موسوعة التفسير

سُورةُ الطَّلاقِ
الآيات (8-12)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ

غريب الكلمات:

وَكَأَيِّنْ: بمعنى كَمْ، ويُرادُ بها التَّكثيرُ، وهي لَفْظةٌ مرَكَّبةٌ مِن كافِ التَّشبيهِ، و(أيٍّ)، والنُّونُ هي التَّنوينُ، أُثْبِتتْ في الخطِّ على غيرِ القياسِ [278] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 339)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 389)، ((تفسير الرازي)) (9/380)، ((تفسير ابن جزي)) (2/42)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 130)، ((تفسير أبي السعود)) (2/95)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/116، 117). .
عَتَتْ: أي: تكَبَّرَت، وأصلُ (عتو): يدُلُّ على الاستِكبارِ [279] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 340)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/225)، ((المفردات)) للراغب (ص: 546)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 417). .
نُكْرًا: أي: مُنكَرًا فَظيعًا، وأصْلُ (نكر): يدُلُّ على خِلافِ المَعرِفةِ الَّتي يَسكُنُ إليها القَلبُ [280] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 270)، ((تفسير ابن جرير)) (15/342)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 474)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/476)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 217)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 916). .
وَبَالَ أَمْرِهَا: أي: جزاءَ ذَنْبِها، وعاقِبةَ ما عمِلتْ، أو ثقلَ عاقبةِ أمرِها، والوَبالُ: الوخامةُ، وسوءُ العاقبةِ، وأصلُ (وبل): يدُلُّ على شِدَّةٍ في شيءٍ، وتجمُّعٍ [281] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/73)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 479)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/82)، ((البسيط)) للواحدي (21/519)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 406)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 949). .
عَاقِبَةُ: عاقبةُ كلِّ شىءٍ: آخِرُه، أو: ما يُؤدِّي إليه السَّببُ المتقدِّمُ، والعاقبةُ تختصُّ بالثَّوابِ إذا أُطْلِقتْ، وقد تُستعمَلُ في العقوبةِ إذا أُضيفَتْ -كما هنا-، وأصلُ (عقب): تأخيرُ شيءٍ، وإتيانُه بعدَ غيرِه [282] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/257)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/77)، ((المفردات)) للراغب (ص: 575)، ((تفسير القرطبي)) (8/365)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129). .
خُسْرًا: أي: هَلاكًا وخُسْرانًا، وأصلُ (خسر): يدُلُّ على النَّقصِ [283] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 471)، ((تفسير ابن جرير)) (23/74)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/182)، ((تفسير القرطبي)) (18/173). .
الْأَلْبَابِ: أي: العُقولِ، وأصْلُ (لبب) هنا: يدُلُّ على الخُلُوصِ والجَودةِ [284] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 51)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/199)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 102). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ
قَولُه: رَسُولًا في نَصبِه أوجُهٌ مِنَ الإعرابِ:
أحَدُها: أنَّه بَدَلٌ مِن ذِكْرًا بدَلَ اشتِمالٍ؛ لأنَّ بيْن القُرآنِ والرَّسولِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُلازَمةً ومُلابَسةً؛ فإنَّ الرِّسالةَ تحَقَّقَت له عندَ نُزولِ القُرآنِ عليه.
الثَّاني: أنَّه بدَلُ كُلٍّ مِن كُلٍّ؛ جُعِلَ الرَّسولُ نَفْسَ الذِّكرِ مُبالَغةً فأُبدِلَ منه، أو يكونُ التَّقديرُ: ذِكرًا شَرَفَ رَسولٍ، أو ذِكرًا ذِكْرَ رَسولٍ، ويكونُ المرادُ بالذِّكرِ الشَّرفَ، وقد أقام المُضافَ إليه مُقامَ المُضافِ.
الثالِثُ: أنَّه مَفعولٌ به لفِعلٍ محذوفٍ، أي: أرسَلَ أو بَعَث رَسولًا، ودلَّ عليه ما تقدَّمَ مِن الكَلامِ.
الرَّابِعُ: أنَّه مَنصوبٌ على الإغراءِ، أي: اتَّبِعوا أو الْزَموا رَسولًا.
الخامِسُ: أنَّه مَفعولٌ به مَنصوبٌ بالمَصدَرِ ذِكْرًا في الآيةِ السَّابِقةِ. وقيلَ غَيرُ ذلك [285] يُنظر: ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/300)، ((تفسير الزمخشري)) (4/560)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1228)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/358)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/337). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى متوعِّدًا مَنْ خالَف أمْرَه، وكذَّب رُسلَه، ومخبِرًا عمَّا حلَّ بالأُممِ السَّالفةِ بسببِ ذلك: وكَثيرٌ مِن القُرى الَّتي طغى أهلُها وتَكَبَّروا عن أمْرِ اللهِ ورُسُلِه، فحاسَبَهم اللهُ حِسابًا شَديدًا، وعذَّبَهم عَذابًا عَظيمًا مُنكَرًا، فذاقوا بذلك العَذابِ العاقِبةَ الوَخيمةَ، وكان آخِرُ أمْرِهم خُسْرانًا.
ثمَّ يبيِّنُ الله تعالى ما أعدَّه لهم في الآخرةِ مِن عذابٍ، فيقولُ: هَيَّأَ اللهُ تعالى لهم عَذابًا شَديدًا في الآخِرةِ، فخافُوا اللهَ واحذَروا سَخَطَه وعَذابَه، يا أصحابَ العُقولِ، الَّذين آمَنوا.
ثمَّ يُذكِّرُ المؤمنينَ بكتابِه الَّذي أنزَله عليهم، ورسولِه الَّذي أرسَله إليهم، فيقولُ: قد أنزَلَ اللهُ إليكم -أيُّها المؤمِنونَ- القُرآنَ العَظيمَ، وأرسَلَ رَسولَه مُحمَّدًا يتلو عليكم آياتِ القُرآنِ المُوضِّحاتِ للهُدى والحَقِّ؛ ليُخرِجَ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى حُسنَ عاقبةِ المؤمنينَ الصَّادقينَ، فيقولُ: ومَن يُؤمِنْ باللهِ ويَعمَلْ عَمَلًا صالِحًا يُدخِلْه اللهُ جنَّاتٍ تَجري مِن تَحتِها الأنهارُ، ماكِثينَ فيها أبَدًا، قد وسَّع الله لِمَنْ آمَنَ به وعمِل صالحًا في الجنَّةِ رِزقَه مِن المَطاعِمِ والمَشارِبِ، وسائرِ ما أعدَّه لأوليائِه فيها.
