موسوعة التفسير

سورةُ فُصِّلَت
الآيات (1-8)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ

غريب الكلمات:

فُصِّلَتْ: أي: بُيِّنَت، والتَّفصيلُ ضدُّ الإجمالِ، وأصلُ (فصل): يدُلُّ على تمييزِ الشَّيءِ وإبانتِه [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 390)، ((تفسير ابن جرير)) (20/375)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/505)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 339)، ((أضواء البيان)) (7/ 3). .
بَشِيرًا: أي: مُبشِّرًا، وأصلُه: ظهورُ الشَّيءِ معَ حُسنٍ وجمالٍ، ومنه البِشارةُ، ولا تكونُ البِشارةُ عندَ إطلاقِ الكلامِ إلَّا بالخَيرِ، وقد تُقيَّدُ وتُحمَلُ على الشَّرِّ [7] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/482)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/251)، ((المفردات)) للراغب (ص: 126)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 69)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 239). .
وَنَذِيرًا: أي: مُنذِرًا، ومُحذِّرًا، ومُخوِّفًا، والإنذارُ: الإعلامُ بالشَّيءِ الَّذي حذَّر منه، وأصلُ الإنذارِ: الإعلامُ، وأصلُ (نذر): تخويفٌ أو تخوُّفٌ [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 463)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/414)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (6/1824)، ((النهاية)) لابن الأثير (5/39)، ((تفسير القرطبي)) (14/85)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 232). .
أَكِنَّةٍ: أي: أغطِيةٍ. وأصلُ (كنن): يدُلُّ على سَترٍ وصَونٍ [9] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/197)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 57)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/123)، ((المفردات)) للراغب (ص: 612، 727). .
وَقْرٌ: أي: ثِقْلٌ وصَمَمٌ، وأصلُ (وقر): يدُلُّ على ثِقَلٍ في الشَّيءِ [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/197)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/132)، ((المفردات)) للراغب (ص: 70، 88). .
حِجَابٌ: أي: سِترٌ، وكُلُّ ما يَستُرُ المطلوبَ ويَمنَعُ مِن الوُصولِ إليه فهو حِجابٌ، وأصلُ (حجب): يدُلُّ على المَنعِ مِن الوُصولِ [11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/166)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/143)، ((المفردات)) للراغب (ص: 219)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 360). .
مَمْنُونٍ: أي: مَقطوعٍ، وأصلُ (منن) هنا: يدُلُّ على قَطعٍ [12] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 477)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 428)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/267)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 420). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
قَولُه: قُرْآَنًا في نَصبِه أوجُهٌ؛ أحدُها: أنَّه حالٌ مِن كِتَابٌ النَّكرةِ؛ لِوَصفِه بـ فُصِّلَتْ، أو مِنْ آَيَاتُهُ، وعَرَبِيًّا صِفةٌ لـ قُرْآَنًا. الثَّاني: أنَّه حالٌ مُوَطِّئةٌ، والحالُ في الحقيقةِ عَرَبِيًّا. الثَّالِثُ: أنَّه مَنصوبٌ على الاختِصاصِ والمَدحِ على إضمارِ (أمدَحُ) أو (أخُصُّ). وقيلَ غيرُ ذلك.
قَولُه: لِقَوْمٍ مُتعَلِّقٌ بـ فُصِّلَتْ، أي: فُصِّلَت لهؤلاء وبُيِّنَت لهم، أو بـ تَنْزِيلٌ، أو مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ هو صفةٌ أُخْرى لـ قُرْآَنًا، أي: كائِنًا لِقَومٍ يَعلَمونَ [13] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/249)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/34)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/505). .

المعنى الإجمالي:

ابتدأَ اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكَريمةَ بِقَولِه تعالى: حم، المشتمِلِ على حرفَينِ مِن الحُروفِ المُقَطَّعةِ الَّتي افتُتِحَتْ بها بعضُ سُوَرِ القُرآنِ؛ وذلك للإشارةِ إلى إعجازِه، ثمَّ ذَكَر اللهُ تعالى أنَّ هذا القُرآنَ مُنزَّلٌ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عندِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، وأنَّ هذا كِتابٌ فَصَّلَ اللهُ آياتِه وأوضَحَ معانيَه وأحكامَه باللُّغةِ العربيَّةِ، لِقَومٍ يَعلَمونَ اللِّسانَ العَربيَّ، فيَنتَفِعونَ ببَيانِه ويَتدبَّرونَه، بشيرًا بحُصولِ الخَيرِ والرَّحمةِ لِمَنْ آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا، ونذيرًا بالشَّرِّ لِمَن كَفَر وعَمِلَ السَّيِّئاتِ.
 فما كان مِن كفَّارِ قريشٍ إلَّا أنْ أعرَضَ أكثَرُهم عن سَماعِ القُرآنِ، فهم لا يَسمَعونَه سَماعَ قَبولٍ وانتِفاعٍ، وقالوا: قُلوبُنا في أغطِيةٍ تَمنَعُ عنَّا فَهْمَ القُرآنِ، وفي آذانِنا ثِقلٌ قد أصَمَّها عن السَّماعِ، ومِن بَيْنِنا وبَيْنِك حاجِزٌ يَحجُبُنا عنك وعن مُوافَقتِك؛ فاعمَلْ -يا مُحمَّدُ- بدينِك الَّذي ارتَضَيتَ، إنَّنا عامِلونَ بدِينِنا!
ثمَّ يأمُرُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بالرَّدِّ على هؤلاءِ المشركينَ، فيقولُ: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لأولئك المُشرِكينَ: إنَّما أنا بَشَرٌ مِثلُكم، يُوحَى إلَيَّ أنَّ إلهَكم إلهٌ واحِدٌ لا شَريكَ له؛ فاسلُكوا الطَّريقَ المُستقيمَ مُتوجِّهينَ إليه سُبحانَه، واستَغفِروه؛ وهَلاكٌ وعَذابٌ شَديدٌ للمُشرِكينَ الَّذين لا يُزَكُّونَ أنفُسَهم بالإيمانِ باللهِ وطاعتِه، والبُعدِ عن الإشراكِ به، وهم بالآخِرةِ جاحِدونَ.
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالى حُسنَ عاقبةِ المؤمنينَ، فيقولُ: إنَّ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ لهم أجرٌ دائِمٌ غيرُ مُنقَطِعٍ.

تفسير الآيات:

حم (1).
هذانِ الحرفانِ مِن الحروفِ المُقطَّعةِ الَّتي افتُتِحَتْ بها بعضُ سُوَرِ القرآنِ الكريمِ؛ لبيانِ إعجازِ هذا القرآنِ؛ حيثُ تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن مُعارَضَتِه بمِثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ الَّتي يَتحدَّثونَ بها [14] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/160)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/206)، ((تفسير ابن عُثيمين- الفاتحة والبقرة)) (1/24). .
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2).
أي: هذا القُرآنُ مُنزَّلٌ على مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مِن عندِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الَّذي وَسِعَتْ رَحمتُه كُلَّ شَيءٍ؛ ومِن رَحمتِه بعِبادِه إنزالُ القُرآنِ المُشتَمِلِ على العِلمِ والهُدى، والنُّورِ والشِّفاءِ، والرَّحمةِ والخَيرِ والسَّعادةِ [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/375)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/379)، ((تفسير ابن كثير)) (7/161)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 16-18). .
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3).
أي: هذا كِتابٌ بيَّن اللهُ آياتِه بَيانًا تامًّا واضِحًا حالَ كونِه قرآنًا عربيًّا، لِقَومٍ يَعلَمونَ اللِّسانَ العَرَبيَّ، فيَتمَكَّنونَ مِن فَهمِه وتدَبُّرِه والانتِفاعِ ببَيانِه [16] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/735)، ((تفسير ابن جرير)) (20/375، 376)، ((تفسير ابن كثير)) (7/161)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/136، 137)، ((تفسير القاسمي)) (8/324)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/229-231). قال ابن عطية: (فُصِّلَتْ معناه: بُيِّنَت آياتُه، أي: فُسِّرَت معانيه، ففصل بيْنَ حلالِه وحرامِه، وزَجْرِه وأمْرِه، ووَعْدِه ووَعيدِه. وقيل: فُصِّلَتْ في التَّنزيلِ، أي: نُزِّل نجومًا، لم يُنَزَّلْ مَرَّةً واحِدةً. وقيل: فُصِّلَتْ بالمواقِفِ وأنواعِ أواخِرِ الآيِ، ولم يكُنْ يَرجِعُ إلى قافيةٍ ونَحوِها، كالشِّعرِ والسَّجعِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/3). وقال ابنُ عاشور: (المرادُ: أنَّ آياتِ القُرآنِ واضِحةُ الأغراضِ، لا تَلتبِسُ إلَّا على مُكابرٍ في دَلالةِ كُلِّ آيةٍ على المقصودِ منها، وفي مَواقِعِها وتمييزِ بَعضِها عن بَعضٍ في المعنى، باختلافِ فُنونِ المعاني الَّتي تَشتمِلُ عليها). ((تفسير ابن عاشور)) (24/231). وقال الماوَرْدي: (قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيه ثلاثةُ أوجُهٍ؛ أحدُها: يَعلَمونَ أنَّه إلهٌ واحِدٌ في التَّوراةِ والإنجيلِ. قاله مجاهدٌ. الثَّاني: أنَّ القُرآنَ مِن عندِ اللهِ نَزَل. قاله الضَّحَّاكُ. الثَّالثُ: يَعلَمونَ العَربيَّةَ فيَعجِزونَ عن مِثْلِه). ((تفسير الماوردي)) (5/168). ممَّن اختار أنَّ معنى يَعْلَمُونَ أي: اللُّغةَ العربيَّةَ: ابنُ جرير، والنحاس، والبغوي، والقرطبي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/376)، ((معاني القرآن)) للنحاس (6/242)، ((تفسير البغوي)) (4/124)، ((تفسير القرطبي)) (15/338)، ((تفسير العليمي)) (6/143). وقال البقاعي: (يَعْلَمُونَ أي: فيهم قابليَّةُ العِلمِ، وتجَدُّدُ الفَهمِ، بما فيهم مِن سَلامةِ الطَّبعِ، وسَلاسةِ الانقيادِ لِبَراهينِ العَقلِ والسَّمعِ، وحِدَّةِ الأذهانِ، وفَصاحةِ اللِّسانِ، وصِحَّةِ الأفكارِ، وبُعْدِ الأغوارِ، وفي هذا تَبكيتٌ لهم في كَونِهم لا ينظرونَ مَحاسِنَه فيَهتَدوا بها، كما يَعتَنونَ بالنَّظَرِ في القَصائِدِ). ((نظم الدرر)) (17/137). .
بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4).
بَشِيرًا وَنَذِيرًا.
أي: يُبَشِّرُ القُرآنُ مَنْ آمَنَ وعَمِلَ الصَّالحاتِ بحُصولِ الخَيرِ والرَّحمةِ، ويُنذِرُ مَنْ كَفَر وعَمِلَ السَّيِّئاتِ بالشَّرِّ والنِّقمةِ [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/376)، ((تفسير ابن عطية)) (5/4)، ((تفسير ابن كثير)) (7/161)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/232)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/5)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 27). .
فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ.
أي: فأعرَضَ [18] قال ابنُ عثيمين: (الفاءُ عاطِفةٌ، و«أَعْرَضَ» مَعطوفةٌ على فُصِّلَتْ، يعني: كتابٌ فُصِّلَت آياتُه، ومعَ ذلك أعرَضَ أكثَرُهم، ويحتمِلُ أن تكونَ الفاءُ للاستئنافِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 27). أكثَرُ كفَّارِ قريشٍ [19] ممَّن اختار القولَ المذكورَ؛ أنَّ الضَّميرَ يعودُ إلى كُفَّارِ قُرَيشٍ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، وابن الجوزي، والقرطبي، وابن كثير. يُنظر: ((مقاتل بن سليمان)) (3/735)، ((تفسير ابن جرير)) (20/376)، ((تفسير السمرقندي)) (3/217)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/45)، ((تفسير القرطبي)) (15/338)، ((تفسير ابن كثير)) (7/161). وقيل: يعودُ إلى القَومِ المذكورينَ في قَولِه تعالى: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، أي: كانوا مِن أهلِ العِلمِ، ولكِنْ لم ينظروا النَّظَرَ التَّامَّ، بل أعرَضوا، فهم لا يَسمَعونَ؛ لإعراضِهم عمَّا احتوَى عليه من الحُجَجِ والبراهينِ، أو لَمَّا لم يَنتفِعْ به ولم يَقبَلْه، جُعِلَ كأنَّه لم يَسمَعْه. وممَّن ذهَب إلى أنَّه يعودُ إلى القومِ المذكورينَ: ابنُ عطية، وأبو حيان. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/4)، ((تفسير أبي حيان)) (9/285). وردَّ هذا القولَ ابنُ عاشور، فذكر أنَّ الضَّميرَ (ليس عائِدًا إلى لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ؛ لِأنَّ الذين يَعلَمونَ لا يُعرِضُ أحَدٌ منهم). يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/233). وقيل: المرادُ: أكثَرُ الخَلقِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: السعدي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 744). عن سَماعِ القُرآنِ وتدَبُّرِه واتِّباعِه، فهم لا يَسمَعونَه سَماعَ قَبولٍ وانتِفاعٍ [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/376)، ((تفسير القرطبي)) (15/338)، ((تفسير ابن كثير)) (7/161)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/142)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/232، 233)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/5)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 27، 28). قال السَّعدي: (أعرَضَ أكثَرُ الخَلقِ عنه إعراضَ المُستَكبِرينَ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ له سَماعَ قَبولٍ وإجابةٍ، وإن كانوا قد سَمِعوه سماعًا تقومُ عليهم به الحُجَّةُ الشَّرعيَّةُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 744، 745). وقال ابنُ عاشور: (أي: فهُم لا يُلقُونَ أسماعَهم للقُرآنِ، فَضلًا عن تدَبُّرِه). ((تفسير ابن عاشور)) (24/233). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف: 3] .
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وَصَف القُرآنَ بأنَّهم أعرَضوا عنه ولا يَسمَعونَه؛ بيَّنَ أنَّهم صَرَّحوا بهذه النَّفرةِ والمُباعَدةِ [21] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/540). .
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ.
أي: وقال المُعرِضونَ عن القُرآنِ: قُلوبُنا الَّتي نَعقِلُ بها ونَفهمُ في أَغطِيةٍ مُحيطةٍ بها، تَمنَعُ عنَّا فَهْمَ ما تَدْعونا إليه، يا مُحمَّدُ [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/377)، ((تفسير ابن كثير)) (7/161)، ((تفسير القاسمي)) (8/325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/5، 6). !
وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ.
أي: وفي آذانِنا ثِقْلٌ قد أصَمَّها عن السَّماعِ؛ فنَحن لا نَسمَعُ ما تَدْعونا إليه [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/377)، ((تفسير ابن كثير)) (7/161)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/142)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/235)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/6). قال ابنُ جرير: (وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وهو الثِّقْلُ، لا نَسمَعُ ما تَدْعونا إليه؛ استِثقالًا لِما يَدعو إليه، وكراهةً له). ((تفسير ابن جرير)) (20/377). !
وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ.
أي: ومِن بَيْنِنا وبَينِك حاجِزٌ يَحجُبُنا عنك؛ فنحن لا نراك [24] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/161)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/143)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/6)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 30، 31). قال البقاعي: (فنحن لا نراكَ لِنَفهمَ عنك بالإشارةِ، فانسدَّت طُرُقُ الفَهمِ لِما تقولُ). ((نظم الدرر)) (17/143). وقال السعدي: (القَصدُ مِن ذلك: أنَّهم أظهَروا الإعراضَ عنه مِن كُلِّ وَجهٍ، وأظهَروا بُغْضَه، والرِّضا بما هم عليه). ((تفسير السعدي)) (ص: 744). وقال الشنقيطي: (أنَّ مِن بَيْنِهم وبينِه حِجابًا مانِعًا لهم مِنَ الاتِّصالِ والاتِّفاقِ؛ لأنَّ ذلك الحِجابَ يَحجُبُ كُلًّا منهما عن الآخَرِ، ويَحولُ بيْنَهم وبيْنَ رؤيةِ ما يُبدِيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الحَقِّ). ((أضواء البيان)) (7/6). وقال أيضًا: (اللهُ جَعَل لهم قلوبًا يَفهَمونَ بها، وآذانًا يَسمَعونَ بها، خِلافًا لِما زَعَموا، ولكِنَّه سبَّب لهم الأكِنَّةَ والوَقْرَ والحِجابَ؛ بسَبَبِ مُبادرتِهم إلى الكُفرِ وتكذيبِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا المعنى أوضَحَه رَدُّه تعالى على اليهودِ في قَولِه عنهم: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] ). ((أضواء البيان)) (7/8). وقيل: المرادُ بالحجابِ: فُرقةٌ في الدِّينِ، وحاجزٌ في النِّحلةِ. وممَّن اختاره: الفَرَّاءُ، والواحدي، وابن الجوزي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/12)، ((الوسيط)) للواحدي (4/24)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/45). وقال ابن عطية: (والحِجابُ الَّذي أشاروا إليه: هو مُخالَفتُه إيَّاهم، ودعوتُه إلى اللهِ دونَ أصنامِهم، أي: هذا أمرٌ يَحجُبُنا عنك، وهذه مقالةٌ تَحتمِلُ أن تكونَ معها قرينةُ الجِدِّ في المُحاوَرةِ وتتضَمَّنُ المباعَدةَ، ويحتمِلُ أن تكونَ معها قرينةُ الهَزلِ والاستِخفافِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/4). !
كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] .
فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ.
أي: فاعمَلْ -يا مُحمَّدُ- بدينِك، إنَّنا عامِلونَ بدِينِنا الَّذي رَضِيناه لأنفُسِنا، فلن نتَّبِعَك [25] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/378)، ((تفسير ابن كثير)) (7/161)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744). قال ابن عطية: (يحتمِلُ أن يكونَ القَولُ تهديدًا، ويحتمِلُ أن يكونَ مُتارَكةً مَحضةً). ((تفسير ابن عطية)) (5/4). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 31). .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أخبَروا بإعراضِهم، وعَلَّلوا بعَدَمِ فَهْمِهم بما يَدعو إليه؛ أمَرَ الله سُبحانَه نبيَّه بجَوابٍ يُبَيِّنُ أنَّهم على مَحضِ العِنادِ [26] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/143). .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: إنَّما أنا مِثلُكم في الجِنسِ والهَيئةِ، والصُّورةِ والصِّفاتِ البَشَريَّةِ [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/378)، ((تفسير القرطبي)) (15/340)، ((تفسير ابن كثير)) (7/164)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/237)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/9). قال السعدي: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أي: هذه صِفتي ووظيفتي، أنِّي بشرٌ مِثلُكم، ليس بيدي مِن الأمرِ شَيءٌ، ولا عندي ما تَستعجِلونَ به، وإنَّما فضَّلني الله عليكم وميَّزني وخصَّني بالوحيِ الَّذي أوحاه إلَيَّ، وأمَرني باتِّباعِه، ودعوَتِكم إليه). ((تفسير السعدي)) (ص: 744). وقال ابنُ عاشور: (كأنَّه يقولُ: وماذا أستطيعُ أن أعمَلَ معكم، فإنِّي رَسولٌ مِن اللهِ، فحِسابُكم على اللهِ،... أي: أنا مقصورٌ على البَشَريَّةِ، دونَ التصَرُّفِ في قُلوبِ النَّاسِ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/237). وقال الشوكاني: (قيل: ومعنَى الآيةِ: أنِّي لا أقدِرُ على أنْ أحْمِلَكم على الإيمانِ قَسْرًا؛ فإنِّي بشرٌ مِثلُكم، ولا امتيازَ لي عنكم إلَّا أنِّي أُوحِي إلَيَّ التَّوحيدُ والأمرُ به، فعلَيَّ البلاغُ وحْدَه، فإنْ قَبِلْتُم رَشَدْتُم، وإنْ أبَيْتُم هلَكْتُم. وقيل: المعنَى: إنِّي لستُ بمَلَكٍ، وإنَّما أنا بشرٌ مِثلُكم، وقد أُوحِيَ إلَيَّ دونَكم، فصِرْتُ بالوحيِ نبيًّا، ووَجَب عليكم اتِّباعي). ((تفسير الشوكاني)) (4/580). .
يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ.
أي: يُوحَى إلَيَّ أنَّ مَعبودَكم مَعبودٌ واحِدٌ لا تَصلُحُ العبادةُ إلَّا له وَحْدَه سُبحانَه لا شَريكَ له [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/378)، ((تفسير القرطبي)) (15/340)، ((تفسير ابن كثير)) (7/161). .
فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ.
أي: فاسلُكوا الصِّراطَ المُستقيمَ المُوصِلَ إلى الله، مُتوَجِّهينَ إليه بإخلاصِ العبادةِ له، وسَلُوه سَتْرَ ذُنوبِكم، والتَّجاوُزَ عن مُؤاخَذتِكم بها [29] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/378)، ((تفسير ابن كثير)) (7/164)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/145)، ((تفسير القاسمي)) (8/325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 35-37). .
وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ.
أي: وهَلاكٌ وعَذابٌ شديدٌ للَّذين يَجعَلونَ لله شَريكًا في عِبادتِه [30] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/219)، ((تفسير ابن كثير)) (7/164)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/145)، ((تفسير الشوكاني)) (4/580)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 37). .
الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7).
الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ.
أي: الَّذين لا يُزَكُّونَ أنفُسَهم ولا يُطَهِّرونَها بالإيمانِ باللهِ، وطاعتِه وَحْدَه، والعملِ الصَّالحِ، والبُعدِ عن الإشراكِ بالله ومَعصيتِه [31] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/5)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/29)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/633)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/49)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/120)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 37، 38). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالزَّكاةِ هنا: التَّوحيدُ: ابن عطيَّةَ ونسَبَه للجمهورِ، وابنُ القيِّمِ -ونسَبَه لأكثرِ المفسِّرينَ-، والعُلَيمي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/5)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/49)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/120)، ((تفسير العليمي)) (6/144)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 37، 38). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وعِكْرِمةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/379). قال ابن القيِّمِ: (قال تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ قال أكثرُ المفسِّرينَ مِن السَّلفِ ومَن بعدَهم: هي التَّوحيدُ: شَهادةُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، والإيمانُ الَّذي به يَزكو القلبُ). ((إغاثة اللهفان)) (1/49). وقال ابن عثيمين: (متى حقَّق الإنسانُ التَّوحيدَ فلا بدَّ أن يقومَ بشَرائِعِ الإسلامِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 45). وقيل: المرادُ بالزَّكاةِ: زكاةُ المالِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، والبيضاويُّ، وابن جُزَي، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/380)، ((تفسير البيضاوي)) (5/67)، ((تفسير ابن جزي)) (2/237)، ((تفسير الشوكاني)) (4/580)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/240). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، والحسَنُ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/380)، ((تفسير الثعلبي)) (8/286). وقال السمعاني: (وقوله: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ أي: لا يَرَوْنَ الزَّكاةَ واجبةً عليهم كما يَراه المسلمون. ويُقالُ: معنى الإيتاءِ هو على ظاهِرِه، والكافرُ يُعاقَبُ في الآخرةِ بتركِ إيتاءِ الزَّكاةِ؛ لأنَّهم مُخاطَبون بالشَّرائعِ. ذكره جماعةٌ مِن أهلِ العِلمِ). ((تفسير السمعاني)) (5/37). واختار مقاتلٌ أنَّ المرادَ: لا يُعطون الصَّدقةَ، ولا يُطعِمون الطَّعامَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/736). وقال ابنُ جُزَي: (قيل: يعني بالزَّكاةِ: التَّوحيدَ. وهذا بعيدٌ، وإنَّما حمَلَه على ذلك؛ لأنَّ الآياتِ مَكِّيَّةٌ، ولم تُفرَضِ الزَّكاةُ إلَّا بالمدينةِ، والجوابُ: أنَّ المرادَ: النَّفَقةُ في طاعةِ الله مُطلقًا، وقد كانت مأمورًا بها بمكَّةَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/237). وقال ابنُ كثير: (هذا هو الظَّاهِرُ عندَ كثيرٍ مِن المفَسِّرينَ [أي أنَّ المرادَ منْعُ زكاةِ أموالِهم]، واختاره ابنُ جرير. وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّ إيجابَ الزَّكاةِ إنَّما كان في السَّنةِ الثَّانيةِ مِن الهِجرةِ إلى المدينةِ، على ما ذكَرَه غيرُ واحدٍ، وهذه الآيةُ مَكِّيَّةٌ، اللَّهُمَّ إلَّا أن يُقالَ: لا يَبعُدُ أن يكونَ أصلُ الزَّكاةِ الصَّدَقةَ، وكان مأمورًا به في ابتداءِ البَعثةِ، كقَولِه تعالى: وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام: 141]، فأمَّا الزَّكاةُ ذاتُ النُّصُبِ والمقاديرِ فإنَّما بُيِّنَ أمْرُها بالمدينةِ، ويكونُ هذا جَمعًا بيْن القولَينِ، كما أنَّ أصلَ الصَّلاةِ كان واجِبًا قبْلَ طُلوعِ الشَّمسِ وقبْلَ غُروبِها في ابتداءِ البَعثةِ، فلمَّا كان لَيلةُ الإسراءِ قبْلَ الهِجرةِ بسَنةٍ ونِصفٍ فَرَض اللهُ على رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم الصَّلَواتِ الخَمْسَ، وفَصَّل شُروطَها وأركانَها وما يَتعلَّقُ بها بعدَ ذلك شيئًا فشَيئًا. واللهُ أعلَمُ). ((تفسير ابن كثير)) (7/164). وممَّن جَمَع بيْن المعنيَينِ: السعدي، فقال: (لم يُزَكُّوها بتوحيدِ رَبِّهم والإخلاصِ له، ولم يُصَلُّوا ولا زكَّوا؛ فلا إخلاصَ للخالِقِ بالتَّوحيدِ والصَّلاةِ، ولا نَفْعَ للخَلقِ بالزَّكاةِ وغَيرِها). ((تفسير السعدي)) (ص: 744). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/145، 146). واختار ابنُ تيميَّةَ ما هو أعَمُّ مِن ذلك، فقال: (التَّحقيقُ أنَّ الآيةَ تَتناوَلُ كُلَّ ما يَتزكَّى به الإنسانُ مِن التَّوحيدِ والأعمالِ الصَّالحةِ). ((مجموع الفتاوى)) (10/633). .
وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ.
أي: وهم مُنكِرونَ للآخرةِ، جاحِدونَ بها، فلا يُؤمِنونَ بالحياةِ الأُخرى بعدَ المَوتِ [32] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/380)، ((تفسير الشوكاني)) (4/580)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744). .
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر عقوبةَ المشركينَ؛ بيَّن ثوابَ المؤمنينَ [33] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 50). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/147). وفي ذلك تحقيقُ أنَّ القُرآنَ مَثَانٍ؛ تُثَنَّى فيه المعاني المُتقابِلةُ، فإذا ذُكِرَ ثوابُ المجرِمينَ ذُكِرَ ثوابُ المتَّقينَ، وإذا ذُكِرَتِ الجنَّةُ ذُكِرتِ النَّارُ، وهَلُمَّ جَرًّا؛ مِن أجْلِ أنْ يكونَ الإنسانُ سائِرًا إلى ربِّه بيْنَ الخَوفِ والرَّجاءِ، وهكذا يَنبغي للإنسانِ في سَيرِه إلى ربِّه أن يَكونَ خائفًا راجيًا. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 53). .
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8).
أي: إنَّ الَّذين آمَنوا بما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ بإخلاصٍ لله تعالى ومُتابَعةٍ لِشَرعِه؛ لهم أجرٌ دائِمٌ، وثَوابٌ غيرُ مُنقَطِعٍ [34] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/341)، ((تفسير ابن كثير)) (7/164)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/11، 12). قال ابن عثيمين: (وقيل: غَيْرُ مَمْنُونٍ: غَيرُ مَمنونٍ به، أي: يُعطَونَه بلا مِنَّةٍ، وهذا محتمِلٌ، وإذا كان محتمِلًا لا يُنافي المعنى الأوَّلَ كان المرادُ بالآيةِ المعنيَينِ جميعًا؛ إذ لدينا قاعِدةٌ ... وهي: إذا كان النَّصُّ يحتمِلُ معنيَينِ لا يُنافي أحَدُهما الآخَرَ، فإنَّ النَّصَّ يُحمَلُ عليهما جميعًا ... لكِنْ إذا كان أحَدُهما أرجَحَ مِن الآخَرِ فإنَّه يُتبَعُ الأرجَحُ، إذَنْ قَولُه تعالى: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي: ثوابٌ غيرُ مَقطوعٍ، وثوابٌ غَيرُ مَمنونٍ به). ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 52). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ فيه تنبيهٌ على الإخلاصِ، وأنَّ العامِلَ يَنبغي له أن يجعَلَ مَقصودَه وغايتَه الَّتي يَعمَلُ لأجْلِها الوُصولَ إلى اللهِ تعالى، وإلى دارِ كَرامتِه؛ فبذلك يكونُ عَمَلُه خالِصًا صالِحًا نافِعًا، وبفَواتِه يَكونُ عَمَلُه باطِلًا [35] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 744). ، فالآيةُ دلَّت على وُجوبِ الإخلاصِ للهِ، والاستِقامةِ على دينِه؛ فـ «استقيموا» هذا العَمَلُ، و «إليه» هذا الإخلاصُ [36] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 47). .
2- قَولُ الله تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ لَمَّا كان العَبدُ -ولو حَرَص على الاستِقامةِ- لا بُدَّ أن يَحصُلَ منه خَلَلٌ بتَقصيرٍ بمأمورٍ، أو ارتِكابِ مَنهيٍّ؛ أمَرَه بدواءِ ذلك بالاستِغفارِ المتضَمِّنِ للتَّوبةِ [37] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 744). ، فالآيةُ فيها إشارةٌ إلى أنَّه لا بُدَّ مِن تقصيرٍ في الاستِقامةِ المأمورِ بها، فيُجبَرُ ذلك بالاستغفارِ المُقتَضي للتَّوبةِ، والرُّجوعِ إلى الاستِقامةِ [38] يُنظر: ((جامع العلوم والحِكَم)) لابن رجب (1/510). .
3- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ أنَّ التَّوحيدَ تزكيةٌ للنَّفْسِ، ولا شكَّ أنَّ التَّوحيدَ تزكيةٌ للنَّفْسِ؛ لأنَّك تَقْطَعُ العَلائقَ مع غيرِ اللهِ إلَّا فيما يُحِبُّ اللهُ تعالى [39] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 47). . وذلك على قولٍ في تفسيرِ كلمةِ الزَّكَاةَ.

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إثباتُ العُلُوِّ للهِ تعالى؛ ووجْهُ ذلك: الإخبارُ بنزولِ الأشياءِ مِن عِندِه سبحانَه [40] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/164). .
