موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (77- 80)

ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ

غريبُ الكَلِماتِ:

خَلَاق: نصيبٌ، وحظٌّ من الخير، والخَلاقُ: ما اكتسَبَه الإنسانُ من الفضيلةِ بخُلُقه يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 59)، ((المفردات)) للراغب (ص: 297)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 20)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 125). .
يَلْوُونَ: أي: يَقلِبون ألْسنتَهم بالتحريف والزِّيادة، وأصل اللَّيِّ: فَتْلُ الحبل، وإمالةُ الشَّيء كذلك يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 107)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 504)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/218)، ((المفردات)) للراغب (ص: 752)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 47)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 125). .

المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِر اللهُ تبارَك وتعالَى عن عِقاب الَّذين يَستبدلون بعهدِه الَّذي عاهدهم عليه من اتِّباع أمْر الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والإيمان به، ويَأخذون بالأيمانِ الكاذبة عوضًا قليلًا خسيسًا من متاع الدُّنيا الزَّائل، فينكثون العهدَ مع الله، ويَحلفون كذبًا وزورًا؛ من أجْل ذلك- يُخبر تعالى أنَّهم لا نصيبَ لهم من الخير يوم القِيامة، ولا يُكلِّمهم، كما أنَّه لا ينظُر إليهم، ولا يمتنُّ عليهم بتطهيرهم من الذُّنوب والأدناس، بل يُجازيهم بعذابٍ أليم موجِع.
ثمَّ يُخبِر الله تبارَك وتعالَى عبادَه المؤمنين أنَّ هناك جماعةً من أهل الكتاب يَعطفون ألسنتَهم، ويُميلونها بالكتاب، فيُحرِّفون لفظَه، ويَعبثون بمعناه، والغايةُ من ذلك هي إضلالُ عبادِه المؤمنين، والتلبيسُ عليهم؛ ليظنُّوا أنَّ ما يقرؤونه من الكتاب، وهو ليس منه، ويقولون عنه: إنَّه ممَّا أنزلَه اللهُ على أنبيائه، وهو ليس كذلك، وإنَّما هو ممَّا ابتدعوه وأحْدثوه من عند أنفسِهم، فهم بهذا يتقوَّلون على الله الكذبَ عمدًا، ويُلحِقون بكتابِه ما ليس منه، وهم يَعلمون في قَرارةِ أنفسِهم أنَّهم كاذِبون مفترون.
ثم يُبيِّن اللهُ سبحانه وتعالى أنَّ مِن الممتنِع، بل مِن أمحلِ المحال، أنْ يُعطي اللهُ بشرًا الكتاب، ويُعلِّمه الحِكمةَ، ويمتنَّ عليه بالنُّبوَّة، ثمَّ هو يدعو النَّاس إلى عبادة نفْسِه، فيقول لهم: اعبدوني من دون الله. بل إذا امتنَّ الله عليه بذلك، فإنَّه يأمرُهم ويقول لهم: كونوا علماءَ، عاملين بالعِلم، مخلِصين لله، عابِدين له، مُعلِّمين للنَّاس ومُربِّين؛ بسببِ تعليمِكم الكتابَ لغيركم، وبسببِ مداومتِكم على قراءتِه وحِفظِه. كما أنَّه يستحيلُ أنْ يأمرَكم باتخاذ الملائكة والنَّبيِّين أربابًا تعبُدونهم من دون الله؛ إذ كيف يأمرُكم بالكفر بالله بعد انقيادِكم له بالطاعة، واستسلامِكم له بالعبوديَّة؟!

تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
في تعلُّق هذه الآيةِ ومناسبتها لِمَا قبلها وجوهٌ:
الأول: أنَّه تعالى لَمَّا وصَف اليهودَ بالخيانة في أموال النَّاس- ومِن المعلوم أنَّ الخيانةَ في أموال النَّاس لا تَتمشَّى إلَّا بالأَيْمان الكاذبة- لا جَرَمَ ذكَر عقيبَ تلك الآيةِ هذه الآيةَ المشتملةَ على وعيدِ مَن يُقْدِمُ على الأيمانِ الكاذبة.
 الثاني: أنَّه تعالى لَمَّا حكَى عنهم أنَّهم يقولون على الله الكذبَ وهم يعلمون- ولا شكَّ في أنَّ عهدَ الله على كل مُكَلَّفٍ أنْ لا يَكْذِبَ على الله، ولا يخونَ في دِينه- لا جَرَمَ ذكَرَ هذا الوعيد عقيبَ ذلك.
