موسوعة التفسير

سُورةُ النَّبَأِ
الآيات (21-30)

ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ

غريب الكلمات:

جَهَنَّمَ: اسمٌ للنَّارِ الَّتي يُعذِّبُ اللهُ بها في الآخرةِ، قيل: هي أعجميَّةٌ، وقيل: هي اسمٌ عربيٌّ، سُمِّيَتْ نارُ الآخرةِ بها؛ لِبُعْدِ قَعرِها، حُكيَ أنَّه قيل: رَكِيَّةٌ جِهِنامٌ، أي: بعيدةُ القعرِ، وقيل: اشتِقاقُها مِن الجُهومةِ، وهي الغِلَظُ، وسُمِّيَتْ بذلك؛ لِغِلَظِ أمْرِها في العذابِ [149] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (9/132)، ((المفردات)) للراغب (ص: 209)، ((تفسير الرازي)) (5/349). .
مِرْصَادًا: أي: مَوضِعَ رَصْدٍ وترَقُّبٍ لأعداءِ اللهِ، فهي مِفْعَالٌ مِنَ الرَّصْدِ، وهو التَّرَقُّبُ، وأصلُ (رصد): يدُلُّ على تهيُّؤٍ لرِقْبةِ شَيءٍ [150] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 457)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/400)، ((البسيط)) للواحدي (23/127)، ((تفسير القرطبي)) (19/177)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 462)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 880). .
لِلطَّاغِينَ: أي: للضَّالِّينَ المُتجاوِزينَ لحدود الله، وأصلُ الطُّغيانِ: مُجاوَزةُ الحَدِّ في العِصيانِ [151] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/125، 126) و(24/21)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/412)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي بن أبي طالب (12/7995)، ((البسيط)) للواحدي (23/127)، ((المفردات)) للراغب (ص: 520). .
مَآَبًا: أي: مَرْجِعًا ومَصيرًا ومَأْوًى، وأصلُ (أوب): يدُلُّ على رُجوعٍ [152] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 511)، ((تفسير ابن جرير)) (24/21)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/152)، ((المفردات)) للراغب (ص: 97)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 880). .
أَحْقَابًا: أي: دُهورًا مُتتابِعةً، جمعُ الحقبِ، أي: الدَّهرِ، وأصلُ (حقب): يدُلُّ على حَبسٍ [153] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 509)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 85)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/89)، ((المفردات)) للراغب (ص: 248)، ((تفسير القرطبي)) (19/179)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 444)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 58). .
بَرْدًا: أي: بُرودةً تخفِّفُ عنهم حرَّ النَّارِ، وأصلُ (برد) -على ذلك-: خِلافُ الحَرِّ، وقيل: البَرْدُ في هذا المَوضِعِ النَّومُ، يُقالُ: منَعَ البَرْدُ البَرْدَ، أي: منَعَ البَرْدُ النَّومَ، قيل: سُمِّيَ النَّومُ بَرْدًا؛ لأنَّه يرخي المفاصلَ، ويُسكنُ الحرَكاتِ، وأصلُ (برد) -على ذلك-: السُّكونُ والثُّبوتُ [154] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/27)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/241-243)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (1/163، 165)، ((تفسير السمعاني)) (6/139)، ((تفسير ابن جزي)) (2/446)، ((تحفة الأريب)) لأبي حيان (ص: 63). .
حَمِيمًا: أي: ماءً حارًّا شَديدَ الحَرارةِ، وأصلُ (حمم) هنا: يدُلُّ على الحَرارةِ [155] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 372)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 187)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/23)، ((المفردات)) للراغب (ص: 254). .
وَغَسَّاقًا: أي: ما يَسيلُ مِن جُلودِ أهلِ النَّارِ، وهو الصَّديدُ، مِن قَولِهم: غَسَقَت عَينُه: إذا انصَبَّت، والغَسَقانُ: الانصِبابُ. وقيل: هو الزَّمهريرُ الَّذي انتهى بَرْدُه، يُحرِقُهم ببَرْدِه كما تُحرِقُهم النَّارُ بحَرِّها [156] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 510)، ((تفسير ابن جرير)) (24/28)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/425)، ((المفردات)) للراغب (ص: 606). .
وِفَاقًا: أي: مُوافِقًا لأعمالِهم، والوَفْقُ: المُطابَقةُ بيْن الشَّيئَينِ، وأصلُ (وفق): يدُلُّ على مُلاءَمةِ الشَّيئَينِ [157] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 489)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/128)، ((المفردات)) للراغب (ص: 877)، ((تفسير القرطبي)) (19/181). .
كِذَّابًا: أي: تكذيبًا مفرطًا، وأصلُ (كذب): يدُلُّ على خِلافِ الصِّدقِ [158] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/229)، ((تفسير ابن جرير)) (24/35)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/167)، ((تفسير البيضاوي)) (5/280)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/40). .

مشكل الإعراب:

1- قَولُه تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآَبًا
لِلطَّاغِينَ يجوزُ أنْ يتعَلَّقَ بمَحذوفٍ صِفةٍ لـ «مِرْصَادًا»، أي: كائنًا للطَّاغِينَ، أو بمحذوفٍ حالٍ مِن مَآَبًا كان صفةً له، فلمَّا تقدَّم عليه صار حالًا منه، أي: كانت مرجِعًا ومأوًى كائنًا لهم، ويجوزُ أن يكونَ مُتعَلِّقًا بنَفْسِ «مِرْصَادًا» أو بنفْسِ «مَآبًا»؛ لأنَّه بمعنى مَرْجِعٍ.
مَآَبًا: خَبَرٌ ثانٍ لـ «كان»، أو بَدَلٌ مِن مِرْصَادًا بَدَلَ كُلٍّ مِن كُلٍّ [159] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1267)، ((تفسير الألوسي)) (15/214). .
2- قَولُه تعالى: جَزَاءً وِفَاقًا
جَزَاءً: مفعولٌ مُطلَقٌ لفِعلٍ مَحذوفٍ، أي: يُجزَونَ بذلك جَزاءً. وِفَاقًا: نَعتٌ له مَنصوبٌ [160] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1267)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/658)، ((تفسير الألوسي)) (15/216). .
3- قَولُه تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا
«كُلَّ» مَنصوبٌ على الاشتِغالِ مَفعولٌ به لفِعلٍ محذوفٍ تقديرُه: أحصَيْنا، يُفَسِّرُه الفِعلُ المذكورُ بَعْدُ، وجُملةُ أَحْصَيْنَاهُ تفسيريَّةٌ لا محَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
كِتَابًا فيه وَجهانِ؛ أحَدُهما: أنَّه مفعولٌ مُطلَقٌ نائِبٌ عن المصدَرِ مِنْ معنى «أَحْصَيْنا»؛ فإنَّ الإحصاءَ والكَتْبَ يتشارَكانِ في معنى الضَّبطِ، فإمَّا أن يُؤَوَّلَ أَحْصَيْنَاهُ بـ «كَتْبَناه» أو كِتَابًا بـ «إحصاءً». الثَّاني: أن يكونَ مَصدرًا مُؤَوَّلًا بُمشتَقٍّ مَنصوبٍ على الحالِ، بمعنى: مَكتوبًا في اللَّوحِ [161] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1267)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/660)، ((تفسير الألوسي)) (15/217). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا جزاءَ الكافِرينَ يومَ القيامةِ: إنَّ جَهَنَّمَ تَرصُدُ أهْلَها وتَرْقُبُهم يومَ القيامةِ، وتكونُ مَصيرًا للَّذين طَغَوا في الدُّنيا ومرجعًا في الآخِرةِ، ويَمكُثونَ فيها دُهورًا طَويلةً لا انقِضاءَ لها، لا يَذوقُونَ فيها بَرْدًا ولا شَرابًا، لكنْ يَذوقونَ ماءً شَديدَ الحرارةِ، وما يَسيلُ مِن صديدِ أهلِ النَّارِ؛ جزاءً مُوافِقًا لأعمالِهم السَّيِّئةِ في الدُّنيا.
