موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيات (42-45)

ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ

غريب الكلمات:

شُفَعَاءَ: جَمْعُ شَفيعٍ، والشَّفاعةُ: الانْضِمامُ إلى آخَرَ نُصْرةً له، وسؤالًا عنه، وشَفَعَ لِفُلانٍ: إذا جاءَ مُلْتَمِسًا مَطْلَبَه، ومُعِينًا له؛ والشَّفْعُ: ضَمُّ الشَّيءِ إلى مِثلِه، وأصلُ (شفع): يدلُّ على مقارنةِ الشيئينِ [876] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/290)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/201)، ((المفردات)) للراغب (ص: 457). .
اشْمَأَزَّتْ: أي: انقَبَضَت ونَفَرَت، يُقالُ: اشمأَزَّ الرَّجُلُ اشمِئزازًا: انقَبَض، واجتَمَع بَعضُه إلى بَعضٍ [877] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 111)، ((المفردات)) للراغب (ص: 464)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 332)، ((تفسير القرطبي)) (15/264)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 363)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 121). .
يَسْتَبْشِرُونَ: أي: يَفرَحونَ، وأصلُ (بشر): يدُلُّ على ظُهورِ الشَّيءِ مع حُسنٍ وجَمالٍ [878] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/238)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 505)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/251)، ((المفردات)) للراغب (ص: 125)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 159). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُبَيِّنًا كمالَ قدرتِه، ونفاذَ مشيئتِه: اللهُ يَتوفَّى الأرواحَ حينَ انقِضاءِ أجَلِ أصحابِها، ويَتوفَّى اللهُ الأرواحَ الَّتي لم يَنقَضِ بَعْدُ أجَلُ أصحابِها، في نَومِهم؛ فيَحبِسُ اللهُ الأرواحَ الَّتي حَكَم على أصحابِها بالمَوتِ، فلا يَرُدُّ أرواحَهم إلى أجسادِهم، ويُرسِلُ اللهُ أرواحَ الأحياءِ حينَ استيقاظِهم مِن مَنامِهم، فتَعودُ إلى أجسادِهم فلا يَتوفَّاها اللهُ الوَفاةَ الكُبرى إلَّا حينَ انقِضاءِ أجَلِهم في الحياةِ الدُّنيا، إنَّ في ذلك لَعَلاماتٍ وعِظاتٍ لِقَومٍ يَتفَكَّرونَ.
ثمَّ يقولُ الله تعالى منكرًا على المشركينَ: أمِ اتَّخَذ أولئك المُشرِكونَ مِن دُونِ اللهِ آلِهةً يَعبُدونَها؛ لِتَشفَعَ لهم عندَ اللهِ؟
ثمَّ يأمرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يردَّ عليهم، فيقولُ: قُلْ لهم يا مُحمَّدُ: أيَتَّخِذونَ تلك الأصنامَ شُفَعاءَ لهم، ولو كانت لا تَملِكُ شَيئًا ولا تَعقِلُ؟!
ثُمَّ يأمرُ نبيَّه أنْ يُخْبِرَهم أنَّ الشَّفاعةَ لِلهِ وَحْدَه، فيقولُ: قُلْ لهم يا مُحمَّدُ: لله وَحْدَه الشَّفاعةُ جَميعًا، فلا يَملِكُ أحَدٌ سِواه شيئًا منها، وهو وَحْدَه يأذَنُ بها لِمَن شاء، له سُبحانَه وتعالى وَحْدَه مُلكُ السَّمَواتِ والأرضِ، ثمَّ إلىه وَحْدَه تُرجَعونَ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله سبحانَه أحوالَ هؤلاء المشرِكينَ عندَما يُذكَرُ وحْدَه، فيقولُ: وإذا ذُكِرَ اللهُ تعالى وَحْدَه دونَ غَيرِه مِن المعبوداتِ الباطِلةِ انقَبَضَت قُلوبُ المُشرِكين، وإذا ذُكِرَت آلهتُهم اشتدَّ فرَحُهم واستَبشَروا.

تفسير الآيات:

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42).
مناسبة الآية لما قبلها:
بَيَّن تعالى في الآيةِ السَّابِقةِ أنَّ الهِدايةَ والضَّلالَ لا يَحصُلانِ إلَّا مِنَ اللهِ تعالى؛ وذلك لأنَّ الهِدايةَ تُشبِهُ الحياةَ واليَقَظةَ، والضَّلالَ يُشبِهُ الموتَ والنَّومَ، وكما أنَّ الحياةَ واليَقَظةَ -وكذلك الموتُ والنَّومُ- لا يَحصُلانِ إلَّا بتخليقِ اللهِ عزَّ وجَلَّ وإيجادِه؛ فكذلك الهدايةُ والضَّلالُ لا يَحصُلانِ إلَّا مِنَ الله تعالى، ومَن عَرَف هذه الدَّقيقةَ فقد عَرَف سِرَّ اللهِ تعالى في القَدَرِ، ومَن عَرَف سِرَّ اللهِ تعالى في القَدَر هانت عليه المصائِبُ؛ فيَصيرُ التَّنبيهُ على هذه الدَّقيقةِ سَبَبًا لِزَوالِ ذلك الحُزنِ عن قَلبِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهذا وَجهُ النَّظمِ في الآيةِ [879] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/455). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر تعالى أنَّه أنزَلَ الكتابَ على رسولِه بالحقِّ للنَّاسِ؛ نَبَّه على آيةٍ مِن آياتِه الكُبْرى تدُلُّ على الوَحدانِيَّةِ، لا يَشْرَكُه في ذلك صَنَمٌ ولا غيرُه، فقال [880]  يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/207). :
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا.
أي: اللهُ يَتوفَّى الأرواحَ حينَ انقِضاءِ أجَلِ أصحابِها [881] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/215)، ((تفسير الرازي)) (26/456)، ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (6/570، 571)، ((الروح)) لابن القيم (ص: 20، 21، 148)، ((تفسير ابن كثير)) (7/101)، ((تفسير السعدي)) (ص: 421)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/23، 24). قال القرطبي: (اختلَف النَّاسُ مِن هذه الآيةِ في النَّفْسِ والرُّوحِ؛ هل هما شَيءٌ واحدٌ أو شَيْئانِ؟ ... والأظهرُ أنَّهما شَيءٌ واحدٌ). ((تفسير القرطبي)) (15/261). وقال أبو حيَّان: (الَّذي يدُلُّ عليه الحديثُ واللُّغةُ أنَّ النَّفْسَ والرُّوحَ مُترادِفانِ، وأنَّ فِراقَ ذلك مِن الجسدِ هو الموتُ). ((تفسير أبي حيان)) (9/207). وقال ابنُ القَيِّم: (الأنفُسُ هاهنا هي الأرواحُ قَطعًا). ((الروح)) (ص: 148). وقال ابنُ عاشور: (الأنفُسُ: جمعُ نَفْسٍ، وهي الشَّخصُ والذَّاتُ؛ قال تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وتُطلَقُ على الرُّوحِ الَّذي به الحياةُ والإدراكُ، ومعنى التَّوفِّي يَتعلَّقُ بالأنفُسِ على كِلا الإطلاقَينِ، والمعنى: يَتوفَّى النَّاسَ الَّذين يَموتون؛ فإنَّ الَّذي يُوصَفُ بالموتِ هو الذَّاتُ لا الرُّوحُ، وإنَّ توَفِّيَها سَلْبُ الأرواحِ عنها). ((تفسير ابن عاشور)) (24/24). .
وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا.
أي: ويَتوفَّى اللهُ في المنامِ الأرواحَ الَّتي لم يَنقَضِ بَعْدُ أجَلُ أصحابِها [882] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/215)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/356)، ((الوسيط)) للواحدي (3/583)، ((تفسير الزمخشري)) (4/131)، ((تفسير ابن جزي)) (2/222)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/24). قال ابنُ عطيَّة: (يكفيك أنَّ في هذه الآيةِ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ، وفي الحديثِ الصَّحيحِ: «إنَّ اللهَ قَبَض أرواحَنا حينَ شاء، ورَدَّها علينا حينَ شاء» في حديث بلالٍ في الوادي؛ فقد نَطَقَت الشَّريعةُ بقَبضِ الرُّوحِ والنَّفْسِ في النَّومِ، وقد قال الله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] ، فظاهِرٌ أنَّ التَّفصيلَ والخَوضَ في هذا كُلُّه عَناءٌ، وإن كان قد تعَرَّضَ للقَولِ في هذا ونحوِه أئمَّةٌ). ((تفسير ابن عطية)) (4/533، 534). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ [الأنعام: 60] .
فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ.
أي: فيَحبِسُ اللهُ الأرواحَ الَّتي حَكَم على أصحابِها بالموتِ، فلا يَرُدُّ أرواحَهم إلى أجسادِهم في الدُّنيا [883] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/215)، ((تفسير الرازي)) (26/456)، ((شرح حديث النزول)) لابن تيمية (ص: 94)، ((الروح)) لابن القيم (ص: 20، 21)، ((تفسير ابن جزي)) (2/222)، ((تفسير ابن كثير)) (7/102)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/25). .
وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.
أي: ويُرسِلُ اللهُ أرواحَ الأحياءِ حينَ استيقاظِهم مِن مَنامِهم، فتَعودُ إلى أجسادِهم، فلا يَتوفَّاها اللهُ الوَفاةَ الكُبرى إلَّا حينَ انقِضاءِ أجَلِهم في الحياةِ الدُّنيا [884] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/215)، ((تفسير الرازي)) (26/456)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/289)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/25). قال ابنُ القَيِّم: (أحَدُ القَولَينِ في الآيةِ... أنَّ المُمسَكةَ مَن تُوُفِّيَت وفاةَ الموتِ أوَّلًا، والمُرسَلةَ مَن تُوُفِّيَت وفاةَ النَّومِ، والمعنى على هذا القَولِ: أنَّه يَتَوفَّى نَفْسَ الميِّتِ فيُمسِكُها ولا يُرسِلُها إلى جَسَدِها قبْلَ يَومِ القيامةِ، ويَتوفَّى نَفْسَ النَّائِمِ ثمَّ يُرسِلُها إلى جَسَدِه إلى بَقيَّةِ أجَلِها فيَتَوفَّاها الوَفاةَ الأُخرى. والقَولُ الثَّاني في الآيةِ: أنَّ المُمسَكةَ والمُرسَلةَ في الآيةِ كِلاهما تُوُفِّيَ وَفاةَ النَّومِ؛ فمَنِ استكمَلَت أجَلَها أمسَكَها عِندَه، فلا يَرُدُّها إلى جَسَدِها، ومَن لم تَستكمِلْ أجَلَها رَدَّها إلى جَسَدِها لِتَستَكمِلَه. واختار شيخُ الإسلامِ هذا القولَ، وقال: عليه يدُلُّ القُرآنُ والسُّنَّةُ، قال: فإنَّه سُبحانَه ذَكَر إمساكَ الَّتي قضَى عليها المَوتَ مِن هذه الأنفُسِ الَّتي تَوَفَّاها وَفاةَ النَّومِ، وأمَّا الَّتي توَفَّاها حين مَوْتِها فتلك لم يَصِفْها بإمساكٍ ولا بإرسالٍ، بل هى قِسمٌ ثالِثٌ. والَّذي يَترجَّحُ هو القَولُ الأوَّلُ؛ لأنَّه سُبحانَه أخبَرَ بوفاتَينِ: وَفاةٍ كُبرى، وهي وفاةُ المَوتِ، ووَفاةٍ صُغرى، وهي وَفاةُ النَّومِ، وقَسَّم الأرواحَ قِسْمَينِ: قِسمًا قَضَى عليها بالموتِ فأمسَكَها عِندَه، وهي الَّتي تَوفَّاها وفاةَ الموتِ، وقِسمًا لها بقيَّةُ أجَلٍ، فرَدَّها إلى جَسَدِها إلى استِكمالِ أجَلِها، وجَعَل سُبحانَه الإمساكَ والإرسالَ حُكمَينِ للوَفاتَينِ المذكورتَينِ أوَّلًا؛ فهذه مُمسَكةٌ، وهذه مُرسَلةٌ، وأخبَرَ أنَّ الَّتي لم تَمُتْ هي الَّتي توَفَّاها في مَنامِها، فلو كان قد قَسَّم وَفاةَ النَّومِ إلى قِسمَينِ: وَفاةِ مَوتٍ، ووَفاةِ نَومٍ؛ لم يَقُلْ: وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا؛ فإنَّها مِن حينِ قُبِضَت ماتت، وهو سُبحانَه قد أخبَرَ أنَّها لم تَمُتْ، فكيف يقولُ بعدَ ذلك فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ؟!). ((الروح)) (ص: 20). ويُنظر: ((شرح حديث النزول)) لابن تيمية (ص: 94). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أوى أحَدُكم إلى فِراشِه فلْيَأخُذْ داخِلةَ إزارِه [885] داخِلةَ إزارِه: أي: طَرَفَ الإزارِ المُتَدَلِّي الدَّاخِلَ إلى البَدَنِ، الَّذي يَلِي الجَسَدَ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لأبي عبيد (4/70)، ((تفسير الموطأ)) للقَنازِعي (2/761)، ((شرح النووي على مسلم)) (17/37). ، فلْيَنفُضْ بها فِراشَه، ولْيُسَمِّ اللهَ؛ فإنَّه لا يَعلَمُ ما خَلَفَه بَعْدَه على فِراشِه [886] أيْ: ما صارَ بعْدَه خَلَفًا وبَدَلًا عنه إذا غابَ. وقيل: معناه: لا يَدْري ما وَقَع في فِراشِه بعدَما خَرَج مِنه مِنْ تُرابٍ أو قَذاةٍ أو هَوامَّ. يُنظر: ((شرح المشكاة)) للطِّيبي (6/1873)، ((فتح الباري)) لابن حجر (11/127). ، فإذا أراد أن يَضْطَجِعَ فلْيَضْطَجِعْ على شِقِّهِ الأيمَنِ، ولْيَقُلْ: سُبحانَك اللَّهُمَّ رَبِّي، بك وضَعْتُ جنبي، وبك أرفَعُه، إنْ أمسَكْتَ نَفْسي فاغفِرْ لها، وإنْ أرسَلْتَها فاحفَظْها بما تحفَظُ به عِبادَك الصَّالِحينَ )) [887] رواه البخاري (6320)، ومسلم (2714) واللفظ له. .
