موسوعة التفسير

سورةُ المُلْكِ
الآيات (1-5)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ

غريب الكلمات:

تَبَارَكَ: أي: تعاظَمَ وتقَدَّسَ، وكثُر خَيرُه، وعمَّ إحسانُه، مِن البَرَكةِ: وهي الزِّيادةُ والنَّماءُ، والكثرةُ والاتِّساعُ، وأصلُ (برك): ثَباتُ الشَّيءِ [12] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 310)، ((تفسير ابن جرير)) (17/405)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 151)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/231)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 120)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 112)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 25)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 319). .
لِيَبْلُوَكُمْ: أي: لِيَختَبِرَكم ويَمتحِنَكم، وأصلُه: يدُلُّ على الامتِحانِ والاختِبارِ [13] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 92)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 433)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/293)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 85). .
طِبَاقًا: أي: مُتَطابِقةً بَعضُها فَوقَ بَعضٍ، والمُطابَقةُ: أن تَجعَلَ الشَّيءَ فَوقَ آخَرَ بقَدْرِه، وأصلُ (طبق): يدُلُّ على وَضعِ شَيءٍ مَبسوطٍ على مِثْلِه حتَّى يُغَطِّيَه [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/119)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/439)، ((المفردات)) للراغب (ص: 516)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 408)، ((تفسير القرطبي)) (18/ 208). .
تَفَاوُتٍ: أي: اضْطِرابٍ واختِلافٍ أو عَيبٍ، وتفاوَتَ الشَّيئانِ: تباعَدَ ما بيْنَهما، وأصلُه مِنَ «الفَوتِ» وهو: أن يَفوتَ شَيءٌ شيئًا، فيقَعَ الخَلَلُ [15] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 474)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 157)، ((مقاييس اللغة)) (4/457)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 408). .
فُطُورٍ: أي: صُدوعٍ وشُقوقٍ، وأصلُ (فطر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وإبرازِه [16] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 474)، ((تفسير ابن جرير)) (9/176)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 370)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/510)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 408). .
كَرَّتَيْنِ: أي: رَجْعتَينِ؛ مرَّةً بعدَ أُخرى، وأصلُ (كرر): يدُلُّ على تَرديدٍ [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/121)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/126)، ((تفسير القرطبي)) (18/209)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 139). .
يَنْقَلِبْ : أي: يرجِعْ، وأصْلُ (قلب) هنا: صرْفُ الشَّيءِ عن وجْهٍ إلى وجْهٍ، أو ردُّه مِن جِهةٍ إلى جهةٍ [18] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((تفسير ابن جرير)) (23/121)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/17)، ((المفردات)) للراغب (ص: 681). .
خَاسِئًا: أي: صاغِرًا، ذَليلًا، مُبْعَدًا، لم يَرَ ما يَهْوَى، وأصلُ (خسأ): يدُلُّ على الطَّردِ والإبعادِ [19] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 474)، ((تفسير ابن جرير)) (2/67)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 212)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/182)، ((تفسير البغوي)) (8/176)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 437). .
حَسِيرٌ: أي: كَليلٌ، مُعْيٍ، مُنقَطِعٌ، لم يُدرِكْ ما طَلَب، وهو فَعيلٌ بمعنى فاعِلٍ، مِنَ الحُسورِ الَّذي هو الإعياءُ، يُقالُ: حَسَرَ بَصَرُه: إذا كَلَّ وانقَطَع، وذلك انْكِشافُ حالِه في قِلَّةِ بَصَرِه وضَعْفِه، وأصلُ (حسر): كَشْفُ الشيءِ [20] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 474)، ((تفسير ابن جرير)) (23/121)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 197)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/ 62)، ((البسيط)) للواحدي (22/45)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 72). .
رُجُومًا : أي: يُرْجَمُ بها، والرُّجومُ جمعُ رَجْمٍ، وهو مصدرٌ سُمِّيَ به ما يُرجَمُ به، وأصلُ (رجم): يدُلُّ على رَميٍ بالحِجارةِ [21] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/493)، ((تفسير الزمخشري)) (4/577)، ((تفسير الشوكاني)) (5/310). .
السَّعِيرِ: هو اسْمٌ مِن أسماءِ جَهنَّمَ، يُقالُ: سَعرْتُ النَّارَ، إذا ألهَبْتَها، وأصلُ (سعر): يدُلُّ على اشتِعالِ الشَّيءِ واتِّقادِه وارتِفاعِه [22] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 259)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3 /75)، ((المفردات)) للراغب (ص: 411)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 163)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 521). .

المعنى الإجمالي:

افتتَحَ اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بالثَّناءِ على ذاتِه قائِلًا: تعاظَمَ الله وكثُرَ خَيرُه الَّذي بيَدِه المُلْكُ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ.
ثمَّ ذكر الله تعالى ما يدُلُّ على حِكمتِه، وشُمولِ قُدرتِه، فقال: الَّذي خَلَق الموتَ والحياةَ؛ لِيَختَبِرَكم -أيُّها النَّاسُ- فيَنظُرَ أيُّكم خَيرٌ وأفضَلُ عَمَلًا، وهو الغالِبُ القاهِرُ، الغَفورُ لذُنوبِ عبادِه.
ثمَّ بيَّن سبحانَه مَظهَرًا آخَرَ مِن مَظاهِرِ قُدرتِه، فقال: هو الَّذي خَلَق سَبْعَ سَمَواتٍ بَعضُها فوقَ بَعضٍ، لا تَرى في خَلْقِ السَّمَواتِ الَّتي أبدَعَها الرَّحمنُ مِن اختِلافٍ أو خَلَلٍ، فأعِدْ بَصَرَك إلى السَّماءِ مُتأمِّلًا فيها، فهل ترى فيها مِن شُقوقٍ أو صُدوعٍ؟! ثمَّ كرِّرِ النَّظَرَ إلى السَّماءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخرى، يَرجِعْ إليك بَصَرُك صاغِرًا ذليلًا قد بلَغَ الغايةَ في التَّعَبِ والإعياءِ.
ثمَّ ذكَر تعالى أدِلَّةً أخرَى على وحدانيَّتِه وقُدرتِه، فقال: ولقد زَيَّنَّا السَّماءَ القَريبةَ للأرضِ بنُجومٍ مُضيئةٍ، وجعَلْنا تلك النُّجومَ رُجومًا للشَّياطينِ الَّتي تَستَرِقُ السَّمْعَ، وأعدَدْنا لهم في الآخِرةِ أشَدَّ الحَريقِ.

تفسير الآيات:

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1).
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ.
أي: تعاظَمَ وكثُرَ خَيرُ اللهِ الَّذي بيَدِه مُلْكُ العالَمِ أجمَعَ؛ فهو وَحْدَه مَن يتصَرَّفُ فيه كيفَ يَشاءُ بما يَشاءُ [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/118)، ((تفسير القرطبي)) (18/205، 206)، ((تفسير ابن كثير)) (8/176)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/217)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [الزخرف: 85] .
وقال سُبحانَه: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران: 26، 27].
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَدُ اللهِ مَلْأَى لا تَغِيضُها [24] لا تَغِيضُها: أي: لا تَنقُصُها. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (1/166). نَفَقةٌ، سَحَّاءُ [25] سَحَّاءُ: أي: دائِمةُ الصَّبِّ والهَطْلِ بالعَطاءِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (10/386). اللَّيلَ والنَّهارَ، أرَأَيْتُم ما أنفَقَ مُنذُ خَلَقَ السَّماءَ والأرضَ؟! فإنَّه لم يَغِضْ ما في يَدِه، وكان عَرشُه على الماءِ، وبيَدِه الميزانُ، يَخفِضُ ويَرفَ عُ)) [26] رواه البخاريُّ (4684) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (993). .
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: واللهُ وَحْدَه ذو القُدرةِ التَّامَّةِ البالِغةِ على فِعلِ كُلِّ شَيءٍ، فلا يَمنَعُه أو يُعجِزُه شَيءٌ [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/118)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/219)، ((تفسير الشوكاني)) (5/308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875). .
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها شُروعٌ في تَفصيلِ بَعضِ أحكامِ المُلكِ وآثارِ القُدرةِ، وبَيانِ ابتنائِهما على قَوانينِ الحِكَمِ والمَصالحِ، واستِتباعِهما لغاياتٍ جَليلةٍ [28] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/2). .
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ.
أي: هو الَّذي خلَقَ موتَ الخَلْقِ وحياتَهم [29] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/394). قال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (فيُميتُ الأحياءَ، ويُحيي المَوتى مِن نُطْفةٍ، ثمَّ عَلَقةٍ، ثمَّ يَنفُخُ فيه الرُّوحَ فيَصيرُ حيًّا). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/389). وقال ابن جرير: (فأماتَ مَن شاء وما شاء، وأحْيا مَنْ أراد وما أراد إلى أجَلٍ معلومٍ). ((تفسير ابن جرير)) (23/118). وقال ابن كثير: (معنى الآيةِ: أنَّه أوجَد الخلائقَ مِن العدَمِ؛ لِيَبلُوَهم ويَختَبِرَهم أيُّهم أحسَنُ عمَلًا؟ كما قال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [البقرة: 28] ، فسَمَّى الحالَ الأوَّلَ -وهو العدَمُ- مَوتًا، وسمَّى هذه النَّشأةَ حياةً؛ ولهذا قال: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة: 28] ). ((تفسير ابن كثير)) (8/ 176). وقال الزمخشريُّ، والنَّسَفيُّ، وأبو حيَّانَ، والألوسيُّ: خَلَق مَوْتَكم وحَياتَكم أيُّها المكَلَّفونَ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/575)، ((تفسير النسفي)) (3/510)، ((تفسير أبي حيان)) (10/220)، ((تفسير الألوسي)) (15/6). وقال السعدي: (وخَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ أي: قدَّر لعِبادِه أن يُحيِيَهم ثمَّ يُميتَهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 875). وقال البيضاوي: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ قدَّرَهما، أو أوجَد الحياةَ وأزالَها حسبَما قدَّره). ((تفسير البيضاوي)) (5/228). وقال البِقاعي: (الَّذِي خَلَقَ أي: قدَّر وأوجَد). ((نظم الدرر)) (20/ 219). وقال القرطبي: (قال العُلَماءُ: الموتُ ليس بعَدَمٍ مَحضٍ، ولا فَناءٍ صِرفٍ، وإنَّما هو انقِطاعُ تعَلُّقِ الرُّوحِ بالبَدَنِ، ومُفارقتُه، وحَيلولةٌ بيْنَهما، وتبَدُّلُ حالٍ، وانتِقالٌ مِن دارٍ إلى دارٍ). ((تفسير القرطبي)) (18/206). .
