موسوعة التفسير

سورةُ الإسراءِ
الآيات (45-48)

ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ

غريب الكلمات :

حِجَابًا: أي: سِتْرًا، أو طَبْعًا، وأصلُ (حجب): يدُلُّ على المَنعِ [645] يُنظر: ((معاني القرآن)) للنَّحاس (4/160)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/143)، ((الغريبين)) للهروي (3/863)، ((المفردات)) للراغب (ص: 219)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 222).   .
أَكِنَّةً: أي: أَغطِيةً، وأصلُ (كنن): يدُلُّ على سَترٍ وصَونٍ [646] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/197)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 57)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/123)، ((المفردات)) للراغب (ص: 612، 727).   .
وَقْرًا: أي: ثِقَلًا وصَمَمًا، وأصلُ (وقر): يدُلُّ على ثِقَلٍ في الشَّيءِ [647] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/197)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/132)، ((المفردات)) للراغب (ص: 70، 88).   .
نَجْوَى: أي: مُتناجُونَ، يُسَارُّ بَعضُهم بَعضًا، وأصلُ (نجو): يدُلُّ على سَترٍ وإخفاءٍ [648] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 255)، ((تفسير ابن جرير)) (13/281)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/397)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 393)، ((تفسير القرطبي)) (10/272).   .
الْأَمْثَالَ: أي: الأشباهَ، وأصلُ (مثل): يدُلُّ على مُناظرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ [649] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/296)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 637)، ((تفسير الخازن)) (3/132).   .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا بعضَ أحوالِ المشركينَ عندَ سماعِهم للقرآنِ: وإذا قَرَأتَ القُرآنَ -يا مُحمَّدُ- فسَمِعه هؤلاء المُشرِكونَ، الذينَ لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ، جَعَلْنا بينَك وبينَهم حِجابًا مَستورًا عن الأعينِ، يحجُبُهم عن فَهْمِ القُرآنِ والانتفاعِ به؛ عِقابًا لهم على كُفرِهم وإنكارِهم، وجعَلْنا على قُلوبِ المُشرِكينَ أغطِيةً لئلَّا يَفهَموا القُرآنَ، وجَعَلْنا في آذانِهم صَمَمًا لئلَّا يَسمَعوه سَماعَ قَبولٍ وانتِفاعٍ، وإذا ذَكَرْتَ ربَّك في القُرآنِ داعيًا لتَوحيدِه ناهيًا عن الشِّركِ به، أعرَضوا عنك نافرينَ مِن قَولِك؛ استِكبارًا واستِعظامًا.
ثمَّ ذكَر سبحانَه ما يدلُّ على كمالِ علمِه، وأنَّه سيُجازيهم بما يستحقُّونَ، فقال: نحن أعلَمُ -يا مُحمَّدُ- باستِهزاءِ المُشرِكينَ واستِخفافِهم بالقُرآن وَقتَ استِماعِهم إلى تلاوَتِك له؛ إذ يَستَمِعونَ إليك يُسَارُّ بَعضُهم بَعضًا قائلينَ: ما تَتَّبِعونَ إلَّا رجُلًا أصابَه السِّحرُ فاختَلَط عَقلُه!
ثمَّ قال تعالى مسليًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم: تفكَّرْ -يا مُحمَّدُ- مُتعَجِّبًا مِن ضَربِهم الأمثالَ الباطِلةَ في حَقِّك حين قالوا: ساحِرٌ، شاعِرٌ، مَجنونٌ!! فجارُوا وانحرَفوا بضَربِ الأمثالِ الباطِلةِ، ولم يَهتَدوا إلى طريقِ الحَقِّ والصَّوابِ.

تفسير الآيات:

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا تكَلَّم اللهُ تعالى في الآيةِ المتقَدِّمةِ في المسائِلِ الإلهيَّةِ؛ تكَلَّمَ في هذه الآيةِ فيما يتعَلَّقُ بتقريرِ النبُوَّةِ [650] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/349).   ، وذكرِ شيءٍ مِن أحوالِ الكفرةِ في إنكارِها، وإنكارِ المعادِ [651] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/55).   .