وعن حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أوَى إلى فِراشِه قال: باسمِك أموتُ وأحْيا، وإذا قام قال: الحَمدُ لله الَّذي أحيانَا بعدَ ما أماتَنا، وإليه النُّشورُ )) [888] رواه البخاري (6312). .
وعن أبي قَتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سِرْنا معَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَيْلَةً، فقال: بعضُ القومِ: لو عَرَّسْتَ [889] التعريسُ: نزولُ المسافرِ لغيرِ إقامةٍ، وأصلُه نزولُ آخرِ الليلِ للنَّومِ والراحةِ، ويُستعمَلُ في كلِّ وقتٍ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/155) و(2/67). بنا يا رسولَ اللهِ، قال: أخافُ أنْ تَناموا عن الصَّلاةِ، قال بلالٌ: أنا أُوقِظُكم، فاضْطَجَعوا، وأسْنَد بلالٌ ظهرَه إلى راحِلَتِه، فغَلَبَتْه عَيْناهُ فنام، فاسْتَيْقَظ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد طَلَع حَاجِبُ الشَّمْسِ، فقال: يا بلالُ، أينَ ما قُلْتَ؟ قال: ما أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُها قَطُّ، قال: إنَّ اللهَ قَبَض أرواحَكم حِينَ شاءَ، ورَدَّها عليكم حِينَ شاءَ، يا بلالُ، قُمْ فأَذِّنْ بالنَّاسِ بالصَّلاةِ، فتوَضَّأَ، فلَمَّا ارْتَفَعت الشَّمسُ وابياضَّتْ، قام فصَلَّى )) [890] رواه البخاري (595). .
وفي روايةٍ عن أبي قَتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ قَبَض أرواحَكم حينَ شاء، ورَدَّها حينَ شاء، فقَضَوا حوائِجَهم، وتَوَضَّؤُوا إلى أن طَلَعَت الشَّمسُ وابيَضَّتْ، فقام فصَلَّى )) [891] رواه البخاري (7471). .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
أي: إنَّ في هذا التَّوَفِّي للأرواحِ وإمساكِها وإرسالِها: لَعَلاماتٍ ودَلائِلَ، وعِبَرًا وعِظاتٍ للَّذينَ يَتفَكَّرونَ في شأنِها، فيَستَدِلُّونَ بها على كَمالِ قُدرةِ اللهِ تعالى، واستِحقاقِه العِبادةَ وَحْدَه دونَ غَيرِه، وعلى تَحقُّقِ وُقوعِ البَعثِ... وغَيرِ ذلك [892] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/216)، ((الوسيط)) للواحدي (3/584)، ((تفسير القرطبي)) (15/263)، ((تفسير البيضاوي)) (5/44)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/25). .
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43).
مناسبة الآية لما قبلها:
انتِقالٌ مِن تَشنيعِ إشراكِهم إلى إبطالِ مَعاذيرِهم في شِركِهم؛ ذلك أنَّهم لَمَّا دمَغَتْهم حُجَجُ القُرآنِ باستِحالةِ أن يكونَ لله شُرَكاءُ؛ تمحَّلوا تأويلًا لشِركِهم، فقالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] كما حُكِيَ عنهم في أوَّلِ هذه السُّورةِ، فلمَّا استُوفِيَت الحُجَجُ على إبطالِ الشِّركِ؛ أقْبَلَ هنا على إبطالِ تأويلِهم منه، ومَعذرتِهم [893] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/26). .
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ.
أي: أمِ اتَّخَذ المُشرِكونَ مِن دُونِ اللهِ آلِهةً يَعبُدونَها؛ لِتَشفَعَ لهم عندَ اللهِ في قَضاءِ حاجاتِهم [894] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/216)، ((الوسيط)) للواحدي (3/584)، ((تفسير القرطبي)) (15/263)، ((تفسير ابن كثير)) (7/102). ؟
قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ.
أي: قُلْ لهم -يا مُحمَّدُ-: أيَتَّخِذونَ تلك الأصنامَ شُفَعاءَ لهم، ولو كانت لا تَملِكُ شَيئًا، ولا تَعقِلُ [895] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/217)، ((تفسير القرطبي)) (15/263، 264)، ((تفسير ابن كثير)) (7/102)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 311-314). قال الشوكاني: (ومعنَى لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا: أنَّهم غيرُ مالكينَ لشَيءٍ مِن الأشياءِ، وتَدخُلُ الشَّفاعةُ في ذلك دخولًا أوَّليًّا، وَلَا يَعْقِلُونَ شيئًا؛ لأنَّها جماداتٌ لا عقلَ لها). ((تفسير الشوكاني)) (4/535). ؟!
كما قال تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [فاطر: 13، 14].
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا نَفَى أنْ يكونَ لأصْنامِهم شَيءٌ مِن الشَّفاعةِ في عُمومِ نَفيِ مِلْكِ شَيءٍ مِن المَوْجوداتِ عن الأصْنامِ، قُوبِلَ بقَولِه: لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ، أي: الشَّفاعةُ كُلُّها للهِ، وأُمِر الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يقولَ ذلك لهم؛ لِيَعلَموا أنَّ الشَّفاعةَ لا يَملِكُها إلَّا اللهُ [896] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/27). .
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا.
أي: قُلْ لهم -يا مُحمَّدُ-: لله وَحْدَه الشَّفاعةُ، ومَرجِعُها كُلِّها إليه؛ فلا يَملِكُ أحَدٌ سِواه شَيئًا منها، وهو وَحْدَه مَن يأذَنُ بها إنْ شاء، لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِه [897] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/217)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/114)، ((تفسير ابن عطية)) (4/534)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/21)، ((تفسير ابن كثير)) (7/102)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/521)، ((تفسير الشوكاني)) (4/535)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 326). .
كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255].
وقال سُبحانَه: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء: 28] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26] .
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: لله وَحْدَه مُلكُ السَّمَواتِ ومُلكُ الأرضِ، وله وَحْدَه التَّصَرُّفُ فيهما كما يُريدُ؛ فاعبُدوا اللهَ المالِكَ كُلَّ شَيءٍ، الَّذي يَقدِرُ على نَفْعِكم وضَرِّكم، ولا تَعبُدوا غَيْرَه مِمَّا لا يَملِكُ شَيئًا [898] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/217)، ((تفسير ابن كثير)) (7/102)، ((تفسير الشوكاني)) (4/535)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 326). .
