موسوعة التفسير

سورةُ الحَجِّ
الآيات (19-22)

ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ

غريب الكلمات :

الْحَمِيمُ: أي: الماءُ الشَّديدُ الحَرارةِ، وأصلُ (حمم): يَدُلُّ على الحَرارةِ [323]     يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 291)، ((تفسير ابن جرير)) (16/495)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/23)، ((المفردات)) للراغب (ص: 254). .
يُصْهَرُ: أي: يُذابُ، والصَّهرُ: إذابةُ الشَّحمِ، وأصلُ (صهر): يدُلُّ على إذابةِ شَيءٍ [324]     يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 291)، ((تفسير ابن جرير)) (16/496)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 535)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/315)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 244)، ((تفسير القرطبي)) (12/27)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 301). .
مَقَامِعُ: أي: سياطٌ ومَطارِقُ ومَرازِبُ، مِن قَولِهم: قَمَعْتُ رأسَه: إذا ضَرَبْتَه ضَربًا عنيفًا، وأصلُ (قمع): يدُلُّ على إذلالٍ وقَهرٍ [325]     يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/27)، ((المفردات)) للراغب (ص: 684)، ((تفسير البغوي)) (5/375)، ((تفسير القرطبي)) (12/27)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 881). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: هذان فَريقانِ اختَلَفوا في شأنِ رَبِّهم وتوحيدِه: أهلُ الإيمانِ وأهلُ الكُفرِ؛ فالذين كَفَروا جُعِلَت لهم ثيابٌ مِن نارٍ يَلْبَسونَها، يُصَبُّ على رُؤوسِهم الماءُ المُتناهي في حَرِّه، يُذابُ بهذا الحَميمِ المصبوبِ فَوقَ رُؤوسِ الكُفَّارِ ما في بُطونِهم والجلودُ، وتَضرِبُهم الملائِكةُ على رُؤوسِهم بمَطارِقَ مِن حَديدٍ، كُلَّما حاولوا الخروجَ مِنَ النَّارِ؛ لشِدَّةِ غَمِّهم وكَرْبِهم، أُعيدُوا فيها، وقيلَ لهم: ذُوقُوا عذابَ النَّارِ المُحرِقةِ.

تفسير الآيات :