وأيضًا لَمَّا نوَّه بالقُرآنِ في قَولِه تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] ، ثمَّ أعقَبَ بما اقتَضاه السِّياقُ مِن الإشارةِ إلى ما جاء به القُرآنُ مِن أُصولِ العَقيدةِ، وجوامِعِ الأعمالِ، وما تخَلَّلَ ذلك مِنَ المواعِظِ والعِبَرِ؛ عاد هنا إلى التَّنبيهِ على عدَمِ انتِفاعِ المُشرِكينَ بهَدْيِ القُرآنِ؛ لِمُناسبةِ الإخبارِ عن عدَمِ فِقْهِهم تسبيحَ الكائناتِ بحمدِ الله [652] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/115).   .
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45).
أي: وإذا شَرَعْتَ -يا محمَّدُ- في قراءةِ القُرآنِ [653] قال أبو حيان: (والمعنى: وإذا شرعتَ في القراءةِ، وليس المعنى على الفراغِ مِن القراءةِ، بل المعنى على أنَّك إذا التبستَ بقراءةِ القرآنِ، ولا يُرادُ بالقرآنِ جميعُه، بل ما ينطلقُ عليه الاسمُ، فإنَّك تقولُ لمن يقرأُ شيئًا مِن القرآنِ: هذا يقرأُ القرآنَ، والظاهرُ أنَّ القرآنَ هنا هو ما قُرئ مِن القرآنِ أيِّ شيءٍ كان منه). ((تفسير أبي حيان)) (7/55).   ، فسَمِعَه مُشرِكو قَومِك، الذين لا يُصَدِّقونَ بالبَعثِ، ولا يُقِرُّون بالثَّوابِ والعِقابِ؛ جَعَلْنا بينك وبينَهم حجابًا مَستورًا عن الأعينِ، لا يُرَى، يَمنَعُهم مِن فَهمِ القُرآنِ وتدَبُّرِه والانتفاعِ به، ويحولُ بينَهم وبينَ الإيمانِ به [654] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/533)، ((تفسير ابن جرير)) (14/607)، ((تفسير البغوي)) (3/136)، ((تفسير البيضاوي)) (3/257)، ((تفسير ابن جزي)) (1/447)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 459). وممَّن قال بالمعنى المذكور في كلمة حِجَابًا: مقاتلُ بنُ سليمان، وابنُ جريرٍ، والبغوي، والبيضاوي، وابنُ جزي، وابنُ القيم، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. قال ابنُ القيم: (المعنى: جعلْنا بينَ القرآنِ إذا قرأتَه وبينهم حجابًا يحولُ بينَهم وبينَ فهمِه وتدبرِه والإيمانِ به، ويبينُه قولُه: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الإسراء: 46] وهذه الثلاثةُ هي الثلاثةُ المذكورةُ في قولِه: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت: 5] ، فأخبر سبحانَه أنَّ ذلك جعلُه، فالحجابُ يمنعُ رؤيةَ الحقِّ، والأكنةُ تمنعُ مِن فهمِه، والوقرُ يمنعُ مِن سماعِه). ((شفاء العليل)) (ص: 94). وقيل: معنى الآيةِ: أن الله حجَب النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن أعينِهم عندَ قراءةِ القرآنِ، فكانوا يمرُّون به ولا يرونَه. وممَّن قال به: الواحديُّ، والقرطبيُّ، وابنُ تيمية، وأبو حيان. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 636)، ((تفسير القرطبي)) (10/271)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/284)، ((تفسير أبي حيان)) (7/56). قال ابنُ عطية: (هذه الآيةُ تحتملُ معنيينِ: أحدهما: أنَّ الله تعالى أخبَر نبيَّه أنَّه يحميه مِن الكفرةِ أهلِ مكةَ، الذين كانوا يؤذونَه في وقتِ قراءتِه القرآنَ، وصلاتِه في المسجدِ، ويريدونَ مدَّ اليدِ إليه، وأحوالُهم في هذا المعنى مشهورةٌ مرويةٌ، والمعنى الآخرُ: أنَّه أعلَمه أنَّه يجعلُ بينَ الكفرةِ وبينَ فهمِ ما يقرأُه محمدٌ عليه السلامُ حجابًا، فالآيةُ على هذا التأويلِ في معنى التي بعدَها، وعلى التأويلِ الأوَّلِ هما آيتانِ لمعنيينِ). ((تفسير ابن عطية)) (3/460). وممن قال بالمعنى المذكورِ في كلمةِ: مَسْتُورًا: ابنُ جريرٍ، وابنُ عطيةَ، وابنُ القيِّم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/608، 609)، ((تفسير ابن عطية)) (3/460)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/44)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 94). قال ابنُ القيم: (ووصَفه بكونِه مَسْتُورًا، فقيل: بمعنَى ساترٍ. وقيل: على النسبِ، أي: ذو سترٍ. والصحيحُ أنَّه على بابِه، أي: مستورًا عن الأبصارِ، فلا يُرَى). ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 94). وممن اختار أنَّ مَسْتُورًا بمعنى ساتر: الأخفشُ -وتابعه على هذا كثيرٌ مِن أهلِ اللغةِ- والبغَويُّ، وابنُ كثير. يُنظر: ((معاني القرآن)) للأخفش (2/425)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/242)، ((تفسير البغوي)) (3/136)، ((تفسير ابن كثير)) (5/82). ويُنظر أيضًا: ((البسيط)) للواحدي (13/347). .
