موسوعة التفسير

سورةُ المُلْكِ
الآيات (6-11)

ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ

غريب الكلمات:

شَهِيقًا: الشَّهيقُ: أقبحُ ما يكونُ مِن صَوتِ الحِمارِ، قيل: هو أوَّلُ نَهيقِ الحِمارِ، وقيل: هو آخِرُه، أو هو الصَّوتُ الَّذي يَخرُجُ مِن الجَوفِ بشِدَّةٍ كصَوتِ الحِمارِ، والشَّهيقُ: رَدُّ النَّفَسِ، ضِدُّ الزَّفيرِ وهو إخراجُ النَّفَسِ، وأصلُ (شهق): يدُلُّ على عُلُوٍّ [127] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/123)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/222)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (3/1049)، ((البسيط)) للواحدي (11/555)، ((تفسير السمعاني)) (6/9)، ((المفردات)) للراغب (ص: 468)، ((تفسير ابن جزي)) (2/395)، ((تحفة الأريب)) لأبي حيان (ص: 189). .
تَفُورُ: أي: تَغْلي، وأصلُ (فور): يدُلُّ على غَلَيانٍ [128] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/458)، ((المفردات)) للراغب (ص: 647)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 318). .
تَمَيَّزُ: أي: تتقَطَّعُ وتتفَرَّقُ، وأصلُ (ميز): يدُلُّ على انفِصالِ شَيءٍ مِن شَيءٍ [129] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 474)، ((تفسير ابن جرير)) (23/124)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 158)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/289). .
فَوْجٌ: أي: فِرقةٌ وجماعةٌ، وأصلُ (فوج): يدُلُّ على تجمُّعٍ [130] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 365)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/458)، ((المفردات)) للراغب (ص: 646)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 419). .
خَزَنَتُهَا: أي: الملائكةُ الموكَلُ إليهم أمرُ جهنَّمَ، والخازنُ: الموكَلُ بالحفظِ، والخَزْنُ: حِفظُ الشَّيء في الخِزانةِ، ثمَّ يُعبَّرُ به عن كلِّ حِفْظٍ، وأصلُ (خزن): يدلُّ على صيانةِ الشَّيءِ [131] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/178)، ((المفردات)) للراغب (ص: 280)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 161)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/25). .
فَسُحْقًا: أي: بُعْدًا، وأصلُ (سحق): يدُلُّ على بُعدٍ [132] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 474)، ((تفسير ابن جرير)) (23/126)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/139)، ((المفردات)) للراغب (ص: 401)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 419). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُبيِّنًا ما أعدَّه لكلِّ كافرٍ: وللَّذين كَفَروا برَبِّهم عذابُ جَهنَّمَ في الآخِرةِ، وبِئسَ المُنقَلَبُ والمَرجِعُ: جَهنَّمُ!
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه حالَهم حينَما يُلْقَونَ جميعًا في النَّارِ، فيقولُ: إذا أُلقِيَ فيها الكُفَّارُ سَمِعوا لها صَوتًا فَظيعًا كأقبَحِ ما يكونُ مِن صوتِ الحميرِ، وهي تَغْلي؛ مِن شِدَّةِ لهيبِها. تُوشِكُ أن تَتقَطَّعَ؛ مِن غَيظِها على أهلِها! كُلَّما أُلقِيَ فيها جماعةٌ مِن الكافِرينَ قال لهم خَزنَتُها: ألمْ يَأتِكم في الدُّنيا نذيرٌ يُنذِرُكم عَذابَ اللهِ تعالى؟! قالوا: بلى، قد جاءَنا نذيرٌ فكذَّبْنا، وقُلْنا: ما نزَّل اللهُ على أحدٍ مِن شَيءٍ مِنَ الوَحيِ، ما أنتُم إلَّا في ذَهابٍ بَعيدٍ عن الحَقِّ والصَّوابِ!
ثمَّ يُبيِّنُ تعالى حسرتَهم في هذا اليومِ، فيقولُ: وقال الكافِرونَ: لو كُنَّا في الدُّنيا نَسمَعُ أو نَعقِلُ سَمعًا أو عَقلًا يُنتفَعُ به، ما كنَّا اليَومَ في جُملةِ المُخَلَّدينَ في النَّارِ، فأقَرُّوا بذَنْبِهم، فبُعْدًا لهم مِن رَحمةِ اللهِ تعالى!

تفسير الآيات:

وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ اللهُ سُبحانَه عن تهيئتِه العذابَ للشَّياطينِ بالخُصوصِ؛ أخبَرَ أيضًا عن تهيئتِه لكُلِّ عامِلٍ بأعمالِهم، على وَجهٍ اندَرَجوا هم فيه [133] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/233). .
وأيضًا أنَّ اللهَ تعالى بيَّن في أوَّلِ السُّورةِ أنَّه قادِرٌ على جميعِ المُمكِناتِ، ثمَّ ذَكَر بَعْدَه أنَّه وإن كان قادِرًا على الكُلِّ، فإنَّما خَلَق ما خَلَق لا للعَبَثِ والباطِلِ، بل مِن أجْلِ الابتلاءِ والامتحانِ، وبيَّن أنَّ المقصودَ مِن ذلك الابتلاءِ أن يكونَ عزيزًا في حَقِّ المصِرِّينَ على الإساءةِ، غَفورًا في حَقِّ التَّائبينَ، ومِن ذلك كان كونُه عزيزًا وغفورًا لا يَثبُتانِ إلَّا إذا ثبت كَونُه تعالى كامِلًا في القُدرةِ والعِلمِ- بيَّن ذلك بالدَّلائِلِ المذكورةِ، وحينَئذٍ ثَبت كَونُه قادِرًا على تعذيبِ العُصاةِ، فقال [134] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/586). :
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ.