2- قَولُ الله تعالى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ ... فيه إيماءٌ إلى استِحماقِ الَّذين أعرَضوا عن الاهتِداءِ بهذا الكِتابِ بأنَّهم أعرَضوا عن رَحمةٍ، وأنَّ الَّذين اهتَدَوا به هم أهلُ المَرحَمةِ [41] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/230). .
3- قَولُ الله تعالى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيه أنَّه يَجِبُ على المكَلَّفِ تَنزيلُ ألفاظِ القُرآنِ على المعاني الَّتي هي مَوضوعةٌ لها بحَسَبِ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ، فأمَّا حَمْلُها على مَعانٍ أُخَرَ لا بهذا الطَّريقِ فهذا باطِلٌ قَطعًا، وذلك مِثلُ الوُجوهِ الَّتي يَذكُرُها أهلُ الباطِنِ، مِثلُ أنَّهم تارةً يَحمِلونَ الحُروفَ على حِسابِ الجُمَّلِ [42] حسابُ الجُمَّلِ: ضربٌ مِن الحسابِ يُجعَلُ فيه لكلِّ حرفٍ مِن الحروفِ الأبجديةِ عددٌ مِن الواحِد إلى الألْفِ على ترتيبٍ خاصٍّ. يُنظر: ((المعجم الوسيط)) (1/136)، ((معجم اللغة العربية المعاصرة)) (1/399). ويُنظر أيضًا: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (1/74، 75)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/82) و (17/398، 399)، ((تفسير ابن كثير)) (1/161). ، وتارةً يَحمِلونَ كُلَّ حَرفٍ على شَيءٍ آخَرَ، وللصُّوفيَّةِ طُرُقٌ كَثيرةٌ في البابِ، ويُسَمُّونَها عِلمَ المكاشَفةِ! والَّذي يدُلُّ على فَسادِ تلك الوُجوهِ بأسْرِها قَولُه تعالى: قُرْآَنًا عَرَبِيًّا، وإنَّما سمَّاه عرَبيًّا؛ لِكَونِه دالًّا على هذه المعاني المَخصوصةِ بوَضعِ العَرَبِ وباصطِلاحاتِهم، وذلك يدُلُّ على أنَّ دَلالةَ هذه الألفاظِ لم تَحصُلْ إلَّا على تلك المعاني المَخصوصةِ، وأنَّ ما سِواه فهو باطِلٌ [43] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/539). ويُنظر أيضًا: ((الاعتصام)) للشاطبي (2/47-52). .
4- في قَولِه تعالى: قُرْآَنًا عَرَبِيًّا أنَّ القُرآنَ نَزَلَ باللُّغةِ العَرَبيَّةِ؛ ففيه مَنقَبةٌ للعَرَبِ؛ لأنَّ هذا القُرآنَ نَزَلَ بلُغتِهم، وفيه إحياءٌ للُّغةِ العَرَبيَّةِ؛ لأنَّ هذا القُرآنَ سيبقَى إلى أنْ يأذَنَ اللهُ بخَرابِ العالَمِ، ومِن المعلومِ أنَّه إذا بَقِيَ باللِّسانِ العربيِّ فسوف تَحيا اللُّغةُ العَرَبيَّةُ وتبقَى، وهذا مِن آثارِ القُرآنِ الكريمِ [44] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 25). .
5- قال الله تعالى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، قولُه: قُرْآَنًا عَرَبِيًّا استُدِلَّ به على فسادِ ما ذهَب إليه قومٌ مِن أنَّه حصَل في القرآنِ مِن سائرِ اللُّغاتِ، كقولِه: إِسْتَبْرَقٍ [الرحمن: 54]، و: سِجِّيلٍ [هود: 82] ، فقالوا: إنَّهما فارسيَّانِ، وقولِه: كَمِشْكَاةٍ [النور: 35] ، قالوا: إنَّها مِن لغةِ الحبشةِ، وقولِه بِالْقِسْطَاسِ [الإسراء: 35] ، قالوا: إنَّه مِن لغةِ الرُّومِ [45] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/539). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (5/4). ويُنظر الخلافُ في المسألةِ في: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (2/125)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (2/745). .
6- قَولُ الله تعالى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَصَف اللهُ تعالى القُرآنَ بكَونِه عَرَبِيًّا في مَعرِضِ المَدحِ والتَّعظيمِ، وهذا المَطلوبُ لا يَتِمُّ إلَّا إذا ثَبَت أنَّ لُغةَ العَربِ أفضَلُ اللُّغاتِ [46] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/539). .
7- قولُه تعالى: فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ فيه جوازُ نفيِ السَّمعِ لِمَن لا يَنتَفِعُ به، وكذلك يُقالُ في بقيَّةِ الحَوَاسِّ لِمَن لم يَنتفِعْ بها، نقولُ: إنَّ وُجودَها كالعدمِ! فمَنْ لم يَنتفِعْ بما رأَى نقولُ: هذا لا يُبصِرُ، ولو كان له عينانِ [47] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 29). !
8- قَولُ الله تعالى: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ يدُلُّ على أنَّ المَهدِيَّ مَن هداه اللهُ، وأنَّ الضَّالَّ مَن أضلَّه اللهُ، وتقريرُه: أنَّ الصِّفاتِ المذكورةَ للقُرآنِ في الآياتِ السَّابِقةِ تُوجِبُ قُوَّةَ الاهتِمامِ بمَعرفتِه، والوُقوفَ على معانيه؛ فكَونُه نازِلًا مِن عندِ الإلهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ يدُلُّ على اشتِمالِه على أفضَلِ المنافِعِ، وأجَلِّ المَطالِبِ، وكَونُه قُرآنًا عَربيًّا مُفَصَّلًا يدُلُّ على أنَّه في غايةِ الكَشفِ والبَيانِ، وكَونُه بَشيرًا ونَذيرًا يدُلُّ على أنَّ الاحتياجَ إلى فَهمِ ما فيه مِن أهَمِّ المُهِمَّاتِ؛ لأنَّ سَعيَ الإنسانِ في مَعرفةِ ما يُوصِلُه إلى الثَّوابِ أو إلى العِقابِ مِن أهَمِّ المُهِمَّاتِ، وقد حَصَلتْ هذه المُوجِباتُ الثَّلاثةُ في تأكيدِ الرَّغبةِ في فَهمِ القُرآنِ، وفي شِدَّةِ المَيلِ إلى الإحاطةِ به، ثمَّ مع ذلك فقد أعرَضوا عنه، ولم يَلتَفِتوا إليه، ونَبَذوه وراءَ ظُهورِهم! وذلك يدُلُّ على أنَّه لا مَهدِيَّ إلَّا مَن هداه اللهُ، ولا ضالَّ إلَّا مَن أضَلَّه اللهُ [48] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/540). .
9- قال الله تعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ الحِجابُ يَمنَعُ رُؤيةَ الحَقِّ، والأكِنَّةُ تَمنَعُ مِن فَهْمِه، والوَقرُ يَمنَعُ مِن سَماعِه [49] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 94). .
10- قَولُ الله تعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فيه سُؤالٌ: أنَّ اللهَ تعالى ذكر ذلك عن الكُفَّارِ في مَعرِضِ الذَّمِّ، مع أنَّه تعالى صرَّح في آيات أُخرَى بأنَّه جعَل على قلوبِهم الأكِنَّةَ، وفي آذانِهم الوَقْرَ، وجعَل بيْنَهم وبيْن رسولِه حِجابًا عندَ قراءتِه القُرآنَ؛ كما في قولِه تعالى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا [الإسراء: 45، 46]، وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام: 25]، وقوله: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] ، فذمَّهم على دعواهم الأكنةَ والوقرَ والحجابَ في هذه الآيةِ الكريمةِ مِن (فُصِّلت)، وبيَّن في الآياتِ الأُخرَى أنَّ ما ذمَّهم على ادِّعائِه واقعٌ بهم فعلًا، وأنَّه تعالى هو الذي جعَله فيهم، فكيفَ يُذَمُّونَ على قَولِ شَيءٍ هو حَقٌّ في نَفْسِ الأمرِ؟
والجوابُ: أنَّ اللهَ تعالى إنَّما جَعَل على قُلوبِهم الأكِنَّةَ، وطَبَع عليها، وخَتَم عليها، وجَعَل الوَقْرَ في آذانِهم، ونحوَ ذلك مِن الموانِعِ مِن الهُدى؛ بسَبَبِ أنَّهم بادَروا إلى الكُفرِ وتكذيبِ الرُّسُلِ طائِعينَ مُختارينَ، فجزاهم اللهُ على ذلك الذَّنْبِ الأعظَمِ طَمْسَ البَصيرةِ، والعَمى عن الهُدى جزاءً وِفاقًا؛ فالأكِنَّةُ والوَقرُ والحِجابُ المذكورةُ إنَّما جعَلَها اللهُ عليهم مُجازاةً لكُفرِهم الأوَّلِ، ومِن جَزاءِ السَّيِّئةِ تَمادي صاحِبِها في الضَّلالِ، ولله الحِكمةُ البالغةُ في ذلك. والآياتُ المصَرِّحةُ بمعنى هذا كثيرةٌ في القُرآنِ؛ كقَولِه تعالى: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] ، فقَولُ اليَهودِ في هذه الآيةِ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ كقَولِ كُفَّارِ مكَّةَ: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ، وقد رَدَّ اللهُ على اليَهودِ دَعواهم بـ (بل) الَّتي هي للإضرابِ الإبطاليِّ، في قَولِه تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] ، فالباءُ في قَولِه: بِكُفْرِهِمْ سَبَبيَّةٌ، وهي دالَّةٌ على أنَّ سَبَبَ الطَّبعِ على قُلوبِهم هو كُفرُهم، والأكِنَّةُ والوَقرُ والطَّبعُ كُلُّها مِن بابٍ واحِدٍ؛ وكقَولِه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [المنافقون: 3] ، والفاءُ في قَولِه: فَطُبِعَ سَبَبيَّةٌ، أي: ثمَّ كَفَروا، فطُبِعَ على قُلوبِهم بسَبَبِ ذلك الكُفرِ [50] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/6، 7). .