كما قال سُبحانَه: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت: 5] .
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46).
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ.
أي: وجَعَلْنا على قُلوبِ هؤلاءِ الذينَ لا يُؤمِنونَ بالآخرةِ أغشِيةً وأغطِيةً تَحجُبُها؛ كراهةَ أنْ يَفهَموا معانيَ القُرآنِ فَهمًا ينتَفِعونَ به [655] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/609)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/243)، ((تفسير القرطبي)) (10/271)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 93)، ((تفسير ابن كثير)) (5/82)، ((تفسير السعدي)) (ص: 459). قال ابن تيمية: (قولُه: أَنْ يَفْقَهُوهُ يتناولُ مَن لم يفهَمْ منه تفسيرَ اللفظِ كما يُفهَمُ بمجرَّدِ العربيةِ، ومن فَهِمَ ذلك لكن لم يعلَمْ نفسَ المرادِ في الخارجِ، وهو: «الأعيان» و«الأفعال» و«الصفات» المقصودةُ بالأمرِ والخبرِ؛ بحيثُ يراها ولا يعلمُ أنَّها مدلولُ الخطابِ، مثلُ مَن يعلمُ وصفًا مذمومًا ويكونُ هو متَّصفًا به أو بعضًا من جنسِه، ولا يعلم أنَّه داخلٌ فيه). ((مجموع الفتاوى)) (16/9). وقال السَّعدي: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي: أغطيةً وأغشِيةً لا يَفقَهونَ معها القُرآنَ، بل يَسمَعونَه سَماعًا تَقومُ به عليهم الحُجَّةُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 459). وقال الشِّنقيطي: (بَيَّنَ في مواضِعَ أُخَرَ سَبَبَ الحَيلولةِ بينَ القُلوبِ وبينَ الانتفاعِ به، وأنَّه هو كُفرُهم، فجازاهم اللهُ على كُفرِهم بطَمسِ البصائِرِ، وإزاغةِ القُلوبِ، والطَّبعِ والخَتمِ، والأكِنَّةِ المانعةِ مِن وُصولِ الخَيرِ إليها؛ كقَولِه تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] ، وقَولِه تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] ، وقَولِه تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110] ، وقَولِه تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 10] ، وقَولِه تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 125] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ). ((أضواء البيان)) (3/160-161). .
كما قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] .
وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا.
أي: وجَعَلْنا في آذانِ المُشرِكينَ صَمَمًا وثِقَلًا يَمنَعُهم مِن سَماعِ القُرآنِ سَماعَ قَبولٍ له، وانتِفاعٍ به [656] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/609)، ((تفسير القرطبي)) (10/271)، ((تفسير ابن كثير)) (5/82)، ((تفسير السعدي)) (ص: 459)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/160). قال ابن القيم: (هذه الأكنَّةُ والوَقرُ هي شدَّةُ البُغضِ والنُّفرةِ والإعراض التي لا يستطيعون معها سمعًا ولا عقلًا، والتحقيقُ أنَّ هذا ناشئ عن الأكنَّةِ والوقرِ، فهو موجِبُ ذلك ومقتضاه، فمن فسَّر الأكنَّةَ والوَقرَ به فقد فسَّرَهما بموجِبِهما ومُقتضاهما، وبكلِّ حالٍ فتلك النُّفرةُ والإعراضُ والبُغضُ مِن أفعالهم وهي مجعولةٌ لله سبحانه). ((شفاء العليل)) (ص: 56).   .
كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] .
وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا.
أي: وإذا وحَّدْتَ ربَّك -يا مُحمَّدُ- في تِلاوَتِك للقُرآنِ، فقُلتَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنت تَتلوه؛ أعرَضَ المُشرِكونَ عنك، نافرينَ مُستَكبرينَ عن توحيدِ اللهِ؛ مِن شِدَّةِ كَراهِيَتِهم لهذا الحَقِّ، ومَحَبَّتِهم لِما هم عليه مِنَ الباطِلِ [657] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/609)، ((تفسير القرطبي)) (10/271)، ((تفسير ابن كثير)) (5/82)، ((تفسير السعدي)) (ص: 459)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/161، 162).   .
كما قال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر: 45] .
وقال سُبحانَه: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: 12] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات: 35] .
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كانوا رُبَّما ادَّعَوا السَّمعَ والفَهمَ، فشَكَّكوا بعضَ مَن لم يَرسَخْ إيمانُه؛ أتبَعَه اللهُ تعالى ما يؤكِّدُ ما مضَى، ويُثَبِّتُ السَّامِعينَ فيه، فقال تعالى [658] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/436).   :
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ.
أي: نحن أعلَمُ -يا مُحمَّدُ- باستِهزاءِ المُشرِكينَ واستِخفافِهم بالقُرآنِ، وتَكذيبِهم به وَقتَ استِماعِهم إليك وأنت تَتلُوه [659] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/611)، ((تفسير السمرقندي)) (2/314)، ((تفسير ابن عطية)) (3/461)، ((تفسير الرازي)) (20/351)، ((تفسير أبي حيان)) (7/57)، ((تفسير أبي السعود)) (5/176). قال السعدي: (أي: إنَّما مَنَعناهم مِن الانتفاعِ عندَ سَماعِ القُرآنِ؛ لأنَّنا نعلَمُ أنَّ مَقاصِدَهم سَيِّئةٌ، يريدونَ أن يَعثُروا على أقلِّ شَيءٍ لِيَقدحوا به، وليس استِماعُهم لأجلِ الاستِرشادِ وقَبولِ الحَقِّ، وإنَّما هم مُعتَمِدونَ على عَدَمِ اتِّباعِه، ومَن كان بهذه الحالةِ لم يُفِدْه الاستماعُ شَيئًا). ((تفسير السعدي)) (ص: 459). والباءُ في بِهِ في قَولِه تعالَى: يَسْتَمِعُونَ بِهِ قيل: للملابسةِ، أي: نحنُ أعلمُ بالشَّيءِ الَّذي يلابِسُهم حينَ يستَمِعونَ إليك. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/120). وقِيل: إنَّها زائدةٌ، أي: يَسْتَمِعونَه. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/272). .
كما قال تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 2-3] .
وَإِذْ هُمْ نَجْوَى.
أي: ونحنُ أعلَمُ -يا مُحمَّدُ- بما يتناجَى به مُشرِكو قَومِك في أمْرِك، ويُسَارُّ بَعضُهم بَعضًا بشأنِك [660] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (13/352)، ((تفسير البغوي)) (3/137)، ((تفسير الرازي)) (20/351)، ((تفسير القرطبي)) (10/272)، ((تفسير البيضاوي)) (3/257)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/120). قال ابنُ عطية: (وقيل: المرادُ بقَولِه: وَإِذْ هُمْ نَجْوَى اجتِماعُهم في دارِ النَّدْوةِ، ثمَّ انتَشَرَت عنهم). ((تفسير ابن عطية)) (3/461). ويُنظر: ((تفسير مجاهد)) (ص: 436)، ((تفسير ابن جرير)) (14/611، 612).   .
كما قال تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 3 - 5] .
إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا.
أي: حينَ يقولُ المُشرِكونَ وهم يَتناجَونَ فيما بينَهم: ما تتَّبِعونَ -إنِ اتَّبَعتُم مُحَمَّدًا- إلَّا رَجُلًا مَغلوبًا على عَقلِه بالسِّحرِ، يَهذِي بكَلامٍ، ولا يَدري ما يَقولُ [661] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/534)، ((تفسير ابن جرير)) (14/611)، ((تفسير ابن كثير)) (5/83)، ((تفسير السعدي)) (ص: 459).   !!