أي: ولِجَميعِ الَّذين كَفَروا برَبِّهم عذابُ جَهنَّمَ في الآخِرةِ [135] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/123)، ((تفسير الزمخشري)) (4/578)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/23). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179] .
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
أي: وبِئسَ المُنقَلَبُ والمَرجِعُ: جَهنَّمُ [136] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/123)، ((تفسير السمرقندي)) (3/475)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/23). !
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قال اللهُ تعالى: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ؛ وصَفَ ذلك العذابَ، فقال [137] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/586). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/234). :
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7).
أي: إذا أُلقِيَ فيها الكُفَّارُ سَمِعوا لها صَوتًا عاليًا فَظيعًا كأقبَحِ ما يكونُ مِن صوتِ الحميرِ، وهي تَغْلي؛ مِن شِدَّةِ تلَهُّبِها وتوَقُّدِها [138] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/123، 124)، ((تفسير القرطبي)) (18/211)، ((تفسير ابن جزي)) (2/395)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/234)، ((تفسير السعدي)) (ص: 876). قال البِقاعي: (فهم لا يَزالونَ فيها صاعِدينَ هابِطينَ كالحُبِّ [وعاءِ الماءِ] إذا كان الماءُ يَغْلي به، لا قرارَ لهم أصلًا). ((نظم الدرر)) (20/234). وقال ابن جُزَي: (يعني به هنا: ما يُسمَعُ مِن صوتِ جهنَّمَ لشِدَّةِ غَلَيانِها وهولِها، أو شهيق أهلِها، والأوَّلُ أظهَرُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/395). وقال الواحدي: (قال عَطاءٌ: يريدُ: سمِعوا لأهلِها شهيقًا، فجعَل الشَّهيقَ لأهلِ جهنَّمَ دونَها. والقولُ هو الأوَّلُ [أي: أنَّ الصوتَ لجهنَّمَ]). ((البسيط)) (22/47). !
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8).
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ.
أي: تُوشِكُ جَهنَّمُ أن تَتقَطَّعَ وتَنفَصِلَ بَعضُ أجزائِها عن بَعضٍ؛ لشِدَّةِ غَيظِها على أهلِها [139] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/124)، ((تفسير القرطبي)) (18/212)، ((تفسير ابن كثير)) (8/178)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/234، 235)، ((تفسير السعدي)) (ص: 876)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/24). !
كما قال تعالى: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان: 12].
كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ.
أي: كُلَّما أُلقِيَ في جَهنَّمَ جماعةٌ مِن الكافِرينَ، قال لهم خَزنَتُها مِن الملائِكةِ مُوَبِّخينَ: ألمْ يَأتِكم في الدُّنيا نذيرٌ يُنذِرُكم عَذابَ اللهِ تعالى [140] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/125)، ((تفسير القرطبي)) (18/212)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 876)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/25). ؟!
كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24] .
وقال سُبحانَه: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر: 71] .
قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9).
قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا.
أي: قال الكافِرونَ لخَزَنةِ جَهنَّمَ: بلى، قد جاءَنا نذيرٌ يُنذِرُنا عذابَ اللهِ، ولكِنَّنا كذَّبْنا [141] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/125)، ((تفسير القرطبي)) (18/212)، ((تفسير البيضاوي)) (5/229)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/236، 237)، ((تفسير الشوكاني)) (5/311). .
وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ.
أي: وقُلْنا للمُنذِرينَ: ما نزَّل اللهُ على أحدٍ مِن الخَلْقِ أيَّ شَيءٍ مِنَ الوَحيِ [142] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/390)، ((تفسير ابن جرير)) (23/125)، ((تفسير القرطبي)) (18/212)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/237)، ((تفسير الشوكاني)) (5/311). !
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ.
أي وقال الكافِرونَ أيضًا لِمَن أنذَروهم: ما أنتُم إلَّا في ذَهابٍ بَعيدٍ عن الحَقِّ والصَّوابِ [143] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/125)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/314)، ((تفسير القرطبي)) (18/212)، ((تفسير الشوكاني)) (5/311). قال ابنُ عطية: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ يحتَمِلُ أن يكونَ مِن قَولِ الملائكةِ للكُفَّارِ حينَ أخبَروا عن أنفُسِهم أنَّهم كذَّبوا النُّذُرَ، ويحتمِلُ أن يكونَ مِن كَلامِ الكُفَّارِ للنُّذُرِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/340). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/578). ممَّن ذهَب إلى الاحتمالِ الأوَّلِ: المهدوي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((التحصيل لفوائد كتاب التفصيل)) للمهدوي (6/442)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/26). قال ابنُ عاشور: (الأظهَرُ أنَّها بَقيَّةُ كَلامِ خَزَنةِ جَهنَّمَ... ويجوزُ أن تكونَ جُملةُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ مِن تمامِ كَلامِ كُلِّ فَوجٍ لنذيرِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (29/26). وممَّن ذهب إلى الاحتِمالِ الثَّاني: الزَّمخشريُّ، واستظهره الرَّازيُّ، وذهب إليه القُرطبيُّ، والبِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/578)، ((تفسير الرازي)) (30/587)، ((تفسير القرطبي)) (18/212)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 876). !
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حكى اللهُ سُبحانَه ما قاله أهلُ النَّارِ للخَزَنةِ تحَسُّرًا على أنفُسِهم، حكى ما قالوه بَعْدَ ذلك فيما بيْنَهم -على قول-؛ زيادةً في التَّحَزُّنِ، ومَقتًا لأنفُسِهم بأنفُسِهم [144] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/237). !
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10).