ثمَّ يُبيِّنُ سُبحانَه الأسبابَ الَّتي أدَّتْ بهم إلى هذا العذابِ، فيقولُ: إنَّهم كانوا في الدُّنيا لا يُؤمِنونَ بالبَعْثِ والحِسابِ في الآخِرةِ، وكَذَّبوا بآياتِ اللهِ تعالى تكذيبًا، وكُلُّ شَيءٍ مِن أعمالِ العِبادِ أو غَيرِها مَكتوبٌ مَعدودٌ، لا يَخْفى على اللهِ تعالى منه شَيءٌ. ويُقالُ للكُفَّارِ في جَهَنَّمَ: ذُوقوا هذا العَذابَ، فلن نَزيدَكم إلَّا عَذابًا فوقَ ما أنتم فيه!

تفسير الآيات:

إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها شروعٌ في تفصيلِ أحكامِ الفصلِ الَّذي أُضيفَ إليه اليومُ، إثْرَ بيانِ هَولِه [162] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/90). .
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21).
أي: إنَّ جَهَنَّمَ تَرصُدُ أهْلَها وتَرْقُبُهم يومَ القيامةِ، فلا يُجاوِزُها مَن وَجَب عليه دُخولُها، واستَحَقَّ العَذابَ فيها [163] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/20)، ((تفسير القرطبي)) (19/177)، ((تفسير ابن كثير)) (8/305)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/35). قال البِقاعي: (كَانَتْ أي: جِبِلَّةً وخَلْقًا). ((نظم الدرر)) (21/203). وقال الشَّوكاني: (كانت في حُكْمِ اللهِ وقَضائِه). ((تفسير الشوكاني)) (5/442). وممَّن قال في الجُملةِ بأنَّ معنى مِرْصَادًا: أنَّ جَهنَّمَ ذاتُ رَصدٍ، أي: ارتِقابٍ وتطَلُّعٍ، فتَرْقُبُ مَن يَجتازُها وتَرصُدُهم، فلا يُجاوِزُها مَن وَجَب عليه دُخولُها: ابنُ جرير، وهو ظاهِرُ اختيارِ الزَّجَّاج، واختاره الواحدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/20)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/273)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1166). وممَّن ذَهَب إلى أنَّ النَّارَ مُرصَدةٌ، أي: مُعَدَّةٌ ومُهَيَّأةٌ للطَّاغِينَ: ابنُ كثير، والسعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 907)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 30). قال البَغَوي: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا طريقًا ومَمَرًّا، فلا سَبيلَ لأحَدٍ إلى الجنَّةِ حتَّى يَقْطَعَ النَّارَ). ((تفسير البغوي)) (5/200). وقيل: معنى الآيةِ: أنَّ جَهنَّمَ مَوضِعُ رَصدٍ يَرصُدُ فيه خَزَنةُ النَّارِ الكُفَّارَ لِيُعَذِّبوهم فيها. وممَّن ذكَرَ هذا المعنى: البِقاعي، والشوكاني، وذهب إليه ابنُ عاشور. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/203)، ((تفسير الشوكاني)) (5/442)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/35). .
كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 71-72] .
وعن أبي هُرَيرةَ وأبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يُضرَبُ الصِّراطُ بيْنَ ظَهرانَيْ [164] بيْنَ ظَهرانَيْ جَهنَّمَ: أي: بيْنَ طَرَفَيْها. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3554). جَهنَّمَ، فأكونُ أنا وأُمَّتي أوَّلَ مَن يُجِيزُ [165] يُجيزُ: أي: يَمضي عليه ويَقطَعُه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/20). ، ولا يتكَلَّمُ يَومَئذٍ إلَّا الرُّسُلُ، ودَعْوى الرُّسُلِ يَومَئذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سلِّمْ، وفي جَهنَّمَ كَلاليبُ [166] الكَلاليبُ: جَمعُ كَلُّوبٍ، وهو حديدةٌ مَعطوفةُ الرَّأسِ يُعلَّقُ فيها اللَّحمُ، وتُرسَلُ في التَّنُّورِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/21). مِثلُ شَوْكِ السَّعْدانِ [167] السَّعْدان: نَبتٌ له شوكةٌ عَظيمةٌ مِثلُ الحَسَكِ مِن كُلِّ الجوانِبِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/22). ، غَيرَ أنَّه لا يَعلَمُ قَدْرَ عِظَمِها إلَّا اللهُ، تَخطَفُ النَّاسَ بأعمالِهم؛ فمِنهم مَن يُوبَقُ [168] يوبَقُ: أي: يُهلَكُ. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخَطَّابي (1/533)، ((تفسير غريب ما في الصحيحين)) للحميدي (ص: 294). بعَمَلِه، ومِنهم مَن يُخَرْدَلُ [169] يُخردَلُ: أي: يُقطَّعُ ويُصرَعُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/22). ثمَّ يَنْجو)) [170] رواه البخاري (806) واللَّفظُ له، ومسلم (182). .
لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22).
أي: تكونُ جَهنَّمُ للَّذين طَغَوا في الدُّنيا، فجاوَزوا حُدودَ اللهِ تعالى: مَصيرًا ومَرجِعًا في الآخِرةِ [171] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/21)، ((تفسير القرطبي)) (19/177)، ((تفسير ابن كثير)) (8/305)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/204)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/36)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 30). .
لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّن أنَّ جَهنَّمَ مآبٌ للطَّاغِينَ؛ بيَّنَ كَمِّيَّةَ استِقرارِهم هناك، فقال [172] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/15). :
لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23).
أي: يَمكُثونَ في جَهنَّمَ مُدَدًا طَويلةً لا انقِضاءَ لها [173] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 509)، ((تفسير القرطبي)) (19/177-179)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/204، 205)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/37)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 30). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: أنَّهم يَلْبَثونَ فيها أحقابًا مُتتالِيةً لا انقِضاءَ لها، كُلَّما مضى حُقبٌ تَبِعَه حُقبٌ آخَرُ: ابنُ قُتَيْبةَ، والقرطبيُّ، وهو ظاهِرُ اختيار البِقاعي، وذهب إليه ابنُ عاشور، وابنُ عثيمين. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المرادُ: أنَّهم لابِثونَ في النَّارِ أحقابًا لا يَذوقونَ فيها بَرْدًا ولا شَرابًا، أي: يُعَذَّبونَ بهذا النَّوعِ مِنَ العَذابِ أحقابًا، وثَمَّ أحقابٌ أُخَرُ لسائِرِ أنواعِ العَذابِ. وهذا القَولُ مال إليه ابنُ جرير، واختاره الزَّجَّاجُ، واستظهره الشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/26، 27)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/273)، ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 250). ويُنظر أيضًا: ((الرد على من قال بفناء الجنة والنار)) لابن تيمية (ص: 64، 65). قال ابن كثير: (قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ لهلالٍ الهَجَريِّ: ما تَجِدونَ الحُقبَ في كتابِ الله المُنزَّلِ؟ قال: نَجِدُه ثمانين سَنةً، كلُّ سنةٍ اثْنا عشَرَ شهرًا، كلُّ شهرٍ ثلاثون يَومًا، كلُّ يومٍ ألْفُ سَنةٍ. وهكذا رُويَ عن أبي هُرَيرةَ، وعبدِ الله بنِ عَمرٍو، وابنِ عبَّاسٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، وعَمرِو بنِ مَيمونٍ، والحسَنِ، وقَتادةَ، والرَّبيعِ بنِ أنسٍ، والضَّحَّاكِ. وعن الحسَنِ والسُّدِّيِّ أيضًا: سبعون سَنةً كذلك. وعن عبدِ الله بنِ عَمرٍو: الحقبُ أربعونَ سَنةً، كلُّ يومٍ منها كألْفِ سَنةٍ ممَّا تَعُدُّونَ. رواهما ابنُ أبي حاتمٍ). ((تفسير ابن كثير)) (8/305). قال الرَّاغبُ الأصفهانيُّ: (أَحْقَابًا قيل: جمعُ الحُقُبِ، أي: الدَّهرِ، قيل: والحِقْبةُ ثمانونَ عامًا، وجَمْعُها حِقَبٌ، والصَّحيحُ أنَّ الحِقْبةَ مُدَّةٌ مِنَ الزَّمانِ مُبهَمةٌ). ((المفردات)) (ص: 248). .