كما قال تعالى: وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الفرقان: 8] .
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48).
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ.
أي: انظُرْ -يا مُحَمَّدُ- مُتعَجِّبًا كيف مثَّلَ لك المُشرِكونَ الأمثالَ الباطِلةَ، وشبَّهوا لك الأشباهَ، فشَبَّهوك بالمسحورِ، وقالوا عنك: شاعِرٌ، مَجنونٌ، ساحِرٌ، كذَّابٌ [662] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/613)، ((تفسير القرطبي)) (10/273)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (1/156، 157)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/226)، ((تفسير السعدي)) (ص: 459). قال ابن عاشور: (أي: ضَرَبوا الأمثالَ لأجلِك، أي: لأجلِ تمثيلِك، أي: مَثَّلوك. يقال: ضرَبتُ لك مثلًا بكذا. وأصلُه: مثَّلتُك بكذا، أي: أجِدُ كذا مثلًا لك، قال تعالى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل: 74] ، وقال: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ [يس: 13] أي: اجعَلْهم مثلًا لحالهم. وجَمَع الأمثالَ هنا، وإن كان المحكيُّ عنهم أنَّهم مثَّلوه بالمسحورِ، وهو مَثَلٌ واحد؛ لأنَّ المقصودَ التعجيبُ مِن هذا المَثَل ومن غيرِه فيما يصدُرُ عنهم من قولِهم: هو شاعرٌ، هو كاهنٌ، هو مجنونٌ، هو ساحرٌ، هو مسحورٌ. وسمِّيَت أمثالًا باعتبار حالِهم؛ لأنَّهم تحيَّروا فيما يصفونه به للنَّاسِ؛ لئلَّا يعتقدوه نبيًّا، فجعلوا يتطلبون أشبهَ الأحوالِ بحالِه في خيالِهم فيُلحِقونَه به). ((تفسير ابن عاشور)) (15/121).   !
كما قال تعالى: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 5] .
وقال تبارك وتعالى: وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات: 36] .
وقال عزَّ مِن قائلٍ: ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدخان: 14] .
وقال سُبحانَه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 4- 5] .
وقال جلَّ جَلالُه: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] .
فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا.
أي: فَضَلَّ المُشرِكونَ عن طريقِ الحقِّ بضَربِ الأمثالِ الباطِلةِ المُتناقِضةِ لك -يا مُحَمَّدُ- وتَحيَّروا فلم يَقدِروا أن يَسلُكوا طَريقًا يُخرِجُهم مِن هذا الضَّلالِ، ويُوصِلُهم إلى الحَقِّ [663] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/613)، ((تفسير القرطبي)) (10/273)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (1/407)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/226)، ((تفسير السعدي)) (ص: 459)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/122).   .

الفوائد التربوية:

1- قَولُه تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ فيه الحَثُّ على فِقهِ القُرآنِ، وأنَّه ينبغي للإنسانِ أن يقرأَ القُرآنَ ويتعَلَّمَ معناه [664] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 104).   ؛ فقَولُه تعالى: أَنْ يَفْقَهُوهُ يعودُ إلى القُرآنِ كُلِّه، فعُلِمَ أنَّ اللهَ يحِبُّ أن يُفقَهَ؛ ولهذا قال الحسَنُ البصريُّ: (ما أنزل اللهُ آيةً إلَّا وهو يحِبُّ أن يُعلَمَ في ماذا أُنزِلَت وماذا عنى بها)، وما استثنى من ذلك لا مُتشابِهًا ولا غيرَه [665] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/284). وأثر الحسن أخرجه أبو عبيد في ((فضائل القرآن)) (ص: 97).   .