11- قولُه تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فيه الرَّدُّ على مَن قال: إنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم خُلِق مِن نورٍ، وأنَّه لا يكونُ له ظِلٌّ إذا مشَى في الشَّمسِ! وجْهُ ذلك: تحقيقُ البشريَّةِ بالمُماثَلةِ؛ قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، فأيُّ أحاديثَ تأتي بمثلِ هذه الأمورِ الَّتي تُوجِبُ إخراجَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن نطاقِ البشريَّةِ فإنَّها موضوعةٌ مكذوبةٌ؛ لأنَّه بَشَرٌ مِثلُنا [51] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 40). .
12- في قَولِه تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَجتهِدُ؛ ورُبَّما يُخطِئُ في اجتِهادِه؛ لأنَّ هذا مقتضَى البشريَّةِ، وكما هو الواقعُ في مِثلِ قولِ اللهِ تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة: 43] ، وفي قَولِه تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس: 1 - 10] ، لكنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لا يمكِنُ أنْ يُقَرَّ على خطأٍ؛ ولا يمكنُ أنْ يُقَرَّ على نسيانِ ما يجبُ! بل لا بُدَّ أنْ يَتَنبَّهَ أو يُنَبَّهَ [52] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 43). .
13- في قَولِه عزَّ وجلَّ: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ أهمِّيَّةُ التَّوحيدِ؛ حيثُ حَصَرَ الوَحيَ بالتَّوحيدِ، قال تعالى: يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا، مع أنَّه يُوحَى إليه أشياءُ أُخرى؛ كالصَّلاةِ والزَّكاةِ وغيرِ ذلك، لكِنْ لَمَّا كان أهمَّ ما جاء به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التَّوحيدُ، حَصَرَ الوحيَ به، فقال: أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 45). .
14- قَولُ الله تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ فيه سُؤالٌ: المقصودُ مِن الاستِغفارِ والتَّوبةِ: إزالةُ ما لا ينبغي، وذلك مُقَدَّمٌ على فِعلِ ما يَنبغي، فلِمَ عَكَس هذا التَّرتيبَ هاهنا، وقدَّم ما ينبغي على إزالةِ ما لا ينبغي؟
الجوابُ: ليس المرادُ مِن هذا الاستِغفارِ الاستِغفارَ عن الكُفرِ، بل المرادُ منه أن يَعمَلَ ثمَّ يَستَغفِرَ بعدَه؛ لأجْلِ الخَوفِ مِن وُقوعِ التَّقصيرِ في العَمَلِ الَّذي أَتى به، كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وإنَّه لَيُغانُ [54] أي: يُطبَقُ ويُستَرُ ويُغَطَّى. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/1610). على قَلبي، وإنِّي لأستَغفِرُ اللهَ في اليَومِ واللَّيلةِ مئةَ مرَّةٍ)) [55] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/542). والحديث رواه مسلم (2702) من حديث الأغَرِّ المُزَنيِّ رضيَ اللهُ عنه. .
15- قَولُ الله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ استَدَلَّ بَعضُ عُلَماءِ الأُصولِ بهذه الآيةِ الكَريمةِ على أنَّ الكُفَّارَ مُخاطَبونَ بفُروعِ الشَّريعةِ؛ لأنَّه تعالى صَرَّح في هذه الآيةِ الكريمةِ بأنَّهم مُشرِكونَ، وأنَّهم كافِرونَ بالآخِرةِ، وقد تَوعَّدَهم بالوَيلِ على شِرْكِهم وكُفْرِهم بالآخِرةِ، وعَدَمِ إيتائِهم الزَّكاةَ، سواءٌ قيل: إنَّ الزَّكاةَ في الآيةِ هي زَكاةُ المالِ المَعروفةُ، أو زكاةُ الأبدانِ بفِعلِ الطَّاعاتِ واجتِنابِ المعاصي [56] بخِلافِ القولِ بأنَّ المرادَ بالزَّكاةِ: الزَّكاةُ بالتَّوحيدِ والإيمانِ؛ فلا دليلَ فيها على ذلك. ؛ فعلى كُلِّ حالٍ فالآيةُ تدُلُّ على خِطابِ الكُفَّارِ بفُروعِ الإسلامِ [57] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/10). .
16- قَولُ الله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ فيه بَعثٌ للمُؤمِنينَ على أداءِ الزَّكاةِ [58] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/504). ، وزِيادةُ التَّحذيرِ والتَّخويفِ عن مَنعِها -على قولٍ في التَّفسيرِ-، حيثُ جُعِلَ مِن أوصافِ المُشرِكينَ بَعدَ قَولِه: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وقُرِنَ بالكُفرِ بالآخِرةِ حيثُ قيلَ: وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [59] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/3). ، فمانِعُ الزَّكاةِ مِن المُسلِمينَ له حَظٌّ مِنَ الوَيلِ الَّذي استحَقَّه المُشرِكونَ لِمَنعِهم الزَّكاةَ في ضِمنِ شِرْكِهم [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/240). .
17- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أنَّ الإيمانَ وَحْدَه لا يكفي حتَّى يَقتَرِنَ بعَمَلٍ، لكنْ إذا أُطلِقَ الإيمانُ شَمِل العمَلَ، وإنْ ذُكِرَ معه العَمَلُ صار العَمَلُ علانيةً والإيمانُ سِرًّا، مِثلُ قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ هنا جَمَعَ بيْنَ الإيمانِ والعَمَلِ، فيكونُ الإيمانُ في القلبِ، والعَمَلُ في الجَوارحِ [61] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 53). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- افتُتِحتْ هذه السُّورةُ الكريمةُ بالحَرفَيْنِ المقطَّعَيْنِ مِن حُروفِ الهِجاءِ حم؛ لأنَّ أوَّلَ أغراضِها أنَّ القُرآنَ مِن عِندِ اللهِ؛ ففي حَرفَيِ الهِجاءِ رَمزٌ إلى عَجزِهم عن مُعارَضَتِه بعدَ أنْ تَحَدَّاهم، لذلك لم يَفعَلوا، وفي ذلك الافتِتاحِ تَشويقٌ إلى تَطَلُّعِ ما يأتي بَعدَه؛ لِلاهتِمامِ به [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/224). .
- ولَعَلَّ افتِتاحَ هذه السُّوَرِ الحَواميمِ السَّبعِ بـ حم، وتَسميَتَها به؛ لِكَونِها مُصَدَّرةً ببَيانِ الكِتابِ، مُتَشاكِلةً في النَّظمِ والمَعنى [63] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/66). .
- وأيضًا افتُتِحَ الكَلامُ باسمٍ نَكِرةٍ تَنْزِيلٌ؛ لِمَا في التَّنكيرِ مِنَ التَّعظيمِ [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/229). .
- قولُه: مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُتعلِّقٌ بـ تَنْزِيلٌ، مُؤكِّدٌ لِما أفادَه التَّنوينُ مِن الفَخامةِ الذَّاتيَّةِ بالفَخامةِ الإضافيَّةِ [65] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/66)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/559)، ((تفسير أبي السعود)) (8/2). .
- وإيثارُ الصِّفَتَيْنِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ على غَيرِهما مِنَ الصِّفاتِ العَليَّةِ؛ لِلإيماءِ إلى أنَّ هذا التَّنزيلَ رَحمةٌ مِنَ اللهِ بعِبادِه؛ لِيُخرِجَهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، كقولِه تعالى: فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ [الأنعام: 157] ، وقولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] ، وقولِه: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [66] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/66)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/559)، ((تفسير أبي السعود)) (8/2)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/230). [العنكبوت: 51] .
- والجَمعُ بيْنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فيه معنًى حَسَنٌ، وهو أنَّ الرَّحمنَ دالٌّ على الصِّفةِ القائِمةِ به سُبحانَه، والرَّحيمَ دالٌّ على تعَلُّقِها بالمرحومِ؛ فكان الأوَّلُ للوَصفِ، والثَّاني للفِعلِ؛ فالأوَّلُ دالٌّ أنَّ الرَّحمةَ صِفتُه، والثَّاني دالٌّ على أنَّه يَرحَمُ خَلْقَه برَحمتِه. وقيل: فائِدةُ الجَمعِ بيْن الصِّفتَينِ «الرَّحمنِ والرَّحيمِ»: الإنباءُ عن رَحمةٍ عاجِلةٍ وآجِلةٍ، وخاصَّةٍ وعامَّةٍ [67] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/24). .
2- قولُه تعالَى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
- قولُه: كِتَابٌ بَدَلٌ مِن تَنْزِيلٌ؛ فحُصِّلَ مِنَ المَعنى أنَّ التَّنزيلَ مِنَ اللهِ كِتَابٌ، وأنَّ صِفَتَه فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ، مَوسومًا بكَونِه قُرْآَنًا عَرَبِيًّا. ويجوزُ جعْلُ قولِه: مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في مَوضعِ الصِّفةِ للمُبتدأِ، وجعْلُ قولِه: كِتَابٌ خبَرَ المُبتدأِ، وعلى كِلا التَّقديرينِ هو أُسلوبٌ فَخمٌ، والمُرادُ: أنَّه مُنزَّلٌ؛ فالمَصدرُ بمَعنى المَفعولِ، كقولِه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 192، 193]، وهو مُبالَغةٌ في كَونِه فَعَل اللهُ تنزيلَه؛ تَحقيقًا لِكَونِه مُوحًى به، وليس مَنقولًا مِن صُحُفِ الأوَّلينَ. وتَنكيرُ لَفظِ كِتَابٌ؛ لإفادةِ التَّعظيمِ [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/229، 230). .
- قولُه: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا ومِن كَمالِ تَفصيلِه أنَّه كان بِلُغةٍ كَثيرةِ المَعاني، واسِعةِ الأفنانِ، فَصيحةِ الألفاظِ؛ فكانت سالِمةً مِنِ الْتباسِ الدَّلالةِ، وانغلاقِ الألفاظِ، مع وَفرةِ المَعاني غيرِ المُتنافيةِ في قِلَّةِ التَّراكيبِ؛ فكان وَصْفُه بأنَّه عَربيٌّ مِن مُكَمِّلاتِ الإخبارِ عنه بالتَّفصيلِ، وقد تَكرَّرَ التَّنويهُ بالقُرآنِ مِن هذه الجِهةِ، كقَولِه: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 195]؛ ولهذا فَرَّعَ عليه ذَمَّ الَّذين أعرَضوا عنه بقَولِه هنا: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [فصلت: 4] ، وقَولِه هُنالِكَ: كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [69] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/231). [الشعراء: 200، 201].