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
أي: ثُمَّ إلى اللهِ مَصيرُكم يومَ القيامةِ لا إلى غَيرِه، فيَحكُمُ بيْنَكم، ويُجازي كُلًّا منكم [899] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/217)، ((تفسير ابن كثير)) (7/102)، ((تفسير الشوكاني)) (4/535). .
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا دَلَّ على أنَّ شُفَعاءَهم ليسَت بأهلٍ للشَّفاعةِ، وعلى أنَّ الأمرَ كُلَّه مَقصورٌ عليه، وخَتَم بأنَّه لا بُدَّ مِن الرُّجوعِ إليه المُقتَضي لِأنْ تُصرَفَ الهِمَمُ كُلُّها نَحوَه، وتُوَجَّهَ العزائِمُ جَميعُها تِلْقاءَه، ولأنَّه لا يُخشَى سِواه، ولا يُرجَى غَيرُه- ذكَرَ حالًا مِن أحوالِهم [900] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/522). .
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ.
أي: وإذا أُفرِدَ اللهُ تعالى وَحْدَه بالذِّكرِ دُونَ غَيرِه مِنَ المعبوداتِ الباطِلةِ انقَبَضَت قُلوبُ المُشرِكينَ الَّذين لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ، وتمعَّرَت وُجوهُهم ونَفَروا؛ كراهيةً لِتَوحيدِ اللهِ سُبحانَه [901] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/218)، ((الوسيط)) للواحدي (3/584، 585)، ((تفسير ابن كثير)) (7/102)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/522)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/29)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 329). .
كما قال الله تعالى: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا [الإسراء: 46] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا [الحج: 71، 72].
وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ.
أي: وإذا ذُكِرَت آلِهتُهم بالخَيرِ اشتَدَّ فَرَحُهم، وظَهَر السُّرورُ على وُجوهِهم [902] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/218)، ((تفسير السمرقندي)) (3/189)، ((تفسير السمعاني)) (4/472)، ((تفسير ابن كثير)) (7/102)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/523)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/30)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 329، 330). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيه الحَثُّ على التَّفَكُّرِ، وأنَّه مِفتاحُ العِلمِ [903] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 307). .
2- قال الله تعالى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فالواجِبُ أن تُطلَبَ الشَّفاعةُ مِمَّن يَملِكُها، وهو اللهُ تعالى، وأن تُخلَصَ له العِبادةُ [904] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 726). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا فيه سُؤالٌ: أنَّ هذا يدُلُّ على أنَّ المُتوفِّيَ هو اللهُ فقط، وتأكَّدَ هذا بقَولِه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [الملك: 2] ، وبقَولِه: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] ، وبقَولِه: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [البقرة: 28] ، ثمَّ إنَّ اللهَ تعالى قال في آيةٍ أُخرى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: 11] ، وقال في آيةٍ ثالثةٍ: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا [الأنعام: 61] .
الجوابُ: أنَّ المتوفِّيَ في الحقيقةِ هو اللهُ، إلَّا أنَّه تعالى أسنَد في عالَمِ الأسبابِ كُلَّ نَوعٍ مِن أنواعِ الأعمالِ إلى مَلَكٍ مِن الملائِكةِ؛ فأسنَد قَبضَ الأرواحِ إلى مَلَكِ الموتِ -وهو رئيسٌ وتحتَه أتْباعٌ وأعْوانٌ- فأُضيفَ التَّوفِّي في هذه الآيةِ إلى اللهِ تعالى بالإضافةِ الحَقيقيَّةِ، وفي الآيةِ الثَّانيةِ إلى مَلَكِ المَوتِ؛ لأنَّه هو الرَّئيسُ في هذا العَمَلِ، وإلى سائِرِ الملائِكةِ؛ لأنَّهم هم الأتْباعُ لِمَلَكِ الموتِ [905] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/457). ويُنظر أيضًا: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/373، 374) و(6/185)، ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 184). .
2- في قَولِه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا أنَّه سُبحانَه سَوَّى في الاسمِ بيْنَ الوفاتَينِ مع اختِلافِ المَعنَيَينِ، وفيه حُجَّةٌ على الجَهميَّةِ في امتِناعِهم مِن تَسميةِ الشَّيءِ باسمِ غَيرِه إذا خالفَه في بَعضِ صفاتِه [906] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (1/215). .
3- في قَولِه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى أنَّ الرُّوحَ مخلوقةٌ؛ ودلَّ لذلك: أنَّها تُوصَفُ بالوفاةِ والقبضِ والإمساكِ والإرسالِ؛ وهذا شأنُ المخلوقِ المُحدَثِ المَرْبوبِ [907] يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 148). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 726). ، ودلَّ أيضًا على أنَّها جسمٌ قائمٌ بنفْسِه؛ مُخالِفٌ جوهرُه جوهرَ البدنِ [908] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 726). .
4- في قَولِه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا يَظهَرُ مِن التَّقديرِ -الَّذي هدَى إليه قطعًا السِّياقُ- أنَّ النَّفْسَ الَّتي تنامُ هي الَّتي تموتُ، وهي الرُّوحُ [909] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/519). .
5- قَولُه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا يدُلُّ على أنَّ النَّائِمَ قد خرَجت الرُّوحُ مِن جسَدِه، ونحنُ نعلمُ قطعًا أنَّ الرُّوحَ في جسَدِه، ألَا ترَى أنَّه يَتنفَّسُ ويرَى الرُّؤْيا، وذلك لا يكونُ إلَّا مع قيامِ الرُّوحِ [910] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/470). ؟
والجوابُ عنه: أنَّ انفِصالَ رُوحِ النَّائمِ عنه، ورُجوعَها إليه، سمَّاه اللهُ تعالى وفاةً، ويُسمَّى مَوتًا وحياةً، كما كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ إذا استيقظَ مِن منامِه: ((الحمدُ لله الَّذي أحْيانا بعدَ ما أماتنا، وإليه النُّشورُ )) [911] أخرجه البخاري (6312) من حديث حذيفةَ رضي الله عنه. وأخرجه أيضًا (6325) من حديث أبي ذَرٍّ رضي الله عنه. وأخرجه مسلم (2711) من حديث البَراءِ رضي الله عنه. ، ومع هذا فلا يُنافي ذلك أن يكونَ النَّائمُ حيًّا [912] يُنظر: ((أهوال القبور)) لابن رجب (ص: 83). .
وقيل: إنَّ النَّفْسَ على وجهَينِ؛ أحدُهما: النَّفْسُ المميِّزةُ الَّتي تكونُ لها إِدراكُ الأشياءِ. والآخرُ: هي النَّفْسُ الَّتي بها الحياةُ.
ويُقالُ: للإنسانِ نفْسٌ ورُوحٌ، فعندَ النَّومِ تخرُجُ النَّفْسُ وتبقَى الرُّوحُ، وهذا القولُ قريبٌ مِن السَّابقِ [913] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/470). .
6- قَولُه سُبحانَه وتعالى: وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فيه أنَّ النَّومَ وَفاةٌ؛ ويَشهَدُ لذلك قَولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [914] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (3/325). ويُنظر أيضًا: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 42). [الأنعام: 60] .