 الثالث: أنَّه تعالى ذكَر في الآيةِ السابقةِ خيانتَهم في أموال النَّاس، ثمَّ ذكَر في هذه الآية خيانتَهم في عهْدِ الله، وخيانتَهم في تعظيمِ أسمائِه حين يَحلِفون بها كذبًا يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/265). .
الرابع: أنَّ في خيانةِ الأمانة إبطالًا للعهد وللحلِفِ الَّذي بَينهم وبين المسلمين وقُريش ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/289). .
إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
سببُ النُّزول:
قال عبدُ اللهِ رضي اللهُ عنه: مَن حلَف على يمينٍ يستَحِقُّ بها مالًا، وهو فيها فاجِرٌ، لقِي اللهَ وهو عليه غضبانُ. فأنزَل اللهُ تصديقَ ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا- فقرَأ إلى- عَذَابٌ أَلِيمٌ. ثمَّ إنَّ الأشعَثَ بنَ قيسٍ خرَج إلينا فقال: ما يُحَدِّثُكم أبو عبدِ الرحمنِ؟ قال: فحدَّثْناه، قال: فقال: صدَق، لفِيَّ واللهِ أُنزِلَتْ، كانتْ بيني وبين رجلٍ خُصومةٌ في بئرٍ، فاختصمْنا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((شاهِداك أو يمينُه)). قلتُ: إنَّه إذنْ يحلِفُ ولا يُبالي، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((مَن حلَف على يمينٍ يَستحِقُّ بها مالًا، هو فيها فاجِرٌ، لقِي اللهَ وهو عليه غضبانُ )). فأنزَل اللهُ تصديقَ ذلك، ثمَّ اقتَرأ هذه الآيةَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا  فقرَأ إلى عَذَابٌ أَلِيمٌ أخرجه البخاري (2515، 2516) واللفظ له، ومسلم (138) وفي روايةٍ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ: ((مَن حَلَفَ على يمينٍ، وهوَ فاجِرٌ، لِيقْتَطِعَ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ، لَقِيَ اللهَ وهوَ عليه غضبانُ)). قال: فقال الأشْعَثُ بنُ قيسٍ: فيَّ واللهِ كانَ ذلكَ، كانَ بينِي وبينَ رجلٍ من اليهودِ أرضٌ، فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالَ لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (أَلَكَ بَيِّنَةٌ)، قالَ: لا، قالَ: فقالَ لليَهودِيُّ: (احْلِف)، قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ إذَنْ يَحْلِفُ ويَذْهَبُ بمَالِي، قالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ تعَالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا إلى آخِرِ الآيةِ أخرجه البخاري (2416، 2417)، واللفظ له، ومسلم (138). .
ووردَ أيضًا عن عبدِ اللهِ بن أَبي أَوْفَى رضِي اللهُ عنهما، أنَّ رجلًا أقامَ سِلْعةً، وهوَ في السُّوقِ، فحلَفَ باللهِ لقدْ أُعْطيَ بهَا ما لم يُعْطَ؛ ليوقِعَ فيها رجلًا من المسلمين، فنزلتْ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أخرجه البخاري (2088). .
ولا تعارُضَ بينهما؛ لاحتمالِ نُزولها في كلٍّ مِن القصَّتين إنْ تقارب الزمانُ، أو تكون نازلةً مرَّتيْن يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/287). .
إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا
أي: إنَّ الَّذين يَستبدِلون بما عَهِدَ الله إليهم من الإيمانِ بمحمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأداءِ الأمانة، ويَستبدلون بالحلفِ باللهِ كذبًا استحلالًا لِمَا حرَّم الله عليهم من أموال النَّاس، يَستبدلون بذلك ويأخذونَ به عِوَضًا قليلًا، وبدلًا يسيرًا خسيسًا من حُطام الدُّنيا، فينكُثون عهدَ الله، ويَحلِفون كذبًا من أجْل ذلك ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/515)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/453)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/437). .
أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
أي: الَّذين يَفعلون ذلك لا حظَّ لهم مِن الخيرِ يومَ القيامة، ولا نصيبَ لهم منه ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/515)، ((تفسير ابن كثير)) (2/62)، ((تفسير السعدي)) (ص: 135). .
وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ
أي: لا يُكلِّمهم اللهُ يومَ القِيامة تَكليمَ رضًا، أو كلامًا يَسُرُّهم، ولكنَّه يُكلِّمهم تكليمَ إهانةٍ وغضبٍ وسَخَطٍ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/516)، ((تفسير ابن كثير)) (2/62)، ((تفسير السعدي)) (ص: 135)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/441). .
وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أي: ولا يَنظُر إليهم نظرَ رحمةٍ وعطفٍ ولا نَظرًا يَسُرُّهم ينظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/62)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/453)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/441). .
وَلَا يُزَكِّيهِمْ
أي: ولا يُطَهِّرهم من ذُنوبهم وكُفرهم ممَّا تلوَّثوا به في الدُّنيا ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/516)، ((تفسير ابن كثير)) (2/62)، ((تفسير السعدي)) (ص: 135)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/442). .
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
أي: ولهم عذابٌ مُؤلِمٌ موجِعٌ ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/516)، ((تفسير السعدي)) (ص: 135)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/442). قال الواحديُّ: (وأكثر المفسِّرين على أنَّ الآية نزلت في اليهود وكِتمانهم أمرَ محمد، صلَّى الله عليه وسلَّم، وإيمانهم الذي بدَّلوه من صفة محمَّد عليه السلام، هو الحقُّ في التَّوراة)، ((التفسير الوجيز)) (1/219). .
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ
أي: وإنَّ من أهل الكتابِ جماعةً يَعطِفون ويُمِيلون ألسنتَهم بالكتاب؛ إمَّا بتحريفِ لفظِه، وإمَّا بتحريفِ معناه بتفسيرِه على غيرِ مرادِ الله ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/521)، ((تفسير السعدي)) (ص: 136)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/447). .
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ
أي: يَلْوُون ألسنَتهم بالكتاب؛ لتظنُّوا أنَّ ما يُحَرِّفونه بكلامِهم من كتابِ الله المنزَّل ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/521)، ((تفسير السعدي)) (ص: 136)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/449). .
وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ
أي: وما ذلك الَّذي لَوَوْا به ألسنتَهم من كتابِ الله ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/521). .
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
أي: ويقولون عمَّا لَوَوْا به ألْسنتَهم من التحريفِ والكذبِ والباطلِ: هو ممَّا أنزلَه اللهُ على أنبيائِه ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/521). .
وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
أي: وما ذلك الَّذي لَوَوْا به ألسنتَهم فأحْدَثوه ممَّا أنزلَه اللهُ إلى أحدٍ من أنبيائه، ولكنَّه ممَّا أحْدَثوه من قِبَل أنفسِهم ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/521)، ((تفسر ابن عطية)) (1/461). .
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
أي: ويتعمَّدون قولَ الكذبِ على الله، والإلحاقَ بكتابِ الله ما ليس منه وهم يَعلمون مِن أنفسِهم أنَّهم قد كذَبوا وافترَوْا في ذلك ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/521)، ((تفسير ابن كثير)) (2/65)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/449). .
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ
أي: ما يَنبغي لأحدٍ من النَّاس ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/523)، ((تفسير ابن عطية)) (1/461)، ((تفسير ابن كثير)) (2/66). .
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ
أي: يُنَزِّل اللهُ عليه كتابَه، ويُعلِّمه الحِكمةَ، ويُعطيه النُّبوَّة ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/523)، ((تفسير ابن عطية)) (1/461)، ((تفسير ابن كثير)) (2/66). .
ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ
أي: ثمَّ يدْعو إلى عِبادةِ نفْسه، ويقول للنَّاس: اعبدوني من دونِ الله ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/524)، ((تفسير ابن عطية)) (1/461)، ((تفسير ابن كثير)) (2/66). .
وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
أي: ولكن، إذا آتاه اللهُ ذلك، فإنَّه يقولُ للنَّاس: كونوا عُلماءَ حُكماءَ حُلماءَ، مخلِصين للربِّ، مُتعبِّدين له، مُعَلِّمين للنَّاس، تُربُّونهم بصِغار العِلم قبلَ كِباره ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/524)، ((تفسير ابن كثير)) (2/66)، ((تفسير السعدي)) (ص: 136)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/453). قال ابنُ جرير- بعد أنْ ذكر اختلاف المفسِّرين في معنى كلمة رَبَّانِيِّينَ قال: (وأَوْلى الأقوال عندي بالصواب في الربانيِّين: أنَّهم جمْع ربانيٍّ، وأنَّ الربانيَّ المنسوب إلى الرَّبَّان: الذي يرُبُّ الناس، وهو الذي يُصلِح أمورَهم ويرُبُّها، ويقوم بها... فإذا كان الأمرُ في ذلك على ما وصفنا... وكان العالمُ بالفقه والحِكمة من المصلِحين، يَرُبُّ أمورَ الناس بتعليمه إياهم الخير، ودُعائهم إلى ما فيه مصلحتهم، وكان كذلك الحكيمُ التقيُّ لله، والوليُّ الذي يلي أمورَ الناس على المنهاج الذي وَلِيَه المقسِطون من المصلحين أمورَ الخلق بالقيام فيهم، بما فيه صلاح عاجلهم وآجلهم، وعائدة النفع عليهم في دِينهم ودُنياهم؛ كانوا جميعًا مستحقِّين أنهم ممَّن دخل في قوله عز وجل: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ... والرباني: الجامع إلى العِلم والفقهِ البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعيَّة، وما يُصلحهم في دُنياهم ودِينهم) ((تفسير ابن جرير)) (5/529-531). .
بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: تُعَلِّمُونَ قراءتان:
1- (تُعَلِّمُونَ) من التعليمِ، وكلُّ مُعلِّمٍ عالمٌ بما يُعلِّم، وليس كلُّ عالمٍ بشيءٍ معلِّمًا، فهذا أبلغُ وأمدح قرأ بها ابن عامر والكوفيون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 191). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 112)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص:167)، ((الكشف)) لمكي (1/351). .
2- (تَعْلَمُونَ) والمعنى: بعِلْمكم الكتابَ قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 191). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 112)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص:167)، ((الكشف)) لمكي (1/351). .
بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ
أي: بسببِ تَعليمِكم الكتابَ لغيرِكم الْمُتَضَمِّن لعِلمِكم ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/524)، ((تفسير السعدي)) (ص: 136)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/454). .
وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ
أي: بسببِ مُداومتِكم على قِراءتِه، وحِفظِ ألفاظِه ينظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/456)، ((تفسير ابن كثير)) (2/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/295)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/455). .
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نفَى اللهُ تعالى أنْ يكون مَن آتاه الله النُّبوَّةَ مِن البشر داعيًا إلى نفْسه، وأثبت أنَّه يكون-ولا بدَّ- داعيًا إلى الله سبحانه وتعالى؛ أثبت أنَّ ذلك لا بدَّ أن يكون على وجهِ الإخلاص؛ لأنَّ بعضَ الشَّياطين يُحْكِمُ مكره بإبعاد التُّهمة عن نفسه بالدُّعاء إلى غيرِه على وجهِ الشِّرْك، لا سيَّما إنْ كان ذلك الغيرُ ربانيًّا كعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام يُنظر: ((نظم الدرر)) (4/468-469). ، فقال تعالى:
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا
أي: وما كان له أيضًا أن يأمرَكم أن تتَّخذوا الملائكة ولا النَّبيِّين أربابًا تُعبَد من دون الله، فما يَنبغي له أنْ يأمرَكم بعبادةِ أحدٍ من الخَلقِ لا نبيٍّ مرسَل، ولا مَلَكٍ مقرَّبٍ ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/535)، ((تفسير ابن كثير)) (2/67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 136)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/456). .
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
 أي: فلا يُمكن أنْ يأمرَكم بالكفر بعد إذ أنتم مُنقادُون بالطاعةِ، مُتذلِّلون بالعبوديَّة لله، قد تقرَّر إسلامُكم وثَبَتَ ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/535)، ((تفسير ابن كثير)) (2/67)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/457). .

الفوائد التربوية :

1- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ.... الآية [آل عمران: 77] أنَّ مَن بَلَغَ مِن رقَّة الدِّيانة إلى حدِّ أنْ يَشتريَ بعهد الله وأَيْمانه ثمنًا قليلًا، فقد بلَغ الغاية القُصوى في الجُرْأَة على الله؛ فكيف يُرْجَى له صلاح بعد ذلك يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/290). ؟!
2- العمومُ في قوله: لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عمومٌ مشروطٌ بعدم التوبة، وذلك بإجماع الأمَّة؛ فإنَّه إنْ تاب عنها، سقَط الوعيدُ بالإجماع يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/266). .