ثمَّ يذكرُ الله تعالى ما يدُلُّ على كمالِ قدرتِه، وسَعةِ عِلمِه، فيقولُ: اللهُ وَحْدَه هو الَّذي خَلَق سَبْعَ سَمواتٍ، وخَلَق مِنَ الأرضِ مِثلَ عدَدِ السَّمَواتِ؛ سَبْعَ أَرَضينَ، يَتَنزَّلُ أمْرُ اللهِ لخَلْقِه بيْن السَّمَواتِ والأرَضِينَ؛ لِيَعلَمَ العِبادُ كَمالَ قُدرةِ اللهِ تعالى، وكَمالَ عِلْمِه.

تفسير الآيات:

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الأحكامَ والمواعِظَ، والتَّرغيبَ لِمن أطاع؛ حذَّر مَن خالَفَ، فقال تعالى [286] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/319). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/164، 165). :
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا.
أي: وما أكثَرَ القُرى الَّتي طغى أهلُها، فتَجاوَزوا أمْرَ اللهِ ورُسُلِه، وخالَفوا شَرْعَه، وتعَدَّوا حُدودَه، وبالَغوا في مَعصيتِه؛ فحاسَبَهم اللهُ حِسابًا أحصى عليهم فيه جميعَ ذُنوبِهم، فلم يَعْفُ لهم عن شَيءٍ منها [287] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 278)، ((تفسير ابن جرير)) (23/71، 72)، ((تفسير السمعاني)) (5/467)، ((تفسير ابن عطية)) (5/327)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/164-166)، ((تفسير السعدي)) (ص: 872)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/333، 334). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالحِسابِ الشَّديدِ: الَّذي ليس فيه عَفوٌ ولا تجاوُزٌ عن الذُّنوبِ: ابنُ جرير، والسمعانيُّ، وابنُ عطيَّة. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/72)، ((تفسير السمعاني)) (5/467)، ((تفسير ابن عطية)) (5/327). وممَّن رُوِيَ عنه هذا القَولُ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/72). وقيل: المرادُ بالحِسابِ: العذابُ في الدُّنيا. وممَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والقرطبيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/366)، ((تفسير القرطبي)) (18/173)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/334). قال أبو حيَّان: (والظَّاهرُ في فَحَاسَبْنَاهَا الجُمَلُ الأربعةُ، أنَّ ذلك في الدُّنيا؛ لقولِه بعدَها: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، وظاهرُه أنَّ المُعَدَّ عذابُ الآخرةِ، والحسابُ الشَّديدُ هو الاستِقصاءُ والمُناقَشةُ، فلم تُغتفَرْ لهم زَلَّةٌ، بل أُخِذوا بالدَّقائقِ مِن الذُّنوبِ). ((تفسير أبي حيان)) (10/203). وقيل: المرادُ بالحِسابِ: الاستِقصاءُ والمناقَشةُ في الآخِرةِ. وممَّن قال بهذا: الزمخشريُّ، والبيضاويُّ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/560)، ((تفسير البيضاوي)) (5/222). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/165، 166). وقال ابنُ عطيَّةَ: (فَحَاسَبْنَاهَا قال بعضُ المتأوِّلينَ: الآيةُ في الآخِرةِ، أي: ثَمَّ هو الحِسابُ والتَّعذيبُ والذَّوقُ وخَسارُ العاقِبةِ. وقال آخَرونَ: ذلك في الدُّنيا، ومعنى: فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا، أي: لم نَغتفِرْ لها زَلَّةً، بل أُخِذَت بالدَّقائِقِ مِنَ الذُّنوبِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/ 327). وقال البِقاعي: (فَحَاسَبْنَاهَا أي: فتسَبَّبَ عن عَدَمِ شُكرِهم للإحسانِ أنْ أحصَيْنا أعمالَها. ولَمَّا كان ذلك على وَجهِ المُناقَشةِ على النَّقيرِ والقِطْميرِ بالمُجازاةِ على كُلِّ فِعلٍ بما يَليقُ به، قال: حِسَابًا شَدِيدًا بمعناه المُطابقيِّ مِن ذِكرِ الأعمالِ كُلِّها، والمجازاةِ عليها، وهذا هو المناقَشةُ، وهي أنَّ العامِلَ إذا أثَّرَ أثرًا بعَمَلِه هو كالنَّقشِ في الجامِدِ أثَّرَ المجازي له فيه أثَرًا بحَسَبِ عَمَلِه على سَبيلِ الاستِقصاءِ، وأمَّا الحِسابُ اليسيرُ فهو عَرْضُ الأعمالِ فقط من غيرِ جَزاءٍ على قَبيحِها، فهو دَلالةُ تَضَمُّنٍ). ((نظم الدرر)) (20/165، 166). !
كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 17] .
وقال سبحانه: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 58، 59].
وقال تبارك وتعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد: 13].
وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا.
أي: وعذَّبْناهم عَذابًا عَظيمًا فَظيعًا مُنكَرًا [288] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/73)، ((تفسير القرطبي)) (18/173)، ((تفسير ابن كثير)) (8/155)، ((تفسير السعدي)) (ص: 872)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/334، 335). قيل: المرادُ: عذابُ الآخِرةِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجُملةِ: ابنُ جرير، والزمخشريُّ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/73)، ((تفسير الزمخشري)) (4/560)، ((تفسير القرطبي)) (18/173). وقيل: المرادُ: الإهلاكُ في الدُّنيا. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: البِقاعي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/166)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/334). .
قال تعالى حكايةً عن ذي القَرنَينِ: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا [الكهف: 87] .
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9).
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا.
أي: فذاقوا بذلك العَذابِ العاقِبةَ الوَخيمةَ؛ لِعُتُوِّهم عن أمرِ اللهِ ورُسُلِه [289] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/73)، ((تفسير القرطبي)) (18/173)، ((تفسير ابن كثير)) (8/155)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/166)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/335). .
وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا.
أي: وكان آخِرُ أمْرِهم الخَسارةَ في الدُّنيا والآخِرةِ [290] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/74)، ((الوسيط)) للواحدي (4/316)، ((تفسير القرطبي)) (18/173)، ((تفسير ابن كثير)) (8/155)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/335). .