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر تعالى أهلَ السعادةِ وأهلَ الشقاوةِ؛ ذكَر ما دار بينَهم مِن الخصومةِ في دينِه [326]     يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/495). .
وأيضًا لَمَّا كان قَولُه تعالى: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج: ١٨] يُثيرُ سُؤالَ مَن يَسألُ عن بَعضِ تَفصيلِ صِفَةِ العَذابِ الذي حَقَّ على كثيرٍ مِنَ النَّاسِ الذين لم يَسجُدوا لله تعالى؛ جاءت هذه الجُملةُ لِتَفصيلِ ذلك [327]     يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/227، 228). .
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ.
أي: هذان فَريقانِ اختَلَفوا في شأنِ رَبِّهم وتوحيدِه ودينِه، وتعادَوْا وتحارَبوا: المُؤمِنونَ والكافِرونَ؛ فالمُؤمِنونَ يُريدونَ نُصرةَ دينِ اللهِ، وإعلاءَ كَلِمتِه، والكافِرونَ يُريدونَ إطفاءَ نُورِ الإيمانِ، وقَمْعَ الحَقِّ، وإظهارَ الباطِلِ [328]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/493، 494)، ((تفسير ابن عطية)) (4/114)، ((تفسير ابن جزي)) (2/36)، ((تفسير ابن كثير)) (5/406)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/228). قال ابن عاشور: (المرادُ من هذه الآية ما يعُمُّ جميعَ المؤمنينَ وجميعَ مُخالِفيهم في الدِّينِ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/228). وممَّن قال بالعُموم أيضًا: ابنُ جرير، وابن عطية، وابن جُزي، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/493، 494)، ((تفسير ابن عطية)) (4/114)، ((تفسير ابن جزي)) (2/36)، ((تفسير ابن كثير)) (5/406). قال ابن جزي: (هَذَانِ خَصْمَانِ الإشارةُ إلى المؤمنينَ والكفَّارِ على العمومِ، ويدلُّ على ذلك ما ذُكِر قبلَها مِن اختلافِ الناسِ في أديانِهم، وهو قولُ ابنِ عباسٍ). ((تفسير ابن جزي)) (2/36). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/493). وقال أبو السعود: (أي: فريقُ المؤمنينَ، وفريقُ الكفرةِ المقسَّمُ إلى الفِرَقِ الخَمسِ). ((تفسير أبي السعود)) (6/101). واختار هذا المعنى أيضًا: الألوسي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (9/127)، ((تفسير القاسمي)) (7/238). ويُنظر أيضًا: ((البسيط)) للواحدي (15/329). وقيل: المرادُ بهم النَّفرُ الذين برَزوا للقتالِ أوَّلَ المعركةِ يومَ بدرٍ. وممن قال بذلك: مكي، والقرطبي. يُنظر: ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (7/4862)، ((تفسير القرطبي)) (12/25-26). ويُنظر أيضًا: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/291). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/228). قال ابن جرير: (الآيةَ قد تنزِلُ بسَبَبٍ مِن الأسبابِ، ثُمَّ تكونُ عامَّةً في كلِّ ما كانَ نظيرَ ذلك السَّبَبِ. وهذه مِن تلك؛ وذلك أنَّ الَّذينَ تبارَزوا إنَّما كانَ أحدُ الفريقينِ أهلَ شِرْكٍ وكفرٍ باللَّهِ، والآخَرُ أهلَ إيمانٍ باللَّهِ وطاعةٍ له، فكلُّ كافرٍ في حُكْمِ فريقِ الشِّركِ منهما في أنَّه لأهلِ الإيمانِ خَصْمٌ، وكذلك كلُّ مُؤمنٍ في حُكمِ فريقِ الإيمانِ منهما في أنَّه لأهلِ الشِّركِ خَصْمٌ). ((تفسير ابن جرير)) (16/493). وقال الرازي: (السببُ وإن كان خاصًّا، فالواجبُ حملُ الكلامِ على ظاهرِه). ((تفسير الرازي)) (23/215). .
عن قَيسِ بنِ عَبَّادٍ، قال: (سَمِعْتُ أبا ذَرٍّ يُقسِمُ قَسَمًا: إنَّ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ إنَّها نَزَلت في الذين بَرَزوا يومَ بَدرٍ: حَمزةُ وعَلِيٌّ وعُبَيدةُ بنُ الحارِثِ، وعُتَبةُ وشَيبةُ ابنا ربيعةَ، والوليدُ بنُ عُتبةَ) [329]     رواه البخاري (4744)، ومسلم (3033) واللفظ له. .
وعن قَيسِ بنِ عَبَّادٍ، عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنه أنَّه قال: (أنا أوَّلُ مَن يجثو [330]     يجثو: أي: يَجلِسُ على رُكبَتَيه. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/239). بينَ يدَيِ الرَّحمنِ للخُصومةِ يومَ القيامةِ)، وقال قيسُ بنُ عَبَّادٍ: وفيهم أُنزِلَت: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ، قال: (هم الذين تبارَزوا يومَ بَدرٍ: حمزةُ وعَليٌّ وعُبَيدةُ -أو أبو عبيدةَ بنُ الحارثِ-، وشَيبةُ بنُ رَبيعةَ، وعُتْبةُ بنُ رَبيعةَ، والوَليدُ بنُ عُتبةَ) [331]     رواه البخاري (3965). قال ابنُ جُزَي: (وقيل: نزَلَت في عليِّ بنِ أبي طالِبٍ، وحمزةَ بنِ عبدِ المُطَّلِب، وعُبيدةَ بنِ الحارثِ؛ حين بَرَزوا يومَ بَدرٍ لِعُتبةَ بنِ رَبيعةَ، وشَيبةَ بنِ رَبيعةَ، والوَليدِ بنِ عُتبةَ؛ فالآيةُ على هذا مَدَنيَّةٌ إلى تمامِ سِتِّ آياتٍ). ((تفسير ابن جزي)) (2/36). قال ابن عاشور: (الأظهرُ: أنَّ أبا ذَرٍّ عنَى بنزول الآية في هؤلاء أنَّ أولئك النفرَ الستَّة هم أبرزُ مِثالٍ وأشهرُ فَردٍ في هذا العمومِ؛ فعبَّر بالنزولِ وهو يُريد أنهم ممَّن يُقصَدُ مِن معنى الآيةِ، ومِثل هذا كثيرٌ في كلام المتقدِّمينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/229). .
فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ.
أي: فالذين كَفَروا بالله فُصِّلَت لهم ثِيابٌ مِن نارٍ، فيَعُمُّ العذابُ أجسادَهم [332]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/494)، ((تفسير ابن عطية)) (4/114)، ((تفسير ابن جزي)) (2/36)، ((تفسير ابن كثير)) (5/406)، ((تفسير السعدي)) (ص: 536)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/228). .
كما قال تعالى: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم: 49-50].
يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ.
أي: يُصَبُّ على رُؤوسِ الكُفَّارِ الماءُ المُغْلَى الشَّديدُ الحَرارةِ [333]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/495)، ((تفسير القرطبي)) (12/27)، ((تفسير ابن كثير)) (5/406)، ((تفسير السعدي)) (ص: 536)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/289). .
كما قال تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان: 47-48] .
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لمَّا ذكَرَ ما يُعذَّبُ به الجَسدُ ظاهِرُه وما يُصَبُّ على الرَّأسِ؛ ذكَرَ ما يَصِلُ إلى باطنِ المُعذَّبِ [334]     يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/496). .
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20).
أي: يُذابُ بالحَميمِ المصبوبِ فَوقَ رُؤوسِ الكُفَّارِ ما في بُطونِهم -مِنَ اللَّحمِ والشَّحمِ، والأمعاءِ والأحشاءِ [335]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/496)، ((تفسير البغوي)) (3/330، 331)، ((تفسير القرطبي)) (12/27)، ((تفسير السعدي)) (ص: 536)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/230). -، والجلودُ [336]     قيل: (الْجُلُودُ) مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ معطوفٍ على يُصْهَرُ، وتقديرُه: وتُحرقُ أو تُشوَى به الجلودُ. وممن قال بذلك في الجملةِ: ابنُ جريرٍ، والبغوي، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/496)، ((تفسير البغوي)) (3/331)، ((تفسير القرطبي)) (12/27). ويُنظر أيضًا: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/290). وقيل: المعنى: أنَّ الحميمَ يُذيبُ جلودَ الكافرين كما يُذيبُ ما في بطونِهم؛ لشدةِ حرارتِه. وممن اختاره: الرسعني، والعليمي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (5/31)، ((تفسير العليمي)) (4/411)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/290). قال الشنقيطي: (وقولُه: وَالْجُلُودُ الظَّاهِرُ أنَّه معطوفٌ على «ما» مِنْ قولِه: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ الَّتي هي نائِبُ فاعلِ يُصْهَرُ، وعلى هذا الظَّاهرِ المتَبادِرِ مِنَ الآيةِ فذلك الحميمُ يُذيبُ جُلودَهم، كما يُذيبُ ما في بطونِهم لِشِدَّةِ حرارَتِه؛ إذ المعنى: يُصْهَرُ به ما في بُطونِهم، وتُصْهَرُ به الجلودُ؛ أيْ: جُلودُهم، فالألِفُ وَاللَّامُ قامَتا مقامَ الإضافةِ). ((أضواء البيان)) (4/290). .
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21).
أي: وللكُفَّارِ في جهَنَّمَ مَرازِبُ ومَطارِقُ مِن حَديدِ، تَضرِبُهم وتَدفَعُهم بها [337]     قال ابنُ جرير: (تَضرِبُ رُؤوسَهم بها الخَزَنةُ إذا أرادوا الخروجَ مِن النَّارِ، حتى تَرجِعَهم إليها). ((تفسير ابن جرير)) (16/498). خَزَنةُ النَّارِ مِن الملائِكةِ [338]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/498)، ((تفسير القرطبي)) (12/27)، ((تفسير السعدي)) (ص: 536)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/291). .
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22).
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا.
أي: كُلَّما أراد هؤلاءِ الكُفَّارُ أن يَخرُجوا مِنَ النَّارِ بسَبَبِ ما نالهم فيها مِنْ غَمٍّ، أُعيدُوا في النَّارِ مرَّةً أُخرى [339]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/498)، ((تفسير القرطبي)) (12/28)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/230). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 36-37] .
وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ.
أي: ويُقالُ لهؤلاء الكافرينَ: ذوقوا عَذابَ النَّارِ المُحرِقَ للقُلوبِ والأبدانِ [340]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/498)، ((تفسير البغوي)) (3/331)، ((تفسير ابن عطية)) (4/114)، ((تفسير السعدي)) (ص: 536)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/230)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/292). .
كما قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20] .