- قَوله: قُرْآَنًا عَرَبِيًّا القُرآنُ: الكَلامُ المَقروءُ المَتلُوُّ، وكَونُه قُرآنًا مِن صِفاتِ كَمالِه، وهو أنَّه سَهلُ الحِفظِ، سَهلُ التِّلاوةِ؛ ففيه امتِنانٌ بسُهولةِ قِراءَتِه وفَهمِه، كما قال تَعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ [القمر: 17]، وقُرْآَنًا انتَصَبَ على الحالِ، أيْ: فُصِّلتْ آياتُه في حالِ كَونِه قُرآنًا عَرَبيًّا وقيل: انتَصَبَ قُرْآَنًا على النَّعتِ المَقطوعِ لِلاختِصاصِ بالمَدحِ؛ فقَولُه: قُرْآَنًا مَقصودٌ بالذِّكرِ؛ لِلإشارةِ إلى هذه الخُصوصيَّةِ الَّتي اختُصَّ بها مِن بَينِ سائِرِ الكُتُبِ الدِّينيَّةِ، ولولا ذلك لَقال: كِتابٌ فُصِّلت آياتُه عَربيٌّ، كما قال في سُورةِ (الشُّعراءِ): بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [70] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/184)، ((تفسير البيضاوي)) (5/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/231). [الآية: 195].
- قولُه: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ صِفةٌ لِقَولِه: قُرْآَنًا ظَرفٌ مُستَقَرٌّ [71] الظَّرْف المُستقَرُّ -بفتحِ القافِ-: سُمِّيَ بذلك؛ لاستِقرارِ الضَّميرِ فيه بَعْدَ حذْفِ عامِلِه، وهو الفِعلُ (استقرَّ)، ولأنَّه حينَ يصيرُ خبرًا مثلًا يَنتقِلُ إليه الضَّميرُ مِن عامِلِه المحذوفِ ويَستقِرُّ فيه؛ وبسببِ هذَينِ الأمْرَينِ استحقَّ عاملُه الحذفَ وجوبًا. فإذا أُلغِيَ الضَّميرُ فيه سُمِّيَ ظرفًا لَغوًا؛ لأنَّه فَضلةٌ لا يُهتَمُّ به، وسُمِّيَ أيضًا «اللَّغوُ» لغوًا؛ لأنَّ وُجودَه ضئيلٌ. فقولك: كان في الدَّارِ زَيدٌ، أي: كان مُستقِرًّا في الدَّارِ زيدٌ؛ فالظَّرفُ مُستقَرٌّ فيه، ثمَّ حُذِف الجارُّ، كما يُقالُ: المحصولُ للمَحصولِ عليه، ولم يُستحسَنْ تقديمُ الظَّرفِ اللَّغوِ، وهو ما ناصِبُه ظاهِرٌ؛ لأنَّه -إذَنْ- فَضلةٌ؛ فلا يُهتمُّ به، نحو: كان زيدٌ جالسًا عندَك. يُنظر: ((شرح الرضي على الكافية)) (4/210)، ((موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب)) لخالد الأزهري (ص: 82)، ((النحو الوافي)) لعباس حسن (2/446، 447). ، أيْ: كائنًا لِقَومٍ، باعتِبارِ ما أفادَه قَولُه: قُرْآَنًا عَرَبِيًّا مِن مَعنى وُضوحِ الدَّلالةِ، وسُطوعِ الحُجَّةِ، أو يَتَعلَّقُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بِقَولِه: تَنْزِيلٌ، أو بقَولِه: فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ، على مَعنى أنَّ فَوائِدَ تَنزيلِه وتَفصيلِه لِقَومٍ يَعلَمونَ دُونَ غَيرِهم؛ فكَأنَّه لم يُنزَّلْ إلَّا لهم، أيْ: فلا بِدْعَ إذا أعرَضَ عن فَهمِه المُعانِدونَ؛ فإنَّهم قَومٌ لا يَعلَمونَ [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/231، 232). . وقيل: لِقَوْمٍ مُتعلِّقٌ بـ فُصِّلَتْ أي: يَعلَمون الأشياءَ، ويَعقِلون الدَّلائلَ، فكأنَّه فُصِّلَ لهؤلاء؛ إذ همْ يَنتفِعون به، فخُصُّوا بالذِّكرِ تَشريفًا، ومَن لمْ يَنتفِعْ بالتَّفصيلِ، فكأنَّه لم يُفصَّلَ له [73] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/284). .
3- قولُه تعالَى: بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ
- انتَصَبَ بَشِيرًا على أنَّه حالٌ ثانيةٌ مِن كِتَابٌ، أو صِفةٌ لِلَفظِ قُرْآَنًا، وصِفةُ الحالِ في مَعنى الحالِ؛ فالأَولَى كَونُه حالًا ثانيةً، وجيءَ بقَولِه: وَنَذِيرًا مَعطوفًا بالواوِ؛ لِلتَّنبيهِ على اختِلافِ مَوقِعِ كُلٍّ مِنَ الحالَيْنِ، فهو بَشيرٌ لِقَومٍ، وهمُ الَّذينَ اتَّبَعوه، ونَذيرٌ لِآخَرينَ، وهمُ المُعرِضونَ عنه، وليس هو جامِعًا بيْن البِشارةِ والنِّذارةِ لِطائِفةٍ واحِدةٍ [74] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/232). .
- قولُه: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ تفريعٌ على ما ذُكِرَ مِن صِفاتِ القُرآنِ، وضَميرُ أَكْثَرُهُمْ عائِدٌ إلى مَعلومٍ مِنَ المَقامِ، وهمُ المُشرِكونَ، والمَعنى: فأعرَضَ أكثَرُ هؤلاء عمَّا في القُرآنِ مِنَ الهُدى؛ فلم يَهتَدوا، ومِنَ البِشارةِ فلم يُعنَوْا بها، ومِنَ النِّذارةِ فلم يَحذَروها، فكانوا في أشَدِّ الحَماقةِ؛ إذْ لم يُعنَوْا بخَيرٍ، ولا حَذِروا الشَّرَّ، فلم يَأخُذوا بالحَيطةِ لِأنفُسِهم [75] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/232، 233). .
- والفاءُ في قَولِه: فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ لِلتَّفريعِ على الإعراضِ، أيْ: فهمْ لا يُلْقونَ أسماعَهم لِلقُرآنِ، فَضلًا عن تَدَبُّرِه، وهذا إجمالٌ لِإعراضِهم. وتَقديمُ المُسنَدِ إليه على المُسنَدِ الفِعلِيِّ في فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ دُونَ أنْ يَقولَ: (فلا يَسمَعونَ)؛ لِإفادةِ تَقَوِّي الحُكمِ وتأكيدِه، والمَعنى: أنَّهم لا يَقبَلونَ ولا يُطيعونَ، مِن قَولِكَ: تَشَفَّعتُ إلى فُلانٍ فلم يَسمَعْ قَولي، ولقد سَمِعَه، ولكِنَّه لَمَّا لم يَقبَلْه، ولم يَعمَلْ بمُقتَضاه؛ فكَأنَّه لم يَسمَعْه [76] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/184)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/232). .
4- قولُه تعالَى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ
- قولُه: وَقَالُوا عطفٌ على فَأَعْرَضَ، أو حالٌ مِن أَكْثَرُهُمْ، أو عُطِفَ على لَا يَسْمَعُونَ في الآيةِ السَّابقةِ، أو حالٌ مِن ضَميرِه، والمَعنى: أنَّهم أعرَضوا مُصَرِّحينَ بقِلَّةِ الاكتِراثِ، وبالانتِصابِ لِلجَفاءِ والعَداءِ. وهذا تَفصيلٌ لِلإعراضِ عمَّا وُصِفَ به القُرآنُ مِنَ الصِّفاتِ الَّتي شأنُها أنْ تُقَرِّبَهم إلى تَلَقِّيه، لا أنْ يَبعُدوا ويُعرِضوا، وقد جاءَ بالتَّفصيلِ بأقوالِهمُ الَّتي حَرَمَتْهم مِنَ الانتِفاعِ بالقُرآنِ واحِدًا واحِدًا [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/233). .
- قولُه: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ إنْ قِيل: هلَّا قِيل: (على قُلوبِنا أكِنَّةٌ)، كما قِيل: وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ؛ لِيَكونَ الكلامُ على نَمطٍ واحدٍ؟
فالجوابُ: أنَّه على نمَطٍ واحدٍ؛ لأنَّه لا فرْقَ في المعنى بيْن قَولِك: قُلوبُنا في أكِنَّةٍ، وعلى قُلوبِنا أكِنَّةٌ، والدَّليلُ عليه قولُه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [الكهف: 57] . ولو قِيل: إنَّا جَعَلْنا قُلوبَهم في أكِنَّةٍ، لم يَختلِفِ المعنى؛ فالمَظروفُ كما هو مُستقِرٌّ في الظَّرْفِ، فإنَّ الظَّرْفَ أيضًا مُشتمِلٌ عليه. وقيل: بلْ إنَّ (في) أبلَغُ في هذا الموضعِ مِن (على)؛ لأنَّهم قَصَدوا إفراطَ عَدمِ القَبولِ؛ لِحُصولِ قُلوبِهم في أكِنَّةٍ احتَوَت عليها احتواءَ الظَّرْفِ على المَظروفِ؛ فلا يُمكِنُ أنْ يَصِلَ إليها شَيءٌ، كما تقولُ: المالُ في الكِيسِ، بخلافِ قَولِك: على المالِ كِيسٌ؛ فإنَّه لا يدُلُّ على الحصْرِ وعَدَمِ الحُصولِ دَلالةَ الوِعاءِ. ولو قيل: (على قُلوبِنا أكِنَّةٌ) كما في تلك الآيةِ: وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ، لم يَحصُلِ التَّطابُقُ في معنى الاستقرارِ وجَعْلِ أحدِهما ظَرْفًا والآخَرِ مَظروفًا. ولو قِيل: (على آذانِنا وَقْرٌ) لم يكُنْ بتلك المُبالَغةِ؛ لأنَّ المرادَ أنَّ الأصْمِخةَ [78] الأصْمِخة: جمْع الصِّماخِ، وهو: خَرْقُ الأُذُنِ. وقيل: هو الأُذُنُ نفْسُها. يُنظر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 179). قد سُدَّت فلا يَدخُلُ فيها الهواءُ، فضْلًا عن الكلامِ. وأمَّا معنى (على) في آيةِ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [الكهف: 57] ، فلِإرادةِ معنى الاستعلاءِ والقهْرِ مِن اللهِ تعالى [79] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/186)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/563، 564)، ((تفسير أبي حيان)) (9/285)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/234). .