أي: وقال الكافِرونَ: لو كُنَّا في الدُّنيا نَسمَعُ أو نَعقِلُ سَمعًا أو عَقلًا يُنتفَعُ به، ما كنَّا اليَومَ في عِدادِ أهلِ النَّارِ، ومِن جُملةِ المُخَلَّدينَ في عَذابِها [145] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/125)، ((تفسير ابن عطية)) (5/340)، ((تفسير القرطبي)) (18/212)، ((تفسير البيضاوي)) (5/229)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/35)، ((تفسير ابن كثير)) (8/178)، ((تفسير السعدي)) (ص: 876). وممَّن قال بأنَّ هذا مِن قَولِ الكُفَّارِ للخَزَنةِ: ابنُ جرير، وابنُ عطية. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/125)، ((تفسير ابن عطية)) (5/340). وقيل: هو مِن قَولِ الكُفَّارِ فيما بيْنَهم في النَّارِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: البِقاعي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/237)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/27). قال ابنُ عاشور: (أُعيدَ فِعلُ القَولِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ هذا كلامٌ آخَرُ غَيرُ الَّذي وقع جوابًا عن سُؤالِ خَزَنةِ جَهنَّمَ، وإنَّما هذا قَولٌ قالوه في مَجامِعِهم في النَّارِ؛ تحَسُّرًا وتنَدُّمًا، أي: وقال بَعضُهم لبعضٍ في النَّارِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/27). قولُه تعالى: أَصْحَابِ السَّعِيرِ: قال الألوسي: (المرادُ بهم قيل: الشَّياطينُ؛ لقولِه تعالى: وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك: 5] . وقيل: الكفَّارُ مُطلقًا). ((تفسير الألوسي)) (15/13). .
كما قال تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 44] .
وقال سُبحانَه: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأحقاف: 26] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] .
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11).
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ.
أي: فأقَرُّوا بذَنْبِهم الَّذي استَوجَبَ لهم الخُلودَ في السَّعيرِ [146] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/125)، ((تفسير السمرقندي)) (3/475)، ((تفسير القرطبي)) (18/213)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/239)، ((تفسير القاسمي)) (9/290). قيل: المرادُ بالذَّنْبِ هنا: الشِّركُ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: السمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/475). وقيل: هو تكذيبُهم للرُّسُلِ عليهم السَّلامُ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القَولِ: الواحديُّ، والقرطبي، وابنُ جُزَي، والقاسمي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/328)، ((تفسير القرطبي)) (18/ 213)، ((تفسير ابن جزي)) (2/396)، ((تفسير القاسمي)) (9/290). وقيل: هو الكفرُ وتكذيبُ الأنبياءِ. وممَّن اختار هذا القولَ: أبو السعود، والشوكانيُّ، والألوسي. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/6)، ((تفسير الشوكاني)) (5/311)، ((تفسير الألوسي)) (15/13). .
قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: 12] .
فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ.
أي: فبُعْدًا لأهلِ النَّارِ الملازِمينَ لها مِن رَحمةِ اللهِ تعالى [147] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/125)، ((تفسير القرطبي)) (18/213)، ((تفسير السعدي)) (ص: 876). قال الرازي: (قال المفسِّرون: فبُعدًا لهم اعتَرَفوا أو جَحَدوا؛ فإنَّ ذلك لا يَنفَعُهم). ((تفسير الرازي)) (30/588). وقال ابنُ عاشور: (يجوزُ أن يُرادَ مِن هذا الدُّعاءِ التَّعجيبُ مِن حالِهم... أي: فهم جَديرون بالدُّعاءِ عليهم بالإبعادِ، أو جديرونَ بالتَّعجيبِ مِن بُعْدِهم عن الحَقِّ، أو عن رحمةِ اللهِ تعالى. ويحتَمِلُ أيضًا أن يُقالَ لهم يومَ الحِسابِ عَقِبَ اعترافِهم؛ تنديمًا يَزيدُهم ألَمًا في نفوسِهم، فوقَ ألمِ الحَريقِ في جُلودِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (29/28). !