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24).
أي: لا يَذوقُ الطَّاغُونَ في جَهَنَّمَ بَرْدًا يُبَرِّدُ أبدانَهم، ويَكسِرُ شِدَّةَ الحَرِّ، ولا شَرابًا يُبَرِّدُ بَواطِنَهم أو يُزيلُ عَطَشَهم [174] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/27)، ((تفسير أبي حيان)) (10/387)، ((تفسير ابن كثير)) (8/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 907)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/37)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 30). وممَّن اختار -في الجملةِ- المعنى المذكورَ لقولِه: بَرْدًا: ابنُ جرير، والنَّحَّاسُ، والرازي، وابن جُزَي، وأبو حيَّان، والعُلَيمي، والشوكاني، والسعدي، ونسَبَه ابنُ عطيَّةَ للجمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/27)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (5/83)، ((تفسير الرازي)) (31/16)، ((تفسير ابن جزي)) (2/446)، ((تفسير أبي حيان)) (10/387)، ((تفسير العليمي)) (7/263)، ((تفسير الشوكاني)) (5/442)، ((تفسير السعدي)) (ص: 907)، ((تفسير ابن عطية)) (5/427). قال أبو حيَّان: (الظَّاهِرُ -وهو قَولُ الجُمهورِ- أنَّ البَرْدَ هو مَسُّ الهواءِ القَرِّ، أي: لا يَمَسُّهم منه ما يُستَلَذُّ ويَكسِرُ شِدَّةَ الحَرِّ). ((تفسير أبي حيان)) (10/387). وقيل: بَرْدًا أي: نَومًا. وممَّن اختاره: أبو عُبَيْدةَ، وابنُ قُتَيْبةَ، والسِّجِسْتانيُّ، والرَّاغبُ. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/282)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 509)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 127)، ((المفردات)) للراغب (ص: 117). ونُسِب هذا القولُ إلى ثعلبٍ، والأخفَشِ، والكِسائيِّ، والفرَّاءِ، وقُطْرُبٍ، والفضلِ بنِ خالدٍ، ومُعاذٍ النَّحْويِّ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/139)، ((تفسير ابن عطية)) (5/426)، ((تفسير الرازي)) (31/16). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهدٌ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/187)، ((البسيط)) للواحدي (23/131). قال الفرَّاء: (إنَّ النَّومَ لَيُبْرِدُ صاحِبَه، وإنَّ العَطْشانَ لَيَنامُ فيبردُ بالنَّومِ). ((معاني القرآن)) (3/228). وقال ابن جرير: (ليس هو باسمِه المعروفِ، وتأويلُ كتابِ اللهِ على الأغلبِ مِن معروفِ كلامِ العربِ، دونَ غيرِه). ((تفسير ابن جرير)) (24/27). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/16). وقال ابن عاشور: (حَمْلُ الآيةِ عليه تَكَلُّفٌ لا داعِيَ إليه، وعَطْفُ وَلَا شَرَابًا يُناكِدُه). ((تفسير ابن عاشور)) (30/37). وقال الزجاج: (وجائزٌ أن يكونَ لا يَذوقونَ فيها بَرْدَ رِيحٍ ولا ظِلٍّ ولا نَوْمٍ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/273). .
إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25).
أي: لَكِنْ يَذوقونَ في جَهنَّمَ ماءً شَديدَ الحرارةِ، وما يَسيلُ مِن أهلِ النَّارِ مِن صَديدٍ وغَيرِه، وهو معَ نتنِ رائحتِه شديدُ البرودةِ [175] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/27، 28، 31، 32)، ((تفسير القرطبي)) (19/180، 181)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/216)، ((تفسير ابن كثير)) (8/307)، ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 151)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/205، 206)، ((تفسير السعدي)) (ص: 907)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/37، 38)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 30، 31). قال ابن كثير: (والغَسَّاقُ: هو ما اجْتَمَع مِن صديدِ أهلِ النَّارِ وعَرَقِهم ودُموعِهم وجُروحِهم، فهو بارِدٌ لا يُسْتَطاعُ مِن بَرْدِه، ولا يُواجَهُ مَن نَتَنِه). ((تفسير ابن كثير)) (8/307). ويُنظر ما تقدَّم في تفسير الآية (57) من سورة (ص). .
كما قال تعالى: ... فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج: 19-20] .
وقال سُبحانَه: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد: 15] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ [الواقعة: 41 - 44] .
جَزَاءً وِفَاقًا (26).
أي: ذلك العِقابُ للطَّاغِينَ مُوافِقٌ لأعمالِهم السَّيِّئةِ في الدُّنيا، فلم يَظْلِمْهم اللهُ تعالى، وإنَّما ظَلَموا أنفُسَهم [176] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/32)، ((تفسير القرطبي)) (19/181)، ((تفسير ابن كثير)) (8/307)، ((تفسير السعدي)) (ص: 907)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/38)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 31). .
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّن على الإجمالِ أنَّ ذلك الجزاءَ كان على وَفْقِ جُرْمِهم؛ شَرَح أنواعَ جَرائِمِهم [177] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/18). .
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27).
أي: إنَّهم كانوا في الدُّنيا لا يُؤمِنونَ بالبَعْثِ، ولا بأنَّهم يُحاسَبونَ ويُجازَوْنَ على أعمالِهم في الآخِرةِ [178] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/415)، ((تفسير القرطبي)) (19/181)، ((تفسير ابن كثير)) (8/307)، ((تفسير السعدي)) (ص: 907). قال ابن جُزَي: (قيل: معنى يَرْجُونَ هنا: يَخافونَ، وقيل: ... الرَّجاءُ على أصلِه. وقيل: لَا يَرْجُونَ: لا يَتوَقَّعونَ أصلًا، ولا يَخطرُ ببالِهم). ((تفسير ابن جزي)) (1/353) و(2/446). ممَّن اختار أنَّ معنى لَا يَرْجُونَ هنا أي: لا يَخافونَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ قُتَيْبةَ، وابنُ جرير، وابن أبي زَمَنِين، والواحديُّ، والسمعاني، والرَّسْعَني، والقرطبي، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/563)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 510)، ((تفسير ابن جرير)) (24/34)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/84)، ((الوسيط)) للواحدي (4/415)، ((تفسير السمعاني)) (6/140)، ((تفسير الرسعني)) (8/453)، ((تفسير القرطبي)) (19/181)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 787)، ((تفسير العليمي (7/264). قال الواحديُّ: (لا يَخافونَ أن يُحاسَبوا. قاله مقاتلٌ، والمفسِّرونَ). ((البسيط)) (23/134). ونسَبَه ابنُ الجوزيِّ للجمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/390). وقال النَّحَّاسُ: (قيل: يَرْجُونَ بمعنى: يَخافونَ؛ لأنَّ مَن رجا شيئًا يَلحَقُه خَوفٌ مِن فَواتِه، فغلَّب إحدى الخِيفتَينِ). ((إعراب القرآن)) (5/84). قال الواحدي: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا: لا يَخافونَ أن يُحاسَبوا، والمعنى: كانوا لا يؤمِنونَ بالبعثِ، ولا بأنَّهم يُحاسَبونَ). ((الوسيط)) (4/415). وممَّن اختار أنَّ الرَّجاءَ على أصلِه: الزَّجَّاجُ، والشَّوكانيُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/274)، ((تفسير الشوكاني)) (5/443)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 31). قال الزَّجَّاجُ: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا أي: لا يؤمِنونَ بالبعثِ، ولا بأنَّهم يُحاسَبونَ، ويَرجونَ ثوابَ حِسابٍ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/274). وقال السعدي: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا أي: لا يؤمِنونَ بالبعثِ، ولا أنَّ اللهَ يُجازي الخَلْقَ بالخَيرِ والشَّرِّ؛ فلذلك أهمَلوا العملَ للآخرةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 907). وقال ابن كثير: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا أي: لم يَكونوا يَعتَقِدونَ أنَّ ثَمَّ دارًا يُجازَوْنَ فيها ويُحاسَبونَ). ((تفسير ابن كثير)) (8/307). .
وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا هو النَّوعُ الثَّاني مِن قبائِحِ أفعالِ الكُفَّارِ [179] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/18). .
وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28).
أي: وكانوا يُكَذِّبونَ بآياتِ اللهِ تعالى تكذيبًا شَديدًا مع وُضوحِها ودَلالتِها على الحَقِّ [180] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/35)، ((تفسير القرطبي)) (19/181)، ((تفسير ابن كثير)) (8/307)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/207)، ((تفسير السعدي)) (ص: 907)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/40). .
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّن أنَّ فَسادَ حالِ الكُفَّارِ في القُوَّةِ العمَليَّةِ وفي القوَّةِ النَّظَريَّةِ بلَغ إلى أقصى الغاياتِ، وأعظَمِ النِّهاياتِ- بيَّن أنَّ تفاصيلَ تلك الأحوالِ في كَمِّيَّتِها وكيفيَّتِها معلومةٌ له، وقَدْرَ ما يُستحَقُّ عليه مِن العِقابِ مَعلومٌ له [181] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/19). .
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29).
أي: وكُلُّ شَيءٍ مِن أعمالِ العِبادِ أو غَيرِها مكتوبٌ مَعدودٌ مَضبوطٌ، لا يَخْفى على اللهِ تعالى منه شَيءٌ [182] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/36)، ((تفسير القرطبي)) (19/182)، ((تفسير ابن كثير)) (8/307)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/208)، ((تفسير السعدي)) (ص: 907)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 32). قال القرطبي: (قيل: أي: كَتَبْناه في اللَّوحِ المحفوظِ لتَعرِفَه الملائكةُ. وقيل: أراد ما كُتِبَ على العِبادِ مِن أعمالِهم، فهذه كتابةٌ صَدَرَت عن الملائكةِ الموكَّلِينَ بالعبادِ بأمْرِ اللهِ تعالى إيَّاهم بالكِتابةِ). ((تفسير القرطبي)) (19/182). .
كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .
وقال سُبحانَه: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: 52-53].
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا شرح أحوالَ العِقابِ أوَّلًا، ثمَّ ذكر كَونَه جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ: 26] ، ثمَّ بيَّن تفاصيلَ أفعالِهم القبيحةِ، وظَهَر صِحَّةُ ما ذكره أوَّلًا مِن أنَّ ذلك العِقابَ كان جزاءً وِفاقًا- لا جَرَمَ أعاد ذِكرَ العِقابِ [183] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/20). .
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30).
أي: يُقالُ للكُفَّارِ في جَهَنَّمَ تَوبيخًا وتَقريعًا لهم: فذُوقوا هذا العَذابَ، وسنَزيدُكم عذابًا فوقَ ما أنتم فيه [184] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/36)، ((تفسير ابن كثير)) (8/307)، ((تفسير السعدي)) (ص: 907)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/42)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 33). قال ابنُ عاشور: (الزِّيادةُ المنفيَّةُ في قَولِه: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا يجوزُ أن تكونَ زيادةَ نوعٍ آخَرَ مِن عذابٍ يكونُ حاصِلًا لهم، كما في قَولِه تعالى: زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ [النحل: 88] . ويجوزُ أن تكونَ زيادةً مِن نوعِ ما هم فيه مِن العذابِ، بتكريرِه في المستقبَلِ. والمعنى: فسَنَزيدُكم عذابًا زيادةً مُستَمِرَّةً في أزمِنةِ المُستقبَلِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/42). !
كما قال الله تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء: 56] .
وقال سُبحانَه: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل: 88] .
وقال عزَّ وجَلَّ: مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء: 97] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا يدُلُّ على أنَّ جَهنَّمَ كانت مخلوقةً، لِقَولِه تعالى: مِرْصَادًا أي: مُعَدَّةً -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وإذا كان كذلك كانت الجنَّةُ أيضًا كذلك؛ لأنَّه لا قائِلَ بالفَرْقِ [185] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/15). .
2- قال تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآَبًا إنَّ الشِّركَ أقصى الطُّغيانِ؛ إذ المشرِكون باللهِ مُعرِضونَ عن عبادتِه، ومتكَبِّرون على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حيث أَنِفوا من قَبولِ دعوتِه، وهم المقصودُ مِن معظَمِ ما في هذه السُّورةِ، كما يصَرِّحُ به قولُه تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا [النبأ: 27-28] . هذا، وإنَّ المُسلِمينَ المُستخِفِّينَ بحقوقِ اللهِ، أو المعتدينَ على النَّاسِ بغيرِ حقٍّ، واحتقارًا لا لمجرَّدِ غلَبةِ الشَّهوةِ - لهم حظٌّ مِن هذا الوعيدِ بمِقدارِ اقترابِهم مِن حالِ أهلِ الكفرِ [186] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/36). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا وَجهُ الجَمْعِ بيْنَ الأحقابِ المذكورةِ هنا مع الدَّوامِ الأَبَديِّ الَّذي في آياتٍ دالَّةٍ عليه؛ مِن أَوْجُهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ قَولَه: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا متعَلِّقٌ بما بَعْدَه، أي: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا في حالِ كَونِهم لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا، فإذا انقَضَت تلك الأحقابُ عُذِّبوا بأنواعٍ أُخَرَ مِن أنواعِ العَذابِ غَيرِ الحَميمِ والغَسَّاقِ. ويدُلُّ لهذا تصريحُه تعالى بأنَّهم يُعَذَّبونَ بأنواعٍ أُخَرَ مِن أنواعِ العَذابِ غيرِ الحَميمِ والغَسَّاقِ، في قَولِه تعالى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ص: 57-58] .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ هذه الأحقابَ لا تَنْقَضي أبَدًا.
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّا لو سَلَّمْنا دَلالةَ قَولِه: أَحْقَابًا على التَّناهي والانقِضاءِ فإنَّ ذلك إنَّما فُهِمَ مِن مفهومِ الظَّرفِ، والتَّأبيدُ مُصَرَّحٌ به منطوقًا، والمنطوقُ مُقَدَّمٌ على المفهومِ، كما تقَرَّرَ في الأُصولِ [187] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 250، 251). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 72). .
4- في قَولِه تعالى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا أنَّه لَمَّا نُفِيَ ذَوقُ البَرْدِ والشَّرابِ فرُبَّما تُوُهِّمَ أنَّهم لا يَذُوقونَ غَيرَهما، فقال: إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا [188] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/70). .
5- في قَولِه تعالى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا أنَّ الذَّوقَ لا يَختَصُّ بالفَمِ، وإنَّما هو في لُغةِ العَرَبِ: وُجودُ طَعمِ الشَّيءِ. والاستِعمالُ يدُلُّ على ذلك؛ قال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ [السجدة: 21] ، وقال تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] ، وقال تعالى: فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا [الطلاق: 9] [189] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 91). ؛ فلَفْظُ «الذَّوقِ» يُستَعمَلُ في كلِّ ما يُحسُّ به ويَجِدُ أَلَمَه أو لَذَّتَه [190] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/110). .
6- في قَولِه تعالى: جَزَاءً وِفَاقًا أنَّ تفاوُتَ أهلِ النَّارِ في العَذابِ هو بحَسَبِ تَفاوُتِ أعمالِهم الَّتي دَخَلوا بها النَّارَ [191] يُنظر: ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 181). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا فيه سُؤالٌ: أنَّ الكُفَّارَ كانوا قد أتَوا بأنواعٍ مِنَ القبائِحِ والكبائِرِ، فما السَّبَبُ في أنْ خَصَّ اللهُ تعالى هذا النَّوعَ مِن الكُفرِ بالذِّكرِ في أوَّلِ الأمرِ؟
الجوابُ: لأنَّ رَغبةَ الإنسانِ في فِعْلِ الخَيراتِ وفي تَرْكِ المحظوراتِ إنَّما تكونُ بسَبَبِ أن ينتَفِعَ به في الآخِرةِ، فمَن أنكَرَ الآخِرةَ لم يُقْدِمْ على شَيءٍ مِنَ المُستحسَناتِ، ولم يُحجِمْ عن شَيءٍ مِنَ المُنكَراتِ؛ فقَولُه تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا تنبيهٌ على أنَّهم فَعَلوا كُلَّ شَرٍّ، وتَرَكوا كُلَّ خَيرٍ [192] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/18). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا يدُلُّ على كَونِه تعالى عالِمًا بالجُزْئيَّاتِ [193] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/20). .