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
أي: لِيَختَبِرَكم -أيُّها النَّاسُ- بالأوامِرِ والنَّواهي والشَّهَواتِ والمصائِبِ، فيَنظُرَ أيُّكم خَيرٌ وأفضَلُ عَمَلًا -وذلك أخْلَصُه للهِ تعالى، وأصْوَبُه بأدائِه وَفْقَ شَرْعِه-، ثمَّ يُجازيَكم على أعمالِكم [30] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/118)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/333)، ((تفسير ابن جزي)) (2/394)، ((تفسير ابن كثير)) (8/176)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/220، 221)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875). .
قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [الكهف: 7، 8].
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ.
أي: وهو الغالِبُ الَّذي لا يُغلَبُ، المَنيعُ الجَنابِ، القاهِرُ لجَميعِ المخلوقاتِ، الغَفورُ لذُنوبِ عبادِه، فيَستُرُها عليهم، ويَقيهم عُقوبتَها [31] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/119)، ((تفسير القرطبي)) (18/207)، ((تفسير ابن كثير)) (8/176)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/15، 16)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 130). .
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ كَوْنَ اللهِ عَزيزًا غَفورًا لا يَتِمُّ إلَّا بَعْدَ كَونِه قادِرًا على كُلِّ المقدوراتِ، عالِمًا بكُلِّ المعلوماتِ، أمَّا أنَّه لا بُدَّ مِن القُدرةِ التَّامَّةِ؛ فمِن أجْلِ أن يتمكَّنَ مِن إيصالِ جزاءِ كُلِّ أحدٍ بتَمامِه إليه، سواءٌ كان عِقابًا أو ثوابًا، وأمَّا أنَّه لا بُدَّ مِن العِلمِ التَّامِّ؛ فمِن أجْلِ أن يَعلَمَ أنَّ المطيعَ مَن هو، والعاصيَ مَن هو، فلا يقَعَ الخطَأُ في إيصالِ الحَقِّ إلى مُستحِقِّه، فثَبَت أنَّ كَونَه عزيزًا غَفورًا لا يمكِنُ ثُبوتُها إلَّا بعْدَ ثُبوتِ القُدرةِ التَّامَّةِ والعِلمِ التَّامِّ؛ فلهذا السَّبَبِ ذَكَر اللهُ الدَّليلَ على ثُبوتِ هاتَينِ الصِّفَتينِ في هذا المقامِ، ولَمَّا كان العِلمُ بكَونِه تعالى قادِرًا: متقَدِّمًا على العِلمِ بكَونِه عالِمًا؛ لا جَرَمَ ذَكَر أوَّلًا دلائِلَ القُدرةِ، وثانيًا دلائِلَ العِلمِ [32] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/581). .
وأيضًا لَمَّا أثبَتَ اللهُ سُبحانَه لنَفْسِه صِفتَيِ العِزِّ والغَفْرِ على أبلَغِ ما يكونُ؛ دَلَّ على ذلك بقَولِه [33] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/223). :
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا.
أي: هو الَّذي خَلَق سَبْعَ سَمَواتٍ بَعضُها فوقَ بَعضٍ [34] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/119)، ((تفسير القرطبي)) (18/208)، ((تفسير ابن كثير)) (8/176)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/223)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875). قال الماوَرْدي: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا فيه وَجهانِ: أحَدُهما: أي: مُتَّفِقٌ مُتشابِهٌ، مأخوذٌ مِن قَولِهم: هذا مُطابِقٌ لهذا، أي: شَبيهٌ له. قاله ابنُ بحرٍ. الثَّاني: يعني: بَعضُهنَّ فَوقَ بَعضٍ). ((تفسير الماوردي)) (6/50، 51). قال ابن جُزَي: (الطِّباقُ مصدرٌ وُصِفَتْ به السَّمواتُ، أو على حذفِ مُضافٍ تقديرُه: ذواتِ طِباقٍ. وقيل: إنَّه جمعُ طبقةٍ). ((تفسير ابن جزي)) (2/ 394). وقال ابنُ عاشور: (الطِّباقُ يجوزُ أن يكونَ مَصدَرَ «طابَقَ»، وُصِفَت به السَّمَواتُ للمُبالغةِ، أي: شديدةَ المطابقةِ، أي: مُناسَبة بَعضِها لبعضٍ في النِّظامِ. ويجوزُ أن تكونَ طِبَاقًا جمْعَ طَبَقٍ، والطَّبَقُ: المُساوي في حالةٍ ما، ومنه قَولُهم في المثَلِ: «وافَقَ شَنٌّ طَبَقَه». والمعنى: أنَّها مُرتفِعٌ بَعضُها فوقَ بعضٍ في الفَضاءِ السَّحيقِ، أو المعنى: أنَّها مُتماثِلةٌ في بعضِ الصِّفاتِ...، وليس في قَولِه: طِبَاقًا ما يقتضي أنَّ بَعضَها مظروفٌ لبعضٍ؛ لأنَّ ذلك ليس مِن مُفادِ مادَّةِ الطِّباقِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/16، 17). وقال ابن جرير: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا طَبَقًا فوقَ طبَقٍ، بعضُها فوقَ بعضٍ). ((تفسير ابن جرير)) (23/ 119). وقال ابن كثير: (قال: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا أي: طبَقةً بعْدَ طبَقةٍ، وهل هنَّ مُتَواصِلاتٌ -بمعنى: أنَّهُنَّ علويَّاتٌ بَعضُهُنَّ على بعضٍ- أو مُتفاصِلاتٌ بيْنَهنَّ خَلاءٌ؟ فيه قَولانِ، أصَحُّهما الثَّاني، كما دلَّ على ذلك حديثُ الإسراءِ وغيرُه). ((تفسير ابن كثير)) (8/ 176). ويُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (1/ 39). وقال أبو السعود: (مُتطابِقةٌ بَعضُها فوقَ بَعضٍ). ((تفسير أبي السعود)) (9/39). وقال البِقاعي: (كُلُّ واحِدةٍ مِنها كأنَّها لشِدَّةِ مُطابَقتِها للأُخرى طالِبةٌ مُطابَقتَها بحيثُ يكونُ كُلُّ جزءٍ منها مُطابِقًا لجُزءٍ مِن الأخرى، ولا يكونُ جُزءٌ منها خارِجًا عن ذلك). ((نظم الدرر)) (20/ 223). وقال ابن عادل: (لا خِلافَ في أنَّ السَّمَواتِ سَبْعٌ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ، بدليلِ حديثِ الإسراءِ وغَيرِه). ((تفسير ابن عادل)) (19/ 180). .
كما قال تعالى حِكايةً عن قَولِ نُوحٍ عليه السَّلامُ لِقَومِه المُشرِكينَ: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا [نوح: 15].
مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ.
أي: لا ترى [35] قال الرازي: (الخِطابُ في قوله: مَا تَرَى إمَّا للرَّسولِ، أو لكلِّ مُخاطَبٍ، وكذا القولُ في قولِه: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا). ((تفسير الرازي)) (30/51). في خَلْقِ السَّمَواتِ الَّتي أبدَعَها الرَّحمنُ مِن اختِلافٍ أو خَلَلٍ [36] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/119)، ((تفسير ابن كثير)) (8/177). قال ابنُ جُزَي: (المعنى: أنَّ خِلقةَ السَّمَواتِ في غايةِ الإتقانِ... ولا شَكَّ أنَّ جَميعَ المخلوقاتِ مُتقَنةٌ، ولكِنْ تخصيصُ الآيةِ بخِلْقةِ السَّمَواتِ أظهَرُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/394). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 875). !
قال تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88] .
وقال سُبحانَه: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] .
فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ.
أي: فأعِدْ بَصَرَك إلى السَّماءِ مُتأمِّلًا فيها، فهل ترى فيها أيَّ شُقوقٍ أو صُدوعٍ [37] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/120)، ((تفسير القرطبي)) (18/209)، ((تفسير ابن جزي)) (2/395)، ((تفسير ابن كثير)) (8/177)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/227، 228)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875). ؟!
كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] .
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4).
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ.
أي: ثمَّ كرِّرِ النَّظَرَ إلى السَّماءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخرى [38] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/121)، ((تفسير القرطبي)) (18/209، 210)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/30)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/19، 20). ممَّن اختار أنَّ المرادَ: كَثرةُ التَّكريرِ، أي: مرَّةً بعدَ أُخرى: الرَّازيُّ، وابنُ تيميَّةَ، وابنُ جُزَي، وابن القيم، والبِقاعي، وأبو السعود، والألوسي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (3/542) و(30/582) و(32/273)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/407)، ((تفسير ابن جزي)) (2/395)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/30)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/229)، ((تفسير أبي السعود)) (9/4)، ((تفسير الألوسي)) (15/8)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/19). وقيل: المرادُ بقَولِه تعالى: كَرَّتَيْنِ: أي: مرَّتَينِ. وممَّن قال بهذا: الواحديُّ، وابنُ عطية، والنسفي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1116)، ((تفسير ابن عطية)) (5/338)، ((تفسير النسفي)) (3/511). .
يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ.
أي: يَرجِعْ إليك بَصَرُك صاغِرًا ذليلًا؛ لعَجْزِه عن العُثورِ على أيِّ شُقوقٍ في السَّماءِ، والحالُ أنَّ بَصَرَك قد بلَغَ الغايةَ في التَّعَبِ، وانقطَع مِن الإعياءِ مِن كثرةِ تَكرارِ النَّظَرِ للبَحثِ عن أيِّ تصَدُّعاتٍ فيها [39] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/121)، ((تفسير القرطبي)) (18/209، 210)، ((تفسير ابن جزي)) (2/395)، ((تفسير ابن كثير)) (8/177)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/229)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875). !
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا هو الدَّليلُ الثَّاني على كَونِ اللهِ تعالى قادِرًا عالِمًا؛ وذلك لأنَّ هذه الكواكِبَ -نَظَرًا إلى أنَّها مُحْدَثةٌ ومختصَّةٌ بمِقدارٍ خاصٍّ، ومَوضِعٍ مُعَيَّنٍ، وسَيرٍ مُعَيَّنٍ- تدُلُّ على أنَّ صانِعَها قادِرٌ، ونظرًا إلى كَونِها مُحكَمةً مُتقَنةً مُوافِقةً لِمَصالِحِ العبادِ مِن كَونِها زينةً لأهلِ الدُّنيا، وسببًا لانتفاعِهم بها، تدُلُّ على أنَّ صانِعَها عالِمٌ [40] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/583). .
وأيضًا لَمَّا أخبَرَ اللهُ سُبحانَه وتعالى عن بديعِ هذا الخَلْقِ، ونَبَّه على بعضِ دقائِقِه، وأمَرَ بالإبصارِ وتكريرِه، وكان السَّامِعُ أوَّلَ ما يُصَوِّبُ نَظَرَه إلى السَّماءِ؛ لشَرَفِها، وغَريبِ صُنْعِها، وبديعِ وَضْعِها، ومَنيعِ رَفْعِها، فكان بحيثُ يُتوقَّعُ الإخبارُ عن هذه الزِّينةِ الَّتي رُصِّعَت بها- قال في جوابِ مَن توقَّعَه، مؤكِّدًا بالقَسَمِ، إعلامًا بأنَّه ينبغي أن يَبعُدَ العاقِلُ عن إنكارِ شَيءٍ ممَّا يُنسَبُ إلى صاحِبِ هذا الخَلْقِ من الكَمالِ، عاطِفًا على ما تقديرُه: لقد كفى هذا القَدْرُ في الدَّلالةِ على عَظَمةِ مُبدِعِ هذا الصُّنعِ وتمامِ قُدْرتِه: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الآيةَ [41] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/229، 230). .
وأيضًا فقد انتقَلَ مِن دَلائلِ انتفاءِ الخَلَلِ عن خِلقةِ السَّمواتِ، إلى بَيانِ ما في إحدى السَّمواتِ مِن إتقانِ الصُّنعِ [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/21). ، فلَمَّا نفى عنها في خَلْقِها النَّقصَ، بيَّن كمالَها وزينتَها، فقال [43] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 177). :
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ.
أي: ولقد جمَّلْنا السَّماءَ القَريبةَ للأرضِ بنُجومٍ مُضيئةٍ [44] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/122)، ((تفسير الزمخشري)) (4/577)، ((تفسير القرطبي)) (18/210)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 875). .
وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ.
أي: ورجَمْنا بتلك النُّجومِ الشَّياطينَ الَّتي تَستَرِقُ السَّمْعَ [45] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/122)، ((تفسير السمعاني)) (6/8)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/314)، ((تفسير القرطبي)) (18/210، 211)، ((تفسير السعدي)) (ص: 876). قال الشوكاني: (الرُّجومُ: جمعُ رَجْمٍ بالفتحِ، وهو في الأصلِ مصدرٌ أُطلِقَ على المَرجومِ به، كما في قولِهم: الدِّرهمُ ضَربُ الأميرِ، أي: مَضروبُه. ويجوزُ أن يكونَ باقيًا على مَصدريَّتِه، ويُقدَّرَ مُضافٌ محذوفٌ، أي: ذاتَ رَجمٍ، وجُمِع المصدرُ باعتبارِ أنواعِه). ((تفسير الشوكاني)) (5/310). وقال ابنُ كثير: (عاد الضَّميرُ في قَولِه: وَجَعَلْنَاهَا على جِنسِ المصابيحِ لا على عَينِها؛ لأنَّه لا يُرمى بالكواكِبِ الَّتي في السَّماءِ، بل بشُهُبٍ مِن دُونِها، وقد تكونُ مُستمَدَّةً منها. واللهُ أعلَمُ). ((تفسير ابن كثير)) (8/177)، ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/577). وقال الشوكاني: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ أي: وجَعَلْنا المصابيحَ رُجومًا يُرْجَمُ بها الشَّياطينُ، وهذه فائدةٌ أخرَى غيرُ الفائدةِ الأولَى وهي كَونُها زينةً لِلسَّماءِ الدُّنيا... وقيل: إنَّ الضَّميرَ في قولِه: وَجَعَلْنَاهَا راجعٌ إلى المصابيحِ على حذفِ مُضافٍ، أي: شُهُبَها، وهي نارُها المُقتبَسةُ منها، لا هي أنفُسُها؛ لقولِه: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات: 10] ، ووجْهُ هذا أنَّ المصابيحَ الَّتي زَيَّن اللهُ بها السَّماءَ الدُّنيا لا تَزولُ ولا يُرْجَمُ بها، كذا قال أبو عليٍّ الفارِسيُّ جوابًا لِمَن سأله: كيفَ تكونُ المصابيحُ زينةً وهي رُجومٌ؟...). ((تفسير الشوكاني)) (5/310). ويُنظر: ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي عليٍّ الفارسي (5/ 347). وقال ابن عطيَّة: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ معناه: وجعَلْنا منها، وهذا كما تقولُ: أكرمْتُ بني فُلانٍ، وصنعتُ بهم، وأنتَ إنَّما فعلتَ ذلك ببعضِهم دونَ بعضٍ، ويُوجِبُ هذا التَّأويلَ في الآيةِ أنَّ الكواكبَ الثَّابتةَ والبُروجَ، وكلَّ ما يُهتدى به في البَرِّ والبحرِ فليست بِرَواجِمَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/339). ويُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/ 395). ويُنظر ما تقدَّم في تفسيرِ سورةِ الصَّافاتِ؛ الآياتِ (7- 9). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر: 16 - 18] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات: 6 - 10] .
وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ.
أي: وهيَّأْنا للشَّياطينِ في الآخِرةِ عذابَ النَّارِ، وأشَدَّ الحَريقِ [46] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/123)، ((تفسير القرطبي)) (18/211)، ((تفسير ابن كثير)) (8/177)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/232، 233)، ((تفسير الشوكاني)) (5/310)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/22)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/263). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا مَن تأمَّلَ الآيةَ عَرَف أنَّ الدُّنيا مزرعةٌ، وأنَّ الآخِرةَ مَحصَدةٌ، فيَصيرُ مِن نَفْسِه على بصيرةٍ، وثارت إرادتُه لِمَا خُلِقَ له؛ تارةً بالنَّظَرِ إلى جمالِ رَبِّه مِن حُسنٍ وإحسانٍ، وأُخرى إلى جلالِه مِن قُدرةٍ وإمكانٍ، وتارةً بالنَّظَرِ لنَفْسِه بالشَّفَقةِ عليها مِن خِزْيِ الحِرْمانِ، فيَجتَهِدُ في رِضا رَبِّه، وصَلاحِ نَفْسِه؛ خوفًا مِن عاقبةِ هذه البَلوى [47] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/221). .
2- في قَولِه تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أنَّ تَرَقُّبَ الموتِ أكبرُ مَواعِظِ اللهِ جلَّ جلالُه، وأجدَرُ بالمعونةِ على العَمَلِ الصَّالحِ؛ إذ تَرَقُّبُه مُقَصِّرٌ للأمَلِ، ومُهَوِّنٌ مَضَضَ المصائبِ، ويُزَهِّدُ في شَهَواتِ النَّفْسِ إذا اتَّصَلَ [48] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/374). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: أخلَصُه وأصوَبُه؛ فإنَّ اللهَ خَلَق عِبادَه، وأخرَجَهم لهذه الدَّارِ، وأخبَرَهم أنَّهم سيُنقَلونَ منها، وأمَرَهم ونَهاهم، وابتلاهم بالشَّهَواتِ المعارِضةِ لأمْرِه؛ فمَنِ انقاد لأمرِ اللهِ وأحسَنَ العَمَلَ، أحسَنَ اللهُ له الجزاءَ في الدَّارَينِ، ومَن مال مع شَهَواتِ النَّفْسِ ونَبَذ أمْرَ اللهِ، فله شَرُّ الجزاءِ [49] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 875). .