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فيه أعظَمُ فضيلةٍ للعَقلِ [148] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/238). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ نَفَوا عن أنفُسِهم طُرُقَ الهُدى، وهي السَّمعُ لِما أنزَلَ اللهُ وجاءت به الرُّسُلُ، والعَقلُ الَّذي يَنفَعُ صاحِبَه، ويَقِفُه على حقائِقِ الأشياءِ، وإيثارِ الخَيرِ، والانزِجارِ عن كُلِّ ما عاقِبتُه ذَميمةٌ؛ فلا سَمْعَ لهم ولا عَقْلَ. وهذا بخِلافِ أهلِ اليَقينِ والعِرفانِ، وأربابِ الصِّدقِ والإيمانِ؛ فإنَّهم أيَّدوا إيمانَهم بالأدِلَّةِ السَّمْعيَّةِ، فسَمِعوا ما جاء مِن عندِ اللهِ وجاء به رَسولُ اللهِ، عِلمًا ومَعرِفةً وعَمَلًا؛ والأدِلَّةِ العَقليَّةِ المُعَرِّفةِ للهُدى مِن الضَّلالِ، والحسنِ مِن القَبيحِ، والخَيرِ مِنَ الشَّرِّ، وهم في الإيمانِ بحَسَبِ ما مَنَّ اللهُ عليهم به مِن الاقتِداءِ بالمَعقولِ والمنقولِ؛ فسُبحانَ مَن يختَصُّ بفَضلِه مَن يَشاءُ، ويَمُنُّ على مَن يَشاءُ مِن عبادِه، ويَخذُلُ مَن لا يَصلُحُ للخَيرِ [149] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 875). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ يُؤخَذُ مِن هذه الآيةِ أنَّ قِوامَ الصَّلاحِ في حُسنِ التَّلقِّي وحُسنِ النَّظَرِ، وأنَّ الأثَرَ والنَّظَرَ -أي: القياسَ- هما أصلَا الهُدى [150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/28). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- ذكَر الله تعالى عن أهلِ النَّارِ في عددٍ مِن الآياتِ ما يدُلُّ على أنَّهم يَسمعونَ ويُبصِرونَ ويَتكلَّمونَ؛ كقَولِه: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا، وقولِه: سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا، وقولِه تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [مريم: 38] ، وقولِه عزَّ وجلَّ: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا [السجدة: 12] ، وقولِه: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ [الكهف: 53] . مع أنَّه جلَّ وعلا ذكَر في قولِه: وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ [الأنبياء: 100] أنَّ أهلَ النَّارِ لا يَسمَعونَ فيها، وبيَّن أنَّهم لا يَتكلَّمونَ، ولا يُبصِرونَ في مواضعَ أخرى؛ كقولِه تبارك وتعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء: 97] ، وقولِه: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124] ، وقولِه: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ [النمل: 85] ؟
والجوابُ عن هذا مِنْ أوجُهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنْ يكونَ المرادُ مِمَّا ذُكِر -مِن العمَى، والصَّممِ، والبَكَمِ- حقيقتَه، ويكونُ ذلك في مبدَأِ الأمرِ، ثُمَّ يَرُدُّ اللهُ تعالَى إليهم أبصارَهم ونُطْقَهم وسَمْعَهم، فيَرَونَ النَّارَ، ويَسمَعونَ زَفيرَها، ويَنطِقُونَ بما حَكَى اللهُ تعالى عنهم في غيرِ مَوضِعٍ.
الوجهُ الثَّاني: أنَّهم لا يَرَونَ شيئًا يَسُرُّهم، ولا يَسمَعونَ كذلك، ولا يَنطِقونَ بحُجَّةٍ، كما أنَّهم كانوا في الدُّنيا لا يَسْتَبْصِرونَ، ولا يَنطِقونَ بالحقِّ، ولا يَسْمَعونَه، فنُزِّلَ ما يَقولونَه ويَسْمَعونَه ويُبْصِرونَه مَنزِلةَ العَدَمِ؛ لعَدَم الانتِفاعِ به، والعربُ في كلامِها تُطلِقُ الصَّمَمَ على السَّماعِ الَّذي لا فائدةَ فيه. وكذلك الكلامُ الَّذي لا فائدةَ فيه، والرُّؤيةُ الَّتي لا فائدةَ فيها.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ اللهَ تعالى إذا قال لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] ، وَقَع بهم ذاك العمَى والصَّمَمُ والبَكَمُ مِن شِدَّةِ الكربِ واليأْسِ مِنَ الفَرَجِ، قال تعالَى: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ [151] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/128، 247)، ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 143). [النمل: 85] .
2- قَولُ اللهِ تعالى: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ فيه إثباتُ أنَّ للنَّارِ حِسًّا وإدراكًا وإرادةً، وقد أثبَتَ القرآنُ للنَّارِ أنَّها تَغتاظُ وتُبصِرُ، وتتكَلَّمُ وتَطلُبُ المزيدَ [152] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/233). .
3- في قَولِه تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا أنَّ اللهَ تعالى لا يُعَذِّبُ أحدًا إلَّا بعدَ بُلوغِ الرِّسالةِ؛ فقد أَخبرَ أنَّه كُلَّما أُلقِيَ في النَّارِ فوجٌ، أَقَرُّوا بأنَّهم جاءَهم النَّذيرُ فكذَّبوه؛ فدلَّ ذلك على أنَّه لا يُلقَى فيها فَوجٌ إلَّا مَن كذَّبَ النَّذيرَ [153] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/186). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ يدُلُّ على أنَّ أهلَ النَّارِ يَدخُلونَها جماعةً بعْدَ جَماعةٍ، كما في قَولِه تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [154] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/232). [الأعراف: 38] .
5- في قَولِه تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ، وقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تزالُ جهَنَّمُ يُلْقى فيها، وتَقولُ: هَلْ مِنْ مَزيدٍ ...)) [155] أخرجه البخاريُّ (7384)، ومسلمٌ (2848) -واللَّفظُ له- مِن حديثِ أنسٍ رضيَ الله عنه. دليلٌ على أنَّ أهلَ النَّارِ -والعياذُ باللهِ- يُلْقَون فيها إلقاءً؛ لا يَدخلون مُكَرَّمِينَ! بل يُدَعُّون إلى نارِ جهنَّمَ دَعًّا [156] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (2/30). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا فيه دَليلٌ على جوازِ الجَمعِ بيْن حَرفِ الجَوابِ ونَفْسِ الجُملةِ المُجابِ بها؛ إذ لو قالوا: (بلى)، لَفُهِمَ المعنى [157] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين (10/383)، ((تفسير ابن عادل)) (19/239). ويُنظر ما سيأتي في البلاغة (ص: 276، 277). .
7- في قَولِ الله تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ جَمعٌ بيْن السَّمعِ والعَقلِ؛ لأنَّ مَدارَ التَّكليفِ على أدِلَّةِ السَّمعِ والعَقلِ [158] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/588). .
8- السَّمعُ والعَقلُ هما أصلُ العِلمِ، وبهما يُنالُ؛ قال اللهُ تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [159] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/59). .