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10).
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا.
أي: هَيَّأَ اللهُ تعالى لهم عَذابًا شَديدًا في الآخِرةِ [291] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/74)، ((تفسير القرطبي)) (18/173)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/167)، ((تفسير السعدي)) (ص: 872)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/335). .
فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ ما حَلَّ بهذِه القريةِ العاتيةِ؛ أمَرَ المُؤمِنينَ بتَقْوى اللهِ تَحذيرًا مِن عِقابِه، ونبَّهَ على ما يحُضُّ على التَّقوى، وهو إنزالُ الذِّكْرِ؛ فقال [292] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/204). :
فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا.
أي: فخافُوا اللهَ واحذَروا سَخَطَه وعَذابَه، بامتِثالِ أوامِرِه، واجتِنابِ نَواهيه -يا أصحابَ العُقولِ الصَّافيةِ والأفهامِ المُستَقيمةِ، الَّذين آمَنوا باللهِ ورُسُلِه-، ولا تكونُوا مِثلَ كُفَّارِ الأُمَمِ الماضيةِ؛ فيُهلِكَكم اللهُ كما أهلَكَهم [293] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/75)، ((تفسير القرطبي)) (18/173)، ((تفسير ابن كثير)) (8/155)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/167)، ((تفسير السعدي)) (ص: 872). .
قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا.
أي: قد أنزَلَ اللهُ إليكم -أيُّها المؤمِنونَ- القُرآنَ الَّذي يُذَكِّرُكم اللهُ به، ويُنَبِّهُكم على الإيمانِ باللهِ، والقيامِ بطاعتِه [294] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/75، 76)، ((الوسيط)) للواحدي (4/316)، ((تفسير ابن كثير)) (8/155)، ((تفسير السعدي)) (ص: 872)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/337). وممَّن قال بأنَّ الذِّكرَ هنا بمعنى التَّذكيرِ: ابنُ جرير، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/76)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/337). وقال البِقاعي: (ذِكْرًا أي: كاملًا، مذكورًا فيه غايةُ الشَّرفِ لكلِّ مَن يَقْبَلُه، بل تشرَّفت الأرضُ كلُّها بنُزولِه، ورُفِع عنها العذابُ، وعمَّها النُّورُ والصَّوابُ). ((نظم الدرر)) (20/168). .
رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11).
رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ.
أي: أرسَلَ اللهُ رَسولَه مُحمَّدًا يَتلو عليكم -أيُّها المؤمِنونَ- آياتِ القُرآنِ المُوضِّحاتِ للهُدى والحَقِّ على نحوٍ لا لَبْسَ فيه [295] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/76)، ((الوسيط)) للواحدي (4/316)، ((تفسير القرطبي)) (18/173، 174)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/168)، ((تفسير السعدي)) (ص: 872). قال ابن جُزَي: (الذِّكرُ هنا هو القرآنُ، والرَّسولُ هو محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، وإعرابُ رَسُولًا مفعولٌ بفِعلٍ مُضمَرٍ تقديرُه: أرسَل رسولًا. وهذا الَّذي اختاره ابنُ عطيَّةَ، وهو أظهَرُ الأقوالِ. وقيل: إنَّ الذِّكْرَ والرَّسولَ معًا يُرادُ بهما القرآنُ، والرَّسولُ على هذا بمعنى الرِّسالةِ. وقيل: إنَّهما يُرادُ بهما القرآنُ على حذفِ مُضافٍ، تقديرُه: ذِكْرًا ذا رسولٍ. وقيل: رَسُولًا مفعولٌ بالمصدرِ الَّذي هو الذِّكْرُ. وقال الزمخشريُّ: الرَّسولُ هو جبريلُ، بدَلٌ مِن الذِّكْرِ؛ لأنَّه نزَل به، أو سُمِّيَ ذِكْرًا لكثرةِ ذِكْرِه لله. وهذا كلُّه بعيدٌ). ((تفسير ابن جزي)) (2/388). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/560)، ((تفسير ابن عطية)) (5/327). .
كما قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .
لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
أي: ليُخرِجَ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا بطاعةِ اللهِ مِن ظُلُماتِ الكُفرِ والجَهلِ والمعصيةِ إلى نورِ الإيمانِ والعِلمِ والطَّاعةِ [296] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/76)، ((تفسير القرطبي)) (18/174)، ((تفسير ابن كثير)) (8/155)، ((تفسير السعدي)) (ص: 872). قال البِقاعي: (ذلك بأنْ يُصيِّرَهم مُتخَلِّقينَ بالقُرآنِ؛ لِيَكونوا مَظهَرًا له في حَرَكاتِهم وسَكَناتِهم، وأقوالِهم وأفعالِهم). ((نظم الدرر)) (20/169). .
كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم: 1] .
وقال سبحانه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] .
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: ومَن يُؤمِنْ باللهِ ويَعمَلْ عَمَلًا صالِحًا بإخلاصٍ لله تعالى ووَفْقًا لشَرعِه، فإنَّ اللهَ يُدخِلُه في الآخِرةِ جَنَّاتٍ تَجري الأنهارُ مِن تَحتِ أشجارِها، وقُصورِها [297] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/367)، ((تفسير ابن جرير)) (23/76)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/169، 170)، ((تفسير الشوكاني)) (5/295)، ((تفسير السعدي)) (ص: 872)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/338)، ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (1/91). .
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.
أي: ماكِثينَ في تلك الجنَّاتِ أبَدًا، فلا يموتونَ فيها، ولا يُخرَجونَ منها [298] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/76)، ((تفسير السمرقندي)) (3/464)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/171). .
قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا.
أي: قد وسَّع الله لِمَنْ آمَنَ به وعمِل صالحًا في الجنَّةِ رِزقَه مِن المَطاعِمِ والمَشارِبِ، وسائرِ ما أعدَّه لأوليائِه فيها، وطيَّبه لهم [299] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/77)، ((الوسيط)) للواحدي (4/316)، ((تفسير القرطبي)) (18/174)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/338). .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12).
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ.
أي: اللهُ وَحْدَه هو الَّذي أوجَدَ مِنَ العَدَمِ بقُدْرتِه التَّامَّةِ سَبْعَ سَمواتٍ [300] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/77)، ((تفسير الماوردي)) (6/36)، ((تفسير ابن كثير)) (8/156)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/172). .