7- في قَولِه تعالى: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إثباتُ وَصْفِ اللهِ تعالى بالإمساكِ والإرسالِ؛ فهو يُمْسِكُ ويُرْسِلُ [915] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 305). .
8- قال تعالى: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ، أي: يَمنَعُها أن تَرجِعَ إلى الحياةِ. وإطلاقُ الإمساكِ على بقاءِ حالةِ الموتِ تَمثيلٌ لِدَوامِ تلك الحالةِ، ومِن لَطائِفِه أنَّ أهلَ الميِّتِ يَتمَنَّونَ عَوْدَ مَيِّتِهم لو وَجَدوا إلى عَودِه سَبيلًا، ولكِنَّ اللهَ لم يَسمَحْ لِنَفْسٍ ماتت أن تَعودَ إلى الحياةِ [916] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/25). ، إلَّا ما استُثْنيَ ممَّا أخبَر اللهُ عنه؛ كقتيلِ بني إسرائيلَ وغيرِه مِن الأُلوفِ الَّذين خرَجوا مِن ديارِهم حذَرَ الموتِ.
9- في قَولِه تعالى: وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى رَدٌّ على المُعتزِلةِ والقَدَريَّةِ فيما يَزعُمونَ: أنَّ المَقتولَ مَيِّتٌ بغَيرِ أجَلِه، وقاتِلَه قاطِعٌ حياتَه الموهوبةَ له مِن عندِ رَبِّه [917] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/24). !
10- قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، جَعَل الله ما تدُلُّ عليه حالَتَا المَوتِ والنَّومِ مِن دَلائِلَ آياتٍ كثيرةً؛ لأنَّهما حالَتانِ عَجيبَتانِ، ثمَّ في كُلِّ حالةٍ تَصرُّفٌ يُغايِرُ التَّصرُّفَ الَّذي في الأُخرى؛ ففي حالةِ المَوتِ سَلْبُ الحَياةِ عن الجِسمِ، وبقاءُ الجِسمِ كالجَمادِ، ومَنعٌ مِن أنْ تَعودَ إليه الحَياةُ، وفي حالةِ النَّومِ سَلبُ بَعضِ الحَياةِ عن الجِسْمِ حتَّى يَكونَ كالميِّتِ، وما هو بميِّتٍ، ثمَّ مَنْحُ الحَياةِ أنْ تَعودَ إليه، دَوالَيْكَ إلى أنْ يَأتِيَ إبَّانُ سَلْبِها عنه سَلْبًا مُستَمِرًّا [918] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/26). .
11- قال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فأخبَرَ أنَّ الشَّفاعةَ لِمَن له مُلكُ السَّمَواتِ والأرضِ، وهو اللهُ وَحْدَه؛ فهو الَّذي يَشفَعُ بنَفْسِه إلى نَفْسِه؛ لِيَرحَمَ عَبْدَه، فيَأذَنَ هو لِمَن يَشاءُ أن يَشفَعَ فيه؛ فصارت الشَّفاعةُ فى الحقيقةِ إنَّما هي له، والَّذي يَشفَعُ عِندَه إنَّما يَشفَعُ بإذْنِه له وأمْرِه بعدَ شفاعتِه سُبحانَه إلى نَفْسِه، وهي إرادتُه مِن نَفْسِه أن يَرحَمَ عَبْدَه. وهذا ضِدُّ الشَّفاعةِ الشِّركيَّةِ الَّتي أثبَتَها هؤلاء المُشرِكونَ ومَن وافَقَهم، وهي الَّتي أبطَلَها اللهُ سُبحانَه في كتابِه، بقَولِه تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ [البقرة: 123] ، وقَولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ [919] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/220). [البقرة: 254] .
12- قَولُه تعالى: قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا فيه إقامةُ الحُجَّةِ العَقليَّةِ في مُجادَلةِ الخَصمِ، فإذا كانوا لا يَملِكونَ شَيئًا، فكيف تَتَّخِذونَهم شُفَعاءَ وتَعبُدونَهم مِن دونِ اللهِ تعالى [920] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 314). ؟!
13- في قَولِه تعالى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ إثباتُ الشَّفاعةِ، ووَجْهُ إثباتِها: أنَّه لولا وُجودُها ما صحَّ أنْ يقولَ تعالى: لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا، وفيه أيضا ردٌّ على المُعتزِلةِ والخَوارجِ؛ لأنَّ المُعتزِلةَ والخوارِجَ يُنكِرونَ الشَّفاعةَ في أهلِ الكبائرِ، سواءٌ أدَخَلوا النَّارَ أم لم يَدْخُلوها؛ وذلك لأنَّ أهلَ الكبائرِ عندَ المُعتزِلةِ والخوارجِ مُخَلَّدون في النَّارِ، لكِنَّهم عندَ الخوارجِ كفَّارٌ، وعندَ المُعتزِلةِ لا مُؤمِنونَ ولا كافِرونَ، بل في مَنزِلةٍ بيْنَ مَنزِلَتينِ [921] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 327). !
14- في قَولِه تعالى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا بصيغةِ الحَصرِ، سؤالٌ: أنَّه كيف قال ذلك مع أنَّ للأنبياءِ والعُلَماءِ والشُّهَداءِ والأطفالِ شَفاعةً؟
 الجَوابُ: أنَّ معناه أنَّ أحدًا لا يَملِكُها إلَّا بتَمليكِه سبحانَه، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] ، وقال: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [922] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 496). ويُنظر أيضًا: ((أنموذج جليل)) لزين الدين الرازي (ص: 449). [الأنبياء: 28] .
15- في قَولِه تعالى: لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا أنَّه لا أحدَ يَشْفَعُ إلَّا بإذْنِ اللهِ تعالى، ووجْهُه: أنَّه إذا كانتِ الشَّفاعةُ خاصَّةً باللهِ؛ فإنَّها لا تكونُ إلَّا منه وإليه [923] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 327). .
16- في قَولِه تعالى: لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا إثباتُ شَفاعاتٍ مُتعَدِّدةٍ؛ لِقَولِه تعالى: جَمِيعًا؛ لأنَّ «جميعًا» تَقتضي أن يكونَ هناك شَيءٌ مَجموعٌ؛ فهناك شفاعةٌ في الدُّنيا، وشفاعةٌ في الآخرةِ، وشفاعةٌ في جلبِ نفْعٍ، وشفاعةٌ في دفعِ ضُرٍّ [924] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 322، 327). .
17- في قَولِه تعالى: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يَذكُرُ الشَّيءَ مُنذِرًا بلازمِه؛ لأنَّ مُجَرَّدَ الرُّجوعِ ليس فيه شَيءٌ يُذكَرُ، لكِنَّ المرادَ الرُّجوعُ الَّذي يَحصُلُ به الحِسابُ والجَزاءُ [925] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 328). .
