موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيات (46-48)

ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ

غريب الكلمات:

فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: أي: خالِقَهما ومُبدِعَهما ومُبتَدِئَهما، وأصلُ (فطر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وإبرازِه [958] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 151)، ((تفسير ابن جرير)) (9/175)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/510)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 93). .
لَافْتَدَوْا بِهِ: أي: لَبَذَلوا ذلك افتِداءً مِن النَّارِ، والفِدَى والفِداءُ: حِفظُ الإنسانِ عن النَّائبةِ بما يَبذُلُه عنه، وافْتَدى: إذا بذَلَ ذلك عن نفْسِه، والافتِداءُ: جَعْلُ أحدِ الشَّيئينِ بدَلًا مِن الآخَرِ، وأصلُ (فدي) هنا: أنْ يُجْعَلَ شَيءٌ مكانَ شَيءٍ حِمًى له [959] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/483)، ((البسيط)) للواحدي (12/338)، ((تفسير السمعاني)) (3/88)، ((المفردات)) للراغب (ص: 627). .
يَحْتَسِبُونَ: أي: يَظُنُّونَ، مِن حَسِبْتُ، أي: ظَننْتُ، والحِسْبانُ: الظَّنُّ، وأصلُ (حسب) هنا: العَدُّ؛ لأنَّه إذا قال: حَسِبْتُه كَذا، فكأنَّه قال: هو في الَّذي أعُدُّه مِنَ الأمورِ الكائنةِ [960] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 406)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/59)، ((الغريبين)) للهروي (2/435)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 332). .
وَحَاقَ: أي: أحاطَ ونَزَل، وأصلُ (حيق): يدُلُّ على نُزولِ الشَّيءِ بالشَّيءِ [961] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 187)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/125)، ((المفردات)) للراغب (ص: 266)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 93)، ((تفسير القرطبي)) (15/266). .

المعنى الإجمالي:

 يقولُ تعالى مُسَلِّيًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وآمِرًا له بتفويضِ الأمورِ إليه: قُلْ -يا مُحمَّدُ-: اللَّهُمَّ خالِقَ السَّمَواتِ والأرضِ على غَيرِ مِثالٍ سابِقٍ، عالِمَ ما غاب عن الخَلقِ، وما ظهَرَ لهم، أنتَ وَحْدَك تَقضي بيْنَ عِبادِك يومَ القيامةِ بالعَدلِ فيما كانوا يَختَلِفونَ فيه في الدُّنيا.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى ما للمشركينَ مِن سوءِ المصيرِ، فيقولُ: ولو أنَّ للَّذين ظَلَموا أنفُسَهم بالشِّركِ ما في الأرضِ جَميعًا ومِثلَه معه، لَقَدَّموه فِداءً لأنفُسِهم مِنَ العذابِ السَّيِّئِ يومَ القيامةِ، وظهَرَ لهم يومَ القيامةِ مِن عذابِ اللهِ ما لم يَخطُرْ ببالِهم، وظهَرَ لهم سَيِّئاتُ ما عَمِلوا في الدُّنيا، وأحاط بالكافِرينَ العذابُ الَّذي كانوا يَسْخَرونَ منه.

تفسير الآيات:

قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا كان أكثَرُ ما تَقدَّمَ مِن السُّورةِ مُشعِرًا بالاختِلافِ بيْنَ المشركينَ والمؤمنينَ، وبأنَّ المشركينَ مُصمِّمون على باطِلِهم على ما غمَرَهم مِن حُجَجِ الحقِّ دونَ إغناءِ الآياتِ والنُّذُرِ عنهم؛ أُمِر الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يَقولَ هذا القَولَ؛ تَنفيسًا عنه مِن كَدَرِ الأسى على قَومِه، وإعذارًا لهم بالنِّذارةِ، وإشعارًا لهم بأنَّ الحَقَّ في جانِبِهم مُضاعٌ، وأنَّه لا يُجدي فيهم إنذارُه واجتِهادُه، وأنَّ الأجدَرَ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتارَكَتُهم، وأنْ يُفَوِّضَ الحُكمَ في خِلافِهم إلى الله [962] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/30). .