4- إنَّ جِماعَ الدِّينِ: ألَّا يَعبُدَ النَّاسُ إلَّا اللهَ، وأنْ يَعبُدوه بما شَرَع، لا يَعبُدوه بالبِدَعِ، كما قال الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ في قَولِه عزَّ وجلَّ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا: (أخلَصُه وأصوَبُه)، قالوا: يا أبا عَليٍّ، ما أخلَصُه، وما أصوَبُه؟ قال: (إنَّ العَمَلَ إذا كان خالِصًا ولم يكُنْ صَوابًا لم يُقبَلْ، وإذا كان صَوابًا ولم يكُنْ خالِصًا لم يُقبَلْ، حتَّى يكونَ خالِصًا صَوابًا، والخالِصُ: أنْ يكونَ للهِ، والصَّوابُ: أنْ يكونَ على السُّنَّةِ) [50] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (7/430، 431). وكلامُ الفُضَيلِ بنِ عياضٍ رواه ابن أبي الدُّنيا في ((الإخلاص والنية)) (22)، وأبو نُعَيم في ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) (8/ 95). ، فالعَمَلُ الأحسَنُ هو الأخلَصُ والأصوَبُ، وهو الموافِقُ لِمَرضاتِه تعالى ومحبَّتِه، دونَ الأكثَرِ الخالي مِن ذلك؛ فهو سُبحانَه وتعالى يحِبُّ أن يُتعَبَّدَ له بالأرضَى له وإن كان قليلًا، دونَ الأكثَرِ الَّذي لا يُرضِيه، والأكثَرِ الَّذي غيرُه أَرضَى له منه؛ ولهذا يكونُ العَمَلانِ في الصُّورةِ واحِدًا، وبيْنَهما في الفَضلِ، بل بيْنَ قليلِ أحَدِهما وكثيرِ الآخَرِ في الفَضلِ: أعظَمُ مِمَّا بيْنَ السَّماءِ والأرضِ، ولهذا قال اللهُ تبارك وتعالَى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] ، وقال: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وقال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] ، فهو سُبحانَه وتعالى إنَّما خلَق السَّمواتِ والأرضَ والموتَ والحياةَ، وزيَّن الأرضَ بما عليها؛ لِيَبْلُوَ عبادَه أيُّهم أحسَنُ عملًا، لا أكثرُ عملًا [51] يُنظر: ((المنار المُنيف)) لابن القيم (ص: 30، 31). ، فالعِبرةُ بالأحسَنِ لا بالأكثَرِ [52] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 19).  . ولَمَّا كان الإحسانُ هو الَّذي خُلِقْنا مِن أجْلِه، أراد جِبريلُ أن يُنَبِّهَ الصَّحابةَ على الطَّريقِ إليه، فقال: ((يا محمَّدُ، أخبِرْني عن الإحسانِ))، فبَيَّن له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ طريقَ الإحسانِ محصورةٌ في هذا الزَّاجِرِ الأكبَرِ، والواعِظِ الأعظَمِ، وهو أن يَعلَمَ العَبدُ الضَّعيفُ الذَّليلُ المِسكينُ أنَّ جَبَّارِ السَّمَواتِ والأرضِ مُطَّلِعٌ عليه، حاضِرٌ لا يَغِيبُ عن شَيءٍ مِن فِعْلِه، يَعلَمُ كُلَّ ما يَفعَلُ؛ ولذا قال: ((الإحسانُ أنْ تَعبُدَ اللهَ كأنَّك تَراه، فإنْ لم تَكُنْ تَراه فإنَّه يَراكَ )) [53] يُنظر: ((العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير)) (3/66). والحديث أخرجه مطوَّلًا البخاريُّ (4777) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (9) مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه. .
5- قولُه تعالى: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه مِن التَّرغيبِ في التَّرقِّي إلى مَعارجِ العلومِ ومَدارِجِ الطَّاعاتِ، والزَّجرِ عن مُباشَرةِ نَقائِضِها؛ ما لا يَخْفى [54] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/3). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ كلمةُ: تَبَارَكَ لاستِقلالِها بالدَّلالةِ على غايةِ الكمالِ، وإنبائِها عن نِهايةِ التَّعظيمِ، لم يَجُزِ استِعمالُها في حقِّ غَيرِه سُبحانَه [55] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/2). .
2- في قَولِه تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ سُؤالٌ: أنَّ صِفةَ اليَدينِ للهِ سُبحانَه جاءتْ هنا على الإفرادِ، وجاءتْ أيضًا على التَّثنيةِ، كقَولِه تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64] ، وجاءتْ على الجَمعِ، كقَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا [يس: 71] ، فما التَّوفيقُ بيْنَها؟
الجوابُ: أنَّ الوَجهَ الأوَّلَ مُفرَدٌ مُضافٌ، فيَشملُ كلَّ ما ثَبَتَ للهِ مِن يدٍ، ولا يُنافي الثِّنْتَينِ، وأمَّا الجَمْعُ فهو للتَّعظيمِ لا لحقيقةِ العَدَدِ الَّذي هو ثلاثةٌ فأكثَرُ، وحينَئذٍ لا يُنافي التَّثنيةَ.
على أنَّه قد قيل: إنَّ أقلَّ الجَمْعِ اثنانِ، فإذا حُمِلَ الجَمْعُ على أَقَلِّه فلا مُعارَضةَ بيْنَه وبيْنَ التَّثنيةِ أصلًا [56] يُنظر: ((تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد)) لابن عثيمين (ص: 50). . ثمَّ إنَّ المرادَ باليَدِ في قَولِه: عَمِلَتْ أَيْدِينَا نفْسُ الذَّاتِ الَّتي لها يَدٌ، وقد قال اللهُ تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم: 41] أي: بما كَسَبوا، سواءٌ كان مِن كَسْبِ اليَدِ أو الرِّجْلِ أو اللِّسانِ أو غَيرِها مِن أجزاءِ البَدَنِ، لكِنْ يُعَبَّرُ بمِثلِ هذا التَّعبيرِ عن الفاعِلِ نفْسِه؛ ولهذا نقولُ: إنَّ الأنعامَ الَّتي هي الإبِلُ لم يخلُقْها اللهُ تعالى بيَدِه، وفَرْقٌ بيْن قَولِه: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا وبيْن قَولِه: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] ؛ فـ: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا كأنَّه قال: مِمَّا عَمِلْنا؛ لأنَّ المرادَ باليَدِ ذاتُ اللهِ الَّتي لها يدٌ، والمرادُ بـ بِيَدَيَّ: اليدانِ دونَ الذَّاتِ [57] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/254). .
3- في قَولِه تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ إفرادُ اللهِ تعالى بالمُلْكِ، فالمالِكُ المُلْكَ المُطلَقَ العامَّ الشَّامِلَ هو اللهُ سُبحانَه وتعالى وَحْدَه، وإنَّ نِسبةَ المُلْكِ إلى غَيرِه هي نِسبةٌ إضافيَّةٌ؛ فقد أثبَتَ اللهُ عزَّ وجلَّ لغيرِه المُلْكَ، كما في قَولِه تعالى: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ [النور: 61] ، وقولِه: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون: 6] إلى غيرِ ذلك مِن النُّصوصِ الدَّالَّةِ على أنَّ لغيرِ اللهِ تعالى مُلْكًا، لكنَّ هذا المُلْكَ ليس كمُلْكِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فهو مُلْكٌ قاصِرٌ لا يَشْملُ؛ فالبَيتُ الَّذي لِزَيدٍ لا يَملِكُه عَمرٌو، والبَيتُ الَّذي لعمرٍو لا يَملِكُه زَيدٌ، ثُمَّ هذا المُلْكُ مُقَيَّدٌ بحيثُ لا يَتصَرَّفُ الإنسانُ فيما مَلَكَ إلَّا على الوجهِ الَّذي أَذِنَ اللهُ فيه؛ ولهذا نهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن إضاعةِ المالِ [58] أخرجه مطوَّلًا البخاريُّ (6473)، ومسلمٌ (593) مِن حديثِ المغيرةِ بنِ شُعبةَ رضيَ الله عنه. ، وقال اللهُ تبارك وتعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء: 5] ، أمَّا مُلْكُ اللهِ سُبحانَه وتعالى فهو مُلْكٌ عامٌّ شامِلٌ ومُلْكٌ مُطْلَقٌ، يَفعلُ اللهُ سُبحانَه وتعالى ما يَشاءُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [59] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (1/19). [الأنبياء: 23] .
4- الموتُ صِفةٌ وُجوديَّةٌ، خِلافًا للفلاسِفةِ ومَن وافَقَهم؛ قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، فأخبَر أنَّه خَلَق الموتَ كما خَلَق الحياةَ، والعدَمُ لا يُوصَفُ بكَونِه مَخلوقًا [60] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/93). ويُنظر أيضًا: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (2/383)، ((تفسير ابن كثير)) (8/176). ، فمُفارَقةُ الرُّوحِ الجَسَدَ مَوتٌ، وليس عَدَمًا، بل مُفارَقةٌ تُفقَدُ بها الحياةُ [61] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/282). .
5- في قَولِه تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أنَّ شرائِعَ اللهِ وأحكامَ اللهِ القَدَرِيَّةَ كلَّها: ابتِلاءٌ، أي: اختبارٌ، وليستِ ابتلاءً مِن البَلاءِ [62] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/477). .
6- في قَولِه تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «أحسَنُ»: اسمُ تفضيلٍ، وهذا دليلٌ على أنَّ الأعمالَ تتفاضَلُ بالحُسْنِ [63] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/268). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ فيه سؤالٌ: كيف يَنقَلِبُ البَصَرُ خاسِئًا حَسيرًا برَجْعِه كرَّتَينِ اثنتَينِ؟
الجوابُ: التَّثنيةُ للتَّكرارِ بكَثرةٍ، كقَولِهم: (لبَّيك وسَعْدَيك)، يريدُ: إجاباتٍ مُتواليةً [64] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/583). .
8- عن قَتادةَ، قال: (إنَّ اللهَ جَلَّ ثناؤه إنَّما خَلَق هذه النُّجومَ لثلاثِ خِصالٍ: خلَقَها زينةً للسَّماءِ الدُّنيا، ورُجومًا للشَّياطينِ، وعلاماتٍ يُهتدَى بها، فمَن يتأوَّلْ منها غيرَ ذلك فقد قال برأيِه، وأخطأَ حَظَّه، وأضاع نَصيبَه، وتكَلَّف ما لا عِلْمَ له به) [65] علَّقه البخاريُّ في ((صحيحه)) (4/107) بصيغةِ الجَزمِ، ورواه ابن جرير في ((تفسيره)) (23/ 123). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ فيه سؤالٌ: إذا كان الجِنُّ مِن نارٍ، كما في قَولِه تعالى: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن: 15]، فكيف تُحرِقُه النَّارُ؟
الجوابُ مِن وجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ اللهَ تعالى أضاف الشَّياطينَ والجنَّ إلى النَّارِ حسَبَ ما أضاف الإنسانَ إلى التُّرابِ والطِّينِ والفَخَّارِ، والمرادُ به في حقِّ الانسانِ أنَّ أصْلَه الطِّينُ، وليس الآدميُّ طينًا حقيقةً، لكنَّه كان طينًا، كذلك الجانُّ كان نارًا في الأصلِ [66] يُنظر: ((آكام المرجان في أحكام الجان)) للشبلي (ص: 31). .