9- قال الله تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ هم يَسمَعونَ، ولكن لا يَسمَعونَ ما يَنفَعُهم في الآخرةِ، ويَعقِلونَ، ولكن لا يَعقِلونَ ما يَنفَعُهم في الآخرةِ؛ لأنَّ اللهَ قال: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة: 7] ، وقال: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا[الكهف: 57] [160] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/233)، وهذه الفائدة من إملاء الشنقيطي. . فأهلُ النَّارِ ذَكَروا ما يدُلُّ على انتفاءِ السَّمعِ والعقلِ عنهم في الدُّنيا، وهم يُريدون سمعًا خاصًّا وعقلًا خاصًّا؛ فانتفاءُ السَّمعِ بإعراضِهم عن تَلقِّي دَعوةِ الرُّسلِ، وانتفاءُ العقلِ بتَرْكِ التَّدبُّرِ في آياتِ الرُّسلِ ودَلائلِ صِدقِهم فيما يَدْعون إليه [161] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/27). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ احتَجَّ به مَن فَضَّل السَّمعَ على البصَرِ؛ فقد دَلَّت الآيةُ على أنَّ للسَّمعِ مَدْخلًا في الخَلاصِ مِن النَّارِ والفَوزِ بالجنَّةِ، والبصَرُ ليس كذلك؛ فوَجَب أن يكونَ السَّمعُ أفضَلَ [162] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/588). ويُنظر أيضًا: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 270). .
11- العقلُ يدُلُّ على صِحَّةِ السَّمعِ، والسَّمعُ يُبيِّنُ صِحَّةَ العقلِ، وأنَّ مَن سلَك أحدَهما أفْضَى به إلى الآخرِ، وأنَّ الَّذين يَستحِقُّونَ العَذابَ هم الَّذين لا يَسمَعونَ ولا يَعقِلونَ، كما قال الله تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ، وقال تعالَى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 44] ، وقالَ تعالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] ، وقالَ تعالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] . فقد بَيَّنَ القرآنُ أنَّ مَن كان يَعقِلُ أو كان يَسمَعُ فإنَّه يكونُ ناجيًا وسعيدًا، ويكونُ مُؤمِنًا بما جاءتْ به الرُّسُلُ [163] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (2/40). .
12- في قَولِه تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ أنَّ عَلامةَ العَقلِ الصَّريحِ مُتابَعةُ ما جاءتْ به الرُّسُلُ عنِ اللهِ تعالى؛ فإنَّ العَقلَ الصَّريحَ لا يُخالِفُ ذلك قَطُّ، بل لو وُجِدَ لَوُجِدَ الإيمانُ؛ ففي الآياتِ أنَّهم أخبَروا أنَّه أيُّ الأمْرَينِ وُجِدَ منَعَهم العَذابَ، وقد قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [164] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (5/159). [الحج: 46] .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالَى: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تَتميمٌ [165] التَّتميم: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ من الكلام نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ. ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العزَّةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر: ((تحرير التَّحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 127)، ((التِّبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 217)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/332، 333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدِّين درويش (1/44)، ((مفاتيح التَّفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/240، 241). ؛ لئلَّا يُتوهَّمَ أنَّ العذابَ أُعِدَّ للشَّياطينِ خاصَّةً، والمعْنى: ولجَميعِ الَّذين كَفَروا باللهِ عَذابُ جهنَّمَ، فالمرادُ عامَّةُ المشرِكين، ومِن أجْلِ ما في الجُملةِ مِن زِيادةِ الفائدةِ غايَرَت الجُملةَ الَّتي قبْلَها؛ فلذلك عُطِفَت عليها [166] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/23). .
- وتَقديمُ المجرورِ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا؛ للاهتمامِ بتَعلُّقِه بالمسنَدِ إليه، والمبادَرةِ به [167] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/23). .
- وجُملةُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ حالٌ أو مُعترِضةٌ لإنشاءِ الذَّمِّ، وحُذِفَ المخصوصُ بالذَّمِّ؛ لدَلالةِ ما قبْلَ (بِئس) عليه، والتَّقديرُ: وبِئسَ المصيرُ عَذابُ جهنَّمَ [168] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/23). .
2- قوله تعالَى: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ مُستأنَفٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لبَيانِ ذمِّ مَصيرِهم في جهنَّمَ، أي: مِن جُملةِ مَذامِّ مَصيرِهم مَذمَّةُ ما يَسمَعونه فيها مِن أصواتٍ مُؤلمةٍ مُخيفةٍ [169] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/23). .
- و(إذا) ظرْفٌ مُتعلِّقٌ بـ سَمِعُوا، يدُلُّ على الاقترانِ بيْن زمَنِ الإلقاءِ وزمَنِ سَماعِ الشَّهيقِ [170] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/23). .
وجملةُ وَهِيَ تَفُورُ حاليَّةٌ، أي: والحالُ أنَّها تَغلي بهم غَلَيانَ المِرْجَلِ بما فيه، وترتفعُ ألْسِنةُ لَهيبِها [171] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/12)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/23). .
3- قوله تعالَى: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ
- قولُه: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ قيل: الجُملةُ مُستأنَفةٌ، كأنَّها وَقَعَت جَوابًا لسُؤالِ سائلٍ [172] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/149). .
- قولُه: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ أُتبِعَ وصْفُ ما يَجِدُه أهلُ النَّارِ عندَ إلْقائِهم فيها مِن فَظائعِ أهْوالِها، بوصْفِ ما يَتلقَّاهم به خَزَنةُ النَّارِ، فالجُملةُ استئنافٌ بَيانيٌّ، أثارَه وصْفُ النَّارِ عندَ إلقاءِ أهلِ النَّارِ فيها؛ إذ يَتساءَلُ السَّامعُ عن سَببِ وُقوعِ أهلِ النَّارِ فيها، فجاء بَيانُه بأنَّه تَكذيبُهم رُسلَ اللهِ الَّذين أُرسِلوا إليهم، مع ما انضمَّ إلى ذلك مِن وصْفِ نَدامةِ أهلِ النَّارِ على ما فرَطَ منهم مِن تَكذيبِ رُسلِ اللهِ، وعلى إهمالِهم النَّظَرَ في دَعوةِ الرُّسلِ والتَّدبُّرَ فيما جاؤوهم به [173] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/24). .