9- في قَولِه تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ذِكْرُ كِتابِ اللهِ الكَونيِّ، ويُقابِلُه الكِتابُ الشَّرعيُّ، كقَولِه تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [194] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/206). [البقرة: 183] .
10- في قَولِه تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ردٌّ على المُعتَزِلةِ والقَدَرِيَّةِ الَّذين يُنكِرون الكتابَ السَّابقَ؛ لأنَّه مَجمَعُ الأشياءِ، فدَخَلَ فيه الخيرُ والشَّرُّ، والإيمانُ والكفرُ، وصارتْ الكتابةُ متقدِّمةً على الأفعالِ، فخَرَجَتِ الأفعالُ عليها، ولم يُمكنِ المَحيصُ عنها [195] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/476). .
11- قَولُ اللهِ تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا فيه سؤالٌ: أليس أنَّه تعالى قال في صفةِ الكُفَّارِ: وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران: 77] ، فهنا لَمَّا قال لهم: فَذُوقُوا فقد كَلَّمهم؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ تقديرَ الآيةِ: فيُقالُ لهم: فَذُوقُوا.
الوَجهُ الثَّاني: أن يقالَ: إنَّ قَولَه: وَلَا يُكَلِّمُهُمُ، أي: ولا يكَلِّمُهم بالكلامِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ؛ فإنَّ تخصيصَ العُمومِ غيرُ بعيدٍ، لا سيَّما عندَ حُصولِ القرينةِ؛ فإنَّ قَولَه: وَلَا يُكَلِّمُهُمُ إنَّما ذكَرَه لبيانِ أنَّه تعالى لا ينفَعُهم، ولا يُقيمُ لهم وزنًا، وذلك لا يحصُلُ إلَّا مِن الكلامِ الطَّيِّبِ [196] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/20). .
وأيضًا فيومُ القيامةِ يومٌ طويلٌ، فيُكلِّمُهم الله تعالى في وقتٍ، ولا يُكلِّمُهم في آخَرَ.
12- قَولُ اللهِ تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا هذه الآيةُ أشَدُّ الآياتِ في شِدَّةِ عَذابِ أهلِ النَّارِ. أجارنا اللهُ تعالى منها [197] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 906). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآَبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للشُّروعِ في وصْفِ أهوالِ جهنَّمَ بعدَ أنْ فُرِغَ مِن وَصْفِ الأهوالِ العامَّةِ ليومِ القِيامةِ [198] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/90)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/356). .
- ويَجوزُ أنْ تكونَ جملةُ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا في موضعِ خبرٍ ثانٍ لـ (إنَّ) مِن قولِه: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا [النَّبأ: 17]، والتَّقديرُ: إنَّ يومَ الفصلِ إنَّ جهنَّمَ كانتْ مِرصادًا فيه للطَّاغينَ، والعائدُ مَحذوفٌ دَلَّ عليه قولُه: مِرْصَادًا، أي: مِرصادًا فيه، أي: في ذلك اليومِ؛ لأنَّ معنى المِرصادِ مُقترِبٌ مِن معنى المِيقاتِ؛ إذ كِلاهما مُحدَّدٌ لجزاءِ الطَّاغينَ. ودُخولُ حرْفِ (إنَّ) في خبرِ (إنَّ) يُفيدُ تَأكيدًا على التَّأكيدِ الَّذي أفادَه حرفُ التَّأكيدِ الدَّاخلُ على قولِه: يَوْمَ الْفَصْلِ، وتكون الجُملةُ مِن تَمامِ ما خُوطِبوا به بقولِه: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [النَّبأ: 18]. والتَّعبيرُ بالطَّاغِينَ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ للتَّسجيلِ عليهم بوصْفِ الطُّغيانِ، والإيماءِ إلى سَببِ جعْلِ جهنَّمَ لهم؛ لأنَّ مُقتضى الظَّاهرِ أنْ يقولَ: (لكم مآبًا).
ويجوزُ أنْ تكونَ جُملةُ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا مُستأنَفةً استِئنافًا بَيانيًّا عن جُملةِ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا [النَّبأ: 17] وما لَحِقَ بها؛ لأنَّ ذلك ممَّا يُثيرُ في نفوسِ السَّامعينَ تَطلُّبَ ماذا سيَكونُ بعدَ تلك الأهوالِ، فأُجيبَ بمَضمونِ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا الآيةَ؛ وعليه فليس في قولِه: لِلطَّاغِينَ تَخريجٌ على خِلافِ مُقتضى الظَّاهرِ [199] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/34، 35). .
- وابتُدِئ بذِكرِ جهنَّمَ؛ لأنَّ المَقامَ مَقامُ تهديدٍ [200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/34). .
- وقال تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا دونَ أنْ يُقالَ: إنَّ جهنَّمَ مِرصادٌ؛ للدَّلالةِ على أنَّ جَعْلَها مِرصادًا أمرٌ مُقدَّرٌ لها [201] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/35، 36). .
- ويَجوزُ أنْ يكونَ مِرْصَادًا مَصدرًا على وزْنِ المِفعالِ، أي: رَصدًا. والإخبارُ عن جهنَّمَ بأنَّها كَانَتْ مِرْصَادًا للمُبالغةِ، حتَّى كأنَّها أصلُ الرَّصدِ، أي: لا تُفْلِتُ أحدًا ممَّنْ حَقَّ عليهم دُخولُها. ويجوزُ أنْ يكونَ مِرصادٌ زِنَةَ مُبالَغةٍ للرَّاصِدِ الشَّديدِ الرَّصْدِ، مِثلَ صِفةِ (مِغيارٍ، ومِعطارٍ)، وُصِفَتْ به جهنَّمُ، ولم تَلحَقْه (ها) التَّأنيثُ؛ لأنَّ جَهنَّمَ شُبِّهتْ بالواحدِ مِن الرَّصَدِ -بتَحريكِ الصَّادِ-، وهو الواحدُ مِن الحرسِ الَّذي يقفُ بالمَرْصَدِ؛ إذ لا يكونُ الحارسُ إلَّا رجُلًا [202] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/35). .
- قولُه: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ قولُه: لِلطَّاغِينَ مُتعلِّقٌ بـ مِرْصَادًا، ومُتعلَّقُ مَآَبًا مُقدَّرٌ دلَّ عليه لِلطَّاغِينَ، فيكونُ كالتَّضمينِ في الشِّعرِ؛ إذ كانت بَقيَّةً لِما في القَرينةِ الأُولى في القَرينةِ المُواليةِ، فتَكونُ القرينةُ طويلةً. أو مُتعلَّقُ مِرْصَادًا مَحذوفٌ دَلَّ عليه قولُه: لِلطَّاغِينَ مَآَبًا، والتَّقديرُ: مِرصادًا للطَّاغينَ، وقولُه: لِلطَّاغِينَ مُتعلِّقٌ بقولِه: مَآَبًا؛ قُدِّم عليه لإدخالِ الرَّوْعِ على المُشرِكينَ الَّذين بشِركِهم طَغَوْا على اللهِ. وهذا أحسَنُ؛ لأنَّ قرائنَ السُّورةِ قِصارٌ، فيَحسُنُ الوقفُ عندَ مِرْصَادًا؛ لتكونَ قرينةً [203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/35). والقرينةُ: هي القطعةُ مِن الكلامِ تُجعَلُ مُزاوِجةً للأخرى، وهي أخصُّ مِن الفقرةِ، والقرينتانِ في النَّثرِ بمنزلةِ البيتِ مِن الشِّعرِ. يُنظر: ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (2/671). .