الثَّاني: أنَّ النَّارَ يكونُ بَعضُها أقوى مِن بَعضٍ، فالأقوى يُؤثِّرُ على الأضعَفِ، وممَّا يَشهَدُ له قَولُه تعالى بَعْدَه: وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك: 5] ، والسَّعيرُ: أشَدُّ النَّارِ. ومعلومٌ أنَّ النَّارَ طَبَقاتٌ بَعضُها أشَدُّ مِن بَعضٍ، وهذا أمرٌ مَلموسٌ؛ فقد تكونُ الآلةُ مَصنوعةً مِن حَديدٍ، وتُسَلَّطُ عليها آلةٌ مِن حديدٍ أيضًا أقوى منها فتَكسِرُها. كما قيل: (لا يَفُلُّ الحديدَ إلَّا الحديدُ)، فلا يَمنَعُ كَونُ أصْلِه مِن نارٍ ألَّا يَتعذَّبَ بالنَّارِ، كما أنَّ أصلَ الإنسانِ مِن طِينٍ مِن حَمَأٍ مَسنونٍ، ومِن صَلصالٍ كالفَخَّارِ، وبَعْدَ خَلْقِه فإنَّه لا يَحتَمِلُ التعذيبَ بالصَّلصالِ ولا بالفخَّارِ؛ فقد يُقضَى عليه بضَربةٍ مِن قِطعةٍ مِن فَخَّارٍ [67] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/231، 232). وينظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (30/ 585). !
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ احتُجَّ به على أنَّ النَّارَ مَخلوقةٌ الآنَ؛ لأنَّ قَولَه: وَأَعْتَدْنَا إخبارٌ عن الماضي [68] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/586). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ابتُدِئَت السُّورةُ بتَعريفِ المؤمنينَ مَعانيَ مِن العِلمِ بعَظَمةِ اللهِ تعالَى، وتَفرُّدِه بالملْكِ الحقِّ، والنَّظَرِ في إتقانِ صُنعِه الدَّالِّ على تَفرُّدِه بالإلهيَّةِ، فبذلك يكونُ في تلك الآياتِ حَظٌّ لعِظَةِ المشرِكين [69] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/7). .
- وفي افتتاحِ السُّورةِ بما افتُتِحتْ به بَراعةُ الاستهلالِ [70] براعةُ الاستِهلالِ: هي كَونُ ابتداءِ الكلامِ مُناسِبًا للمقصودِ، وأنْ يكونَ أوَّلُ الكلامِ دالًّا على ما يُناسِبُ حالَ المتكلِّمِ، مُتضمِّنًا لِمَا سِيق الكلامُ مِن أجْلِه مِن غيرِ تصريحٍ، بلْ بألْطَفِ إشارةٍ يُدرِكُها الذَّوقُ السَّليمُ، ومِن أحسَنِ صُوَرِ براعةِ الاستِهلالِ مَوقِعًا، وأبلَغِها معنًى: فواتحُ سُوَرِ القرآنِ الكريمِ، ومنها الحُروفُ المقطَّعةُ؛ فإنَّها تُوقِظُ السَّامِعينَ للإصغاءِ إلى ما يَرِدُ بعدَها؛ لأنَّهم إذا سمِعوها مِن النَّبيِّ الأُمِّيِّ علِموا أنَّها والمَتْلوَّ بعدَها مِن جِهةِ الوحيِ، وفيها تنبيهٌ على أنَّ المتلوَّ عليهم مِن جِنسِ ما يَنظِمونَ منه كلامَهم، مع عجْزِهم عن أنْ يأتوا بمِثلِه. يُنظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 45)، ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (1/ 129)، ((تفسير أبي السعود)) (4/ 282)، ((أنوار الربيع في أنواع البديع)) لابن معصوم (1/ 53)، ((علوم البلاغة)) لأحمد المراغي (ص: 378). ، فقد افتُتِحَت بما يدُلُّ على مُنْتهى كَمالِ اللهِ تَعالى، افتتاحًا يُؤْذِنُ بأنَّ ما حَوَتْه يَحومُ حولَ تَنزيهِ اللهِ تعالَى عن النَّقصِ الَّذي افتراهُ المشرِكون لَمَّا نَسَبوا إليه شُركاءَ في الرُّبوبيَّةِ والتَّصرُّفِ معه، والتَّعطيلِ لبَعضِ مُرادِه [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/9). .
- وهذا الكلامُ يَجوزُ أنْ يكونَ مُرادًا به مُجرَّدُ الإخبارِ عن عَظَمةِ اللهِ تعالَى وكَمالِه، ويَجوزُ أنْ يكونَ مع ذلك إنشاءُ ثَناءٍ على اللهِ أثناهُ على نفْسِه، وتَعليمًا للنَّاسِ كيف يُثْنون على اللهِ ويَحمَدونه؛ إمَّا على وَجْهِ الكِنايةِ بالجُملةِ عن إنشاءِ الثَّناءِ، وإمَّا باستعمالِ الصِّيغةِ المشتركةِ بيْن الإخبارِ والإنشاءِ في مَعنيَيها، ولو صِيغَ بغَيرِ هذا الأُسلوبِ لَما احتَمَلَ هذَينِ المعْنيَينِ [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/9). .
- قولُه: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ - وإسنادُ تَبَارَكَ إلى المَوصولِ؛ للاستِشهادِ بما في حيِّزِ الصِّلةِ على تَحقُّقِ مَضمونِها [73] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/2). .
وجُعِلَ المسنَدُ إليه اسمَ مَوصولٍ؛ للإيذانِ بأنَّ معْنى الصِّلةِ ممَّا اشتُهِرَ به -كما هو غالبُ أحوالِ الموصولِ-، فصارتِ الصِّلةُ مُغْنيةً عن الاسمِ العَلَمِ؛ لاستِوائِهما في الاختِصاصِ به؛ إذ يَعلَمُ كلُّ أحدٍ أنَّ الاختِصاصَ بالمُلْكِ الكاملِ المطلَقِ ليس إلَّا للهِ [74] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/9). .
- وتَقديمُ المسنَدِ -وهو بِيَدِهِ- على المسنَدِ إليه الْمُلْكُ؛ لإفادةِ الاختِصاصِ، أي: المُلْكُ بيَدِه لا بيَدِ غيرِه. وهو قصْرٌ ادِّعائيٌّ [75] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). مَبنيٌّ على عدَمِ الاعتدادِ بمُلْكِ غيرِه، ولا بما يَتراءى مِن إعطاءِ الخلفاءِ والملوكِ الأصقاعَ للأمراءِ والسَّلاطينِ ووُلاةِ العهدِ؛ لأنَّ كلَّ ذلك مُلكٌ غيرُ تامٍّ؛ لأنَّه لا يَعُمُّ المملوكاتِ كلَّها، ولأنَّه مُعرَّضٌ للزَّوالِ، ومُلكُ اللهِ هو الملكُ الحقيقيُّ؛ قال: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [طه: 114] ، فالنَّاسُ يَتوهَّمون أمثالَ ذلك مُلْكًا، وليس كما يَتوهَّمون [76] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/10). .
- وجُملةُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَعطوفةٌ على جُملةِ بِيَدِهِ الْمُلْكُ الَّتي هي صِلةُ الموصولِ، وهي تَعميمٌ بعْدَ تَخصيصٍ؛ لتَكميلِ المقصودِ مِن الصِّلةِ؛ إذ أفادتِ الصِّلةُ عُمومَ تَصرُّفِه في الموجوداتِ، وأفادتْ هذه عُمومَ تَصرُّفِه في الموجوداتِ والمعدوماتِ؛ بالإعدامِ للموجوداتِ، والإيجادِ للمعدوماتِ، فيكونُ قولُه: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مُفيدًا مَعنًى آخَرَ غيرَ ما أفادَهُ قولُه: بِيَدِهِ الْمُلْكُ، تَفاديًا مِن أنْ يكونَ معْناه تأْكيدًا لمعْنى بِيَدِهِ الْمُلْكُ، وتكونُ هذه الجُملةُ تَتميمًا للصِّلةِ وفي معْنى صِلةٍ ثانيةٍ، ثمَّ عُطِفَت ولم يُكرَّرْ فيها اسمُ مَوصولٍ، بخِلافِ قولِه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ [الملك: 2] ، وقولِه: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [77] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/526، 527)، ((تفسير أبي السعود)) (9/2)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/11). [الملك: 3] .
- وتَقديمُ المجرورِ في قولِه: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ للاهتمامِ بما فيه مِن التَّعميمِ، ولإبطالِ دَعوى المشرِكين نِسبَتَهم الإلهيَّةَ لأصنامِهم مع اعتِرافِهم بأنَّها لا تَقدِرُ على خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، ولا على الإحياءِ والإماتةِ [78] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/11). .
2- قوله تعالَى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ
- قولُه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ صِفةٌ لقولِه تعالى: الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1] ، فلمَّا شَمِلَ قولُه: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك: 1] تَعلُّقَ القُدرةِ بالموجودِ والمعدومِ؛ أُتبِعَ بوَصْفِه تعالَى بالتَّصرُّفِ الَّذي منه خلْقُ المخلوقاتِ وأعراضِها؛ لأنَّ الخلْقَ أعظَمُ تَعلُّقِ القدرةِ بالمَقدورِ؛ لدَلالتِه على صِفةِ القدْرةِ وعلى صِفةِ العِلمِ [79] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/12). .