كما قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة: 29] .
وقال سبحانه: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا [الملك: 3] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت: 12] .
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ.
أي: وخَلَق اللهُ مِنَ الأرضِ مِثلَ عَدَدِ السَّمَواتِ، فجَعَلَهنَّ سَبْعَ أَرَضينَ [301] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/316)، ((تفسير السمعاني)) (5/468)، ((تفسير البيضاوي)) (5/223)، ((تفسير ابن كثير)) (8/156). قال ابنُ عطية: (لا خلافَ بينَ العلماءِ أنَّ السَّمواتِ سبعٌ...، وأمَّا الأرضُ فالجمهورُ على أنَّها سبعُ أرَضينَ، وهو ظاهرُ هذه الآيةِ، وأنَّ المماثلةَ إنَّما هي في العددِ، ويُستدلُّ بقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «مَن غصَب شبرًا مِن أرضٍ طُوِّقه مِن سبعِ أرَضينَ»، إلى غير هذا ممَّا ورَدت به روايات، ورُوي عن قومٍ مِن العلماءِ أنَّهم قالوا: الأرضُ واحدةٌ، وهي مماثِلةٌ لكلِّ سماءٍ بانفرادِها في ارتفاعِ جرمِها، وفي أنَّ فيها عالَمًا يَعبُدُ كما في كلِّ سماءٍ عالَمٌ يَعبُدُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/ 327). قيل: هي سَبعُ أَرَضِينَ طِباقٌ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ، وممن اختاره: القرطبيُّ -ونسَبَه للجُمهورِ-، وابنُ كثير، والبِقاعي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/174، 175)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (1/39)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/172)، ((تفسير الشوكاني)) (5/295). قال ابنُ كثير: (واختَلَفوا هل هنَّ مُتراكِماتٌ بلا تفاصُلٍ، أو بيْن كُلِّ واحدةٍ والَّتي تليها خَلاءٌ؟ على قولَينِ. وهذا الخِلافُ جارٍ في الأفلاكِ أيضًا، والظَّاهِرُ أنَّ بيْن كُلِّ واحدةٍ مِنهنَّ وبيْن الأخرى مسافةً). ((البداية والنهاية)) (1/39). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/172). وقيل: هي سَبعُ أرَضِينَ مُطبَقةٌ بَعضُها على بَعضٍ مِن غَيرِ فُتوقٍ، بخِلافِ السَّمواتِ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/175). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/566). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يأخُذُ أحَدٌ شِبرًا مِن الأرضِ بغَيرِ حَقِّه إلَّا طَوَّقَه اللهُ إلى سَبْعِ أرَضِينَ يومَ القيامةِ )) [302] رواه مسلم (1611). .
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ.
أي: يتنزَّلُ أمرُ اللهِ بيْن السَّمَواتِ والأَرَضِينَ [303] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/81)، ((تفسير السمعاني)) (5/469)، ((تفسير الزمخشري)) (4/561)، ((تفسير ابن عطية)) (5/328)، ((تفسير القرطبي)) (18/176)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 872)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/341). ممَّن قال في الجملةِ: إنَّ المعنى: يَتنزَّلُ أمرُ الله بيْنَ السَّماءِ السَّابعةِ والأرضِ السَّابعةِ. أو: مِن السَّماءِ العُلْيا إلى الأرضِ السُّفْلى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والبَغَويُّ، والخازنُ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/367)، ((تفسير ابن جرير)) (23/81)، ((تفسير البغوي)) (5/114)، ((تفسير الخازن)) (4/310). قال ابن جزي: (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ يحتملُ أن يريدَ بالأمرِ الوحيُ، أو أحكامُ الله وتقديرُه لخلقِه). ((تفسير ابن جزي)) (2/388). ممَّن اختار أنَّه الوحيُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والثَّعْلَبي، والبَغَوي، والعُلَيمي، والشَّوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/367)، ((تفسير السمرقندي)) (3/464)، ((تفسير الثعلبي)) (9/342)، ((تفسير البغوي)) (5/114)، ((تفسير العليمي)) (7/92)، ((تفسير الشوكاني)) (5/295). قال القصَّاب: (والأمرُ في هذا الموضِعِ -واللهُ أعلَمُ- إخبارٌ عن كلامِه جلَّ وعلا في كلِّ ما يُنزِلُه ممَّا يَتَعبَّدُهم به مِن أمرٍ ونهْيٍ). ((النكت الدالة على البيان)) (4/351). ونسَبَ الماوَرْديُّ وابنُ الجَوزيِّ والقُرطبيُّ إلى الأكثَرينَ القولَ بأنَّ الأمرَ قضاءُ الله وقَدَرُه. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/37)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/303)، ((تفسير القرطبي)) (18/176). قال أبو السُّعود والألوسيُّ: يَجْرِي أمْرُه وقضاؤُه بيْنَهنَّ، ويَنفُذُ ملكُه فيهنَّ. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/265)، ((تفسير الألوسي)) (14/340). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القاسمي)) (9/ 265)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/183). وقال السعدي: (أُنزِلَ الأمرُ، وهو الشَّرائِعُ والأحكامُ الدِّينيَّةُ الَّتي أوحاها إلى رُسُلِه؛ لتذكيرِ العِبادِ ووَعظِهم، وكذلك الأوامِرُ الكَونيَّةُ والقَدَريَّةُ الَّتي يُدَبَّرُ بها الخَلقُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 872). .
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.