18- في قَولِه تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أنَّ استِبشارَهم بالاقتِصارِ على ذِكْرِ أصنامِهم مُؤذِنٌ بأنَّهم يُرجِّحونَ جانِبَ الأصنامِ على جانِبِ اللهِ تعالى [926] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/29). ، ويدُلُّ على شدَّةِ تَعَلُّقِ هؤلاء بأصنامِهم، حيثُ يَكرَهون ما يُضادُّها مِن التَّوحيدِ، وإذا ذُكِرَتْ هذه الأصنامُ استَبْشَروا [927] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 332). !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
- قولُه: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ... الآيةَ، يَصلُحُ هذا أنْ يَكونَ مَثَلًا لحالِ ضَلالِ الضَّالِّينَ وهُدى المُهتدينَ، نَشَأ عن قَولِه: فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ إلى قَولِه: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر: 41] ، والمَعْنى: أنَّ استِمْرارَ الضَّالِّ على ضَلالِه قد يَحصُلُ بعدَه اهتِداءٌ، وقد يُوافيهِ أجَلُه وهو في ضَلالِه؛ فضُرِبَ المَثَلُ لذلك بنَومِ النَّائِمِ قد تَعقُبُه إفاقةٌ، وقد يموتُ النَّائِمُ في نَومِه، وهذا تَهْوينٌ على نَفْسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ برَجاءِ إيمانِ كَثيرٍ ممَّن هُمْ يَومَئذٍ في ضَلالٍ وشِركٍ كما تحقَّقَ ذلك، فتكونُ الجُملةُ تَعْليلًا للجُملةِ قَبْلَها، ولها اتِّصالٌ بقَولِه: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ إلى قَولِه: فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الزمر: 22] .
ويجوزُ أنْ يكونَ انتِقالًا إلى استِدْلالٍ على تفرُّدِ اللهِ تعالى بالتَّصرُّفِ في الأحْوالِ؛ فإنَّه ذُكِرَ دَليلُ التَّصرُّفِ بخَلْقِ الذَّواتِ ابتِداءً مِن قَولِه: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إلى قَولِه: فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ [الزمر: 5، 6]، ثمَّ دَليلُ التَّصرُّفِ بخَلقِ أحْوالِ ذَواتٍ، وإنشاءِ ذَواتٍ مِن تلك الأحْوالِ، وذلك مِن قَولِه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ إلى قَولِه: لِأُولِي الْأَلْبَابِ [الزمر: 21] ، وأعقَبَ كُلَّ دَليلٍ بما يَظهَرُ فيه أثَرُه مِن المَوعِظةِ والعِبْرةِ والزَّجْرِ عن مُخالَفةِ مُقتَضاهُ، فانتَقَلَ هنا إلى الاستِدلالِ بحالةٍ عَجيبةٍ مِن أحوالِ أنفُسِ المَخْلوقاتِ، وهي حالةُ المَوتِ، وحالةُ النَّومِ، وقد أنبَأَ عن الاستِدْلالِ قَولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ؛ فهذا دَليلٌ للنَّاسِ مِن أنفُسِهم؛ فتَكونَ الجُملةُ استِئْنافًا ابتِدائيًّا للتَّدرُّجِ في الاستِدْلالِ، ولها اتِّصالٌ بجُملةِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [الزمر: 5] وجُملةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [الزمر: 21] المُتقدِّمَتَينِ. وعلى كِلَا الوَجْهَينِ أفادتِ الآيةُ إبرازَ حَقيقَتَينِ عَظيمَتَينِ مِن نَواميسِ الحَياتَينِ النَّفْسيَّةِ والجَسَديَّةِ [928] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/23). .
- وقولُه: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ... فيه تَقْديمُ اسْمِ الجَلالةِ على الخَبَرِ الفِعْليِّ؛ لإفادةِ تَخْصيصِه بِمَضْمونِ الخَبَرِ، أي: اللهُ يَتوَفَّى الأنفُسَ لا غَيْرُه، فهو قَصرٌ حَقيقيٌّ [929] القصرُ أو الحَصرُ في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مثل: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثل: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525).. ؛ لإظهارِ فَسادِ أنْ أشْرَكوا به آلِهةً لا تَملِكُ تَصرُّفًا في أحْوالِ النَّاسِ [930] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/23، 24). .
- وقولُه: الْأَنْفُسَ عبَّر عن جمعِ الكثرةِ بجمعِ القلَّةِ؛ إشارةً إلى أنَّها -وإن تجاوَزت الحصرَ- فهي كنفسٍ واحدةٍ [931] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/518). .
- والفاءُ في فَيُمْسِكُ فاءُ الفَصيحةِ؛ لأنَّ ما تقدَّمَ يَقتَضي مِقدارًا يُفصِحُ عنه الفاءُ؛ لِبَيانِ تَوَفِّي النُّفوسِ في المنامِ [932] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/25). .
- وجُملةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مُستأنَفةٌ كما تُذكَرُ النَّتيجةُ عَقِبَ الدَّليلِ، أي: إنَّ في حالةِ الإماتةِ والإنامةِ دَلائلَ على انفِرادِ اللهِ تعالى بالتَّصرُّفِ، وأنَّه المُستَحِقُّ للعِبادةِ دُونَ غَيرِه، وأنْ ليس المَقْصودُ مِن هذا الخَبَرِ الإخْبارَ باختِلافِ حالَتَيِ المَوتِ والنَّومِ، بلِ المَقْصودُ التَّفكُّرُ والنَّظَرُ في مَضرِبِ المَثَلِ، وفي دَقائِقِ صُنعِ اللهِ، والتَّذْكيرُ بما تَنْطَوي عليه مِن دَقائِقِ الحِكْمةِ الَّتي تَمُرُّ على كُلِّ إنسانٍ كُلَّ يَومٍ في نَفْسِه، وتَمُرُّ على كَثيرٍ مِن النَّاسِ في آلِهم، وفي عَشائِرِهم، وهم مُعرِضون عمَّا في ذلك مِن الحِكَمِ وبَديعِ الصُّنعِ [933] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/25، 26). .
- وتَأْكيدُ الخَبَرِ بحَرفِ (إنَّ)؛ لِتَنْزيلِ مُعظَمِ النَّاسِ مَنزِلةَ المُنكِرِ لتلك الآياتِ؛ لِعَدَمِ جَرْيِهم في أحْوالِهم على مُقتَضى ما تدُلُّ عليه [934] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/26). .
2- قولُه تعالَى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ
- (أَمْ) في قولِه: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ مُنقَطِعةٌ -تُقدَّرُ بـ (بل) والهمزةِ-، وهي للإضرابِ الانتِقاليِّ، انتِقالًا مِن تَشْنيعِ إشْراكِهم إلى إبطالِ مَعاذيرِهم في شِرْكِهم [935] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/26، 27). .
- والاستِفْهامُ الَّذي تُشعِرُ به (أَمْ) -فإنَّها بمعنى: (أَبَلْ)- هو للإنكارِ والتَّقْريرِ والتَّوْبيخِ، بمَعْنى أنَّ تَأويلَهم وعُذرَهم مُنكَرٌ كما كان المُعْتذَرُ عنه مُنكَرًا، فلم يَقْضُوا بهذه المَعذِرةِ وَطَرًا [936] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/131)، ((تفسير أبي حيان)) (9/207)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/27). .