وأيضا لَمَّا أخبَرَ عن سَخافةِ عُقولِهم باشمِئزازِهم مِن ذِكرِ اللهِ، واستِبشارِهم بذِكرِ الأصنامِ؛ أمَرَه أن يدعوَ بأسماءِ اللهِ العُظمى -مِنَ القُدرةِ، والعِلمِ، ونِسبةِ الحُكمِ إليه-؛ إذ غَيرُه لا قُدرةَ له، ولا عِلمَ تامٌّ، ولا حُكْمَ، وفي ذلك وَصفٌ لحالِهم السَّيِّئِ، ووعيدٌ لهم، وتَسليةٌ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [963] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/209). .
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- داعيًا ربَّك وَحْدَه: يا اللهُ يا خالِقَ السَّمَواتِ والأرضِ على غَيرِ مثالٍ سابِقٍ [964] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/219)، ((تفسير السمرقندي)) (3/189)، ((الهداية)) لمكي (10/6350)، ((تفسير ابن كثير)) (7/103)، ((تفسير السعدي)) (ص: 726). .
عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ.
أي: يا عالِمَ ما غاب عن الخَلقِ، وما ظهَرَ لهم، فلا يخفَى عليك شَيءٌ مِن ذلك [965] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/219)، ((الهداية)) لمكي (10/6350)، ((تفسير ابن كثير)) (7/103)، ((تفسير السعدي)) (ص: 726)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/31). .
كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران: 5] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((يا رَسولَ اللهِ، مُرْني بكَلِماتٍ أقولُهنَّ إذا أصبحْتُ وإذا أمسَيتُ. قال: قُل: اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّمَواتِ والأرضِ، عالِمَ الغَيبِ والشَّهادةِ، رَبَّ كُلِّ شَيءٍ ومَليكَه، أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا أنت، أعوذُ بك مِن شَرِّ نَفْسي، وشَرِّ الشَّيطانِ وشِرْكِه. قال: قُلْها إذا أصبَحْتَ، وإذا أمسَيْتَ، وإذا أخذْتَ مَضْجَعَك )) [966] أخرجه أبو داودَ (5067) واللَّفظُ له، والترمذيُّ (3392)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (7699)، وأحمد (7961). قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ). وصحَّحه ابنُ حبَّانَ في ((صحيحه)) (692)، وابنُ دقيقِ العيدِ في ((الاقتراح)) (ص: 128)، وابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/363)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (5067)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5067). .
أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
أي: أنتَ وَحْدَك تَقضي بيْنَ عِبادِك يومَ القيامةِ بالعَدلِ فيما كانوا يَختلِفونَ فيه في الدُّنيا [967] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/219)، ((تفسير السمرقندي)) (3/190)، ((تفسير الماوردي)) (5/130)، ((تفسير ابن كثير)) (7/103)، ((تفسير السعدي)) (ص: 726)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 334). قال الشوكاني: (معنى تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ: تُجازي المحسِنَ بإحسانِه، وتُعاقِبُ المُسيءَ بإساءتِه؛ فإنَّه بذلك يَظهَرُ مَن هو المحِقُّ، ومَن هو المُبطِلُ، ويَرتَفِعُ عِندَه خلِافُ المختَلِفينَ، وتَخاصُمُ المُتخاصِمِينَ). ((تفسير الشوكاني)) (4/536). وقال ابن عاشور: (الحُكمُ يَصدُقُ بحُكمِ الآخِرةِ، وهو المحقَّقُ الَّذي لا يُخلَفُ، ويَشملُ حُكمَ الدُّنيا بنَصرِ المحِقِّ على المُبطِلِ إذا شاء اللهُ أن يُعَجِّلَ بَعضَ حُكمِه بأن يُعَجِّلَ لهم العذابَ في الدُّنيا). ((تفسير ابن عاشور)) (24/32). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/525). ومعنى قَولِه تعالى: فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: قيل: اختِلافُهم في الهُدى والضَّلالةِ. وقيل: اختِلافُهم في الحُقوقِ والمظالمِ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/130). .
كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [الحج: 17] .
عن أبي سَلَمةَ بنِ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ، قال: ((سألتُ عائِشةَ أمَّ المؤمِنينَ: بأيِّ شَيءٍ كان نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَفتَتِحُ صَلاتَه إذا قام مِنَ اللَّيلِ؟ قالت: كان إذا قام مِنَ اللَّيلِ افتتَحَ صَلاتَه: اللَّهُمَّ ربَّ جِبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطِرَ السَّمَواتِ والأرضِ، عالِمَ الغَيبِ والشَّهادةِ، أنت تَحكُمُ بيْنَ عِبادِك فيما كانوا فيه يَختَلِفونَ، اهدِني لِما اختُلِفَ فيه مِنَ الحَقِّ بإذْنِك؛ إنَّك تَهدي مَن تَشاءُ إلى صِراطٍ مُستقيمٍ )) [968] رواه مسلم (770). .
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى أنَّه الحاكِمُ بيْنَ عِبادِه، وذكَرَ مَقالةَ المُشرِكينَ وشناعتَها؛ كأنَّ النُّفوسَ تشَوَّفَت إلى ما يَفعَلُ اللهُ بهم يومَ القيامةِ، فأخبَرَ أنَّ لهم سُوءَ العَذابِ، أي: أشَدَّه وأفْظَعَه، كما قالوا أشَدَّ الكُفرِ وأشْنَعَه [969] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 726). .
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
أي: ولو أنَّ للَّذين ظَلَموا أنفُسَهم بالشِّركِ جَميعَ ما في الأرضِ وضِعْفَ ذلك معه، لَقَدَّموه فِداءً يَفدُونَ به أنفُسَهم للنَّجاةِ مِن العَذابِ السَّيِّئِ يومَ القيامةِ [970] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/220)، ((تفسير القرطبي)) (15/265)، ((تفسير ابن كثير)) (7/104)، ((تفسير السعدي)) (ص: 726)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/365)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 340-342). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 91] .
وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [الرعد: 18] .
وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ.
أي: وظَهَر للظَّالِمينَ يومَ القيامةِ مِن أمرِ اللهِ وعَذابِه الَّذي أعدَّه لهم: ما لم يكُنْ يَخطُرُ ببالِهم، ولم يَقَعْ لهم في ظُنونِهم، وقد كانوا يَحكُمونَ لأنفُسِهم بغَيرِ ذلك [971] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/220)، ((تفسير ابن كثير)) (7/104)، ((تفسير السعدي)) (ص: 726)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/33). .
كما قال تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 22] .
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48).
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا.
أي: وظهَرَ للمُشرِكينَ يومَ القيامةِ السَّيِّئاتُ الَّتي عَمِلوها في الدُّنيا مِنَ الكُفرِ والمعاصي [972] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/220)، ((تفسير القرطبي)) (15/266)، ((تفسير ابن كثير)) (7/104)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/365). قيل: المرادُ: تَبدو لهم نَفْسُ سَيِّئاتِهم فيَرَونَها في كتُبِهم إذا أُعطُوها بشَمائِلِهم. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: ابنُ جرير، والسمعانيُّ، والبغوي، والبيضاوي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/220)، ((تفسير السمعاني)) (4/473)، ((تفسير البغوي)) (4/93)، ((تفسير البيضاوي)) (5/45)، ((تفسير أبي السعود)) (7/258). وقيل: المرادُ: الجزاءُ، أي: يَظهَرُ لهم عِقابُ ما كَسَبوه. وممَّن قال بذلك: السمرقنديُّ، ومكِّي، والرازي، والقرطبي، وابن كثير، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/190)، ((الهداية)) لمكي (10/6352)، ((تفسير الرازي)) (26/458)، ((تفسير القرطبي)) (15/266)، ((تفسير ابن كثير)) (7/104)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/365). .
كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف: 49] .
وقال عزَّ وجلَّ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار: 5].
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ.
أي: وأحاط بالكافِرينَ ولَزِمَهم عذابُ اللهِ الَّذي كانوا يَسخَرونَ منه في الدُّنيا [973] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/220)، ((تفسير القرطبي)) (15/266)، ((تفسير ابن كثير)) (7/104)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/527)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ تحذيرُ المرءِ مِن المخالَفةِ؛ لأنَّه إذا آمَنَ بأنَّ اللهَ عالِمُ الغَيبِ والشَّهادةِ؛ فسوف يَحْذَرُ؛ لأنَّه مهما عَمِل فاللهُ تعالى عالِمٌ به [974] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 338). .
2- في قَولِه تعالى: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ التَّحذيرُ مِن الظُّلْمِ؛ لأنَّ ذِكْرَ هذا يعني: التَّحذيرَ منه [975] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 343). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ التَّوسُّلُ إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى بأفعالِه [976] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 337). .
2- قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ في تفويضِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الحُكمَ في خِلافِهم إلى اللَّهِ إشارةٌ إلى أنَّ الَّذي فوَّض أمْرَه إلى اللهِ هو الواثِقُ بأحَقِّيَّةِ دِينِه، المُطمَئِنُّ بأنَّ التَّحكيمَ يُظهِرُ حَقَّه، وباطِلَ خَصمِه [977] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/31). .
3- في قَولِه تعالى: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ تسليةُ المؤمنينَ؛ لِكَونِ اللهِ تعالى يَحْكُمُ بيْنَهم فيما يَختلِفون فيه مع الكفَّارِ [978] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 339). .
4- في قَولِه تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ سُؤالٌ: أنَّ في قَولِه تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [العاديات: 6، 7] دَلالةً على أنَّ الإنسانَ شاهِدٌ على كُنودِ نَفْسِه -أي: مُبالَغتِه في الكُفرِ- وهذه بخِلافِ الآيةِ الشَّاهِدِ عِندَنا!
الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأوَّلُ: أنَّ شَهادةَ الإنسانِ بأنَّه كَنودٌ هي شَهادةُ حالِه بظُهورِ كُنودِه، والحالُ رُبَّما تكفي عن المَقالِ.
الثَّاني: أنَّ شَهادتَه على نَفْسِه بذلك هي يومَ القيامةِ، كما يدُلُّ له قَولُه تعالى: وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأنعام: 130]، وقَولُه تعالى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 11] ، وقَولُه تعالى: قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر: 71] .
الثَّالِثُ: أنَّ الضَّميرَ في قَولِه تعالى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ راجِعٌ إلى رَبِّ الإنسانِ المذكورِ في قَولِه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وعليه فلا إشكالَ في الآيةِ، ولكِنْ رُجوعُه إلى الإنسانِ أظهَرُ، بدَليلِ قَولِه تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [979] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 283). [العاديات: 8] .
5- في قَولِه تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ دَليلٌ على أنَّهم لَيسُوا بمُؤمِنينَ؛ لأنَّ المؤمِنَ لا يَستَهزِئُ بوَعيدِ ربِّه، وإنِ اغْتَرَّ بذَنْبِه؛ فهؤلاء همُ اليَهودُ والنَّصارى ومَن يرَى مِن الكُفَّارِ أنَّ عمَلَه الَّذي يَتقرَّبُ به إلى اللهِ يُجازَى عليه بخَيرٍ، فيَبدو له مِن ربِّه خِلافُ ما قَدَّرَ [980] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/24). !