- قَولُه: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ وقَع الاقتِصارُ على هذه الأعضاءِ الثَّلاثةِ؛ لأنَّ القَلبَ مَحَلُّ المَعرِفةِ، والسَّمعَ والبَصَرَ مُعِينانِ على تحصيلِ المعارِفِ؛ لذا ذَكَروا أنَّ هذه الثَّلاثةَ مَحجوبةٌ عن أن يَصِلَ إليها مِمَّا يُلقيه الرَّسولُ شَيءٌ [80] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/541)، ((تفسير أبي حيان)) (9/286). .
- وفي هذه الآيةِ مِن المُبالَغةِ والبلاغةِ ما لا يَلِيقُ أنْ يَنتظِمَ إلَّا في دُرَرِ الكِتابِ العزيزِ؛ فإنَّها اشتمَلَت على ذِكرِ حُجُبٍ ثلاثةٍ مُتواليةٍ، كلُّ واحدٍ منها كافٍ في فَنِّه: أوَّلُها: الحِجابُ الحائِلُ الخارِجُ؛ فقد شَبَّهوا قُلوبَهم بالشَّيءِ المُحوى المُحاطِ بالغِطاءِ المُحيطِ له، ووَجهُ الشَّبَهِ حَيلولةُ وُصولِ الدَّعوةِ إلى عُقولِهم، كما يَحولُ الغِطاءُ والغِلافُ دُونَ تَناوُلِ ما تَحتَه. ثانيها: حِجابُ الصَّمَمِ؛ فقد شَبَّهوا أسماعَهم بآذانٍ بها صَمَمٌ مِن حيثُ إنَّها تَمُجُّ الحَقَّ، ولا تَميلُ إلى استِماعِه. ثالِثُها: وأقصاها الحِجابُ الَّذي أكَنَّ القَلبَ -والعياذُ باللهِ- في قَولِه: وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ؛ فقد شَبَّهوا حالَ أنفُسِهم مع الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم بحالِ شَيئَيْنِ بَيْنَهما حِجابٌ عَظيمٌ يَمنَعُ مِن وُصولِ أحَدِهما إلى الآخَرِ، فلمْ تَدَعْ هذه الآيةُ حِجابًا مُرتَخيًا إلَّا سَدَلَتْه، ولم تُبقِ لِهؤلاء الأشقياءِ مَطمَعًا ولا صَريخًا إلَّا استَلَبَتْه، وقد جَمَعوا بيْنَ الحالاتِ الثَّلاثِ في التَّمثيلِ لِلمُبالَغةِ في أنَّهم لا يَقبَلونَ ما يَدعوهم إليه [81] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/185)، ((تفسير البيضاوي)) (5/66)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/562)، ((تفسير أبي حيان)) (9/285)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 504)، ((تفسير أبي السعود)) (8/3)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/233، 234)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/531، 532). .
- وفائِدةُ ذِكرِ (مِنْ) في قَولِه: وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ مع حُصولِ المَعنى بحَذفِها -كما في قولِه تعالى: جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [الإسراء: 45] -: الدَّلالةُ على أنَّ حِجابًا ابتدَأَ مِنَّا، وابتدَأَ مِنكَ؛ فالمسافةُ المتوسِّطةُ لِجِهتِنا وجِهَتِك مُستوعَبةٌ بالحِجابِ لا فراغَ فيها، وبتَقديرِ حَذفِها يَصيرُ المَعنى: إنَّ الحِجابَ حاصِلٌ في المَسافةِ بيْنَنا وبيْنَه [82] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/185)، ((تفسير البيضاوي)) (5/66)، ((تفسير أبي حيان)) (9/285)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 504)، ((تفسير أبي السعود)) (8/3). . وقيل: بلِ الصَّحيحُ أنَّها هاهنا مِثلُ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا [يس: 9] ؛ لِلإشعارِ بأنَّ الجِهةَ المُتَوسِّطةَ بيْنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبيْنَهم مَبدَأُ الحِجابِ [83] يُنظر: ((تفسير الزمخشري - حاشية ابن المنير)) (4/185)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/562)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/532)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/9). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 31). . وقيل: إنَّ اجتلابَ حَرْفِ (مِن) في قولِه: وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ؛ لِتَقويةِ معنى الحِجابِ بيْن الطَّرَفينِ، وتَمكُّنِ لازِمِه الَّذي هو بُعدُ المسافةِ الَّتي بيْن الطَّرَفينِ؛ لأنَّ (مِن) هذه صِلةٌ لِتَأكيدِ مَضمونِ الجُملةِ [84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/378)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/234). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/143). .
- وعَطفُ وَبَيْنِكَ تَأكيدٌ؛ لِأنَّ واوَ العَطفِ مُغْنيةٌ عنه [85] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/235). .
- القَولُ المَحكيُّ عنهم في القُرآنِ بـ (قَالُوا) في قولِه: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ يَحتَمِلُ أنْ يَكونَ القُرآنُ حَكاهُ عنهم بالمَعنى؛ فجَمَع القُرآنُ بإيجازِه وبَلاغَتِه ما أطالوا به الجِدالَ وأطنَبوا في اللَّجاجِ. ويَحتمِلُ أنَّه حكاهُ بلَفظِهم؛ فيَكونُ مِمَّا قاله أحَدُ بُلَغائِهم في مَجامِعِهمُ الَّتي جَمَعتْ بَيْنَهم وبيْنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. ويَحتمِلُ أنْ يَكونوا تَلَقَّفوه مِمَّا سَمِعوه في القُرآنِ مِن وَصْفِ قُلوبِهم وسَمعِهم وتَباعُدِهم، كقَولِه: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا [الإسراء: 46] ؛ فإنَّ سُورةَ (الإسراء) مَعدودةٌ في النُّزولِ قبْلَ سُورةِ (فُصِّلتْ)، وكذلك قولُه تعالَى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [الإسراء: 45] أيضًا، فجَمَعوا ذلك وجادَلوا به الرَّسولَ؛ فيَكونُ ما في هذه الآيةِ مِنَ البَلاغةِ قدِ اقتَبَسوه مِن آياتٍ أُخرى. وقيلَ: إنَّ قائِلَه أبو جَهلٍ في مَجمَعٍ مِن قُرَيشٍ؛ فلذلك أسنَدَ القَولَ إليهم جَميعًا؛ لِأنَّهم مُشايِعونَ له [86] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/235). .
- وقد جاءَ في حِكايةِ أقوالِهم ما فيه تَفصيلُ ما يُقابِلُ ما ذُكِرَ قَبْلَه مِن صِفاتِ القُرآنِ، وهي تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 2، 3]؛ فإنَّ كَوْنَه تَنزيلًا مِنَ الرَّحمنِ الرَّحيمِ يَستَدعي تَفَهُّمَه والانتِفاعَ بما فيه، فقُوبِلَ بقَولِهم: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، وكَوْنَه فُصِّلتْ آياتُه يَستَدعي تَلَقِّيَها والاستِماعَ إليها، فقُوبِلَ بقَولِهم: وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ، أيْ: فلا نَسمَعُ تَفصيلَه، وكَوْنَه قُرآنًا عَرَبيًّا أشَدُّ إلزامًا لهم بفَهمِه، فقُوبِلَ ذلك بما يَقطَعُ هذه الحُجَّةَ وهو وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ، أيْ: فلا يَصِلُ كَلامُه إليهم، ولا يَتطَرَّقُ جانِبَهم، فهذه تَفاصيلُ إعراضِهم عن صِفاتِ القُرآنِ [87] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/235، 236). .
- وقَولُهم: فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ تَفريعٌ على تأْييسِهمُ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مِن قَبولِهم دَعوَتَه، وجُعِلَ قَولُهم هذا مُقابِلَ وَصفِ القُرآنِ بأنَّه بَشيرٌ ونَذيرٌ؛ لِظُهورِ أنَّه تَعَيَّنَ كَونُه نَذيرًا لهم بعَذابٍ عَظيمٍ؛ لِأنَّهم أعرَضوا، فحُكيَ ما فيه تَصريحُهم بأنَّهم لا يَعبَؤونَ بنِذارَتِه، فإنْ كانَ له أذًى فلْيُؤذِهم به [88] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/236). .
- وحُذِفَ مَفعولَا (اعمَلْ) وعَامِلُونَ؛ لِيَعُمَّ كُلَّ ما يُمكِنُ عَمَلُه، كُلٌّ معَ الآخَرِ ما يُناسِبُه [89] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/236). .
- والأمْرُ في قَولِه: فَاعْمَلْ مُستَعمَلٌ في التَّسويةِ، والخَبَرُ في قَولِهم: إِنَّنَا عَامِلُونَ مُستَعمَلٌ في التَّهديدِ [90] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/236). . وذلك على قولٍ.
5- قولُه تعالَى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
- قولُه: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ استِئنافٌ ابتِدائيٌّ، هو تَلقينُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُجيبَ قَولَهم: فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت: 5] المُفَرَّعَ على قَولِهم: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [فصلت: 5] إلى آخِرِه، جَوابَ المُتَبَرِّئِ مِن أنْ يَكونَ له حَولٌ وقُوَّةٌ لِيَعمَلَ في إلْجائِهم إلى الإيمانِ لَمَّا أبَوْه؛ إذْ ما هو إلَّا بَشَرٌ مِثلُهم في البَشريَّةِ، لا حَولَ له على تَقليبِ القُلوبِ الضَّالَّةِ إلى الهُدَى، وما عليه إلَّا أنْ يُبَلِّغَهم ما أوْحى اللهُ إليه، وهذا الخَبَرُ يُفيدُ كِنايةً عن تَفويضِ الأمْرِ في العَمَلِ بجَزائِهم إلى اللهِ تَعالى، كأنَّه يَقولُ: وماذا أستَطيعُ أنْ أعمَلَ مَعَكم؛ فإنِّي رَسولٌ مِنَ اللهِ، فحِسابُكم على اللهِ تَعالى؛ فصِيغةُ القَصرِ في إِنَّمَا تُفيدُ قَصرًا إضافيًّا [91] القصرُ أو الحَصرُ في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مثل: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و (3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، أيْ: أنا مَقصورٌ على البَشَريَّةِ دُونَ التَّصرُّفِ في قُلوبِ النَّاسِ. وقيلَ: المَعنى: لَستُ مَلَكًا ولا جِنِّيًّا لا يُمكِنُكمُ التَّلقِّي منه، ولا أدْعوكم إلى ما تَنبو عنه العُقولُ والأسماعُ، وإنَّما أدعوكُم إلى التَّوحيدِ والاستِقامةِ في العَمَلِ، وقد تدُلُّ عليهما دَلائِلُ العَقلِ وشَواهِدُ النَّقلِ. وقيلَ: المَعْنى: إنِّي لَستُ بملَكٍ، وإنَّما أنا بَشَرٌ مِثلُكم، وقد أُوحيَ إلَيَّ دُونَكم، فصَحَّتْ بالوَحيِ إلَيَّ وأنا بَشَرٌ نُبُوَّتي، وإذا صَحَّتْ نُبُوَّتي وَجَبَ عليكمُ اتِّباعي [92] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/186)، ((تفسير أبي السعود)) (8/3)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/236، 237). .