3- العُهودُ إذا نُكِثَتْ اختلَّ أمر الدِّين، وفسَدت مصالح الدُّنيا؛ لأجْل هذا كان الوعيدُ على نَكْث العهد- ولو كان لأجل المنفعة- أشدَّ ما نطق به الكتاب وأغلظَه، كما في قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آل عمران: 77] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/282). .
4- منَ ألْزمِ النَّاس أو أراد منهم أن يتَّبعوا قولَه مهما كان، فإنَّه قد جعَلهم عِبادًا له؛ لأنَّ طاعة الشَّخص من العبادة، قال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران: 79] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/459). .
5- الإشارةُ إلى أنَّه يَنبغي للإنسان أن يكون مُعلِّمًا ربانيًّا؛ لقوله: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِّيِّينَ، ومَن كان معلمًا لا ربانيًّا فعِلمه قاصر جدًّا؛ لأنَّ فائدة العِلم وثمرته هي العملُ والتأدُّب بآداب العِلم يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/459). .
6- المعلِّمُ ليس هو الَّذي يملأ أذهانَ النَّاس عِلمًا فحسبُ، ولكن الَّذي يملأ أفكارَهم أو أذهانَهم علمًا، وأخلاقَهم تربيةً يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/454). .
7- في قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران: 79] ، دلالةٌ على أنَّ العِلم والتعليم والدِّراسة توجب كونَ الإنسان ربانيًّا، فمَن اشتغل بالتعلُّم والتعليم لا لهذا المقصود، ضاعَ سعيُه، وخاب عملُه، وكان مَثَله مثلَ مَن غرس شجرةً حَسناءَ مونِقة بمنظرِها، ولا منفعةَ بثمرِها يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/272)، ويُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/286). .

الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا...: هدَّد اللهُ الَّذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا، ومنهم العلماءُ الَّذين يكتمون ما أنزل الله مداهنةً أو مراعاةً، أو من أجْل مال يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/443). .
2- أضاف العهدَ إلى الله في قوله: بِعَهْدِ اللَّهِ؛ لأنَّه تعالى عَهِدَ إلى النَّاس في كتُبه المنزَّلةِ أنْ يلتزموا الصِّدقَ والوفاءَ بما يتعاهدون ويتعاقدون عليه، وأنْ يُؤدُّوا الأماناتِ إلى أهلها، وأنْ يَعبُدوه ولا يُشركوا به شيئًا ويتَّقوه في جميعِ الأمور، فعهدُ الله يشمل كلَّ ذلك يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/281). .
3- يدخُل في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا كلُّ مَنْ أخذ شيئًا من الدُّنيا في مقابلةِ ما ترَكه من حقِّ الله أو حقِّ عباده، ومَن حلَف على يمين يَقتطع بها مالًا معصومًا يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 136). .
4- ويَدخُل في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ أيضًا جميعُ ما أمر الله به، ويدخُل فيه ما نصَب عليه الأدلَّة، ويدخُل فيه المواثيقُ المأخوذةُ من جِهة الرَّسول، ويدخل فيه ما يُلزِم الرَّجُلُ نفْسَه؛ لأنَّ كلَّ ذلك من عهد الله الَّذي يَلْزَم الوفاء به يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/266). .
5- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا: أنه لَمَّا كان الناكثُ للعهد لا ينكُث إلَّا لمنفعةٍ يجعلها بدلًا منه، عبَّر عن ذلك بالشِّراء، الَّذي هو معاوضة ومبادلة، وسَمَّى العوضَ ثمنًا قليلًا يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/281). .
6- من قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا يُؤخذ أنَّ اليمينَ الغموس وعدمَ القيام بعهدِ الله من كَبائر الذُّنوب، وهو أمرٌ زائدٌ على كونه محرَّمًا؛ لأنَّ الكبيرة أعظمُ من مُطلقِ التَّحريم؛ لأنَّ فيها وعيدًا، وكلُّ ذنب رُتِّب عليه وعيدٌ فهو من كبائرِ الذُّنوب يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/443). .
7- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا... أنَّ حُكم الحاكمِ لا يُحِلُّ المالَ في الباطِن بقضاء الظَّاهر إذا عَلِم المحكوم له بُطلانَه يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (4/120). عن أُم سَلمةَ زَوجِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّما أنا بشرٌ وأنتم تختصِمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون أَلحنَ بِحُجَّتِهِ من بعض، فأَقضِيَ له على نحو ما أَسمعُ منه؛ فمَن قضيتُ له بشيءٍ من حَقِّ أخيه، فلا يأخُذَنَّه؛ فإنَّما أقطعُ له قِطْعَةً من النار)). رواه البخاري (2680)، ومسلم (1513). .
8- إذا كان مَن اشترى بعهد الله ثمنًا قليلًا أو بيمينه لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، فإنَّ مَنْ وفَّى بعهد الله، وحلَف على صِدق، فإنَّه لا يُحْرَمُ النصيب في الآخرة يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/444). .
9- المراد بقوله تعالى: وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ النَّظر الخاصُّ، أمَّا النَّظر العام، فإنَّ الله تعالى لا يُحجَب عن بصره شيءٌ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/446). .
10- في مجيء الوعيد عقب الصِّلة، وهي يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ.. الآية، إيذانٌ بأنَّ مَن شابههم في هذه الصِّفات، فهو لاحقٌ بهم يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/290). .
11- لَمَّا نسَب الله فريقًا من أهل الكتاب إلى الكذِب عمومًا في قوله: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، نبَّه إلى نوع خاصٍّ منه، هو أكذبُ الكذب، فقال: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/464). .
12- لَمَّا كان كلامُ الله سبحانه وتعالى لا يَلتبِس بغيره إلَّا على ضعيفِ العقل، ناقص الفِطرة، عبَّر بالحسبان؛ تنفيرًا عن السَّماع منهم، وتنبيهًا على بُعد ما يَسمَعُه الإنسان من غيره، فقال: لِتَحْسَبُوهُ يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/464). .
13- لَمَّا كان الكذبُ قد يُطلَق على ما لم يتعمَّد، بل وقع خطأً، احترز عنه بقوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي: إنَّه كذِب، لا يَشكُّون فيه يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/466). .
14- الأنبياء أكملُ الخَلْق على الإطلاق، فأوامرُهم تكون مناسبةً لأحوالهم، فلا يأمرون إلَّا بمعالي الأمور، وهم أعظمُ النَّاس نهيًا عن الأمورِ القبيحةِ، كما في قوله: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَاب... يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 136). .
15- مادة (درس) تستلزمُ التمكُّنَ من المفعول؛ فلذلك صار درْس الكتابَ بمعنى فَهْمه وإتقانه؛ ولذلك عطف في هذه الآية وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ على بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/295). .
16- خصَّ الملائكةَ والنبيِّين بالذِّكر؛ لأنَّ الَّذين وُصِفوا من أهل الكتابِ بعبادةِ غير الله لم يَحكِ عنهم إلَّا عبادةَ الملائكة، وعبادة المسيحِ وعُزَيْر يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/273). .

بلاغة الآيات:

1- في قوله تعالى: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ: يرجِع الضمير في: (لِتَحْسَبُوهُ) إلى ما دلَّ عليه يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَاب وهو المُحرَّف. وقوله: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تأكيدٌ لقولهم: هُوَ مِنَ الكِتَابِ، وزيادةُ تشنيعٍ عليهم، وتسجيلٌ بالكذب، ودلالةٌ على أنَّهم لا يُعرضون ولا يُورِّون، وإنَّما يُصرِّحون بأنه في التوراة هكذا، وقد أنزله اللهُ تعالى على موسى كذلك؛ لفَرطِ جراءتِهم على اللَّه، وقساوةِ قلوبهم، ويَئسِهم من الآخرة يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/377)، ((تفسير الرازي)) (7/268- 269). .
- قوله تعالى: مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ: فيه تَكرار يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/244). ؛ حيث أظْهر لفظ (الكتاب) في موضِع الإضمار، فلم يقل: (وما هو منه)؛ للتأكيد، ولزِيادة التَّشنيع عليهم.