- والتَّعريفُ في لِلطَّاغِينَ للعَهدِ؛ فالمرادُ به المُشرِكونَ المخاطَبونَ بقولِه: فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [204] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/36). [النَّبأ: 18].
- وكلمةُ أَحْقَابًا جمعٌ مرادٌ به الطُّولُ العظيمُ والكثرةُ؛ لأنَّ أكثرَ استِعمالِ الحُقُبِ والأحقابِ أنْ يكونَ في حيثُ يُرادُ تَوالي الأزمانِ، ويُبيِّنُ هذا الآياتُ الأُخرى الدَّالَّةُ على خُلودِ المُشرِكينَ، فجاءتْ هذه الآيةُ على المعروفِ الشَّائعِ في الكلامِ؛ كِنايةً به عن الدَّوامِ دونَ انتهاءٍ [205] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/688)، ((تفسير البيضاوي)) (5/280)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/251)، ((تفسير أبي حيان)) (10/386، 387)، ((تفسير أبي السعود)) (9/91)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/37). .
2- قولُه تعالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا
- استِثناءُ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا مِن بَرْدًا أو شَرَابًا على طريقةِ اللَّفِّ والنَّشرِ المُرَتَّبِ [206] اللَّفُّ والنَّشْرُ: هو ذِكرُ شيئَينِ أو أشياءَ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ-، أو إجمالًا -بأن يُؤتَى بلَفظٍ يَشتمِلُ على مُتعدِّدٍ- ثمَّ تُذكَرُ أشياءُ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضُ إلى عقلِ السَّامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتَى به أوَّلًا، والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الَّذي يَتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ. مِثلُ قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنَّةَ إلَّا النَّصارى. وهذا لَفٌّ ونَشْرٌ إجماليٌّ. واللَّفُّ المُفصَّلُ يأتي النَّشرُ اللَّاحقُ له على وجهَينِ؛ الوجهُ الأوَّلُ: أنْ يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِّ، ويُسَمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ المُرَتَّبَ». الوجهُ الثَّاني: أنْ يأتيَ النَّشرُ على غيرِ تَرتيبِ اللَّفِّ، ويُسمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ غيرَ المُرتَّبِ»، وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّفِّ والنَّشرِ المُشَوَّشِ»، أو «المعكوس». يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/403). ، وهو استثناءٌ مُنقطِعٌ؛ لأنَّ الحميمَ ليس مِن جنسِ البَرْدِ في شيءٍ؛ إذ هو شديدُ الحرِّ، ولأنَّ الغسَّاقَ ليس مِن جنسِ الشرابِ، والمعنى: يَذوقونَ الحميمَ إذ يُراقُ على أجسادِهم، والغسَّاقَ إذ يَسيلُ على مَواضعِ الحَرقِ فيَزيدُ ألَمَهم، وصُورةُ الاستثناءِ هنا مِن تَأكيدِ الشَّيءِ بما يُشبِهُ ضِدَّه في الصُّورةِ [207] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/689)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/38). .
- وقولُه: جَزَاءً مَنْصوبٌ على الحالِ مِن ضَميرِ يَذُوقُونَ، أي: حالةَ كَونِ ذلك جَزاءً، مُجازًى به، فالحالُ هنا مصدرٌ مُؤوَّلٌ بمعنى الوصفِ، وهو أبلَغُ مِن الوصفِ [208] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/38). .
- قولُه: وِفَاقًا الوِفاقُ: مَصدرُ وافَقَ، وهو مُؤوَّلٌ بالوصفِ، أي: مُوافقًا للعملِ الَّذي جُوزوا عليه، وهو التَّكذيبُ بالبعثِ وتكذيبُ القُرآنِ، كما دلَّ عليه التَّعليلُ بعدَه بقولِه: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا [النَّبأ: 27-28]؛ فإنَّ ذلك أصلُ إصرارِهم على الكفرِ، وهما أصلانِ: أحدُهما عدَميٌّ، وهو إنكارُ البعثِ، والآخَرُ وُجوديٌّ، وهو نِسبتُهم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والقرآنَ للكَذِبِ، فعُوقِبوا على الأصلِ العدَميِّ بعِقابٍ عدَميٍّ، وهو حِرمانُهم مِن البَرْدِ والشَّرابِ، وعلى الأصلِ الوُجوديِّ بجزاءٍ وُجوديٍّ، وهو الحميمُ يُراقُ على أجسادِهم، والغَسَّاقُ يمُرُّ على جِراحِهم [209] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/38). ، أو قولُه: وِفَاقًا على حذْفِ مُضافٍ، أي: ذا وِفاقٍ لأعمالِهم، أو نفْسُ الوِفاقِ مُبالَغة [210] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/689)، ((تفسير البيضاوي)) (5/280)، ((تفسير أبي حيان)) (10/388)، ((تفسير أبي السعود)) (9/91). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال في وَصْفِ عَذابِ أهلِ النارِ: إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا، وقال في وَصْفِ نَعيمِ أهلِ الجنَّةِ: وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا [النبأ: 34-36] ، فوَصَفَ الجَزاءَ الأوَّلَ منهما بالوِفاقِ، ووَصَفَ الثَّانيَ بأنَّه حِسابٌ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ اللهَ تعالَى قال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام: 160] ، وقال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا [النمل: 89] ، وقال: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام: 160] ، فلمَّا كانت الحَسَنةُ بأضْعافِها، والسَّيِّئةُ بمِثلِها، استُعمِلَ في جَزاءِ السَّيِّئةِ أنَّه وِفاقٌ لها، غيرُ زائدٍ عليها، ولا قاصرٌ عنها، ولَمَّا كانت الحَسَنةُ بأضعافِها، استُعمِلَ في جَزائِها أنَّه عَطاءٌ يَكفي مُعطاه، ويَبلُغُ مِن مَطلوبِه مُنتهاهُ، فقال: عَطاءً بحَسبِه، أي: يَكْفيهِ ممَّا يُريدُ ويَشتهِيه، ويُغْنِيه عن طَلَبِ زِيادةٍ إليه، وإذا كان كذلك لم يَصلُحْ لكلِّ مكانٍ إلَّا ما استُعمِلَ فيه [211] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1329)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 245)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/500)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/498)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 596). .
أو أنَّ وجهَ ذلك: أنَّ الأوَّلَ للكُفَّارِ، فناسَبَ ذِكرُ وِفَاقًا، أي: جَزاءً مُوافقًا لأعمالِهم، والثَّانيَ للمؤمِنينَ، فناسَبَ ذِكرُ حِسَابًا، أي: كافيًا وافيًا لأعمالِهم، مِن قولِك: حَسْبي، أي: كَفاني [212] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 596). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا بَيانٌ لِما وافَقَه ذلك الجزاءُ؛ لَمَّا أنْكَروا البعثَ، وجَحَدوا الآياتِ، وكذَّبوا الرُّسلَ، عُذِّبوا بأشدِّ العذابِ، ولم يُنفَّسْ عنهم الكرْبُ؛ لأنَّ كُفْرَهم أعظَمُ كُفْرٍ [213] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/280)، ((حاشية الشهاب على البيضاوي)) (8/307). .
- ومَوقعُ هذه الجُملةِ مَوقعُ التَّعليلِ لجملةِ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا إلى قولِه عزَّ وجلَّ: جَزَاءً وِفَاقًا [النَّبأ: 21- 26]، فهي تعليلٌ لاستحقاقِهم الجزاءَ المذكورَ، ولذلك فُصِلَتْ، وهي مُعترِضةٌ بيْن ما قبْلَها وبيْن جُملةِ فَذُوقُوا [214] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/91)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/39)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/357). [النبأ: 30] .
- وحرفُ (إنَّ) للاهتِمامِ بالخَبرِ، وليستْ لردِّ الإنكارِ؛ إذ لا يُنكِرُ أحدٌ أنَّهم لا يَرْجونَ حِسابًا، وأنَّهم مُكذِّبونَ بالقُرآنِ، وشأنُ (إنَّ) إذا قُصِد بها مجرَّدُ الاهتمامِ أنْ تكونَ قائمةً مَقامَ فاءِ التَّفريعِ، مفيدةً للتَّعليلِ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/39). .