الفوائد التربوية :

حَذَّرَنا اللهُ تعالى في كتابِه مِن النَّارِ، وأخبَرَنا عن أنواعِ عَذابِها بما تتفَطَّرُ منه الأكبادُ، وتتفَجَّرُ منه القُلوبُ؛ حَذَّرَنا منها وأخبَرَنا عن أنواعِ عَذابِها؛ رحمةً بنا؛ لنزدادَ حَذَرًا وخَوفًا، ومن ذلك قولُه تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ [341]     يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/367). .

الفوائد العلمية واللطائف:

قال تعالى: اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ والاختِصامُ يَشمَلُ ما وقع أحيانًا مِن التَّحاوُرِ الحقيقيِّ بين أهلِ الأديانِ المذكورةِ، والمعنويَّ؛ فإنَّ اعتِقادَ كُلٍّ مِن الفريقَينِ بحَقِّيَّةِ ما هو عليه وبُطلانِ ما عليه صاحِبُه، وبناءَ أقوالِه وأفعالِه عليه: خُصومةٌ للفَريقِ الآخَرِ، وإنْ لم يَجْرِ بينهما التَّحاوُرُ والِخصامُ [342]     يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (7/238). .

بلاغة الآيات :

1- قَولُه تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ
- قولُه: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ قولَه: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ يُثِيرُ سُؤالَ مَن يسأَلُ عن بَعضِ تَفصيلِ صِفَةِ العذابِ الَّذي حَقَّ على كَثيرٍ مِن النَّاسِ الَّذينَ لم يَسْجُدوا للهِ تعالى؛ فجاءت هذه الجُملةُ لتَفصيلِ ذلك. واسمُ الإشارةِ هَذَانِ مُشيرٌ إلى ما يُفِيدُه قولُه تعالى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، والإشارةُ إلى ما يُسْتَفادُ مِن الكلامِ بتَنزيلِه مَنزِلةَ ما يُشاهَدُ بالعينِ [343]     يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/228). .
- قولُه: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا في قولِه: هَذَانِ تَعيينٌ لطَرَفيِ الخِصامِ، وإزاحةٌ لِمَا عسى يَتبادَرُ إلى الوهْمِ مِن كَونِه بينَ كلِّ واحدةٍ من الفِرَقِ السِّتِّ وبين البواقي، وتَحريرٌ لِمَحلِّه، أي: فريقُ المُؤمِنينَ وفريقُ الكَفَرةِ المُقسَّمِ إلى الفِرَقِ الخَمْسِ [344]     يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/101). . وأُتِيَ باسمِ الإشارةِ الموضوعِ للمُثنَّى هَذَانِ؛ لمُراعاةِ تَثنيةِ اللَّفظِ، وأُتِيَ بضَميرِ الجماعةِ اخْتَصَمُوا؛ لِمُراعاةِ العدَدِ [345]     يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/101)، ((تفسير أبي حيان)) (7/495)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/229). .
- قولُه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ تَفصيلٌ لِمَا أُجْمِلَ في قولِه تعالى: يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [346]     يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/101). .
- قولُه: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ تَعبيرٌ بَليغٌ، كأنَّ الله تعالى يُقدِّرُ لهم نِيرانًا على مقاديرِ جُثَثِهم، تَشتمِلُ عليهم كما تُقطَّعُ الثِّيابُ الملبوسةُ [347]     يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/150)، ((تفسير البيضاوي)) (4/68)، ((تفسير أبي حيان)) (7/495). .
- وأيضًا قولُه: قُطِّعَتْ فيه مُبالغةُ القَطْعِ، وصِيغَت صِيغةَ الشِّدَّةِ في القَطْعِ؛ للإشارةِ إلى السُّرعةِ في إعدادِ ذلك لهم [348]     يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/230). .
- جاء قولُه: قُطِّعَتْ بلفْظِ الماضي؛ لأنَّ ما كان مِن أخبارِ الآخرةِ؛ فالموعودُ منه كالواقِعِ المُحقَّقِ [349]     يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/26). .
- قولُه: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث إنَّه لمَّا ذكَرَ ما يُصَبُّ على رُؤوسِهم؛ إذ يَظهَرُ في المعروفِ أنَّ الثَّوبَ إنَّما يُغطَّى به الجسَدُ دونَ الرَّأسِ؛ فذكَرَ ما يُصِيبُ الرَّأسَ منَ العذابِ [350]     يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/496). .
