موسوعة التفسير

سورةُ الفُرقانِ
الآيات (55-62)

ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ

غريب الكلمات:

ظَهِيرًا: أي: مُظاهِرًا ومُعاوِنًا، وأصلُ (ظهر): يدُلُّ على قُوَّةٍ وبُروزٍ [815] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 261)، ((تفسير ابن جرير)) (15/75)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/471)، ((المفردات)) للراغب (ص: 540)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 265)، ((تفسير القرطبي)) (13/61)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 592). .
خَبِيرًا: أي: عالِمًا، والخُبْرُ: العِلمُ بالشَّيءِ، أو: هو العِلمُ بكُنْهِ المَعلوماتِ على حقائقِها، والخبيرُ في أسماءِ الله: الَّذي انتهَى عِلمُه إلى الإحاطَةِ ببَواطِنِ الأشياءِ وخَفاياها، كما أحاطَ بظَواهِرِها، وأصلُ (خبر) هنا: يدُلُّ على عِلمٍ [816] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/480)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/239)، ((الفروق اللغوية)) للعسكري (ص: 93)، ((مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم)) للبعلي (ص: 94)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 438). .
نُفُورًا: أي: هَرَبًا، وذَهابًا عن الحَقِّ، وأصلُ (نفر): يدُلُّ على تَجافٍ وتَباعُدٍ [817] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/603)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/459)، ((المفردات)) للراغب (ص: 817)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 916)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/214). .
بُرُوجًا: أي: مَنازِلَ للشَّمسِ والقَمَرِ [818] قال الخازن: (هي بروجُ الفَلَك الاثنا عشرَ بُرجًا، وهي: الحمَلُ، والثورُ، والجوزاءُ، والسرطانُ، والأسدُ، والسنبلةُ، والميزانُ، والعقربُ، والقوسُ، والجَدْي، والدلوُ، والحوتُ. وهذه البروجُ مَقسومةٌ على ثمانيةٍ وعشرين منزِلًا، لكلِّ برجٍ منزلان وثلثُ منزلٍ... وهذه البروجُ مقسومةٌ على ثلاثِ مئةٍ وستِّينَ درجةً، لكلِّ برجٍ منها ثلاثونَ درجةً تقطَعُها الشَّمسُ في كلِّ سَنةٍ مرَّةً، وبها تتِمُّ دورةُ الفَلَك، ويقطَعُها القمرُ في ثمانيةٍ وعشرينَ يومًا). ((تفسير الخازن)) (3/50). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/9). وقال ابن عاشور: (أُطلِق البُرجُ على بقعةٍ معيَّنةٍ مِن سَمْتِ طائفةٍ مِن النجومِ غيرِ السيَّارةِ -وتُسمَّى النجومَ الثوابتَ- متجمعٍ بعضُها بقربِ بعضٍ على أبعادٍ بيْنَها، لا تتغيَّرُ فيما يُشاهَدُ مِن الجوِّ، فتلك الطائفةُ تكونُ بشكلٍ واحدٍ يشابهُ نُقطًا لو خُطِّطتْ بينَها خطوطٌ لخرجَ منها شِبهُ صورةِ حيوانٍ أو آلةٍ، سمُّوا باسمِها تلك النجومَ المشابهةَ لهيئتِها، وهي واقعةٌ في خطِّ سَيرِ الشمسِ... تخيَّلوا أنَّها منازلُ للشمسِ؛ لأنَّهم وقَّتوا بجهتِها سَمْتَ موقعِ الشمسِ مِن قُبةِ الجوِّ نهارًا فيما يخيَّلُ للناظرِ أنَّ الشمسَ تسيرُ في شبهِ قوسِ الدائرةِ، وجعلوها اثني عشرَ مكانًا بعددِ شهورِ السنةِ الشمسيَّةِ... فبما كان لها مِن النظامِ تسَنَّى أن تُجعلَ علاماتٍ لمواقيتِ حلولِ الفصولِ الأربعةِ، وحلولِ الأشهرِ الاثني عشرَ، فهُم ضبَطوا لتلك العلاماتِ حدودًا وَهْميَّةً عيَّنوا مكانَها في الليلِ مِن جهةِ موقعِ الشمسِ في النهارِ... وللتمييزِ بينَ تلك الطوائفِ مِن النجومِ جعلوا لها أسماءَ الأشياءِ التي شبَّهوها بها، وأضافوا البرجَ إليها). ((تفسير ابن عاشور)) (14/28، 29). ، وقيل: البُروجُ: الكواكبُ العِظامُ، وأصلُ البرجِ: القَصرُ والحِصْنُ، وبه سُمِّي بروجُ السماءِ لمنازلِها المختصةِ بها [819] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 236)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/238)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (1/161)، ((المفردات)) للراغب (ص: 115)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 189)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 225). .