6- قال الله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ رُبَّما ظَنَّ الإنسانُ أنَّه على الاعتِقادِ الحَقِّ، والعَمَلِ الصَّالحِ، ثمَّ إنَّه يومَ القيامةِ يَظهَرُ له أنَّ اعتِقادَه كان ضَلالًا، وعمَلَه كان ذَنْبًا؛ فهناك تَحصُلُ الخَجالةُ العَظيمةُ، والحَسرةُ الكامِلةُ، والأسَفُ الشَّديدُ [981] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/469). .
7- في قَولِه تعالى: مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ تهويلٌ للأمرِ بإبهامِه؛ لِيَكونَ ضِدَّ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [982] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/526). [السجدة: 17] .
8- في قَولِه تعالى: وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا إثباتُ الكَسبِ للعبدِ؛ فيكونُ فيه رَدٌّ على الجَبريَّةِ الَّذين يقولونَ: إنَّ الإنسانَ مُجبَرٌ على عَمَلِه! فنقولُ لهم: بلِ الإنسانُ غيرُ مُجبَرٍ، وعمَلُه مِن كَسْبِه [983] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 347). .
9- في قَولِه تعالى: وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أنَّ الاستِهزاءَ باللهِ تعالى وآياتِه: سَبَبٌ للعذابِ، وهو كُفرٌ مُخرِجٌ عن المِلَّةِ؛ لِقَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ [984] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 347). [التوبة: 65، 66].

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
- جُعِلَ هذا الدُّعاءُ مُعتَرِضًا بيْنَ كَلامَينِ؛ اهتِمامًا به، وتَوكيدًا لِلوَعيدِ [985] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/405). .
- وفي قَولِه: قُلِ اللَّهُمَّ ... ابتُدِئَ خِطابُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِرَبِّه بالنِّداءِ؛ لِأنَّ المَقامَ مَقامُ تَوجيهٍ وتَحاكُمٍ. وإجراءُ الوَصفَينِ على اسمِ الجَلالةِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ؛ لِمَا فيهما مِنَ المُناسَبةِ بخُضوعِ الخَلقِ كُلِّهم لِحُكمِه، وشُمولِ عِلْمِه لِدَخائِلِهم مِن مُحِقٍّ ومُبطِلٍ [986] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/31). .
- ووَصْفُ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُشعِرٌ بصِفةِ القُدرةِ، وتَقديمُه قبْلَ وصْفِ العِلْمِ؛ لِأنَّ شُعورَ النَّاسِ بقُدرَتِه سابِقٌ على شُعورِهم بعِلْمِه، ولأنَّ القُدرةَ أشَدُّ مُناسَبةً لِطَلَبِ الحُكمِ؛ لأنَّ الحُكمَ إلزامٌ وقَهرٌ، فهو مِن آثارِ القُدرةِ مُباشرةً [987] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/31). .
- قَولُه: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ خَبَرٌ مُستَعمَلٌ في الدُّعاءِ، والمَعنى: احكُمْ بَيْنَنا [988] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/31). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ إليه أَنْتَ على الخَبَرِ الفِعليِّ تَحْكُمُ؛ لِإفادةِ الاختِصاصِ، أيْ: أنتَ لا غَيرُكَ، وإذْ لم يَكُنْ في الفَريقَينِ مَن يَعتَقِدُ أنَّ غيرَ اللهِ يَحكُمُ بيْنَ الناسِ في مِثلِ هذا الاختِلافِ فيَكونَ الرَّدُّ عليه بمُفادِ القَصرِ؛ تَعَيَّنَ أنَّ القَصرَ مُستَعمَلٌ كِنايةً تَلويحيَّةً عن شِدَّةِ شَكيمَتِهم في العِنادِ، وعَدَمِ الإنصافِ والانصياعِ إلى قَواطِعِ الحُجَجِ، بحيث إنَّ مَن يَتطلَّبُ حاكمًا فيهم لا يَجِدُ حاكمًا فيهم إلَّا اللهَ تعالى. وهذا أيضًا يُومِئُ إلى العُذرِ لِلرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في قِيامِه بأقصَى ما كُلِّفَ به؛ لِأنَّ هذا القَولَ إنَّما يَصدُرُ عمَّن بَذَلَ وُسْعَه فيما وَجَبَ عليه، فلَمَّا لَقَّنَه رَبُّه أنْ يَقولَه كان ذلك في مَعنى: إنَّكَ أبلَغْتَ وأدَّيتَ الرِّسالةَ، فلم يَبْقَ إلَّا ما يَدخُلُ تَحتَ قُدرةِ اللهِ تعالى الَّتي لا يُعجِزُها الألِدَّاءُ أمثالُ قَومِكَ، وفيه تَسليةٌ لِلرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وفيه وَعيدٌ لِلمُعانِدينَ [989] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/31، 32). .