- وفائدةُ زِيادةِ (مِنْ) في قولِه تعالى: مِنْ فَوْقِ: أنَّها لابتِداءِ الغايةِ في أوَّلِ أمكنةِ الفوقيَّةِ، والحميمُ إذا صُبَّ فوقَهم عن بُعْدٍ، فإنَّه يُدرِكُه الهواءُ، فيَنقُصُ مِن حرارتِه، فإذا صُبَّ فوقَ رُؤوسِهم بالقُرْبِ نزَلَ كما هو؛ فأفادت زِيادةُ (مِن) أنَّه يُصَبُّ فوقَ رُؤوسِهم مِن أقرَبِ أمكنةِ الفوقيَّةِ إليهم حتَّى لَا يَنتقِصَ مِن حرارتِه شَيءٌ [351]     يُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (3/185). .
- وفي الكلامِ تَقسيمٌ وجَمْعٌ وتَفريقٌ؛ فالتَّقسيمُ: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ... إلى قولِه: وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، والجَمْعُ: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ إلى قولِه تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج: 19] ، والتَّفريقُ: قولُه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى قولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الحج: 23] ، ورُوعِيَ فيه معنى قولِه تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] ؛ لأنَّه حينَ ذكَرَ فريقَ الكُفَّارِ ما أسنَدَ جزاءَهم إلى اللهِ تعالى، وحين ذكَرَ جزاءَ المُؤمِنينَ أتَى باسْمِه الجامِعِ (الله)، وصَدَّرَ الجُملةَ بـ (إنَّ)، وفصَلَها للاستئنافِ؛ ليكونَ أدَلَّ على التَّفخيمِ والتَّعظيمِ، وذيَّلَ الكلامَ بقولِه: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ. وأمَّا تَوسيطُ قولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ ... الآيةَ؛ فلِلتَّفريعِ على اختلافِ الكَفرةِ، واستبعادِه معَ وُجودِ هذه الآياتِ الصَّارفةِ [352]     يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/461، 462). .
2- قولُه تعالى: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ
- أُخِّرَ قولُه: وَالْجُلُودُ؛ إمَّا لمُراعاةِ الفواصلِ، أو للإشعارِ بغايةِ شِدَّةِ الحرارةِ، بإيهامِ أنَّ تأْثيرَها في الباطِنِ أقدَمُ مِن تأْثيرِها في الظَّاهرِ، مع أنَّ مُلابستَها على العكْسِ [353]     يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/101). .
3- قَولُه تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ
- قولُه: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ لأنَّ الإعادةَ والرَّدَّ لا يكونُ إلَّا بعْدَ الخُروجِ؛ فالتَّقديرُ: كلَّما أرادوا أنْ يَخرُجوا منها مِن غَمٍّ، فخَرَجوا؛ أُعِيدوا فيها [354]     يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/150)، ((تفسير البيضاوي)) (4/68)، ((تفسير أبي حيان)) (7/496). . وفائدةُ الحذْفِ: الإشعارُ بسُرعةِ تَعلُّقِ الإرادةِ بالإعادةِ، وأنَّه حين تَعلَّقَت إرادتُهم بالخُروجِ، حصَلَ وتَرتَّبَ عليه الإعادةُ، كأنَّ إرادةَ الخُروجِ نفْسُ الخُروجِ، فأُعِيدوا بلا مُكْثٍ [355]     يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/463). .
- قولُه: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ هذا القولُ إهانةٌ لهم؛ فإنَّهم قد عَلِموا أنَّهم يَذوقونَه [356]     يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/230). .
- قولُه: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ تَقديرُه: وقيل لهم: ذُوقُوا، كما في السَّجدةِ: وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ [357]   يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 181)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/326)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 382).  [السجدة: 20] .