2- في قَولِه تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى دَليلٌ على الإنصاتِ للمَوعِظةِ والإقبالِ على الواعِظِ، وأنَّ الكلامَ عندَ الموعظةِ، أو مُحادثةَ بَعضِهم بَعضًا في مَجْمَعٍ يَعِظُ فيه واعِظٌ؛ تَهاوُنٌ بالمَوعِظةِ، ولَهوٌ عنها، وفي ذلك زَوالُ مَنفَعتِها، وفَهْمِ ما أُودِعَ فيها [666] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/173).   .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- مِمَّا يَدخُلُ في غَيرةِ اللهِ قَولُه تعالى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا؛ قال السَّرِيُّ لأصحابِه: (أتَدْرُونَ ما هذا الحِجابُ؟ حِجابُ الغَيرةِ، ولا أحَدَ أغيَرُ مِن اللهِ؛ إنَّ الله تعالى لم يجعَلِ الكُفَّارَ أهلًا لفَهمِ كَلامِه، ولا أهلًا لمَعرِفتِه وتوحيدِه ومَحَبَّتِه، فجعَلَ بينهم وبين رَسولِه وكلامِه وتوحيدِه حجابًا مَستورًا عن العُيونِ؛ غيرةً عليه أن ينالَه مَن ليس أهلًا له) [667] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/44).   .
2- قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا في هذه الآيةِ الكريمةِ الرَّدُّ الواضِحُ على القَدَريَّةِ في قَولِهم: إنَّ الشَّرَّ لا يَقَعُ بمَشيئةِ الله، بل بمَشيئةِ العَبدِ- سُبحانَ اللهِ وتعالى عُلُوًّا كبيرًا عن أنْ يقَعَ في مُلكِه شَيءٌ ليس بمَشيئَتِه! وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الأنعام: 107] ، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة: 13] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [الأنعام: 35] ، إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ [668] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/161).   .
3- قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا أخبَرَ سُبحانَه أنَّه مَنَعَهم فِقهَ كَلامِه، وهو الإدراكُ الذي ينتَفِعُ به مَن فَقِهَه، ولم يَكُنْ ذلك مانِعًا لهم مِنَ الإدراكِ الذي تقومُ به الحُجَّةُ عليهم؛ فإنَّهم لو لم يَفهَموه جُملةً ما وَلَّوا على أدبارِهم نُفُورًا عند ذِكرِ تَوحيدِ اللهِ، فلمَّا وَلَّوا عند ذِكرِ التَّوحيدِ دَلَّ على أنَّهم كانوا يَفهَمونَ الخِطابَ [669] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/101-102).   .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا
- في قولِه: وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أُوثِرَ الموصولُ الَّذِينَ على الضَّميرِ (بينهم)؛ ذَمًّا لهم بما في حَيِّزِ الصِّلةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وإنَّما خَصَّ بالذِّكرِ كُفْرَهم بالآخرةِ مِن بينِ سائرِ ما كَفَروا به مِن التَّوحيدِ ونحوِه؛ دَلالةً على أنَّها مُعظمُ ما أُمِرُوا بالإيمانِ به في القُرآنِ، وتَمهيدًا لِما سيُنْقَلُ عنهم من إنكارِ البعثِ واستعجالِه، ونحوِ ذلك [670] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/175).   . وقيل: لمَّا كان إنكارُهم البعثَ هو الأصْلَ الَّذي استَبْعَدوا به دَعوةَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى زَعَموا أنَّه يقولُ مُحالًا؛ إذ يُخْبِرُ بإعادةِ الخلْقِ بعدَ الموتِ- استُحْضِروا في هذا الكلامِ بطريقِ الموصوليَّةِ؛ لِمَا في الصِّلةِ من الإيماءِ إلى عِلَّةِ جعْلِ ذلك الحِجابِ بينَه وبينَهم؛ فلذلك قال: وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [671] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/116).   .
- قولُه: حِجَابًا مَسْتُورًا فيه وصْفُ الحِجابِ بالمستورِ؛ مُبالغةً في حقيقةِ جِنْسِه، أي: حِجابًا بالغًا الغايةَ في حجْبِ ما يحجُبُه هو حتَّى كأنَّه مَستورٌ بساترٍ آخرَ، فذلك في قُوَّةِ أنْ يُقالَ: جعَلْنا حِجابًا فوقَ حِجابٍ. وفي الجمْعِ بين حِجَابًا ومَسْتُورًا من البديعِ: الطِّباقُ [672] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/117).   .
2- قوله تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا
- قولُه: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ فيه تَخصيصُ الذِّكرِ بالكونِ في القُرآنِ؛ لمُناسبتِه الكلامَ على أحوالِ المُشركينَ في استماعِ القُرآنِ، أو لأنَّ القُرآنَ مَقصودٌ منه التَّعليمُ والدَّعوةُ إلى الدِّينِ؛ فخُلوُّ آياتِه عن ذكْرِ آلهتِهم مع ذكْرِ اسمِ اللهِ يُفْهَمُ منه التَّعريضُ بأنَّها ليست بآلهةٍ، فمِن ثَمَّ يَغْضبون كلَّما ورَدَ ذكْرُ اللهِ، ولم تُذْكَرْ آلهتُهم؛ فكونُه في القُرآنِ هو القَرينةَ على أنَّه أراد إنكارَ آلهتِهم [673] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/119).   .