- والعُدولُ عنِ الإضمارِ إلى الاسمِ الظَّاهِرِ في قَولِه: بَيْنَ عِبَادِكَ دُونَ أنْ يَقولَ: (بَيْنَنا)؛ لِمَا في عِبَادِكَ مِنَ العُمومِ؛ لأنَّه جَمعٌ مُضافٌ، فيَشملُ الحُكمَ بَيْنَهم في قَضيَّتِهم هذه، والحُكمَ بيْنَ كُلِّ مُختَلِفَينِ؛ لِأنَّ التَّعميمَ أنسَبُ بالدُّعاءِ والمُباهَلةِ [990] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/31). .
- والإتيانُ بفِعلِ الكَونِ كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ صِلةً لـ مَا المَوصولةِ؛ لِيَدُلَّ على تَحَقُّقِ الاختِلافِ، وكَونُ خَبَرِ (كانَ) مُضارِعًا تَعريضٌ بأنَّه اختِلافٌ مُتَجَدِّدٌ؛ إذْ لا طَماعِيةَ في ارْعِواءِ المُشرِكينَ عن باطِلِهم [991] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/31). .
- وتَقديمُ فِيهِ على يَخْتَلِفُونَ؛ لِلرِّعايةِ على الفاصِلةِ، مع الاهتِمامِ بالأمْرِ المُختَلَفِ فيه [992] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/32). .
- وأيضًا في قَولِه: قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ سِيقَ الكَلامُ في الأمْرِ بالدُّعاءِ في الأسماءِ الحُسْنى، والأمْرِ بالتَّفويضِ في الحُكمِ بَيْنَهم إلى اللهِ تَعالى، وأُدمِجَ فيه مَعانٍ أربَعةٌ؛ أحَدُها: قَولُه: أَنْتَ تَحْكُمُ، دَلَّ على الاختِصاصِ؛ لِأنَّه مِن قَبيلِ: أنتَ عَرَفتَ، وأفادَ أنَّه تَعالى هو وَحْدَه يَحكُمُ بيْنَهم، فدَلَّ ذلك على شِدَّةِ شَكيمَتِهم في الكُفرِ والعِنادِ، وهو كِنايةٌ. وثانيها: اعتِذارٌ لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِأنَّ هذا القَولَ إنَّما يَصدُرُ عمَّن بَذَلَ وُسْعَه فيما وَجَبَ عليه، أيْ: أبلَغتَ وأدَّيتَ ما عليكَ، بَقيَ الآنَ على مَن هو أحكَمُ الحاكِمينَ هو وَحْدَه يَحكُمُ بَيْنَهم. وثالِثُها: تَسليةٌ له صَلَواتُ اللهِ عليه؛ لِأنَّه كانَ حَريصًا على إيمانِ القَومِ؛ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ [الكهف: 6] ، وهذه الآيةُ كالمُتارَكةِ والمُوادَعةِ واليَأْسِ مِن إيمانِهم، واليَأْسُ إحدى الرَّاحَتَينِ. ورابِعُها: وَعيدٌ لهم، ولا وَعيدَ بَعْدَه؛ فقولُه: فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ دَلَّ على القُدرةِ التَّامَّةِ، وقَولُه: عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ دَلَّ على العِلْمِ الشَّامِلِ، وأنَّه عالِمٌ بما ظَهَرَ منهم وما بَطَنَ، فيُجازيهم عليه، وقَولُه: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ دَلَّ على القَضاءِ الحَقِّ والحُكمِ العَدلِ، واللهُ أعلَمُ [993] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/134)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/401، 402). .