- قَولُه: قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ الهَمْزةُ في أَوَلَوْ للاستِفْهامِ الإنْكاريِّ؛ لإنكارِ الواقِعِ واستِقْباحِه والتَّوْبيخِ عليه، ومَدْخولُها مَحْذوفٌ، تَقْديرُه: (أَيَشْفَعونَ؟!)، والمَعْنى: أَيَشْفَعونَ في حالةِ كَونِهم لا يَملِكون ولا يَعقِلون، وذلك عامُّ النَّقصِ، فكيف يَشفَعُ هؤلاءِ؟! ولذلك أتْبَعه بما اشْتَمَل على الاسْمِ الجامِعِ والمِلْكِ على الإطلاقِ دُنيا وأُخرى مِن غَيرِ مُنازِعٍ فيه، حيثُ قال: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الآيةَ. أو هي هَمْزةٌ للاستِفْهامِ؛ لإنكارِ وُقوعِ الشَّفاعةِ منهم، ونفْيِ ذلك عنهم، على أنَّ المُرادَ بَيانُ أنَّ ما فَعَلوا ليس مِن اتِّخاذِ الشُّفَعاءِ في شَيءٍ؛ لأنَّه فَرعُ كَونِ الأوْثانِ شُفَعاءَ، وذلك أظهَرُ المُحالاتِ، فالمُقدَّرُ حينَئذٍ غَيرُ ما قُدِّرَ أوَّلًا. وعلى أيِّ تَقْديرٍ كان، فالواوُ للعَطْفِ على شَرطيَّةٍ قد حُذِفَتْ؛ لِدَلالةِ المَذْكورةِ عليها، أي: أَيَشْفَعونَ لو كانُوا يَملِكونَ شَيئًا، ولو كانُوا لا يَملِكونَ... إلخ، وجَوابُ (لو) مَحْذوفٌ؛ لِدَلالةِ المَذْكورِ عليه [937] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/399)، ((تفسير أبي حيان)) (9/207)، ((تفسير أبي السعود)) (7/257)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/426). .
- وأفادَ تَنْكيرُ شَيْئًا في سِياقِ النَّفيِ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ عُمومَ كُلِّ ما يُملَكُ؛ فيَدخُلُ في عُمومِه جَميعُ أنْواعِ الشَّفاعةِ [938] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/27). .
- ولَمَّا كانتِ الشَّفاعةُ أمْرًا مَعْنويًّا، كان مَعْنى مِلكِها تَحْصيلَ إجابَتِها. والكَلامُ تَهكُّمٌ؛ إذ كيف يَشفَعُ مَن لا يَعقِلُ؟! فإنَّه لِعَدَمِ عَقْلِه لا يُتصوَّرُ خُطورُ مَعْنى الشَّفاعةِ عِندَه، فَضْلًا عن أنْ تَتوجَّهَ إرادَتُه إلى الاستِشْفاعِ؛ فاتِّخاذُهم شُفَعاءَ مِن الحَماقةِ [939] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/27). .
3- قولُه تعالَى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
- في قولِه: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا تَقْديمُ الخَبَرِ المَجْرورِ لِلَّهِ على المُبتَدَأِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا؛ لإفادةِ الحَصرِ. واللَّامُ للمِلْكِ، أي: قَصرُ مِلْكِ الشَّفاعةِ على اللهِ تعالى، لا يَملِكُ أحَدٌ الشَّفاعةَ عِندَه [940] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/28). .
- وجَمِيعًا حالٌ مِن الشَّفاعةِ مُفيدةٌ للاستِغْراقِ، أي: لا يَشِذُّ جُزْئِيٌّ مِن جُزْئيَّاتِ حَقيقةِ الشَّفاعةِ عن كَونِه مِلْكًا للهِ، وقد تَأكَّدَ بلازِمِ هذه الحالِ ما دلَّ عليه الحَصرُ مِن انتِفاءِ أنْ يكونَ شَيءٌ مِن الشَّفاعةِ لِغَيرِ اللهِ [941] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/28). .
- وقولُه: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَقْريرٌ لِما قبْلَه وتَأْكيدٌ، أي: له مِلْكُهما، وما فيهما من ِالمَخْلوقاتِ [942] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/44)، ((تفسير أبي السعود)) (7/257). .
- وجُملةُ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِتَعْميمِ انفِرادِ اللهِ بالتَّصرُّفِ في السَّمَواتِ والأرضِ، الشَّامِلِ للتَّصرُّفِ في مُؤاخَذةِ المَخْلوقاتِ، وتَسْييرِ أُمورِهم؛ فمَوقِعُها مَوقِعُ التَّذْييلِ المُفيدِ لِتَقْريرِ الجُملةِ الَّتي قَبْلَه وزِيادةٌ، فإذا كان ذلك المُلكُ له، فلا يَستَطيعُ أحَدٌ صَرْفَه عن أمْرٍ أرادَ وُقوعَه إلى ضِدِّ ذلك الأمْرِ في مُدَّةِ وُجودِ السَّمَواتِ والأرضِ، وهذا إبطالٌ لِأنْ تَكونَ لآلِهَتِهِم شَفاعةٌ لهم في أحْوالِهم في الدُّنيا [943] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/28). .
- وعُطِفَ قولُه: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ على ما قبْلَه؛ للإشارةِ إلى إثْباتِ البَعْثِ، وإلى أنَّه لا يَشفَعُ أحَدٌ عِندَ اللهِ بعدَ الحَشْرِ إلَّا مَن أَذِنَ له اللهُ بذلك [944] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/28). .
- وأيضًا لَمَّا أخبَرَ أنَّه له مُلكُ السَّمَواتِ والأرضِ، هدَّدَهم بقَولِه: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فيَعلَمونَ أنَّهم لا يَشفَعونَ، ويَخيبُ سَعيُكم في عِبادَتِهم [945] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/208). .
- وحَرفُ (ثُمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتْبيِّ كشَأنِها في عَطفِ الجُمَلِ؛ ذلك لأنَّ مَضْمونَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أنَّ للهِ مُلكَ الآخِرةِ كما كان له مُلكُ الدُّنيا، ومُلكُ الآخِرةِ أعظَمُ؛ لِسَعةِ مَمْلوكاتِه وبَقائِها [946] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/28). .
- وَتَقْديمُ إِلَيْهِ على تُرْجَعُونَ؛ للاهتِمامِ والتَّقَوِّي، وللرِّعايةِ على الفاصِلةِ [947] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/28). ، وللدَّلالةِ على الحصرِ؛ إذِ المعنى: إليه لا إلى غيرِه [948] يُنظر: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (7/341). .
