكتمْه، لم يتمَّ مقصوده، وكذلك الذي فيه إباحةٌ لِمَا نُهي عنه، أو إسقاط لما أُمر به. ((درء التعارض)) لابن تيمية (1/220). ، فقال:
وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ
 أي: وتُخْفون الحقَّ، ومن ذلك كتمانُهم صفةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الموجودةَ في كتُبهم، ونبوَّتَه ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/494)، ((تفسير ابن كثير)) (2/59). .
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
 أي: وأنتُم تعلمون أنَّكم تَلْبِسون الحقَّ بالباطل، وأنَّ الَّذي تكتُمونَه من الحقِّ حقٌّ ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/495)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/403). .

الفوائد التربوية :

1- في قوله تعالى: وَمَا يَشْعُرونَ أنَّ الإنسانَ في غَمْرَة الغَلَبَة، أو حبِّ الغَلَبَة، وسَكْرَة حبِّ الظُّهور يَنْسَى، ولا يشعر بضلاله وغوايته يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/300). .
2- في قوله: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ دليلٌ على أنَّ المعتدِّي يُجازَى بمثل عُدوانه، ويُبتلَى بمثل ما ابْتُلِيَ غيره به يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/301). .
3- في قوله تعالى: وَمَا يَشْعُرُونَ دليلٌ على أنَّ الإنسان قد يَعْمَى عن الباطل مع ممارستِه له يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/301). .
4- في قوله: وَمَا يَشْعُرُونَ أيضًا مبالغةٌ في ذمِّهم، حيث فقَدوا المنفعةَ بحواسِّهم يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/205). .
5- يجب الحذرُ من أهلِ الباطل إذا لَبَسوا باطلَهم بالحقِّ، وألَّا نغترَّ بهم إذا زخرفوا القول يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/304). .
6- في قوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ توبيخٌ لكل مَن لَبَسَ الحقَّ بالباطل، وكتَم الحقَّ وسلَك هذا المسلك؛ لأنَّ تخصيصَ التوبيخِ لأهل الكتاب ليس تَخصيصًا للشخصِ والعين، بل بالجِنس والنوعِ والوصفِ؛ فمَن كان على شاكلتِهم، فإنَّه يَستحقُّ هذا التوبيخ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/305). .
7- في قوله: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ دليلٌ على وجوبِ بيان الحقِّ على من عَلِمَه، أمَّا مَن لم يَعلم، فعُذره ظاهرٌ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/305). .

الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قوله: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ تعزيةُ المسلمين بما يُريده بهم هؤلاء من الإضلالِ. فكأنَّ الله قال: لا تخافوا منهم؛ فإنَّ الإضلالَ إنَّما يعود عليهم يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/301). .
2- لانهماكِ أهلِ الكتاب في إضلالِ المسلمين لم يَشعُروا بأنَّه كان صارفًا لهم عن معرفة الحقِّ والهدى; لأنَّ المنهمكَ في الشَّيء لا يكادُ يَفطن لعواقبِه وآثاره، يُؤخَذ ذلك من قوله: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/263).
3- قال تعالى: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ولم يقُل: (وأنتم تعلمون)؛ لأنَّ الشهادةَ أقوى لكونِها تَقتضي أنْ يكونَ العالِم كالمشاهِد للشيءِ بحسِّه، والمشاهدة بالحسِّ أقوى من المشاهدة بالذِّهن، أو مِن العِلم بالذِّهن يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/303). .
4- السَّاعي في إخفاء الحقِّ لا سبيلَ له إلى ذلك إلَّا من أحد وجهين: إمَّا بإلقاء شُبهةٍ تدلُّ على الباطل، وإمَّا بإخفاءِ الدَّليل الَّذي يدلُّ على الحقِّ، فقوله: لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بالباطل إشارةٌ إلى المقام الأوَّل، وقوله: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ إشارة إلى المقام الثَّاني يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/245) (8/246). .
5- خُتِمَت الآيةُ الأولى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ بقوله: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، والثانية: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ خُتِمَتْ بقوله: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ؛ قيل لأنَّ المنكَرَ عليهم في الآية الأولى هو الكفرُ بآيات الله، وهي أخصُّ مِن الحقِّ؛ لأنَّ آياتِ الله بعضُ الحقِّ، والشهادة أخصُّ من العِلم، فناسَب الأخصُّ الأخصَّ، وذَكَرَ تَعْلَمُونَ مع الحقِّ؛ لأنَّ الحقَّ أعمُّ من الآيات وغيرها، والعِلم أعمُّ من الشهادة، فناسب الأعمُّ الأعمَّ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/209- 210). .
6- تلبيسُ الحقِّ بالباطل هو سببُ مَنْشَأ ضلالِ مَنْ ضَلَّ من الأُمم قَبلنا، وهو منشأ البِدع كلِّها؛ فإنَّ البدعَ لو كانت باطلًا محضًا لَما قُبِلَتْ، ولَبادَرَ كلُّ أحد إلى ردِّها وإنكارها، ولو كانتْ حقًّا محضًا لم تكن بدعةً، وكانت مُوافِقةً للسُّنة، ولكنها تشتمل على الحقِّ والباطل، ويَلتبس فيها الحقُّ والباطل، كما قال اللهُ تعالى: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ينظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (2/316)، ((مختصر الصواعق المرسلة لابن القيِّم)) للبعلي (ص: 133). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ...: استئنافٌ، و(مِن) هاهنا للتبعيض- على أحدِ الوجهين كما سبَق-، وإنَّما ذَكر بعضَهم ولم يعمَّهم؛ لأنَّ مِنهم مَن آمَن يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/278)، ((تفسير الرازي)) (7/255). .
2- قوله: يَا أَهْلَ الكِتَابِ: المقصودُ مِن إعادةِ نِدائهم بهذا، هو التوبيخُ، وتسجيلُ باطلهم عليهم يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/279). .