2- قولُه تعالَى: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ
- قَولُه: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَلامٌ مُستَأنَفٌ مَسوقٌ لِبَيانِ نَمَطٍ مِن أنماطِ الهَولِ الَّذي يَنتَظِرُهم، والعَذابِ الشَّديدِ الَّذي أُعِدَّ لهم، ولِبَيانِ آثارِ الحُكمِ الَّذي استَدعاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وغايةِ شِدَّتِه وفَظاعَتِه [994] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/258)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/429). . أو عَطفٌ على جُملةِ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... [الزمر: 46] إلَخ؛ لِأنَّها تُشيرُ إلى أنَّ الحَقَّ في جانِبِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّ الحُكمَ سَيَكونُ على المُشرِكينَ، فأعقَبَ ذلك بتَهويلِ ما سيَكونُ به الحُكمُ بأنَّه لو وَجَدَ المُشرِكونَ فِديةً منه بالِغةً ما بَلَغتْ لَافتَدَوْا بها [995] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/32). .
- وإنْ جُعِلَ قولُه: لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عامًّا، كانتِ الآيةُ اعتِراضًا بَعْدَ اعتِراضٍ. وإذا جُعِلَ مِن إقامةِ المُظهَرِ مَوضِعَ المُضمَرِ إشعارًا بالعِلِّيَّةِ، كان استِطرادًا بعدَ اعتِراضٍ [996] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/405). .
- وقولُه: مَا فِي الْأَرْضِ يَشملُ كُلَّ عَزيزٍ عليهم مِن أهليهم وأموالِهم، بل وأنْفُسِهم؛ فهو أهوَنُ مِن سُوءِ العَذابِ يَومَ القِيامةِ، ووَجهُ التَّهويلِ في ذلك هو ما يَستَلزِمُه مِلكُ هذه الأشياءِ مِنَ الشُّحِّ بها في مُتَعارَفِ النُّفوسِ [997] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/33). .
- وتَضَمَّنَ حَرفُ الشَّرطِ (لو) أنَّ كَونَ ما في الأرضِ لهم مُنتَفٍ؛ فأفادَ أنْ لا فِداءَ لهم مِن سُوءِ العَذابِ، فهذا وَعيدٌ شَديدٌ، وإقناطٌ كُلِّيٌّ لهم مِنَ الخَلاصِ [998] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/133)، ((تفسير البيضاوي)) (5/45)، ((تفسير أبي السعود)) (7/258)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/33). .
- وعُطِفَ على هذا التَّأييسِ تَهويلٌ آخَرُ في عِظَمِ ما يَنالُهم مِنَ العَذابِ، وهو ما في المَوصولِ مِن قَولِه: مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ مِنَ الإيهامِ الَّذي تَذهَبُ فيه نَفْسُ السَّامِعِ إلى كُلِّ تَصويرٍ مِنَ الشِّدَّةِ [999] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/133)، ((تفسير البيضاوي)) (5/45)، ((تفسير أبي السعود)) (7/258)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/33). .