أي: إنَّ الغايةَ المقصودةَ مِن الخَلقِ والأمرِ هي أن يَعلَمَ العِبادُ كَمالَ قُدرةِ اللهِ تعالى، وكَمالَ عِلْمِه؛ فهو بالِغُ القُدرةِ على فِعْلِ كُلِّ شَيءٍ، مُحيطٌ عِلمًا بكُلِّ شَيءٍ؛ فيَعبُدوه العِبادةَ الجامِعةَ لخَشيتِه ورَجائِه، والذُّلِّ والإخلاصِ له، وتَعظيمِه ومحَبَّتِه [304] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/82)، ((الوسيط)) للواحدي (4/316)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (1/429)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/178)، ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/292)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/176-178)، ((تفسير السعدي)) (ص: 872)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/341، 342). قال الطوفي: (هذا تعليلٌ لخلقِ السَّمواتِ والأرضِ بعِلمِ المكلَّفينَ كمالَ قُدرةِ الله عزَّ وجلَّ وعِلمِه، أي: خلق ذلك لِتَعلَموا، فإن يكُنِ الأمرُ كذلك فتَحْتَه سرٌّ عجيبٌ، وإلَّا فاللَّامُ للعاقِبةِ، أو للأمرِ، أي: اعلَموا ذلك، أو خلقهُنَّ لِتَكونَ عاقبتُكم العِلمَ بكمالِ القُدرةِ بواسطةِ النَّظرِ، والأشْبَهُ الأوَّلُ). ((الإشارات الإلهية إلي المباحث الأصولية)) (ص: 645). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ بيانٌ لأصحابِ الرِّئاسةِ ورِجالِ السِّياسةِ: أنَّ هَلاكَ الدُّنيا بفَسادِ الدِّينِ، وأنَّ أمْنَ القُرى وطُمأنينةَ العالَمِ بالحِفاظِ على الدِّينِ [305] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/216). .
2- قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا في نِداءِ المُؤمِنينَ بوصْفِ (أُولِي الْأَلْبَابِ) إيماءٌ إلى أنَّ العقولَ الرَّاجحةَ تَدْعو إلى تَقْوى اللهِ؛ لأنَّها كَمالٌ نَفْسانيٌّ، ولأنَّ فَوائِدَها حَقيقيَّةٌ دائمةٌ، ولأنَّ بها اجتِنابَ المَضارِّ في الدُّنيا والآخِرةِ، وهذا الاتِّباعُ يُومِئُ إلى أنَّ قَبولَهمُ الإيمانَ عُنوانٌ على رَجاحةِ عُقولِهم [306] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/336). .
3- قال الله تعالى: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا فممَّا أرادَه اللهُ مِن خَلْقِه السَّمواتِ والأرضَ أنْ يَعْلَمَ النَّاسُ قُدرةَ اللهِ على كلِّ شيءٍ، وإحاطةَ عِلْمِه بكلِّ شيءٍ؛ لأنَّ خَلْقَ تلكَ المخلوقاتِ العظيمةِ، وتَسخيرَها، وتَدبيرَ نِظامِها في طُولِ الدَّهرِ؛ يدُلُّ أفكارَ المتأمِّلينَ على أنَّ مُبدِعَها يَقدِرُ على أمثالِها، فيَستَدِلُّوا بذلك على أنَّه قديرٌ على كلِّ شيءٍ؛ لأنَّ دَلالتَها على إبداعِ ما هو دونَها ظاهِرةٌ، ودَلالتَها على ما هو أعظمُ منها وإنْ كانت غيرَ مُشاهَدةٍ؛ فقياسُ الغائِبِ على الشَّاهِدِ يدُلُّ على أنَّ خالِقَ أمثالِها قادِرٌ على ما هو أعظَمُ، وأيضًا فإنَّ تدبيرَ تلكَ المخلوقاتِ بمِثْلِ ذلكَ الإتقانِ المُشاهَدِ في نظامِها، دليلٌ على سَعةٍ عِلْمِ مُبدِعِها، وإحاطتِه بدقائقِ ما هو دونَها، وأنَّ مَن كان عِلْمُه بتلكَ المثابةِ لا يُظَنُّ بعِلْمِه إلَّا الإحاطةُ بجميعِ الأشياءِ [307] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/341، 342). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فيه تَذكيرٌ للمُسلِمينَ بوعْدِ اللهِ بنَصرِهم، ومَحْقِ عدُوِّهم [308] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/334). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا فيه سؤالٌ: الإيمانُ هو التَّقوى في الحقيقةِ، وأُولو الألبابِ الَّذين آمَنوا كانوا مِن المتَّقينَ بالضَّرورةِ، فكيف يُقالُ لهم: فَاتَّقُوا اللَّهَ؟
الجوابُ: للتَّقوى دَرَجاتٌ ومَراتِبُ؛ فالدَّرَجةُ الأُولى هي التَّقوى مِنَ الشِّركِ، والبَواقي هي التَّقوى مِنَ المعاصي الَّتي هي غيرُ الشِّركِ، فأهلُ الإيمانِ إذا أُمِروا بالتَّقوى كان ذلك الأمرُ بالنِّسبةِ إلى الكبائِرِ والصَّغائِرِ، لا بالنِّسبةِ إلى الشِّركِ [309] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/566). . وكذلك التَّقوى بفِعلِ الطَّاعاتِ، مِن الواجباتِ والمُستحبَّاتِ، وقد يكونُ المرادُ طلبَ المداومةِ.
3- في قَولِه تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا حُجَّةٌ في أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى بنَفْسِه في السَّماءِ [310] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/350). ، ففيه دَلالةٌ على عُلُوِّ اللهِ تعالى؛ مِن جهةِ ذِكْرِ نزولِ الأشياءِ مِن عِندِه [311] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/329). .
4- في قَولِه تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ معلومٌ أنَّ الرَّسولَ نفْسَه لم يُنْزَلْ، بل أُبدِلَ الرَّسولُ مِن الذِّكْرِ؛ لأنَّ الرَّسولَ جاء بالذِّكْرِ، ولَمَّا كان الرَّسولُ المَلَكيُّ والرَّسولُ البَشَريُّ والذِّكْرُ المُنْزَلُ أُمورًا متلازِمةً يَلْزِمُ مِن ثُبوتِ واحدٍ ثُبوتُ الآخَرَينِ، ومِن الإيمانِ بواحدٍ الإيمانُ بالآخَرَينِ؛ فيَلْزَمُ مِن كَونِ القرآنِ حقًّا كونُ جبريلَ ومحمَّدٍ حقًّا، وكذلك يَلْزَمُ مِن كونِ محمَّدٍ حقًّا كونُ جِبريلَ والقُرآنِ حقًّا، ويَلْزَمُ مِن كونِ جبريلَ حقًّا كونُ القرآنِ ومحمَّدٍ حقًّا؛ ولهذا جَمَعَ اللهُ بيْنَ الإيمانِ بالملائكةِ والكُتُبِ والرُّسُلِ في مِثلِ قولِه: آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [312] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (5/313). [البقرة: 285] .