- وفِعلُ كَانُوا دالٌّ على أنَّ انتفاءَ رَجائِهم الحسابَ وصْفٌ متمكِّنٌ مِن نُفوسِهم، وهم كائِنونَ عليه، وليس المرادُ بفعلِ كَانُوا أنَّهم كانوا كذلك فانْقضى؛ لأنَّ هذه الجملةَ إخبارٌ عنهم في حينِ نزولِ الآيةِ وهم في الدُّنيا، وليستْ ممَّا يُقالُ لهم أو عنهم يومَ القيامةِ [216] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/39، 40). .
- قولُه: لَا يَرْجُونَ حِسَابًا الرَّجاءُ اشتهَرَ في ترقُّبِ الأمرِ المحبوبِ، والحِسابُ ليس خيرًا لهم حتَّى يُجعَلَ نفْيُ ترقُّبِه مِن قَبيلِ نفْيِ الرَّجاءِ، فكان الظَّاهرُ أنْ يُعبَّرَ عن تَرقُّبِه بمادَّةِ التَّوقُّعِ الَّذي هو تَرقُّبُ الأمرِ المكروهِ، فيَظهَرُ أنَّ وجْهَ العدولِ عن التَّعبيرِ بمادَّةِ التَّوقُّعِ إلى التَّعبيرِ بمادَّةِ الرَّجاءِ: أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أَخبَرَ عن جَزاءِ الطَّاغينَ وعَذابِهم، تَلقَّى المُسلِمونَ ذلك بالمَسَرَّةِ، وعَلِموا أنَّهم ناجونَ ممَّا سيَلْقاهُ الطَّاغونَ، فكانوا مُترقِّبينَ يومَ الحِسابِ تَرقُّبَ رَجاءٍ، فنفْيُ رَجاءِ يومِ الحسابِ عن المُشرِكينَ جامعٌ بصَريحِه معْنى عدَمِ إيمانِهم بوُقوعِه، وبكِنايتِه رَجاءَ المؤمِنينَ وُقوعَه بطَريقةِ الكِنايةِ التَّعريضيَّةِ تَعريضًا بالمُسلِمينَ، وهي أيضًا تلويحيَّةٌ؛ لِما في لازِمِ مَدلولِ الكلامِ مِن الخَفاءِ [217] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/39). .
وقيل: الرَّجاءُ هاهنا بمعنى التَّوَقُّعِ؛ لأنَّ الرَّاجيَ للشَّيءِ مُتوَقِّعٌ له، إلَّا أنَّ أشرَفَ أقسامِ التَّوَقُّعِ هو الرَّجاءُ؛ فسُمِّيَ الجِنسُ باسم أشرَفِ أنواعِه. وقيل: معنى قَولِه لَا يَرْجُونَ: لا يَخافُونَ. وقيل: إنَّ المؤمِنَ لا بُدَّ أن يَرجُوَ رَحمةَ اللهِ؛ لأنَّه قاطِعٌ بأنَّ ثوابَ إيمانِه زائِدٌ على عِقابِ جميعِ المعاصي سِوى الكُفْرِ، فقَولُه: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا إشارةٌ إلى أنَّهم ما كانوا مُؤمِنينَ [218] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/18). .
وقيل: عبِّر عن تكذيبِهم بنَفْيِ الرَّجاءِ؛ لأنَّه أبلَغُ؛ وذلك لأنَّ الإنسانَ يَطمَعُ في الخَيرِ بأدْنى احتِمالٍ [219] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/207). .
- وجِيءَ بفِعلِ يَرْجُونَ مُضارِعًا؛ للدَّلالةِ على استِمرارِ انتفاءِ ما عُبِّر عنه بالرَّجاءِ؛ وذلك لأنَّهم كلَّما أُعيدَ لهم ذِكرُ يومِ الحسابِ جدَّدوا إنكارَه، وكرَّروا شُبُهاتِهم على نفْيِ إمكانِه؛ لأنَّهم قالوا: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [220] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/40). [الجاثية: 32] .
- قولُه: وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا عطفٌ على لَا يَرْجُونَ ...؛ وجيءَ في جانبِ التَّكذيبِ بالفعلِ الماضي؛ لكونِ تكذيبِهم بآياتِ القُرآنِ وما اشتمَلتْ عليه مِن إثباتِ الوَحدانيَّةِ، ورسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد استقَرَّ في نُفوسِهم ولم يَتردَّدوا فيه، حيثُ قالوا: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [221] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/40). [فصلت: 5] .
- ومعنَى كِذَّابًا، أي: تَكذيبًا هو في غايةِ المُبالَغةِ؛ وأُقيمَ كِذَّابًا مُقامَ التَّكذيبِ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم كذَبوا في تَكذيبِهم، أو المُكاذَبةِ؛ فإنَّهم كانوا عِندَ المُسلِمينَ كاذِبينَ، وكان المُسلِمونَ كاذِبينَ عندَهم، فكان بيْنَهم مُكاذَبةٌ، أو كانوا مُبالِغينَ في الكذبِ مُبالَغةَ المغالبينَ فيه، وعلى المعنيَينِ يجوزُ أنْ يكونَ حالًا بمعنى كاذِبينَ أو مكاذِبينَ، ويجوزُ أنْ يكونَ للمُبالَغةِ، فيكونَ صفةً للمصدرِ، أي: تَكذيبًا مُفرِطًا كَذِبُه [222] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/689، 690)، ((تفسير البيضاوي)) (5/280)، ((تفسير أبي حيان)) (10/388، 389)، ((تفسير أبي السعود)) (9/91)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/207). . أو يكونَ مفعولًا مطلَقًا مؤكِّدًا لعاملِه؛ لإفادةِ شِدَّةِ تَكذيبِهم بالآياتِ [223] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/41). .
- وأيضًا أُوثِرَ هذا المصدرُ كِذَّابًا هنا دونَ (تَكذيبٍ)؛ لمُراعاةِ التَّماثُلِ في فَواصلِ هذه السُّورةِ؛ فإنَّها على نحْوِ ألِفِ التَّأسيسِ في القَوافي [224] ألِفُ التَّأسيسِ: مِن مُصطَلحاتِ عِلمِ العَروضِ والقافيةِ، وهو كلُّ ألِفٍ وقعَتْ في القافيةِ وبيْنَها وبيْن الرَّويِّ حرفٌ مُتحرِّكٌ يُسمَّى هذا الحَرْفُ المتحرِّكُ الدَّخيلَ، والتَّأسيسُ يَلزَمُ ذلك الموضِعَ في القَصيدةِ كُلِّها؛ ففي قولِ زيادِ بنِ مُعاويةَ الذُّبْيانيِّ -وهو في ((ديوانه)) (ص: 47)-: كِلِيني لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةَ ناصِبِ      ولَيْلٍ أُقاسِيهِ بَطيءِ الكواكِبِ الألِفُ مِن «كواكِبِ» تأسِيسٌ، والكافُ دَخيلٌ، والباءُ رَويٌّ، والياءُ المتولِّدةُ مِن كَسْرةِ الباءِ وصْلٌ. يُنظر: ((القوافي)) للأخفش الأوسط (ص: 28)، ((أمالي ابن الشجري)) (2/491)، ((العِقد)) لابن عبد ربه (6/343)، ((عِلم العَروض والقافية)) لعبد العزيز عتيق (ص: 136). ، والفواصلُ كالأسجاعِ، ويَحسُنُ في الأسجاعِ ما يَحسُنُ في القَوافي [225] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/40). .