خِلْفَةً: أي: مُتعاقِبَينِ؛ يخلُفُ أحدُهما الآخَرَ، وأصلُ (خلف): يدُلُّ على مَجيءِ شَيءٍ بعْدَ شَيءٍ [820] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 314)، ((تفسير ابن جرير)) (17/487)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 216)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/210)، ((المفردات)) للراغب (ص: 294)، ((تفسير القرطبي)) (13/66). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا موقفَ المشركينَ مِن هذه النِّعمِ العظيمةِ: ويعبُدُ هؤلاء المُشرِكون آلهةً مِن دونِ اللهِ لا تنفَعُهم ولا تضُرُّهم، وكان الكافِرُ مُظاهِرًا ومُعاوِنًا للشَّيطانِ وحِزبِه على عداوةِ الله؛ يُشرِكُ به ويعصيه، ويُوالي أعداءَه، ويُحارِبُ أولياءَه.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى الوظيفةَ التي مِن أجْلِها أرسَل رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقول تعالى: وما أرسَلْناك -يا محمَّدُ- إلى النَّاسِ إلَّا لتبشِّرَهم بثوابِ اللهِ إذا آمَنوا بالله، ولِتُنذِرَهم عِقابَه وغَضَبَه إنْ كَفَروا وكذَّبوا. ويأمرُ الله نبيَّه أن يقولَ لمَن أُرسِل إليهم: لا أسألُكم على تبليغِ رِسالةِ الله إليكم مالًا، لكِنْ مَن شاء منكم أن يتَّخِذَ إلى مَرضاةِ رَبِّه سَبيلًا، كالصَّدَقةِ في سبيلِ الله، فليفعَلْ.
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يتوكَّلَ عليه، ويستعينَ به، فيقول: واعتَمِدْ على اللهِ الحيِّ الباقي الذي لا يموتُ، ونزِّهْه عن كلِّ نَقصٍ مُثنيًا عليه بصِفاتِ كَمالِه، وكفى برَبِّك خبيرًا عَليمًا بذُنوبِ عِبادِه، وسيُجازيهم عليها.
الذي خلق السَّمَواتِ والأرضَ وما بيْنَهما مِن المخلوقاتِ في ستَّةِ أيَّامٍ، ثُمَّ علا على العَرشِ علُوًّا يليقُ بجَلالِه : الرَّحمنُ؛ فاسألْ -يا محمَّدُ- عن الرَّحمنِ عالِمًا يخبِرْك عنه.
ثمَّ يخبرُ الله تعالى عن جهالاتِ المشركينَ وسخافاتِهم، فيقول: وإذا قيل لهؤلاء المُشرِكين: اسجُدوا للرَّحمنِ، قالوا: لا نَعرِفُ الرَّحمنَ! أنسجُدُ لِما تأمُرُنا أنت أن نسجُدَ له مِن غيرِ أن نَعرِفَه، ومِن غيرِ أن نُؤمِنَ به؟ وزادهم الأمرُ بالسُّجودِ للرَّحمنِ نُفورًا عن الإيمانِ. ثمَّ يرُدُّ الله سبحانه عليهم بما يدُلُّ على عظيمِ قدرتِه، فيقولُ: تعاظَمَ اللهُ وجلَّ شأنُه وكثُرتْ خيراتُه؛ فهو الذي جعَل في السَّماءِ مَنازِلَ للشَّمسِ والقَمَرِ، وخلَق فيها شَمسًا مُشرِقةً وقَمرًا مُضيئًا، وهو الذي جعل اللَّيلَ والنَّهارَ مُتعاقِبَين يخلُفُ أحدُهما الآخَرَ، لِمَن أراد أن يتَّعِظَ ويعتبِرَ، أو أراد شُكرَ اللهِ على نِعَمِه التي لا تُحصى.

تفسير الآيات:

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا عدَّدَ النِّعمَ، وبيَّنَ كمالَ قُدرتِه؛ عَجَّب مِن المشرِكين في إشراكِهم به مَن لا يقدِرُ على نَفعٍ ولا ضرٍّ، أي: إنَّ اللهَ هو الذي خلَقَ ما ذكَرَه، ثمَّ هؤلاء لجَهلِهم يعبُدونَ مِن دونِه أمواتًا جماداتٍ لا تنفَعُ ولا تضُرُّ [821] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/61)، ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/409). !