2- وقوله: وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: ردٌّ عليهم في إخبارِهم بالكذب، وتأكيدٌ لقوله: وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ حيث نَفَى أولًا نفيًا أخصَّ؛ إذ التعليل كان لأخصَّ، ونَفَى هنا نفيًا أعمَّ؛ لأنَّ الدَّعوى منهم كانت الأعمَّ؛ لأنَّ كونَه من عند الله أعمُّ مِن أن يكون في التوراة أو غيرها يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/465)، ((تفسير أبي حيان)) (3/228)، ((تفسير البيضاوي)) (2/24-25). ؛ وذلك لأنَّه ليس كلُّ ما لم يكُن في الكتابِ لم يكُن من عند الله؛ فإنَّ الحُكمَ الشرعيَّ قد ثبَت تارةً بالكتابِ وتارةً بالسُّنةِ، والكلُّ من عند اللهِ، وكذا ما يَرجِع إليهما مِن الإجماعِ والقِياس الصَّحيح يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/228)، ((تفسير الرازي)) (7/268- 269). .
3- في قوله تعالى: يَلْوُونَ، يَقُولُونَ: جِيء بالمضارعِ في هذه الأفعال (يلوون، ويقولون)؛ للدلالةِ على تجدُّد ذلك، وأنَّه دأبُهم يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/292). .
4- قوله سبحانه: الكِتَابِ مِنَ الكِتَابِ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: فيه تكريرُ الكتاب في الآية مرَّتين، وتكريرُ اسم الجلالة أيضًا مرَّتين؛ لقصدِ الاهتمامِ بالاسمين، وذلك يَجرُّ إلى الاهتمامِ بالخبَر المتعلِّق بهما، والمتعلِّقين به يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (293). .
5- قوله عزَّ وجلَّ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ: فيه إيجازٌ بالحذف، ومبالغةٌ في نفْي استحقاق أيِّ أحدٍ لذلك القول؛ إذ اللام فيه للاستحقاقِ، وأصل هذا التركيب في الكلام: (ما كان فلان فاعلًا كذا)، فلمَّا أُريدتِ المبالغةُ في النَّفي، عدَل عن نفْي الفِعل إلى نفْي المصدَر الدالِّ على الجِنس، وجعَل نفْي الجنس عن الشَّخْص بواسطة نفْي الاستحقاق يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (293). .
6- في قوله: ثُمَّ يقُولَ لِلنَّاسِ: أتى بلفظ: ثُمَّ الَّتي هي للمُهلة تعظيمًا لهذا القول، وإذا انتفَى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أَوْلى وأحْرى، أي: إنَّ هذا الإيتاءَ العظيم لا يُجامع هذا القول، وإنْ كان بعد مهلةٍ مِن هذا الإنعام العظيم يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/230). .
7- قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ:
- جِيء بخبرِ كان مضارعًا في قوله تعالى: بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ؛ لإفادةِ الاستمرارِ التجدُّدي   يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/52). .
- وتَكريرُ بِمَا كُنْتُمْ؛ للإيذانِ باستقلالِ كلٍّ من استمرارِ التعليمِ واستمرارِ القراءةِ بالفضل، وتحصيلِ الربَّانية   يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/52- 53). .
- وتقديمُ التعليمِ على الدِّراسة؛ لزيادة شرفِه عليها، أو لأنَّ الخطابَ الأولَ لرؤسائهم، والثاني لِمَن دُونهم.
8- قوله تعالى: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
- قوله: وَلَا يَأْمُرَكُمْ: فيه زيادةُ حرف النَّفي وَلَا لتأكيدِ معنى النَّفي في قوله: مَا كانَ لِبَشَرٍ، وليستْ معمولة لـ(أنْ)؛ لاقتضاءِ ذلك أنْ يصير المعنى: لا يَنبغي لبشرٍ أُوتي الكتاب ألَّا يأمرَكم، وهو غيرُ صحيح قطعًا يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/296- 297). ، أو تكون لَا لتأسيسِ النَّفْي على معنى أنَّه ليس له أنْ يأمُرَ بعبادتِه، ولا يأمُرَ باتِّخاذ أكفائِه أربابًا، بل يَنهَى عنه يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/281)، ((تفسير أبي السعود)) (2/53). .
- في قوله تعالى: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا تعميمٌ بعد تخصيص، والمعنى: لا يأمُركم بعبادةِ نفْسِه، ولا بعبادةِ أحدٍ من الخَلق من الملائكة والنَّبيِّين وغيرهم يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 136). .
- قوله عزَّ وجلَّ: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: كلامٌ مستأنَف لخِطاب المؤمنين عن طريقِ التعجُّب من حالِ غيرِهم، والهمزة فيه للاستفهامِ الإنكاريِّ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/273)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/548). .