4- قولُه تعالَى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا اعتِراضٌ بيْنَ الجُمَلِ الَّتي سِيقتْ مساقَ التَّعليلِ وبيْنَ جُملةِ فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النَّبأ: 30]، وفائدةُ هذا الاعتراضِ المُبادَرةُ بإعلامِهم أنَّ اللهَ لا يَخفى عليه شَيءٌ مِن أعمالِهم، فلا يَدَعُ شيئًا مِن سيِّئاتِهم إلَّا يُحاسِبُهم عليه؛ ما ذُكِر هنا وما لم يُذكَرْ، كأنَّه قيل: إنَّهم كانوا لا يَرْجونَ حِسابًا وكذَّبوا بآياتِنا، وفعَلوا ممَّا عدا ذلك، وكلُّ ذلك مُحصًى عندَنا [226] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/690)، ((تفسير البيضاوي)) (5/280)، ((تفسير أبي حيان)) (10/389)، ((تفسير أبي السعود)) (9/92)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/41)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/357). .
وقيل: فائدةُ الاعتراضِ بقولِه: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا الإشعارُ بأنَّ تكذيبَهم البعثَ والرُّسلَ والكُتبَ، إنَّما نشَأَ مِن اعتقادِهم أنَّه تعالى لا يَعلَمُ جُزئيَّاتِ أعمالِهم وأعمالِ الرُّسلِ، فلا حِسابَ ولا بعثةَ ولا كتابَ [227] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/256). !
- والإحصاءُ: حِسابُ الأشياءِ لضَبطِ عددِها، فالإحصاءُ كِنايةٌ عن الضَّبطِ والتَّحصيلِ [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/41). .
- علَى أنَّ كِتَابًا مَنصوبٌ على المفعوليَّةِ المطلَقةِ لـ أَحْصَيْنَاهُ، والتَّقديرُ: إحصاءَ كِتابةٍ، فهو مَصدرٌ بمعنى الكِتابةِ، وهو كِنايةٌ عن شدَّةِ ضَبطِ الأمورِ؛ لأنَّ الأمورَ المكتوبةَ مَصونةٌ عن النِّسيانِ والإغفالِ، فباعتبارِ كَونِه كنايةً عن الضَّبطِ جاء مَفعولًا مطلَقًا لـ (أَحْصَيْنا) [229] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/690)، ((تفسير البيضاوي)) (5/280)، ((تفسير أبي السعود)) (9/92)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/41). .
5- قولُه تعالَى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا هذا مُسبَّبٌ عن كُفرِهم بالحِسابِ، وتَكذيبِهم بالآياتِ، وهي آيةٌ في غايةِ الشِّدَّةِ، وناهيكَ بقولِه: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ، وبدَلالتِه على أنَّ تركَ الزِّيادةِ كالمُحالِ الَّذي لا يدخُلُ تحتَ الصِّحَّةِ، وبمجيئِها على طَريقةِ الالْتِفاتِ شاهدًا على أنَّ الغضبَ قد تَبالَغَ؛ وذلك أنَّه تعالى لَمَّا حكَى مآبَ الطَّاغينَ واستمرارَ لَبْثِهم في جهنَّمَ، وأنْ لا ذَوْقَ لهم فيها سِوى الحَميمِ والغَسَّاقِ، وعلَّلَ ذلك على سبيلِ الشِّكايةِ إلى الغيرِ بقولِه: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا، أي: لا يَخافونَ أنْ يُحاسَبوا، كنايةً عن أنَّهم كانوا يُنكِرونَ البعثَ إنكارًا بليغًا، ثمَّ عظَّم شأنَ تكذيبِهم رُسلَ اللهِ ووحْيَه بصيغةِ التَّعظيمِ وأكَّدَه بقولِه: كِذَّابًا -الْتفَتَ إليهم قائلًا: فذُوقوا أيُّها الجاحِدونَ المكذِّبونَ ذلكم الغَسَّاقَ والحميمَ، وليس لكم عندي سِوى المزيدِ مِن أنواعِ العذابِ، هذا كما تشكو إلى النَّاسِ جانبًا، ثمَّ تُقبِلُ عليهم إذا حَمِيتَ في الشِّكايةِ مواجهًا بالتَّوبيخِ والذَّمِّ وإلزامِ الحُجَّةِ [230] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/690)، ((تفسير البيضاوي)) (5/280)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/255، 256)، ((تفسير أبي حيان)) (10/389)، ((تفسير أبي السعود)) (9/92). .
وقيل: الفاءُ في قولِه: فَذُوقُوا ... للتَّفريعِ والتَّسبُّبِ على جملةِ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا [النَّبأ: 21] وما اتَّصَلَ بها، ولَمَّا غُيِّر أسلوبُ الخبرِ إلى الخِطابِ بعدَ أنْ كان جاريًا بطريقِ الغَيبةِ، ولم يكنْ مَضمونُ الخبرِ ممَّا يَجري في الدُّنيا فيُظَنَّ أنَّه خِطابُ تهديدٍ للمُشرِكينَ؛ تَعيَّنَ أنْ يكونَ المُفرَّعُ قولًا مَحذوفًا دلَّ عليه (ذُوقوا) الَّذي لا يُقالُ إلَّا يومَ الجزاءِ، فالتَّقديرُ: فيُقالُ لهم: ذُوقوا... إلى آخِرِه؛ ولهذا فليس في ضميرِ الخِطابِ الْتفاتٌ، فالمُفرَّعُ بالفاءِ هو فعلُ القولِ المحذوفِ [231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/41، 42). .
- والأمرُ في فَذُوقُوا مُستعمَلٌ في التَّوبيخِ والتَّقريعِ، والإهانةِ والتَّحقيرِ [232] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/42)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/358). .
- وقيل: فُرِّع قولُه: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا على فَذُوقُوا ما يَزيدُ تَنكيدَهم وتحسيرَهم بإعلامِهم بأنَّ اللهَ سيَزيدُهم عذابًا فوقَ ما هم فيه [233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/42). .
- والزِّيادةُ المنفيَّةُ في قولِه: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا يجوزُ أنْ تكونَ زيادةً مِن نوعِ ما هم فيه مِن العذابِ بتكريرِه في المستقبَلِ، فصِيغَ التَّعبيرُ عن هذا المعنى بهذا التَّركيبِ الدَّقيقِ؛ إذ ابتُدِئ بنفْيِ الزِّيادةِ بحرفِ تأبيدِ النَّفْيِ (لن)، وأُردِفَ الاستثناءُ المقتضِي ثبوتَ نقيضِ حُكمِ المُستثنَى منه للمُستثنَى، فصارتْ دَلالةُ الاستثناءِ على معنى: سنَزيدُكم عذابًا مؤبَّدًا، وهذا مِن تأكيدِ الشَّيءِ بما يُشبِهُ ضِدَّه، وهو أسلوبٌ طريفٌ مِن التَّأكيدِ؛ إذ ليس فيه إعادةُ لفظٍ؛ فإنَّ زيادةَ العذابِ تأكيدٌ للعذابِ الحاصلِ. ولَمَّا كان المقصودُ الوعيدَ بزيادةِ العذابِ في المستقبلِ؛ جيءَ في أسلوبِ نفيِه بحرفِ نفيِ المستقبَلِ، وهو (لَنْ) المفيدُ تأكيدَ النِّسبةِ المنفيَّةِ، وهي ما دلَّ عليه مجموعُ النَّفيِ والاستثناءِ؛ فإنَّ قيدَ تأبيدِ نفيِ الزِّيادةِ الَّذي يُفيدُه حرفُ (لَنْ) في جانبِ المُستثنَى منه، يَسْري إلى إثباتِ زيادةِ العذابِ في جانبِ المُستثنَى، فيكونُ معنى جملةِ الاستثناءِ: سنَزيدُكم عذابًا أبدًا، وهو معنى الخلودِ في العذابِ، وفي هذا الأسلوبِ ابتِداءٌ مُطْمِعٌ بانتهاءٍ مُؤْيِسٍ، وذلك أشدُّ حُزنًا وغمًّا بما يُوهِمُهم أنَّ ما أُلقُوا فيه هو منتهى التَّعذيبِ، حتَّى إذا ولَجَ ذلك أسماعَهم فحَزِنوا له، أُتْبِعَ بأنَّهم يَنتَظِرُهم عذابٌ آخَرُ أشَدُّ، فكان ذلك حُزنًا فوقَ حُزنٍ، فهذا مِنوالُ هذا النَّظمِ، وهو مُؤذِنٌ بشدَّةِ الغضبِ [234] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/42، 43). .