- وأُوثِرَ بالذِّكرِ مِن المخلوقاتِ الموتُ والحياةُ؛ لأنَّهما أعظَمُ العوارضِ لجِنسِ الحيوانِ الَّذي هو أعجَبُ الموجودِ على الأرضِ، والَّذي الإنسانُ نوعٌ منه، وهو المقصودُ بالمخاطَبةِ بالشَّرائعِ والمواعظِ، فالإماتةُ تَصرُّفٌ في الموجودِ بإعدادِه للفَناءِ، والإحياءُ تَصرُّفٌ في المعدومِ بإيجادِه، ثمَّ إعطائِه الحياةَ ليَستكمِلَ وُجودَ نَوعِه، فليس ذِكرُ خلْقِ الموتِ والحياةِ تَفصيلًا لمعْنى الملْكِ، بلْ هو وصْفٌ مُستقِلٌّ. والاقتصارُ على خلْقِ الموتِ والحياةِ؛ لأنَّهما حالتانِ هما مَظهَرَا تَعلُّقِ القدرةِ بالمقدورِ في الذَّاتِ والعرَضِ؛ لأنَّ الموتَ والحياةَ عرَضانِ، والإنسانُ مَعروضٌ لهما، والعرَضُ لا يَقومُ بنفْسِه، فلمَّا ذُكِرَ خلْقُ العرَضِ عُلِمَ مِن ذِكرِه خلْقُ مَعروضِه بدَلالةِ الاقتضاءِ [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/12). ودَلالةُ الاقتِضاءِ: هي دَلالةُ اللَّفظِ على مقصودٍ محذوفٍ لا بدَّ مِن تقديرِه؛ لتوقُّفِ الصِّدقِ أو الصِّحَّةِ عليه. يُنظر: ((إجابة السائل شرح بغية الآمل)) لابن الأمير (ص: 355)، ((مذكرة في أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 283). .
- وأُوثِرَ ذِكرُ الموتِ والحياةِ لِما يَدُلَّانِ عليه مِن العِبرةِ بتَداوُلِ العرَضينِ المُتضادَّينِ على مَعروضٍ واحدٍ، وللدَّلالةِ على كَمالِ صُنْعِ الصَّانعِ؛ فالموتُ والحياةُ عرَضانِ يَعرِضانِ للموجودِ مِن الحيوانِ، والموتُ يُعِدُّ الموجودَ للفناءِ، والحياةُ تُعِدُّ الموجودَ للعمَلِ للبقاءِ مُدَّةً [81] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/12). .
- وفي ذِكرِ الموتِ والحياةِ تَخلُّصٌ إلى ما يَترتَّبُ عليهما مِن الآثارِ، الَّتي أعظَمُها العملُ في الحياةِ، والجزاءُ عليه بعْدَ الموتِ، وذلك ما تَضمَّنَه قولُه: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا؛ فإنَّ معْنى الابتلاءِ مُشعِرٌ بتَرتُّبِ أثَرٍ له، وهو الجزاءُ على العمَلِ؛ للتَّذكيرِ بحِكمةِ جَعْلِ هذَينِ النَّاموسَينِ البَديعَينِ في الحيوانِ؛ لتَظهَرَ حِكمةُ خلْقِ الإنسانِ، ويُفْضِيَا به إلى الوجودِ الخالدِ [82] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/13). .
- وقُدِّمَ الموتُ على الحياةِ؛ لأنَّ الموتَ أقْوى الدَّواعي إلى العمَلِ، فقُدِّمَ ليَتبيَّنَ أنَّ الَّذي سِيقَ له الآيةُ البعثُ على العمَلِ، والإخلاصُ فيه، وتَحرِّي الصَّوابِ له [83] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/575)، ((تفسير البيضاوي)) (5/228)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/534)، ((تفسير أبي السعود)) (9/2، 3). . أو قُدِّمَ الموتُ؛ لأنَّه هو المخلوقُ أوَّلًا؛ لقولِه تعالَى: وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة: 28] [84] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/228)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 575). . أو قُدِّمَ الموتُ؛ لأنَّه أهيَبُ في النُّفوسِ [85] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/220). . أو: قدَّم الموتَ على الحياةِ؛ لأنَّ الموتَ إلى القَهرِ أقرَبُ [86] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/206). .
- قولُه: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا هذا التَّعليلُ مِن قَبيلِ الإدماجِ [87] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 449)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (2/ 484)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/ 339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/ 427). ، وفيه استدلالٌ على الوَحدانيَّةِ بدَلالةٍ في أنفُسِهم، قال تعالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21]، والمعْنى: أنَّه خلَقَ الموتَ والحياةَ؛ ليكونَ منكم أحياءٌ يَعمَلونَ الصَّالحاتِ والسَّيِّئاتِ، ثمَّ أمواتًا يَخلُصونَ إلى يومِ الجزاءِ، فيُجْزَونَ على أعمالِهم بما يُناسِبُها؛ فالتَّعريفُ في الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ تَعريفُ الجنسِ، وفي الكلامِ تَقديرٌ: هو الَّذي خلَقَ الموتَ والحياةَ لتَحْيَوا، فيَبْلُوَكم أيُّكم أحسَنُ عملًا، وتَموتوا فتُجْزَوا على حسَبِ تلك البَلْوى، ولِكَونِ هذا هو المقصودَ الأهمَّ مِن هذا الكلامِ قُدِّمَ الموتُ على الحياةِ [88] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/13). .
- قولُه: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا اللَّامُ مُتعلِّقةٌ بـ خَلَقَ، أي: خَلَق مَوتَكم وحياتَكم... على أنَّ الألِفَ واللَّامَ -في الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ- عِوَضٌ عن المضافِ إليه [89] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/3). .
- وجُملةُ لِيَبْلُوَكُمْ إلى آخِرِها، مُعترِضةٌ بيْن الموصولَينِ، واللَّامُ في لِيَبْلُوَكُمْ لامُ التَّعليلِ، أي: في خلْقِ الموتِ والحياةِ حِكمةُ أنْ يَبْلوَكم، فقولُه تعالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا تَعليلٌ لفِعلِ خَلَقَ باعتبارِ المعطوفِ على مَفعولِه، وهو وَالْحَيَاةَ؛ لأنَّ حياةَ الإنسانِ حياةٌ خاصَّةٌ تُصحِّحُ للمَوصوفِ بمَن قامتْ به الإدراكَ الخاصَّ الَّذي يَندفِعُ به إلى العمَلِ باختيارِه، وذلك العمَلُ هو الَّذي يُوصَفُ بالحُسنِ والقبْحِ، وهو ما دلَّ عليه بالمنطوقِ والمفهومِ قولُه تعالَى: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، أي: وأيُّكم أقبَحُ عمَلًا، ولذلك فذِكْرُ خلْقِ الموتِ إتمامٌ للاستدلالِ على دَقيقِ الصُّنعِ الإلهيِّ، وهو المسوقُ له الكلامُ، وذِكرُ خلْقِ الحياةِ إدماجٌ للتَّذكيرِ [90] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/14). .
- وجُملةُ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا يَجوزُ أنْ تكونَ مُستأنَفةً، فيُوقَفَ على قولِه: لِيَبْلُوَكُمْ، ويكونَ الاستفهامُ مُستعمَلًا في التَّحضيضِ على حُسْنِ العمَلِ [91] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/15). .
- قولُه: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا إيرادُ صِيغةِ التَّفضيلِ معَ أنَّ الابتلاءَ شاملٌ لهم باعتبارِ أعمالهِم المنقسمةِ إلى الحسَنِ والأحسنِ فقطْ؛ للإيذانِ بأنَّ المرادَ بالذَّاتِ والمَقصدَ الأصليَّ مِن الابتلاءِ هو ظُهورُ كَمالِ إحسانِ المحسنينَ [92] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/3)، ((تفسير الألوسي)) (8/198). .
- وقولُه: أَحْسَنُ تَفضيلٌ، أي: أحسَنُ عمَلًا مِن غيرِه، فالأعمالُ الحَسَنةُ مُتفاوِتةٌ في الحُسنِ إلى أدْناها، فأمَّا الأعمالُ السَّيِّئةُ فإنَّها مَفهومةٌ بدَلالةِ الفحْوى [93] فحْوَى الخطابِ: ويُسمَّى تنبيهَ الخطابِ، ومفهومَ الموافقةِ، وهو إثباتُ حكمِ المنطوقِ به للمَسكوتِ عنه بطريقِ الأَولى، كقولِه تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ، فيه تنبيهٌ على النَّهيِ عن ضربِهما وسَبِّهما؛ لأنَّ الضَّربَ والسَّبَّ أعظمُ مِن التَّأْفيفِ، وكذلك قولُه تعالَى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] ، فيه تنبيهٌ على أنَّه يُؤدِّي ما كانَ دونَ القنطارِ، ففي هذه الآيةِ نَبَّه بالأعلَى على الأدنَى، وفي الآيةِ الأولى نَبَّه بالأدنَى على الأعلَى. يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/233)، ((تقريب الوصول إلي علم الأصول)) لابن جُزَي (ص: 163). ؛ لأنَّ البَلوى في أحسَنِ الأعمالِ تَقْتضي البَلْوى في السَّيِّئاتِ بالأَولى؛ لأنَّ إحْصاءَها والإحاطةَ بها أَولى في الجزاءِ؛ لِما يَترتَّبُ عليها مِن الاجتراءِ على الشَّارعِ، ومِن الفسادِ في النَّفْسِ، وفي نِظامِ العالَمِ، وذلك أَولى بالعِقابِ عليه؛ ففي قولِه: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا إيجازٌ [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/15). .
- وجُملةُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ تَذييلٌ لجُملةِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا؛ إشارةً إلى أنَّ صِفاتِه تعالَى تَقْتضي تَعلُّقًا بمُتعلَّقاتِها؛ لئلَّا تكونَ مُعطَّلةً في بعضِ الأحوالِ والأزمانِ فيُفْضيَ ذلك إلى نَقائضِها، فأمَّا العزيزُ فهو الغالبُ الَّذي لا يَعجِزُ عن شَيءٍ، وذِكرُه مُناسِبٌ للجزاءِ المستفادِ مِن قولِه: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، أي: ليَجزِيَكم جَزاءَ العزيزِ، فعُلِمَ أنَّ المرادَ الجزاءُ على المُخالفاتِ والنُّكولِ عن الطَّاعةِ، وهذا حظُّ المشرِكينَ الَّذين شَمِلَهم ضَميرُ الخِطابِ في قولِه: لِيَبْلُوَكُمْ، وأمَّا الغفورُ فهو الَّذي يُكرِمُ أولياءَهُ، ويَصْفَحُ عن فَلتاتِهم، فهو مُناسِبٌ للجزاءِ على الطَّاعاتِ وكِنايةٌ عنه؛ قال تعالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] ، فهو إشارةٌ إلى حظِّ أهلِ الصَّلاحِ مِن المُخاطَبينَ [95] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/15، 16). .
3- قوله تعالَى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ
- قولُه: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ صِفةٌ ثانيةٌ لـ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، أُعقِبَ التَّذكيرُ بتَصرُّفِ اللهِ بخلْقِ الإنسانِ وأهمِّ أعراضِه بذِكرِ خلْقِ أعظَمِ الموجوداتِ غيرِ الإنسانِ، وهي السَّمواتُ، ومُفيدةٌ وصْفًا مِن عَظيمِ صِفاتِ الأفعالِ الإلهيَّةِ، ولذلك أُعِيدَ فيها اسمُ الموصولِ؛ لتَكونَ الجُمَلُ الثَّلاثُ جاريةً على طَريقةٍ واحدةٍ [96] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/16). .
وقيلَ: هو نعتٌ لـ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 2] ، أو بَيانٌ، أو بدَلٌ، أو أنَّه نُصِب أو رُفِع على المدحِ، مُتعلِّقٌ بالموصولَينِ السَّابقَينِ مَعْنًى وإنْ كانَ مُنقطِعًا عنهما إعرابًا، مُنتظِمٌ معهما في سلكِ الشَّهادةِ بتَعالِيه سُبحانَه، ومع الموصولِ الثَّاني في كَونِه مَدارًا للْبَلوى، كما نطَقَ به قولُه تعالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [97] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/3)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/146). [هود: 7] .
- وانتصَبَ طِبَاقًا على الوصْفِ لـ سَبْعَ؛ فإمَّا أنْ يكونَ مَصدَرَ: طابَقَ مُطابَقةً وطِباقًا، كقولِهم: طابَقَ النَّعلَ: خَصَفَها طبَقًا على طَبَقٍ، وُصِفَ به على سَبيلِ المُبالَغةِ، أو على حذْفِ مُضافٍ، أي: ذاتَ طِباقٍ، أو مَصدرُه مُؤكِّدٌ لمَحذوفٍ هو صِفتُها، أي: طُوبِقتْ طباقًا [98] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/576)، ((تفسير أبي حيان)) (10/221)، ((تفسير أبي السعود)) (9/3)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/16)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/146). .
- قولُه: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ قيل: كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لتَوكيدِ استقامةِ خَلْقِه تَعالى [99] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/147). وقال السمينُ الحلبي عن القولِ بأنَّه استئنافٌ: (وليس بظاهرٍ؛ لانفلاتِ الكلامِ بعضِه مِن بعضٍ). ((الدر المصون)) (10/379). .
وقيل: هو صِفةٌ أُخرى لـ سَبْعَ سَمَوَاتٍ، وُضِعَ فيها خَلْقِ الرَّحْمَنِ مَوضوعَ الضَّميرِ؛ للتَّعظيمِ، والإشعارِ بعِلةِ الحُكْمِ، وبأنَّه تعالَى خلَقَها بقُدرتِه القاهرةِ رَحمةً وتَفضُّلًا، وبأنَّ في إبداعِها نِعَمًا جَليلةً [100] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/576)، ((تفسير البيضاوي)) (5/228)، ((تفسير أبي حيان)) (10/221)، ((تفسير أبي السعود)) (9/3، 4). .
- وجاءتْ جُملةُ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ تَقريرًا لقولِه: خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا؛ فإنَّ نفْيَ التَّفاوُتِ يُحقِّقُ معْنى التَّطابُقِ، أي: التَّماثُلِ، والمعْنى: ما تَرَى في خلْقِ اللهِ السَّمواتِ تَفاوُتًا، وأصلُ الكلامِ: ما تَرى فِيهنَّ ولا في خلْقِ الرَّحمنِ مِن تَفاوُتٍ؛ فعُبِّرَ بخلْقِ الرَّحمنِ لتَكونَ الجُملةُ تَذْييلًا لمَضمونِ جُملةِ خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا؛ لأنَّ انتفاءَ التَّفاوُتِ عمَّا خَلَقه اللهُ مُتحقِّقٌ في خلْقِ السَّمواتِ وغَيرِها، أي: كانت السَّمواتُ طِباقًا؛ لأنَّها مِن خلْقِ الرَّحمنِ، وليس فيما خلَق الرَّحمنُ مِن تَفاوُتٍ، ومِن ذلك نِظامُ السَّمواتِ [101] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/17). .
- قولُه: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ الخِطابُ لغيرِ مُعيَّنٍ -على قولٍ-، أي: لا تَرى أيُّها الرَّائي تَفاوُتًا، والمقصودُ منه التَّعريضُ بأهلِ الشِّركِ؛ إذ أضاعوا النَّظرَ والاستدلالَ بما يدُلُّ على وَحدانيَّةِ اللهِ تعالَى بما تُشاهِدُه أبصارُهم مِن نِظامِ الكواكبِ، وذلك مُمكنٌ لكلِّ مَن يُبصِرُ؛ قال تعالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] ، فكأنَّه قال: ما تَرَون في خلْقِ الرَّحمنِ مِن تَفاوُتٍ، فيَجوزُ أنْ يكونَ خَلْقِ الرَّحْمَنِ بمعْنى المفعولِ، ويُرادَ منه السَّمواتُ، والمعنى: ما تَرى في السَّمواتِ مِن تَفاوُتٍ؛ فيَكونَ العُدولُ عن الضَّميرِ لتَتأتَّى الإضافةُ إلى اسمِه الرَّحمنِ المُشعِرِ بأنَّ تلك المخلوقاتِ فيها رحمةٌ بالنَّاسِ. ويجوزُ أنْ يكونَ خَلْقِ مَصدرًا، فيَشملَ خلْقَ السَّمواتِ وخلْقَ غيرِها؛ فإنَّ صُنْعَ اللهِ رحمةٌ للنَّاسِ لو استَقاموا كما صَنَعَ لهم وأوصاهم، فتُفيدُ هذه الجُملةُ مُفادَ التَّذييلِ في أثناءِ الكلامِ على وجْهِ الاعتراضِ، ولا يكونُ إظهارًا في مَقامِ الإضمارِ [102] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/17، 18). .
- والتَّعبيرُ بوصْفِ الرَّحْمَنِ دونَ اسمِ الجلالةِ إيماءٌ إلى أنَّ هذا النِّظامَ ممَّا اقتَضَتْه رَحمتُه تعالى بالناسِ؛ لتَجرِيَ أُمورُهم على حالةٍ تُلائِمُ نِظامَ عَيشِهم؛ لأنَّه لو كان فيما خلَقَ اللهُ تَفاوُتٌ لَكان ذلك التَّفاوُتُ سَببًا لاختلالِ النِّظامِ، فيَتعرَّضُ النَّاسُ بذلك لأهوالٍ ومَشاقَّ؛ قال تعالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام: 97] ، وقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يونس: 5] . وأيضًا في ذلك الوصْفِ الرَّحْمَنِ تَورُّكٌ على المشرِكين؛ إذ أنْكروا اسْمَه تعالَى الرَّحمنَ؛ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا [103] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/18). [الفرقان: 60] .
- و(مِنْ) في قولِه: مِنْ تَفَاوُتٍ لتأْكيدِ النَّفيِ [104] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/4). .
- والتَّفاوُتُ بوزْنِ التَّفاعُلِ: شدَّةُ الفَوتِ، والفَوتُ: البُعدُ، وليستْ صِيغةُ التَّفاعُلِ فيه لحُصولِ فِعلٍ مِن جانبينِ، ولكنَّها مُفيدةٌ للمُبالَغةِ [105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/17). .
- والتَّفاوتُ مُعبَّرٌ به عن التَّخالُفِ وانعدامِ التَّناسُقِ؛ لأنَّ عدَمَ المُناسَبةِ يُشبِهُ البُعدَ بيْن الشَّيئينِ تَشبيهَ مَعقولٍ بمَحسوسٍ [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/17). .
- قولُه: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ مُفرَّعٌ على قولِه: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ، والتَّفريعُ للتَّسبُّبِ، أي: انتفاءُ رُؤيةِ التَّفاوُتِ جُعِلَ سببًا للأمْرِ بالنَّظرِ؛ ليَكونَ نفْيُ التَّفاوُتِ مَعلومًا عن يقينٍ [107] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/576)، ((تفسير البيضاوي)) (5/228)، ((تفسير أبي حيان)) (10/222)، ((تفسير أبي السعود)) (9/4)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/18)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/147). .