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ.
أي: ويَعبُدُ المُشرِكون مِن دونِ اللهِ آلهةً لا تَنفَعُهم بشَيءٍ، ولا تضُرُّهم أبدًا، ويتركونَ عِبادةَ اللهِ الذي خلَقَهم، وأنعَمَ عليهم، ويَملِكُ نَفعَهم وضُرَّهم [822] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/476، 477)، ((تفسير القرطبي)) (13/61)، ((تفسير ابن كثير)) (6/118)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/409)، ((تفسير السعدي)) (ص: 585). .
وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا.
أي: وكان الكافِرُ مُعينًا للشَّيطانِ وحِزبِه على عداوةِ اللهِ؛ يُشرِكُ به ويعصيه، ويُوالي أعداءَه، ويُحارِبُ أولياءَه [823] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/477)، ((تفسير ابن كثير)) (6/118)، ((تفسير السعدي)) (ص: 585)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/56، 57)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/68). !
كما قال تعالى: الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76] .
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
تعلُّقُ ذلك بما تقَدَّم هو أنَّ الكُفَّارَ يطلُبونَ العَونَ على اللهِ تعالى وعلى رَسولِه، واللهُ تعالى بَعَثَ رسولَه لِنَفعِهم؛ لأنَّه بعَثَه لِيُبَشِّرَهم على الطاعةِ، ويُنذِرَهم على المعصيةِ، فيَستحقُّوا الثوابَ، ويَحترِزوا عن العقابِ، فلا جهلَ أعظَمُ مِن جهلِ مَنِ استفرغَ جُهْدَه في إيذاءِ شخصٍ استفرغَ جُهْدَه في إصلاحِ مهمَّاتِه دينًا ودُنيا، ولا يسألُهم على ذلك البتَّةَ أجرًا [824] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/476). !!
وأيضًا لَمَّا أفضى الكلامُ بأفانينِ انتِقالاتِه إلى التَّعجيبِ مِن استمرارِهم على أنْ يعبُدوا ما لا يَضُرُّهم ولا ينفَعُهم؛ أعقَبَ بما يُومِئُ إلى استِمرارِهم على تكذيبِهم محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم في دعوى الرِّسالةِ، بنِسبةِ ما بَلَّغَه إليهم إلى الإفكِ، وأنَّه أساطيرُ الأوَّلينَ، وأنَّه سِحرٌ، فأُبطِلتْ دعاويهم كلُّها بوَصفِ النَّبيِّ بأنَّه مُرسَلٌ مِن الله، وقَصْرِه على صفتَيِ التَّبشيرِ والنِّذارةِ [825] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/57). .
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.
أي: وما أرسَلْناك -يا محمَّدُ- إلى النَّاسِ إلَّا لتبشِّرَ مَن آمنَ بك واتَّبعَك بالخَيرِ والثَّوابِ في الدُّنيا والآخرةِ، وتُنذِرَ مَن كفَرَ بك وكذَّبَك وعصاك بالشَّقاءِ والعذابِ في الدُّنيا والآخرةِ [826] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/479)، ((تفسير القرطبي)) (13/62)، ((تفسير ابن كثير)) (6/118)، ((تفسير السعدي)) (ص: 585). .
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا وقَعَ جوابُهم عن قَولِهم: لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ [الفرقان: 7] ، وكان قد بقيَ قولُهم: أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ [الفرقان: 8] ، أُشيرَ إلى مَزيدِ الاهتِمامِ بجوابِه بإبرازِه في صورةِ الجوابِ لِمَن كأنَّه قال: ماذا يُقالُ لهم إذا تظاهَروا وطَعَنوا في الرِّسالةِ بما تقدَّمَ وغَيرِه؟ فقال [827] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/411). :
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لِمَن أرسلْتُك إليهم: أنا لا أسألُكم على تبليغِ رسالةِ اللهِ إليكم مالًا [828] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/479)، ((تفسير القرطبي)) (13/62)، ((تفسير ابن كثير)) (6/118)، ((تفسير السعدي)) (ص: 585). .
كما قال تعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام: 90] .
وقال سُبحانه: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [الطور: 40].
إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا.