5- قَولُ اللهِ تعالى: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فيه سؤالٌ: كُلُّ مَنْ آمَنَ باللهِ فقد خَرَج مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، وإذا كان كذلك فحَقُّ هذا الكلامِ -وهو قَولُه تعالى: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا- أن يُقالَ: (لِيُخْرِجَ الَّذينَ كَفَروا)؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: يمكِنُ أن يكونَ المرادُ: لِيُخرِجَ الَّذين يُؤمِنونَ، على ما جاز أن يُرادَ مِن الماضي المُستَقبَلُ، كما في قَولِه  تبارك وتعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى [آل عمران: 55] ، أي: وإذ يقولُ اللهُ.
الوَجهُ الثَّاني: يُمكِنُ أن يكونَ المرادُ: لِيُخرِجَ الَّذين آمَنوا مِن ظُلُماتٍ تَحدُثُ لهم بعْدَ إيمانِهم [313] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/566). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا فيه سُؤالٌ: أفردَ الضَّميرَ في هذه الآيةِ في قَولِه: يُؤْمِنْ، وقَولِه: (يَعْمَلْ)، وقَولِه: يُدْخِلْهُ، وقَولِه: لَهُ، وجمعَ في قَولِه: خَالِدِينَ.
والجوابُ: أنَّ الإفرادَ باعتبارِ لَفظِ: (مَن)، والجَمْعَ باعتبارِ مَعناها، وهو كثيرٌ في القُرآنِ العَظيمِ. وفي هذه الآيةِ الكريمةِ رَدٌّ على مَن زَعَم أنَّ مُراعاةَ المعنى لا تجوزُ بَعْدَها مُراعاةُ اللَّفظِ؛ لأنَّه في هذه الآيةِ راعى المعنى في قَولِه: خَالِدِينَ، ثمَّ راعى اللَّفظَ في قَولِه: قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا [314] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 240). . فاللُّغةُ العَربيَّةُ يجوزُ فيها أنْ يَتعدَّدَ مَرجِعُ الضَّميرِ؛ فمَرَّةً يعودُ بالإفرادِ، ومَرَّةً يعودُ بالجَمعِ، بشَرطِ أنْ يكونَ مَرْجِعُ الضَّميرِ صالِحًا للإفرادِ والجَمعِ؛ ففي الآيةِ هنا عاد الضَّميرُ أوَّلًا باعتِبارِ اللَّفظِ، ثُمَّ باعتبارِ المعنى، ثُمَّ باعتبارِ اللَّفظِ [315] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/521). .
7- الجَنَّةُ والنَّارُ موجودتانِ الآنَ؛ ولن تَفْنَيا أبَدَ الآبِدِينَ؛ قال تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، وقال: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا [316] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/253). [الأحزاب: 64 - 66] .
8- إنْ قلتَ: لِمَ جمَعوا السَّماءَ، فقالوا: (سمواتٍ)، وهلَّا راعَوْا فيها ما راعَوْا في الأرضِ، فإنَّها مقابلةٌ، فما الفرقُ بيْنَهما؟
والجوابُ: بيْنَهما فرقانِ: فرقٌ لفظيٌّ، وفرقٌ معنويٌّ؛ أمَّا اللَّفظيُّ فإنَّهم لو جمَعوا أرضًا على قياسِ جموعِ التَّكسيرِ لقالوا: آرُضٌ كأفلُسٍ، أو: آراضٌ كأجمالٍ، أو: أُرُوضٌ كفُلوسٍ، فاستَثقَلوا هذا اللَّفظَ؛ إذ ليس فيه مِن الفصاحةِ والحُسنِ والعُذُوبةِ ما في لفظِ السَّمواتِ، وأنت تجِدُ السَّمعَ يَنبو عنه بقَدرِ ما يُستحسَنُ لفظُ السَّمواتِ، ولفظُ السَّمواتِ يَلِجُ في السَّمعِ بغيرِ استئذانٍ؛ لنصاعتِه وعذوبتِه، ولفظُ الأراضي لا يأذنُ له السَّمعُ إلَّا على كُرهٍ، ولهذا تفادَوْا مِن جمعِه إذا أرادوه بثلاثةِ ألفاظٍ تدُلُّ على التَّعدُّدِ، كما قال تعالى: خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، كلُّ هذا تفاديًا مِن أن يُقالَ: أراض وآرُض.
وأمَّا الفرقُ المعنويُّ فإنَّ الكلامَ متى اعتمد به على السَّماءِ المحسوسةِ الَّتي هي السَّقفُ، وقُصِد به إلى ذاتِها دونَ معنى الوصفِ صحَّ جمعُها جمعَ السَّلامةِ؛ لأنَّ العددَ قليلٌ، وجمْعَ السَّلامةِ بالقليلِ أَولى؛ لقُربِه مِن التَّثنيةِ القريبةِ مِن الواحدِ، ومتى اعتَمد الكلامُ على الوصفِ ومعنى العُلا والرِّفعةِ جرَى اللَّفظُ مجرَى المصدرِ الموصوفِ به في قولِك: قَومٌ عَدْلٌ وزَورٌ، وأمَّا الأرضُ فأكثرُ ما تجيءُ مقصودًا بها معنَى التَّحتِ والسُّفلِ دونَ أن يُقصَدَ ذواتُها وأعدادُها، وحيثُ جاءت مقصودًا بها الذَّاتُ والعددُ أُتيَ بلفظٍ يدُلُّ على العددِ، كقولِه: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ. وفرقٌ ثانٍ وهو أنَّ الأرضَ لها نسبةٌ لا إلى السَّمواتِ وسَعتِها، بل هي بالنِّسبةِ إليها كحَصاةٍ في صَحْراءَ، فهي وإنْ تعدَّدتْ فهي بالنِّسبةِ إلى السَّماءِ كالواحدِ القليلِ؛ فاختِير لها اسمُ الجنسِ [317] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/114، 115). ويُنظر أيضًا: ((نتائج الفكر في النحو)) للسهيلي (ص: 121، 122). . وقيل: في إفرادِ لَفظِ (الأرضِ) دونَ أنْ يُؤْتَى به جمعًا كما أُتِيَ بلَفظِ السَّمواتِ؛ إيذانٌ بالاختلافِ بيْنَ حالَيْهِما [318] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/340). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ليس في القُرآنِ آيةٌ تدُلُّ على عَدَدِ الأرَضِينَ بسَبعٍ مِثلِ عَدَدِ السَّمَواتِ سِوى هذه الآيةِ [319] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/468). .