- واكتسَبَ التَّركيبُ معْنى الشَّرطِ باتِّصالِ (كلّ) بحرْفِ (ما) المصدريَّةِ الظَّرفيَّةِ، وشابَهَ أدواتِ الشَّرطِ في الاحتياجِ إلى جُملتَينِ مُرتَّبةٍ إحْداهما على الأُخرى. وجِيءَ بفِعلَيْ أُلْقِيَ وسَأَلَهُمْ ماضيَينِ؛ لأنَّ أكثَرَ ما يقَعُ الفِعلُ بعْدَ (كُلَّما) أنْ يكونَ بصِيغةِ المُضيِّ؛ لأنَّها لَمَّا شابَهَت الشَّرطَ اسْتَوى الماضي والمضارعُ معها؛ لظُهورِ أنَّه للزَّمنِ المُستقبَلِ، فأُوثِرَ فِعلُ المُضيِّ؛ لأنَّه أخفُّ [174] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/25). .
- والفَوجُ: الجماعةُ، أي: جَماعةٌ ممَّن حقَّ عليهم الخُلودُ، وجِيءَ بالضَّمائرِ العائدةِ إلى الفَوجِ ضَمائرَ جمْعٍ في قولِه: سَأَلَهُمْ إلخ؛ لتَأويلِ الفَوجِ بجَماعةِ أفرادِه [175] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/25). .
- والمرادُ أفواجُ أهلِ النَّارِ مِن جَميعِ الأُمَمِ الَّتي أُرسِلَت إليهم الرُّسلُ، فتكونُ جُملةُ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ ... إلخ بمعْنى التَّذييلِ [176] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/25). .
- والاستفهامُ في أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ استفهامٌ تَقريريٌّ للتَّوبيخِ والتَّنديمِ والتَّقريعِ؛ ليَزْدادوا به عذابًا إلى عَذابِهم، وحسْرةً إلى حسْرتِهم [177] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/578)، ((تفسير البيضاوي)) (5/229)، ((تفسير أبي حيان)) (10/224)، ((تفسير أبي السعود)) (9/5)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/25)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/149). .
- جُملةُ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ قيل: هي مُعترضةٌ بيْنَ كَلامِ خَزَنةِ جهنَّمَ اعتراضًا يُشيرُ إلى أنَّ الفَوجَ قاطَعَ كلامَ الخَزَنةِ بتَعجيلِ الاعترافِ بما وبَّخوهم عليه؛ وذلك مِن شِدَّةِ الخوفِ، وفُصِلَت الجُملةُ لوَجْهَين: لأنَّها اعتِراضٌ، ولوُقوعِها في سِياقِ المحاوَرةِ [178] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/25). . وذلك على القولِ بأنَّ جُمْلَةَ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ مِن بَقِيَّةِ كلامِ خَزَنَةِ جَهنَّمَ.
أو الجُملةُ مُستأنَفةٌ جَوابُ سُؤالٍ مُقدَّرٍ، كأنَّه قِيل: فماذا قالوا بعْدَ السُّؤالِ؟ فقال: قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ [179] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/149). .
- قولُه: قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ قاله الكُفَّارُ اعترافًا بأنَّه تعالَى قد أزاحَ عِلَلَهم بالكُلِّيَّةِ، جامِعينَ بيْنَ حرفِ الجوابِ ونفْسِ الجُملةِ المُجابِ بها؛ مُبالَغةً في الاعتِرافِ بمَجيءِ النَّذيرِ، وتحسُّرًا على ما فاتَهم مِن السَّعادةِ في تَصديقِهم، وتَمهيدًا لبَيانِ ما وقَعَ منهم مِن التَّفريطِ تَندُّمًا واغتمامًا على ذلك [180] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/5). . فجاء جوابُهم جَوابَ المُتحسِّرِ المُتندِّمِ؛ فابْتَدؤوا الجوابَ دَفْعةً بحرْفِ (بلى) المُفيدِ نَقيضَ النَّفيِ في الاستفهامِ، فهو مُفيدُ معْنى: جاءنا نَذيرٌ؛ ولذلك كان قولُهم: قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ مُوكِّدًا لِما دلَّت عليه بَلَى، فلو قالوا: (بلى)، لَفُهِمَ المعنى، ولكِنَّهم أظهَروه تحَسُّرًا، وزيادةً في تغميمِهم على تفريطِهم في قَبولِ قَولِ النَّذيرِ، فهو مِن تَكريرِ الكلامِ عندَ التَّحسُّرِ، مع زِيادةِ التَّحقيقِ بحرْفِ (قدْ)، وذلك التَّأكيدُ هو مَناطُ النَّدامةِ والاعترافِ بالخطَأِ [181] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين (10/383)، ((تفسير ابن عادل)) (19/239)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/25، 26). .
- والنَّذيرُ إمَّا بمعْنى الجمْعِ؛ لأنَّه فَعيلٌ، أو مَصدرٌ مُقدَّرٌ بمُضافٍ، أي: أهلُ إنذارٍ، أو مَنعوتٌ به للمُبالَغةِ، كأنَّ الرُّسلَ عَينُ الإنذارِ، أو المرادُ الواحدُ، والخِطابُ له ولأمثالِه على التَّغليبِ، أو إقامةُ تَكذيبِ الواحدِ مُقامَ تَكذيبِ الكلِّ [182] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/578)، ((تفسير البيضاوي)) (5/229)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/545). .
- جُملةُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ مِن تَمامِ كَلامِ كلِّ فَوجٍ لنَذيرِهم. وأُتِيَ بضَميرِ جمْعِ المُخاطَبينَ معَ أنَّ لكلِّ قومٍ رسولًا واحدًا في الغالبِ -باستثناءِ مُوسى وهارونَ، وباستثناءِ رُسلِ أصحابِ القريةِ المذكورةِ في سُورةِ (يس)- إمَّا على اعتبارِ الحِكايةِ بالمعنى؛ بأنْ جُمِعَ كلامُ جَميعِ الأفواجِ في عبارةٍ واحدةٍ، فجِيءَ بضَميرِ الجمْعِ، والمرادُ التَّوزيعُ على الأفواجِ، أي: قال جَميعُ الأفواجِ: بلى قدْ جاءنا نَذيرٌ إلى قولِه: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ، على طَريقةِ المثالِ المشهورِ: (رَكِبَ القومُ دَوابَّهم)، وإمَّا على إرادةِ شُمولِ الضَّميرِ للنَّذيرِ وأتْباعِه الَّذين يُؤمِنون بما جاء به. وعُمومُ (شَيء) في قولِه: مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ المرادُ منه شَيءٌ مِن التَّنزيلِ، يدُلُّ على أنَّهم كانوا يُحِيلون أنْ يُنزِّلَ اللهُ وحْيًا على بشَرٍ، وهذه عادةُ أهلِ الكفرِ؛ قال تعالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] ، أو جُمِعَ ضَميرُ الخِطابِ مع أنَّ مُخاطَبَ كلِّ فَوجٍ نَذيرُه؛ لتَغليبِه على أمثالِه مُبالَغةً في التَّكذيبِ، وتَماديًا في التَّضليلِ، كما يُنبِئُ عنهُ تَعميمُ المُنزَّلِ مع تَرْكِ ذِكرِ المُنزَّلِ عليهِ؛ فإنَّه مُلوِّحٌ بعُمومِهِ حتْمًا. وقيل: جُملةُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ هي بَقيَّةُ كَلامِ خَزَنةِ جهنَّمَ، فَصَلَ بيْنهما وبيْن ما سَبَقَها مِن كَلامِهم اعتراضُ جَوابِ الفَوجِ المُوجَّهِ إليهم الاستفهامُ التَّوبيخيُّ، أرادوا حِكايةَ ما كانوا عليه مِن ضَلالِهم في الدُّنيا، إخبارًا لهم وتَقريعًا، أو أرادوا بالضَّلالِ: الهلاكَ الَّذي همْ فيه، أو سَمَّوا عِقابَ الضَّلالِ باسمِه ضَلالًا لمَّا كان ناشئًا عن الضَّلالِ تَسميةً لهُ باسمِ سَببِه، ويُؤيِّدُ هذا إعادةُ فِعلِ القولِ في حِكايةِ بَقيَّةِ كَلامِ الفوجِ في قولِه تعالَى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ ... [الملك: 10] إلخ؛ لانقطاعِه بالاعتراضِ الواقعِ خِلالَ حِكايتِه [183] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/578، 579)، ((تفسير أبي حيان)) (10/224)، ((تفسير أبي السعود)) (9/5)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/26). .
- قولُه: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ وصْفُ الضَّلالِ بالكبيرِ معْناه شَديدٌ بالغٌ غايةَ ما يَبلُغُ إليه جِنسُه، ومعْنى القصْرِ المُستفادِ مِن النَّفيِ والاستثناءِ قصْرُ قلْبٍ [184] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). ، أي: ما حالُكم الَّتي أنتم مُتلبِّسون بها إلَّا الضَّلالُ، وليس الوحْيَ الإلهيَّ والهُدى كما تَزعُمون [185] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/26). .
- والظَّرفيَّةُ فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ لتَشبيهِهم تَمحُّضَهم للضَّلالِ بإحاطةِ الظَّرفِ بالمظروفِ [186] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/27). .
4- قوله تعالَى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ قيل: أُعِيدَ فِعلُ القولِ للإشارةِ إلى أنَّ هذا كلامٌ آخَرُ غيرُ الَّذي وقَعَ جوابًا عن سُؤالِ خَزنةِ جهنَّمَ، وإنَّما هذا قولٌ قالُوه في مَجامعِهم في النَّارِ تحسُّرًا وتَندُّمًا، أي: وقال بَعضُهم لبَعضٍ في النَّارِ، فهو مِن قَبيلِ قولِه تعالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا ... إلخ [الأعراف: 38] ؛ لتَأكيدِ الإخبارِ على حسَبِ الوجْهَين المتقدِّمينِ في مَوقعِ جُملةِ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ [187] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/27). .
وقيل: كأنَّ الخزَنةَ قالوا لهم في تَضاعيفِ التَّوبيخِ: ألمْ تَسمَعوا آياتِ ربِّكم ولم تَعقِلوا مَعانيَها حتَّى لا تُكذِّبوا بها؟ فأجابوا بذلك [188] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/6). .
- وحرْفُ (أو) للتَّقسيمِ، وهو تَقسيمٌ باعتبارِ نَوعَيِ الأحوالِ الَّتي تَقْتضي حُسنَ الاستماعِ تارةً إذا أُلْقِيَ إليها إرشادٌ، وحُسْنَ التَّفهُّمِ والنَّظرِ تارةً إذا دُعِيَت إلى النَّظرِ مِن داعٍ غيرِ أنفُسِها، أو مِن دَواعي أنفُسِها [189] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/28). .