- والاستفهامُ في قولِه: هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ تَقريريٌّ، ووقَعَ بحرْفِ (هل)؛ لأنَّ (هل) تُفيدُ تأكيدَ الاستفهامِ؛ إذ هي بمعْنى (قد) في الاستفهامِ [108] يُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (1/ 100) و(3/ 189)، ((تفسير الزمخشري)) (2/ 352) و(4/ 665)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/282). ، وفي ذلك تأكيدٌ وحثٌّ على التَّبصُّرِ والتَّأمُّلِ، أي: لا تَقتنِعْ بنَظْرةٍ ونَظرتَينِ، فتقولَ: لمْ أجِدْ فُطورًا، بلْ كرِّرِ النَّظَرَ وعاوِدْه باحثًا عن مُصادَفةِ فُطورٍ؛ لعلَّك تَجِدُه، أي: لا يَسَعُك إلَّا أنْ تَعترِفَ بانتفاءِ الفُطورِ في نِظامِ السَّمواتِ فتَراها مُلتئمةً مَحبوكةً، لا تَرى في خِلالِها انشقاقًا، ولذلك كان انفطارُ السَّماءِ وانشقاقُها علامةً على انقراضِ هذا العالَمِ ونِظامِه الشَّمسيِّ؛ قال تعالَى: وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا [النبأ: 19] ، وقال: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] ، إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/19). [الانفطار: 1].
- وعطْفُ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ دالٌّ على التَّراخي الرُّتبيِّ، كما هو شأْنُ (ثُمَّ) في عطْفِ الجُمَلِ؛ فإنَّ مَضمونَ الجُملةِ المعطوفةِ بحرْفِ (ثُمَّ) هنا أهَمُّ وأدخَلُ في الغرَضِ مِن مَضمونِ الجُملةِ المعطوفِ عليها؛ لأنَّ إعادةَ النَّظَرِ تَزيدُ العِلمَ بانتفاءِ التَّفاوُتِ في الخلْقِ رُسوخًا ويَقينًا [110] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/19). .
- وكَرَّتَيْنِ تَثنيةُ كرَّةٍ، وهي المرَّةُ، وعُبِّرَ عنها هنا بالكَرَّةِ -مُشتقَّةٌ مِن الكَرِّ، وهو العَودُ-؛ لأنَّها عَودٌ إلى شَيءٍ بعدَ الانفصالِ عنه، ككَرَّةِ المقاتلِ يَحمِلُ على العدوِّ بعدَ أنْ يَفِرَّ فرارًا مَصنوعًا. وإيثارُ لَفظِ كَرَّتَيْنِ في هذهِ الآيةِ دونَ مُرادِفِه، نحْو مرَّتَين وتارَتَينِ؛ لأنَّ كَلمةَ (كرَّة) لم يَغلِبْ إطلاقُها على عدَدِ الاثنينِ، فكان إيثارُها في مَقامٍ لا يُرادُ فيه (اثنينِ) أظهَرَ في أنَّها مُستعمَلةٌ في مُطلَقِ التَّكريرِ دونَ عدَدِ اثنينِ أو زَوجٍ، وهذا مِن خَصائصِ الإعجازِ؛ ألَا تَرى أنَّ مَقامَ إرادةِ عدَدِ الزَّوجِ كان مُقتضيًا تَثنيةَ مرَّةٍ في قولِه تعالَى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة: 229] ؛ لأنَّه أظهَرُ في إرادةِ العدَدِ؛ إذ لَفظُ (مرَّة) أكثَرُ تَداوُلًا [111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/19، 20). .
فـ كَرَّتَيْنِ، أي: كرَّةً بعدَ كرَّةً، لا كرَّتَينِ اثنتينِ؛ فالتَّثنيةُ فيها بمعنى التَّكريرِ بكَثرةٍ أو مُطلَقِ التَّكريرِ؛ فإنَّ مِن استِعمالاتِ صِيغةِ التَّثنيةِ في الكلامِ أنْ يُرادَ بها التَّكريرُ، وذلك كما في قولِهم: لبَّيك وسَعدَيك، يُريدون تَلبياتٍ كثيرةً، وإسعادًا كثيرًا، وقولِهم: دَوالَيك [112] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/576)، ((تفسير البيضاوي)) (5/228)، ((تفسير أبي حيان)) (10/222)، ((تفسير أبي السعود)) (9/4)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/20). .
- قولُه: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا الانقلابُ: الرُّجوعُ، يُقالُ: انقلَبَ إلى أهْلِه، أي: رجَعَ إلى مَنزلِه، وإيثارُ فِعلِ يَنْقَلِبْ هنا دونَ (يَرجِعُ)؛ لئلَّا يَلتبِسَ بفِعلِ ارْجِعِ المذكورِ قبْلَه، وهذا مِن خَصائصِ الإعجازِ [113] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/20). .
- وفي قولِه: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ وضْعُ الظَّاهرِ مَوضِعَ المُضمَرِ، وفيه مِن الفائدةِ التَّنبيهُ على أنَّ الَّذي يَرجِعُ خاسئًا حسيرًا غيرُ مُدرِكٍ الفُطورَ، هو الآلةُ الَّتي يُلتمَسُ بها إدراكُ ما هو كائنٌ، فإذا لم يُدرَكْ شَيءٌ دلَّ على أنَّه لا شَيءَ [114] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- حاشية ابن المُنَيِّر)) (4/576). .
4- قوله تعالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ
- قولُه: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ... كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للشُّروعِ في ذِكرِ دَلائلَ أُخرى على تَمامِ قُدرتِه سُبحانه [115] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/148). . وهو بَيانٌ لكَونِ خلْقِ السَّمواتِ في غايةِ الحُسنِ والبهاءِ، إثْرَ بَيانِ خُلوِّها عن شائبةِ القُصورِ [116] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/4). .
- بيَّن ما في إحدى السَّمواتِ مِن إتقانِ الصُّنعِ، وهو ممَّا شَمِلَه عُمومُ الإتقانِ في خلْقِ السَّمواتِ السَّبعِ، وذِكْرُه مِن ذِكرِ بَعضِ أفرادِ العامِّ، كذِكرِ المثالِ بعْدَ القاعدةِ الكُلِّيَّةِ، فدَقائقُ السَّماءِ الدُّنيا أوضَحُ دَلالةً على إتقانِ الصُّنعِ؛ لكَونِها نُصْبَ أعيُنِ المخاطَبين، ولأنَّ مِن بَعضِها يَحصُلُ تَخلُّصٌ إلى التَّحذيرِ مِن حِيَلِ الشَّياطينِ، وسُوءِ عَواقبِ أتْباعِهم [117] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/21). .
- قولُه: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ فيه تَصديرُ الجُملةِ بالقسَمِ؛ لإبرازِ كَمالِ الاعتناءِ بمَضمونِها [118] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/4). .
- وتأْكيدُ الخبَرِ بـ (قدْ)؛ لأنَّه نَتيجةُ الاستِفهامِ التَّقريريِّ المؤكَّدِ بـ (هل) أُخْتِ (قدْ) في الاستفهامِ [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/21). قال ابن عاشور: («هَلْ»... بمعنَى «قَدْ»، فلَمَّا كَثُرَ دُخولُ همزةِ الاستفهامِ عليه حَذَفوا الهمزةَ لكثرةِ الاستعمالِ، فأصْلُ هَلْ فَعَلْتَ: أَهَلْ فعلتَ؟). ((تفسير ابن عاشور)) (1/596). ويُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (1/ 100) و(3/ 189). .
- وسُمِّيَت النُّجومُ هنا مَصابيحَ على التَّشبيهِ في حُسنِ المنظَرِ؛ فهو تَشبيهٌ بَليغٌ [120] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/21). .
- وعُدِلَ عن تَعريفِ (مَصابيح) باللَّامِ إلى تَنكيرِه؛ لِما يُفيدُه التَّنكيرُ مِن التَّعظيمِ [121] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/21). .
- وذِكرُ التَّزيينِ إدماجٌ [122] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 449)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (2/ 484)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/ 339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/ 427). للامتِنانِ في أثناءِ الاستدلالِ، أي: زيَّنَّاها لكم، مِثل الامتنانِ في قولِه: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ [النحل: 6] ، والمَقصدُ: التَّخلُّصُ إلى ذِكرِ رَجْمِ الشَّياطينِ؛ ليُتخلَّصَ منه إلى وَعيدِهم، ووَعيدِ مُتَّبعِيهم [123] يُنظر:  ((تفسير ابن عاشور)) (29/21). .
- قولُه: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ضَميرُ الغائبةِ في (جَعَلْنَاهَا) المتبادِرُ أنَّه عائدٌ إلى المصابيحِ، أي: أنَّ المصابيحَ رُجومٌ للشَّياطينِ. ومعْنى جَعْلِ المصابيحِ رُجومًا جارٍ على طَريقةِ إسنادِ عمَلِ بَعضِ الشَّيءِ إلى جَميعِه، مِثل إسنادِ الأعمالِ إلى القبائلِ؛ لأنَّ العاملينَ مِن أفرادِ القبيلةِ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/21). . أو نُسِبَ الرَّجْمُ إلى المصابيحِ؛ لأنَّ الشِّهابَ المُتَّبِعَ للمُسْتَرِقِ مُنفصِلٌ مِن نارِها، والكوكبُ قارٌّ في فَلَكِه على حالِه، فالشِّهابُ كقبَسٍ يُؤخَذُ مِن النَّارِ، والنَّارُ باقيةٌ لا تَنقُصُ [125] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/223). . أو الضَّميرُ المنصوبُ في وَجَعَلْنَاهَا عائدٌ إلى السَّماءِ الدُّنيا، على تَقديرِ: وجَعَلْنا منها رُجومًا؛ إمَّا على حذْفِ حرْفِ الجرِّ، وإمَّا على تَنزيلِ المكانِ الَّذي صدَرَ منه الرُّجومُ مَنزلةَ نفْسِ الرُّجومِ [126] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/223)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/22). .