10- في قَولِه تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ إشارةٌ إلى أنَّ الأرضَ سَبْعٌ؛ فإنَّ المِثْليَّةَ هنا بالكيفيَّةِ مُتعذِّرةٌ، وإذا تَعَذَّرَت المِثْليَّةُ في الكيفيَّةِ لَزِمَ أنْ تكونَ المِثْليَّةُ في العَدَدِ، كما نقولُ: «سبحانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِه، والحَمدُ للهِ مِثْلَ ذلك» يعني: عَدَدَ خلْقِه [320] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/181). .
11- في قَولِه تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا أنَّ صفةَ الخَلْقِ تدُلُّ على صِفاتٍ أُخرى لازِماتٍ لذلك، وهي: العِلمُ والقُدرةُ [321] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/565). ، فلا يمكنُ أن يكونَ خالقًا إلَّا أن يكونَ عالمًا قادرًا؛ لأنَّه لا يَخلُقُ مَن لا يَقدِرُ، ولا يَخلُقُ مَن لا يَعلَمُ، فلا بُدَّ أن يكونَ عالمًا قادرًا؛ ولهذا قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا؛ فذكَرَ العِلمَ والقُدرةَ بعْدَ أنْ ذكَرَ أنَّه خلَقَ، ولا يُمكِنُ أن يكونَ هناك خلْقٌ إلَّا أن يَعلَمَ كيف يَخلُقُ، ويَقدِرُ على ذلك [322] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/165). .
12- في قَولِه تعالى: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ دَليلٌ على أنَّه سُبحانَه في السَّماءِ بنَفْسِه، وأنَّ الأمرَ يَنزِلُ منه إلى الأرَضينَ؛ فلولا ذلك ما كان لِلَفْظِ «التَّنزيلِ» مَعنًى [323] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/352). !
13- قولُه تعالى: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ فيه تَنويهٌ بالقُرآنِ؛ لأنَّه مِن جُملةِ الأمرِ الَّذي يَتنزَّلُ بيْن السَّماءِ والأرضِ [324] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/339). .
14- العِلمُ باللهِ وأسمائِه وصِفاتِه هو أشرَفُ العُلومِ على الإطلاقِ، وهو مَطلوبٌ لِنَفسِه، مُرادٌ لذاتِه؛ قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا؛ فقد أخبَرَ سُبحانَه أنَّه خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ، ونزَّل الأمرَ بيْنَهنَّ؛ لِيَعلَمَ عِبادُه أنَّه بكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ، وعلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، فهذا العِلمُ هو غايةُ الخَلقِ المَطلوبةُ [325] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/178). .
15- اللهُ تعالى خَلَق الخَلْقَ وأوجَدَهم لعِبادتِه الجامِعةِ لخَشيتِه ورَجائِه ومحَبَّتِه، كما قال الله تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وإنَّما يُعبَدُ اللهُ سُبحانَه بعْدَ العِلْمِ به ومَعرفتِه، فبذلك خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ وما فيهما؛ للاستِدلالِ بهما على توحيدِه وعَظَمتِه، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [326] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/292). .
16- قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ فأخبَرَ عن قُدرتِه التَّامَّةِ؛ وسُلطانِه العظيمِ؛ لِيَكونَ ذلك باعثًا على تعظيم ما شرَع مِن الدِّينِ القَويمِ، كقولِه تعالى إخبارًا عن نوحٍ عليه السَّلامُ أنَّه قال لقَومِه: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا [327] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/156). [نوح: 15] .
17- كثيرًا ما يَقرنُ اللهُ تعالى بيْن الخَلقِ والأمرِ، كما في قولِه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ، وكما في قولِه: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ؛ وذلك أنَّه الخالقُ الآمِرُ النَّاهي، فكما أنَّه لا خالقَ سِواه، فليس على الخَلقِ إلزامٌ ولا أمرٌ ولا نهْيٌ إلَّا مِن خالِقِهم، وأيضًا فإنَّ خَلْقَه للخَلقِ فيه التَّدبيرُ القَدَريُّ الكَونيُّ، وأمْرَه فيه التَّدبيرُ الشَّرعيُّ الدِّينيُّ، فكما أنَّ الخلقَ لا يَخرُجُ عن الحِكمةِ، فلم يَخلُقْ شيئًا عبَثًا؛ فكذلك لا يأمُرُ ولا يَنهى إلَّا بما هو عدلٌ وحِكمةٌ وإحسانٌ [328] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 502). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا
- لَمَّا شُرِعَتْ للمُسلِمينَ أحكامٌ كثيرةٌ مِنَ الطلاقِ ولَواحِقِه، وكانتْ كلُّها تَكاليفَ قدْ تُحجِمُ بعضُ الأنفُسِ عن إيفاءِ حقِّ الامتثالِ لها تَكاسُلًا أو تَقصيرًا؛ رغَّبَ في الامتثالِ لها بقولِه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق: 2] ، وقولِه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4] ، وقولِه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق: 5] ، وقولِه: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق: 7] ، وحذَّرَ اللهُ النَّاسَ في خِلالِ ذلك مِن مُخالَفتِها بقولِه: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1] ، وقولِه: ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ [الطلاق: 2] ؛ أعْقَبها بتَحذيرٍ عَظيمٍ مِنَ الوُقوعِ في مُخالَفةِ أحكامِ اللهِ ورُسلِه؛ لأنَّ الصَّغيرَ يُثيرُ الجليلَ، فذكَّرَ المُسلِمينَ -وليسوا ممَّنْ يَعْتُوا على أمرِ ربِّهِم- بما حلَّ بأقوامٍ مِن عِقابٍ عَظيمٍ على قِلَّةِ اكتراثِهِم بأمْرِ اللهِ ورُسلِه؛ لئلَّا يَسلُكوا سَبيلَ التَّهاوُنِ بإقامةِ الشَّريعةِ، فيُلْقي بهم ذلك في مَهْواةِ الضَّلالِ، وهذا الكلامُ مُقدِّمةٌ لِمَا يأتي مِن قولِه: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الآياتِ؛ فالجُملةُ مَعطوفةٌ على مَجموعِ الجُمَلِ السَّابقةِ عطْفَ غرَضٍ على غرَضٍ [329] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/473)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/333). .