3- قولُه تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا هذه الآيةُ مُستأنفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ الإخبارَ عنهم بأنَّهم جُعِلَت في قُلوبِهم أكِنَّةٌ أنْ يَفْقهوه، وفي آذانِهم وقْرٌ، وأنَّهم يُولُّون على أدبارِهم نُفورًا إذا ذُكِرَ اللهُ وحدَه: يُثِيرُ في نفْسِ السَّامعِ سُؤالًا عن سبَبِ تجمُّعِهم لاستماعِ قِراءةِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فكانت هذه الآيةُ جوابًا عن ذلك السُّؤالِ [674] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/119).   .
- قولُه: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ فيه افتتاحُ الجُملةِ بضميرِ الجَلالةِ نَحْنُ؛ لإظهارِ العنايةِ بمَضمونِها [675] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/120).   .
- قولُه: يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ لم يقُلْ: يَسْتمِعونه ولا يَستمِعونك؛ لمَّا كان الغرَضُ ليس الإخبارَ عن الاستماعِ فقطْ، وكان مُضمَّنًا أنَّ الاستماعَ كان على طريقِ الهُزْءِ بأنْ يقولوا: مجنونٌ أو مَسحورٌ، جاء الاستماعُ بـ(الباءِ) و(إلى)؛ ليُعْلَمَ أنَّ الاستماعَ ليس المُرادُ به تفهُّمَ المسموعِ دونَ هذا المَقصدِ؛ لأنَّ المعنى: نحن أعلَمُ بالَّذي يَستمِعون به إليك وإلى قراءتِك وكلامِك، إنَّما يَستمِعون لسقَطِك وتتبُّعِ عيبِك، والتِماسِ ما يَطعُنون به عليك [676] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/58).   .
- قولُه: وَإِذْ هُمْ نَجْوَى فيه الإخبارُ عنهم بالمصدرِ نَجْوَى؛ للمُبالغةِ في كثرةِ تَناجيهم عند استماعِ القُرآنِ تَشاغُلًا عنه [677] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/120).   .
- قولُه: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا فيه إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ، حيث لم يقُلْ: (إذ يقولون)؛ للدَّلالةِ على أنَّ باعِثَ قولِهم ذلك هو الظُّلمُ، أي: الشِّركُ؛ فإنَّ الشِّركَ ظُلمٌ [678] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/121).   .
- وتَخصيصُ هذا القولِ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا بالذِّكرِ؛ لأنَّه أشدُّ غَرابةً من بقيَّةِ آفاكِهم؛ للبونِ الواضحِ بين حالِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبين حالِ المسحورِ [679] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/120).   .
4- قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا
- قولُه: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فيه الاستفهامُ بـ (كيف)؛ للتَّعجُّبِ من حالةِ تَمثيلِهم للنَّبيِّ صَلَّى الله عليه وسلَّمَ بالمسحورِ ونحوِه [680] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/121).   .
- قولُه: فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فرَّع ضلالَهم على ضَربِ أمثالِهم؛ لأنَّ ما ضرَبوه من الأمثالِ كُلُّه باطِلٌ وضَلالٌ وقوَّةٌ في الكُفرِ، فالمرادُ تفريعُ ضَلالِهم الخاصِّ ببُطلانِ تلك الأمثالِ، أي: فظهَرَ ضلالُهم في ذلك. ويجوزُ أن يرادَ بالضَّلالِ هنا أصلُ معناه، وهو الحَيرةُ في الطريقِ وعَدَمُ الاهتداءِ، أي: ضَرَبوا لك أشباهًا كَثيرةً؛ لأنَّهم تحيَّروا فيما يَعتَذِرون به عن شأنِك العَظيمِ. وتفريعُ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا على فَضَلُّوا تفريعٌ لتوغُّلِهم في الحَيرةِ على ضلالِهم في ضَربِ تلك الأمثالِ [681] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/122).   .