4- قولُه تعالَى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
- قولُه: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَطفٌ على جُملةِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ [الزمر: 43] ؛ فحَكَى اللهُ تعالى عنهم ذلك إنكارًا وتَعجُّبًا، ولإظهارِ تَناقُضِهم في أقْوالِهم المُشعِرِ بأنَّ ما يَقولونَه أقضيةٌ سُفُسطائيَّةٌ [949] السُفِسْطائيّةُ: فرقةٌ يونانيّةٌ قديمةٌ، وهم أصنافٌ ثلاثةٌ: فمِنهم الَّذين ينفون حقائقَ الاشياءِ كلَّها، ومنهم الَّذين شكُّوا فى وجودِ الحقائقِ، ومنهم مَن ذهَب إلى أنَّ حقائقَ الاشياءِ تابِعَةٌ للاعتقادِ، وصحَّحوا جميعَ الاعتقاداتِ معَ تضادِّها وتنافيها. يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 311)، ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (1/14)، ((معجم اللغة العربية المعاصرة)) (2/ 1073). والسَّفْسَطَةُ: هي قياسٌ مركَّبٌ مِن الوهميَّاتِ، والغرضُ منه تغليطُ الخصمِ وإسكاتُه. وهي كلمةٌ يونانيَّةٌ معناها: الغلطُ، والحِكمةُ المُمَوَّهَةُ. والغلطُ يقعُ بوجوهٍ كثيرةٍ: مِن جهةِ اللفظِ، أو مِن جهةِ المعنَى، أو مِن طريقِ الحذفِ والإضمارِ، أو في تركيبِ المقدِّماتِ الوهميَّةِ مكانَ القطعيَّةِ إلى غيرِ ذلك. يُنظر: ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 149)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 118)، ((تاج العروس)) للزبيدي (19/353). يَقولونَها للتَّنصُّلِ مِن دَمَغاتِ الحُجَجِ الَّتي جَبَهَهم بها القُرآنُ؛ فإنَّهم يَعتَذِرونَ تارَةً على إشْراكِهِم بأنَّ شُركاءَهُم شُفَعاءُ لهم عِندَ اللهِ، وهذا يَقتَضي أنَّهم مُعتَرِفونَ بأنَّ اللهَ هو إلَهُهم وإلهُ شُرَكائِهم، ثُمَّ إذا ذَكَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ اللهَ واحِدٌ، أو ذَكَر المُسلِمونَ كَلِمةَ (لا إلَهَ إلَّا اللهُ)؛ اشْمَأَزَّتْ قُلوبُهم مِن الاقتِصارِ على ذِكْرِ اللهِ، فلا يَرضَونَ بالسُّكوتِ عن وَصفِ أصْنامِهم بالإلهيَّةِ! وذلك مُؤذِنٌ بأنَّهم يُسَوُّونَها باللهِ تعالى [950] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/405)، ((تفسير أبي حيان)) (9/209)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/28، 29). .
- وقولُه: وَحْدَهُ على القولِ بأنَّه مَصدَرٌ، أي: هو مَفْعولٌ مُطلَقٌ لِفِعلِ (ذُكِرَ)؛ لِبَيانِ نَوعِه، أي: ذِكْرًا وَحْدًا، أي: لم يُذكَرْ مع اسْمِ اللهِ أسماءُ أصْنامِهِم. وإضافةُ المَصدَرِ إلى ضَميرِ الجَلالةِ؛ لاشْتِهارِ المُضافِ إليه بهذا الوَحْدِ [951] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/29). .
- ونبَّهَ اللهُ سُبحانَه وتَعالى بوَضعِ قَولِه: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَوضِعَ الضَّميرِ على أنَّهم إنَّما اشْمَأَزُّوا لأنَّهم رَكَنوا إلى اللَّذَّاتِ العاجِلةِ، وانْغَمَسوا في الشَّهَواتِ النَّفْسانيَّةِ، فإذا سَمِعوا بأنْ لا إلَهَ إلَّا هو وَحْدَه، واسْتَلزَمَ ذلك العِبادةَ والتَّجافِيَ عن دارِ الغُرورِ، والإنابةَ إلى دارِ الخُلودِ؛ ظَهَرَتْ آثارُ الكآبةِ على وُجوهِهم، وانقَبَضَتْ قُلوبُهم، وضاقتْ صُدورُهم، وإذا ذُكِرَتِ الأصْنامُ مالتْ قُلوبُهم إلى اللَّذَّاتِ العاجِلةِ، واسْتَبْشَروا وفَرِحوا [952] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/400). .
- والتَّعْبيرُ عنِ المُشرِكينَ بـ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ؛ لأنَّهم عُرِفوا بهذه الصِّلةِ بيْنَ النَّاسِ، مع قَصدِ إعادةِ تَذْكيرِهِم بوُقوعِ القيامةِ [953] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/30). .
- والتَّعْبيرُ عن آلِهَتِهِم بـ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، دُونَ لَفظِ: (شُرَكائِهم أو شُفَعائِهم)؛ للإيماءِ إلى أنَّ عِلَّةَ استِبْشارِهم بذلك الذِّكْرِ هو أنَّه ذِكْرُ مَنْ هُم دُونَ اللهِ، أي: ذِكرٌ مُناسِبٌ لهذه الصِّلةِ، أي: هو ذِكرٌ خالٍ عن اسْمِ اللهِ، فالمَعْنى: وإذا ذُكِر شُرَكاؤُهُم دُونَ ذِكْرِ اللهِ إذا همْ يَستَبْشِرون [954] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/29). .
- قَولُه: إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ كَلِمةُ (إِذَا) لِلمُفاجَأةِ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم يُعاجِلُهم الاستِبْشارُ حِينَئذٍ مِن فَرْطِ حُبِّهم آلِهَتَهم؛ ولذلك جِيءَ بالمُضارِعِ في يَسْتَبْشِرُونَ دُونَ أنْ يُقالَ: مُستَبشِرونَ؛ لإفادةِ تَجدُّدِ استِبْشارِهِم [955] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/30). .
- وقد بُولِغَ في بَيانِ حالَيهم القَبيحَتَينِ بمُقابَلةِ الاشْمِئْزازِ بالاستِبْشارِ مقابلةً كامِلةً؛ لأنَّ الاشمئزازَ غايةُ الكراهيةِ، والاستبشارُ غايةُ الفرحِ، والاشْمِئْزازُ: امتِلاءُ القَلبِ غَمًّا وغَيظًا، فيَظهَرُ أثَرُه، وهو الانقِباضُ في الوَجهِ، والاستِبْشارُ: امتِلاؤُه سُرورًا، فيَظهَرُ أثَرُه، وهو الانبِساطُ والتَّهلُّلُ في الوَجهِ [956] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/132)، ((تفسير البيضاوي)) (5/44)، ((تفسير أبي حيان)) (9/208)، ((تفسير أبي السعود)) (7/257)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/30). .
- والاقتِصارُ على التَّعرُّضِ لِهَذَينِ الذِّكْرينِ: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ؛ لأنَّهما أظهَرُ في سُوءِ نِيَّاتِ المُشرِكينَ نَحوَ اللهِ تعالى، وفي بُطلانِ اعتِذارِهِم بأنَّهم ما يَعبُدونَ الأصْنامَ إلَّا لِيُقَرِّبوهُم إلى اللهِ، ويَشْفَعوا لهم عِندَه [957] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/29). .