- (كَأَيِّنْ) اسمٌ لعددٍ كثيرٍ مُبهَمٍ يُفسِّرُه ما يُميِّزُه بَعْدَه مِنِ اسمٍ مَجرورٍ بـ(مِنْ)، و(كَأَيِّنْ) بمعْنى (كم) الخبريَّةِ، والمقصودُ مِن إفادةِ التَّكثيرِ هنا تَحقيقُ أنَّ العذابَ الَّذي نالَ أهلَ تلكَ القُرى شَيءٌ مُلازِمٌ لجَزائِهم على عُتُوِّهم عن أمْرِ ربِّهم ورُسلِه، فلا يَتوهَّمُ مُتوهِّمٌ أنَّ ذلكَ مُصادَفةٌ في بَعضِ القُرى، وأنَّها غَيرُ مُطَّرِدةٍ في جَميعِهم، والمعنى: الإخبارُ بكَثرةِ ذلكَ باعتبارِ ما فُرِّعَ عليه مِن قولِه: فَحَاسَبْنَاهَا؛ فالمُفرَّعُ هو المقصودُ مِنَ الخبرِ [330] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/333، 334). .
- وإنَّما أُوثِرَ لفظُ (القريةِ) هنا دونَ الأُمَّةِ ونَحْوِها؛ لأنَّ في اجتِلابِ هذا اللَّفظِ تَعريضًا بالمُشرِكينَ مِن أهلِ مكَّةَ، ومُشايَعةً لهم بالنِّذارةِ؛ ولذلكَ كثُرَ في القرآنِ ذِكْرُ أهلِ القُرَى في التَّذكيرِ بعَذابِ اللهِ [331] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/334). ويُنظر أيضًا: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/126). .
- قولُه: عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا ضُمِّن معنى أعرَضَ، كأنَّه قيل: أعْرَضَتْ بسببِ عُتُوِّها [332] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/358). .
- والمُحاسَبةُ مُستعمَلةٌ في الجَزاءِ على الفِعلِ بما يُناسِبُ شِدَّتَه مِن شَديدِ العِقابِ؛ تَشبيهًا لتَقديرِ الجَزاءِ بإجراءِ الحِسابِ بيْن المُتعامِلينَ، قيل: هو الحِسابُ في الدُّنيا؛ ولذلكَ جاءِ فَحَاسَبْنَاهَا وَعَذَّبْنَاهَا بصِيغةِ الماضي، والمعنى: فجازَيْناها على عُتُوِّها جزاءً يُكافِئُ طُغيانَها [333] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/334). . وقيل: الحِسابُ والعذابُ في قولِه: فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا في الآخِرةِ، وأتَى بذلك على لَفظِ الماضي تَحقيقًا له وتَقريرًا؛ لأنَّ المُنتظَرَ مِن وَعْدِ اللهِ ووَعيدِه آتٍ لا مَحالةَ [334] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/560)، ((تفسير البيضاوي)) (5/222)، ((تفسير أبي حيان)) (10/203)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 571)، ((تفسير أبي السعود)) (8/263)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/335). .
2- قولُه تعالَى: فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا
- قولُه: وَبَالَ أَمْرِهَا إضافةُ الوبالِ إلى الأمرِ مِن إضافةِ المُسبَّبِ إلى السَّببِ، أي: ذاقوا الوبالَ الَّذي تسبَّبَ لهم فيه أمرُهم وشأنُهمُ الَّذي كانوا عليهِ [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/335). .
- وجِيءَ بفِعلِ (كانِ) بصِيغةِ المُضِيِّ؛ لأنَّ الحديثَ عن عاقبتِها في الدُّنيا تَغليبًا [336] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/335). .
- وفيه تَفظيعٌ لِمَا لَحِقَهم؛ مُبالَغةً في التَّحذيرِ ممَّا وقَعوا فيهِ [337] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/335). .
3- قولُه تعالَى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا
- جُملةُ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا بدَلُ اشتمالٍ مِن جُملةِ وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا، أو بدَلُ بعضٍ مِن كُلٍّ، والمرادُ عذابُ الآخِرةِ؛ لأنَّ الإعدادَ التَّهيئةُ، وإنَّما يُهَيَّأُ الشَّيءُ الَّذي لم يَحصُلْ، وإنْ جعَلْتَ الحسابَ والعذابَ المذكورَيْنِ آنِفًا حِسابَ الآخِرةِ وعذابَها، فجُملةُ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا استِئنافٌ لبَيانِ أنَّ ذلكَ مُتزايدٌ غَيرُ مُخفَّفٍ مِنه؛ كقولِه: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [338] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/335، 336). [النبأ: 30] .
- وأيضًا قولُه: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا تَكريرٌ للوعيدِ، وبيانٌ لكَونِه مُترقَّبًا، كأنَّه قال: أعَدَّ اللهُ لهم هذا العذابَ؛ فلْيَكُنْ لكم ذلكَ يا أُولِي الألْبابِ مِنَ المُؤمِنينَ لُطْفًا في تَقْوى اللهِ وحَذَرِ عقابِه [339] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/560)، ((تفسير البيضاوي)) (5/222)، ((تفسير أبي حيان)) (10/203)، ((تفسير أبي السعود)) (8/264)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/126). .
- والفاءُ في قولِه: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا هي الفصيحةُ، أي: إنْ عرَفْتُم ذلكَ فاتَّقوا اللهَ، وهذا التَّفريعُ المقصودُ على التَّكاليفِ السَّابقةِ، وخاصَّةً على قولِه: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1] ، وهو نَتيجةُ ما مُهِّدَ له به مِن قولِه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ [340] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/336)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/126، 127). .
- والإتيانُ بصِلةِ المَوصولِ آَمَنُوا إشعارٌ بأنَّ الإيمانَ سَببٌ للتَّقوى، وجامِعٌ لمُعظمِها، ولكنَّ للتَّقوى دَرجاتٍ هي التي أُمِروا بأنْ يُحيطوا بها [341] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/336). .
- وفي هذِه الجُملةِ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ معْنى العِلَّةِ للأمرِ بالتَّقوى؛ لأنَّ إنزالَ الكِتابِ نَفْعٌ عظيمٌ لهم، مُستحِقٌّ شُكرَهُم عليه [342] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/336). .