- وقدْ بَيَّنَ ممَّا تَمَيَّزَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن المُشرِكينَ على وَجهِ الاحتِراسِ مِن أنْ يَتَلَقَّفوا قَولَه: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَلَقُّفَ مَن حَصَل على اعتِرافِ خَصمِه بنُهوضِ حُجَّتِه بما يُثبِتُ الفارِقَ بيْنَه وبيْنَهم في البَشَريَّةِ، وهو مَضمونُ جُملةِ يُوحَى إِلَيَّ؛ وذلك لِلتَّسجيلِ عليهم إبطالَ زَعمِهمُ المَشهورِ المُكَرَّرِ: أنَّ كَونَه بَشَرًا مانِعٌ مِن إرسالِه عنِ اللهِ تَعالى؛ لِقَولِهم: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفرقان: 7] ، ونحوِه ممَّا تَكرَّرَ في القُرآنِ. ومُماثَلتُه لهم: المُماثلةُ في البشريَّةِ؛ فتُفِيدُ تأْكيدَ كَونِه بشَرًا [93] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/237، 238). .
- وحِرصًا على إبلاغِ الإرشادِ إليهم بَيَّنَ له ما يُوحى إليه بقَولِه: أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ؛ إعادةً لِمَا أبلَغَهم إيَّاه غيْرَ مَرَّةٍ، شَأنَ القائِمِ بهَديِ النَّاسِ ألَّا يُغادِرَ فُرصةً لِإبلاغِهمُ الحَقَّ إلَّا انتَهَزَها، و(أنَّما) مَفتوحةُ الهمزةِ أختُ (إنَّما) المكسورةِ؛ تُفِيدُ القصْرَ؛ فقَولُه: أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ إدماجٌ [94] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المُتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحَمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحمدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). لِلدَّعوةِ إلى الحَقِّ في خِلالِ الجَوابِ؛ حِرصًا على الهَدْيِ، وكذلك التَّفريعُ بالفاءِ في قَولِه: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ؛ فإنَّه إتمامٌ لذلك الإدماجِ بتَفريعِ فائِدَتِه عليه؛ لِأنَّ إثباتَ أنَّ اللهَ إلهٌ واحِدٌ إنَّما يُقصَدُ منه إفرادُه بالعِبادةِ، ونَبذُ الشِّركِ [95] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/3)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/238). .
- قولُه: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ إنَّما عُدِّيَ بحرْفِ (إلى)؛ لأنَّها كثيرًا ما تُعاقِبُ اللَّامَ، يُقالُ: ذهَبْتُ له وذهَبْتُ إليه، والأحسَنُ أنَّ إيثارَ (إلى) هنا؛ لِتَضمينِ (استَقيموا) مَعنى: تَوَجَّهوا؛ لِأنَّ التَّوحيدَ تَوَجُّهٌ، أيْ: صَرفُ الوَجهِ إلى اللهِ دُونَ غَيرِه، كما حكَى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79] ، أو ضُمِّنَ (استَقيموا) مَعنى: أنيبوا، أيْ: تُوبوا مِنَ الشِّركِ، كما دَلَّ عليه عَطفُ وَاسْتَغْفِرُوهُ [96] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/238). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 35). .
- قولُه: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَعيدٌ لِلمُشرِكينَ بسُوءِ الحالِ والشَّقاءِ في الآخِرةِ، وتَرهيبٌ وتَنفيرٌ لهم عنِ الشِّركِ إثْرَ تَرغيبِهم في التَّوحيدِ، وهذا التَّهديدُ مِن فَرْطِ جَهالَتِهم، واستِخفافِهم باللهِ [97] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/67)، ((تفسير أبي السعود)) (8/3)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/239). .
- ويَجوزُ أنْ يَكونَ قولُه: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ مِن جُملةِ القَولِ الَّذي أُمِرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَقولَه. ويَجوزُ أنْ يَكونَ كَلامًا مُعتَرِضًا مِن جانِبِ اللهِ تعالَى بيْنَ جُملةِ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [فصلت: 6] ، وجُملةِ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] ، أيْ: أجِبْهم بقَولِكَ: أنا بَشَرٌ مِثلُكم يُوحَى إلَيَّ، ونحن أعْتَدْنا لهم الوَيلَ والشَّقاءَ إنْ لم يَقبَلوا ما تَدعوهم إليه؛ فيَكونَ هذا إخبارًا مِنَ اللهِ تَعالى [98] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/239). .
- وذِكرُ (المُشرِكينَ) إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ، ويُستَفادُ تَعليقُ الوَعيدِ على استِمرارِهم على الكُفرِ مِنَ الإخبارِ عنِ الوَيلِ بكَونِه ثابِتًا لِلمُشرِكينَ والمَوصوفينَ بالَّذين لا يُؤتونَ الزَّكاةَ، وبأنَّهم كافِرونُ بالبَعثِ؛ لِأنَّ تَعليقَ الحُكمِ بالمُشتَقِّ يُؤذِنُ بعِلِّيَّةِ ما مِنه الاشتِقاقُ، ولِأنَّ المَوصولَ يُؤذِنُ بالإيماءِ إلى وَجهِ بِناءِ الخَبَرِ [99] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/239). .
- قولُه: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ مَعنى لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ أنَّهم لا يَفعَلونَ ما يَكونونَ به أزكياءَ، وهو الإيمانُ. وقيل: خُصَّ مِن بينِ أوصافِ المشركينَ منعُ الزكاةِ مقرونًا بالكفرِ بالآخرةِ؛ لِتَشويهِ كُفرِهم، وتَفظيعِ شِركِهم وكُفرانِهم بالبَعثِ، بأنَّهما يَدعُوانِهم إلى مَنعِ الزَّكاةِ، أيْ: إلى القَسوةِ على الفُقَراءِ الضُّعَفاءِ، وإلى الشُّحِّ بالمالِ، وكَفى بذلك تَشويهًا في حُكمِ الأخلاقِ وحُكمِ العُرفِ فيهم؛ لِأنَّهم يَتَعيَّرونَ باللُّؤمِ، ولكِنَّهم يَبذُلونَ المالَ في غَيرِ وَجهِه، ويَحرِمونَ منه مُستَحِقِّيه، وأيضًا لِأنَّ أحَبَّ شَيءٍ إلى الإنسانِ مالُه، وهو شَقيقُ رُوحِه، فإذا بَذَلَه في سَبيلِ اللهِ فذلكَ أقوى دَليلٍ على ثَباتِه واستِقامَتِه، وصِدقِ نِيَّتِه، ونُصوعِ طَويَّتِه، وهذا ما لم يَفعَلْه الكافِرونَ [100] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/186، 187)، ((تفسير البيضاوي)) (5/67)، ((تفسير أبي السعود)) (8/3)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/239). .
- وقولُه: وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ عَطفٌ على لَا يُؤْتُونَ، وهو داخِلٌ في حَيِّزِ الصِّلةِ، واختِلافُهما بالفِعليَّةِ والاسميَّةِ؛ لِمَا أنَّ عَدَمَ إيتائِها مُتَجدِّدٌ، فعُبِّرَ عنه بالفِعلِ لَا يُؤْتُونَ، بيْنَما الكُفرُ أمْرٌ مُستَمِرٌّ، فعُبِّرَ عنه بالجُملةِ الاسميَّةِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [101] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/3). .
- قولُه: وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ مُشعِرٌ بأنَّ امتِناعَهم عنِ الزَّكاةِ؛ لِاستِغراقِهم في طَلَبِ الدُّنيا، وإنكارِهم لِلآخِرةِ [102] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/67). .
- و(هم) في هُمْ كَافِرُونَ ضَميرُ فصْلٍ لا يُفِيدُ هنا إلَّا تَوكيدَ الحُكمِ، ويُشبِهُ أنْ يكونَ هنا تَوكيدًا لَفظيًّا لا ضَميرَ فصْلٍ [103] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/240). .
- وتَقديمُ بِالْآَخِرَةِ على مُتَعَلَّقِه وهو كَافِرُونَ؛ لِإفادةِ الاهتِمامِ [104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/240). .
6- قولُه تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ استِئنافٌ بَيانيٌّ نَشَأ عنِ الوَعيدِ الَّذي تُوُعِّدَ به المُشرِكونَ بَعدَ أنْ أُمِروا بالاستِقامةِ إلى اللهِ، واستِغفارِهم عمَّا فَرَطَ منهم؛ كأنَّ سائِلًا يَقولُ: فإنِ اتَّعَظوا وارتَدَعوا فماذا يَكونُ جَزاؤُهم؟ فأُفيدَ ذلك، وهو أنَّهم حِينَئِذٍ يَكونونَ مِن زُمرةِ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، وفي هذا تَنويهٌ بشَأنِ المُؤمِنينَ. وتَقديمُ لَهُمْ؛ لِلاهتِمامِ بهم [105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/240). .
- قولُه: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ المَمنونُ: مَفعولٌ مِنَ المَنِّ، وهو ذِكرُ النِّعمةِ لِلمُنعَمِ عليه بها، والتَّقديرُ: غَيرُ مَمنونٍ به عليهم -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وذلك كِنايةٌ عن كَونِهم أُعْطوا أجرَهم شُكرًا لهمْ على ما أسلَفوه مِن عَمَلٍ صالِحٍ؛ فإنَّ اللهَ غَفورٌ شَكورٌ، يَعني: أنَّ الإنعامَ عليهم في الجَنَّةِ تُرافِقُه الكَرامةُ والثَّناءُ، فلا يُحِسُّونَ بخَجَلِ العَطاءِ؛ فأجْرُهم بمَنزِلةِ الشَّيءِ المَملوكِ لهمُ الَّذي لم يُعطِه إيَّاهم أحَدٌ، وذلكَ تَفَضُّلٌ مِنَ اللهِ تَعالى [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/241). .