- ووَجْهُ تَقديمِ السَّمعِ على العقلِ أنَّ العقلَ بمَنزلةِ الكُلِّيِّ، والسَّمعَ بمَنزلةِ الجُزئيِّ، ورَعْيًا للتَّرتيبِ الطَّبيعيِّ؛ لأنَّ سمْعَ دَعوةِ النَّذيرِ هو أوَّلُ ما يَتلقَّاهُ المُنذَرون، ثمَّ يُعمِلون عُقولَهم في التَّدبُّرِ فيها [190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/28). ، فالمدعوُّ إذا لَقِيَ الرَّسولَ فأوَّلُ المراتبِ أنَّه يَسمَعُ كلامَه، ثمَّ إنَّه يَتفكَّرُ فيه، فلمَّا كان السَّمعُ مُقدَّمًا بهذا السَّببِ على التَّعقُّلِ والتَّفهُّمِ لا جَرَمَ قُدِّم عليه في الذِّكْرِ [191] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/588). .
5- قوله تعالَى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ
- الفاءُ في قولِه: فَاعْتَرَفُوا فَصيحةٌ تُفصِحُ عن كلامٍ مُقدَّرٍ، والتَّقديرُ: إذ قالوا بذلك فقدْ تبيَّنَ أنَّهم اعتَرَفوا هنالك بذَنْبِهم، أي: فهمْ مَحقوقون بما هم فيه مِن العذابِ [192] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/28). .
- ولم يُجمَعِ الذَّنْبُ؛ لأنَّه في الأصلِ مَصدرٌ، أو المرادُ به الكُفرُ [193] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/229). .
- والفاءُ في قولِه: فَسُحْقًا للتَّسبُّبِ [194] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/223)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/28). ، والسُّحقُ: اسمُ مَصدرٍ معْناه البُعدُ، أي: أسْحَقَهم اللهُ إسحاقًا؛ أبْعَدَهم مِن رَحمتِه. ويَجوزُ أنْ يُرادَ مِن هذا الدُّعاءِ التَّعجيبُ مِن حالِهم، كما يُقال: قاتَلَه اللهُ، ووَيلٌ له، في مَقامِ التَّعجُّبِ. وقِيل: هو مَفعولٌ به لفِعلٍ مَحذوفٍ، أي: ألْزَمَهم اللهُ سُحقًا [195] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/6)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/28)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/150). .
- واللَّامُ الدَّاخلةُ على (أصحابِ) لامُ التَّقويةِ إنْ جُعِلَ (سُحقًا) دُعاءً عليهم بالإبعادِ؛ لأنَّ المصدَرَ فرْعٌ في العملِ عن الفِعلِ. ويجوزُ أنْ تكونَ اللَّامُ لامَ التَّبيينِ لتأْكيدِ تَعلُّقِ العاملِ بمَعمولِه، كقولِهم: شُكرًا لك، فكلٌّ مِن (سُحقًا) واللَّامِ المُتعلِّقةِ به مُستعمَلٌ في مَعنيَيْه [196] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/6)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/28، 29). .
- ولِأَصْحَابِ السَّعِيرِ يَعُمُّ المُخاطَبينَ بالقرآنِ وغيرَهم، فكان هذا الدُّعاءُ بمَنزلةِ التَّذييلِ؛ لِما فيه مِن العُمومِ تَبَعًا للجُمَلِ الَّتي قبْلَه [197] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/29). . وقيل: قولُه: لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ المرادُ بهم الشَّياطينُ والدَّاخِلونَ في عِدادِهم بطَريقِ التَّغليبِ [198] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/6). . والتَّغليبُ في قولِه: فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ للإيجازِ والمُبالَغةِ والتَّعليلِ؛ فأصحابُ السَّعيرِ -وهم الشَّياطينُ- غُلِّبوا على الكفَرةِ؛ إذ الظَّاهرُ أنْ يُقال: فسُحْقًا لهم، أي: للقائلينَ: بلى قدْ جاءَنا... إلخ، ولأصحابِ السَّعيرِ الَّذين هم الشَّياطينُ، فغُلِّبَ للإيجازِ، والمُبالَغةِ في إبعادِ الأوَّلينَ؛ إذ لو أُفرِدَ كلٌّ مِن الفريقَينِ بالذِّكْرِ لَأمكَنَ أن يُتَوهَّمَ تَفاوُتُ الإبعادِ بأنْ يكونَ إبعادُ الكفَرةِ دونَ إبعادِ الشَّياطينِ؛ لجَعْلِهم الشَّياطينَ أصلًا، وأنفُسَهم مُلحقةً بهم في مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 10] ، فلمَّا ضُمُّوا إليهم في الحُكمِ دلَّ على أنَّ إبعادَهم لا يَقصُرُ عن إبعادِ أولئك. وأيضًا لَمَّا غُلِّب أصحابُ السَّعيرِ -وهم الشَّياطينُ- على الكفَّارِ، فقد جُعِل الكفَّارُ مِن قَبِيلِ الشَّياطينِ، فكأنَّهم هُم بأعيانِهم، وفيه مِن المُبالَغةِ ما لا يَخفى. وأمَّا التَّعليلُ فإنَّ ترَقُّبَ الحُكمِ على الوصفِ -وكذا تَعَلُّقَه به- يُشعِرُ بعِلِّيَّتِه له، فيُشعِرُ ذلك بأنَّ الإبعادَ حصَل لهم مِن أجْلِ كَونِهم أصحابَ السَّعيرِ [199] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/229)، ((حاشية الشهاب على البيضاوي)) (8/220)، ((تفسير الألوسي)) (15/14). .