- و(مِن) في قَولِه: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ابتِدائيَّةٌ، أيْ: ظَهَرَ لهم مِمَّا أعَدَّ اللهُ لهمُ الَّذي لم يَكونوا يَظُنُّونَه. والاحتِسابُ: مُبالَغةٌ في الحِسابِ، بمَعنى الظَّنِّ، مِثلَ: اقتَرَبَ بمَعنى قَرُبَ، والمَعنى: ما لم يَكونوا يَظُنُّونَه، وذلك كِنايةٌ عن كَونِه مُتَجاوِزًا أقصى ما يَتخَيَّلُه المُتَخَيِّلُ حينَ يَسمَعُ أوصافَه؛ فلا التِفاتَ في هذه الكِنايةِ إلى كَونِهم كانوا مُكَذِّبينَ بالبَعثِ، فلمْ يَكُنْ يَخطُرُ ببالِهم [1000] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/45)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/33). .
3- قولُه تعالَى: وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ عَطفٌ على ما تَقَدَّمَ، ويُمكِنُ أنْ يَكونَ الكَلامُ مُستَأنَفًا مَسوقًا لِإبرازِ وَعيدِهم في أبلَغِ ما يَكونُ الوَعيدُ والتَّهديدُ [1001] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/429). .
- وسَيِّئَاتُ جَمْعُ سَيِّئةٍ، وهو وَصفٌ أُضيفَ إلى مَوصوفِه، وهو المَوصولُ مَا كَسَبُوا، أيْ: مَكسوباتهمُ السَّيِّئات، وتَأنيثُها باعتِبارِ شُهرةِ إطلاقِ السَّيِّئةِ على الفَعلةِ، وإنْ كان فيما كَسَبوه ما هو مِن فاسِدِ الاعتِقادِ؛ كاعتِقادِ الشُّرَكاءِ للهِ، وإضمارِ البُغضِ لِلرَّسولِ والصَّالِحينَ، والأحقادِ والتَّحاسُدِ، فجَرى تَأنيثُ الوَصفِ على تَغليبِ السَّيِّئاتِ العَمليَّةِ -مِثلَ الغَصْبِ والقَتلِ والفَواحِشِ- تَغليبًا لَفظيًّا؛ لِكَثرةِ الاستِعمالِ [1002] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/33، 34). .
- وأُوثِرَ فِعلُ كَسَبُوا على فِعلِ (عَمِلوا)؛ لِقَطعِ تَبَرُّمِهم مِنَ العَذابِ بتَسجيلِ أنَّهمُ اكتَسَبوا أسبابَه بأنْفُسِهم [1003] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/34). .
- قوله: وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ يحتملُ أن يكونَ هذا على حذفِ مُضافٍ تقديرُه: حاقَ بهم جزاءُ ما كانوا به يَسْتهزِئونَ، ويحتملُ أن يكونَ الكلامُ دونَ حذفٍ، ومعناه: حاقَ بهم العذابُ الَّذي كانوا به يَستهزِئونَ [1004] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/223). .
- وقيل: الباءُ في قَولِه: مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ لِلسَّبَبيَّةِ [1005] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/34). .
- وتَقديمُ بِهِ على يَسْتَهْزِئُونَ؛ لِلاهتِمامِ به، ولِلرِّعايةِ على الفاصِلةِ [1006] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/34). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا، وقال في سُورةِ (الجاثيةِ): وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا [الجاثية: 33] ؛ ووَجهُ ذلك: أنَّ مَا كَسَبُوا في هذه السُّورةِ وَقَع بيْنَ ألفاظِ الكَسبِ، وهو ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر: 24] ، وما تَبِعَه مِن ذِكرِ السَّبَبِ بَعْدَها في قَولِه: قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [الزمر: 50، 51]، وأمَّا في سُورةِ (الجاثيةِ) فوَقَع بيْنَ ألفاظِ العَمَلِ، وهي مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 28، 29]، ووَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الجاثية: 30]، وبعْدَه سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا [الجاثية: 33] ؛ فخُصَّتْ كُلُّ سُورةٍ بما اقتَضاه طَرَفاه [1007] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1117، 1118)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 218، 219)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/406، 407). . وقيل غيرُ ذلك [1008] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/426-428). .