أي: لكنْ مَن شاء مِنكم أن يتَّخِذَ طَريقًا يقَرِّبُه إلى اللهِ، فليفعَلْ، ومِن ذلك أن يُنفِقَ مِن مالِه في سبيلِ اللهِ [829] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/479)، ((تفسير القرطبي)) (13/62)، ((تفسير السعدي)) (ص: 585). وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جريرٍ، والقرطبيُّ، والسعديُّ. يُنظر: المصادر السابقة. وقال ابنُ كثير: (إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا أي: طريقًا ومَسلَكًا ومَنهجًا يُقتَدى فيها بما جِئتُ به). ((تفسير ابن كثير)) (6/118). وقال البقاعي: (إِلَّا مَنْ أي: إلَّا أجرَ مَن شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ أي: يكَلِّفَ نفْسَه ويخالِفَ هواه، ويجعَلَ له إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا؛ فإنَّه إذا اهتدى بهدايةِ رَبِّه، كان لي مِثلُ أجرِه، لا نفْعَ لي من جهتِكم إلَّا هذا، فإنْ سمَّيتم هذا أجرًا فهو مطلوبي، ولا مِريةَ في أنَّه لا يَنقُصُ أحدًا شيئًا مِن دنياه، فلا ضررَ على أحدٍ في طَيِّ الدُّنيا عنِّي، فأفاد هذا فائدتينِ؛ إحداهما: أنَّه لا طمعَ له أصلًا في شيءٍ يَنقُصُهم، والثانيةُ: إظهارُ الشَّفَقةِ البالِغةِ بأنَّه يَعتَدُّ بمنفعتِهم الموصلةِ لهم إلى ربِّهم ثوابًا لنَفْسِه). ((نظم الدرر)) (13/412). .
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّنَ سُبحانَه أنَّ الكُفَّارَ مُتظاهِرونَ على إيذائِه، فأمَرَه بألَّا يطلُبَ منهم أجرًا البتَّةَ- أمَرَه بأنْ يتوكَّلَ عليه في دفْعِ جَميعِ المَضارِّ، وفي جَلْبِ جميعِ المنافعِ [830] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/476). .
وأيضًا لَمَّا أخبرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه فَطَمَ نفْسَه عن سؤالِهم شَيئًا؛ أمَرَه تعالى بتفويضِ أمرِه إليه، وثِقَتِه به، والاعتِمادِ عليه؛ فهو المتكفِّلُ بنَصرِه وإظهارِ دينِه [831] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/120). .
وأيضًا لَمَّا كان المقصودُ رَدَّهم عن عِنادِهم، وكان ذلك في غايةِ الصُّعوبةِ، وكان هذا الكلامُ لا يَرُدُّ مُتعنِّتيهم -وهم الأغلبُ- الذين تُخشَى غائلتُهم؛ عطَفَ على قُلْ قولَه [832] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/412). :
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ.
أي: واعتَمِدْ -يا محمَّدُ- في دينِك ودُنياك على اللهِ الذي له الحياةُ الكامِلةُ الدَّائِمةُ التي لا موتَ معها أبدًا، وفوِّضْ أمورَك كُلَّها إليه وحْدَه لا إلى غيرِه، لا سيَّما في مُواجهةِ المُشرِكين بالإنذارِ، وتبليغِهم رسالةَ الله إليهم [833] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/479)، ((تفسير القرطبي)) (13/62)، ((تفسير ابن كثير)) (6/118)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/413)، ((تفسير السعدي)) (ص: 585)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/59). قال البقاعي: (الَّذِي لَا يَمُوتُ أي: فلا ضياعَ لِمَن تَوكَّل عليه أصلًا، بل هو المتولِّي لمصالحِه في حياتِه وبعْدَ مماتِه، ولا تلتَفِتْ إلى ما سِواه بوجهٍ؛ فإنَّه هالِكٌ). ((نظم الدرر)) (13/413). .
كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123] .
وقال سُبحانه: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 8، 9].
وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ.
أي: ونزِّهْ -يا محمَّدُ- ربَّك عن النَّقائِصِ والأندادِ والشُّرَكاءِ، مُثنيًا عليه بصِفاتِ كَمالِه، شاكرًا له على نِعَمِه [834] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/480)، ((تفسير القرطبي)) (13/62)، ((تفسير ابن كثير)) (6/119)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/413)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/59). قال ابن جُزَي: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي: قُلْ: سُبحانَ اللهِ وبحَمْدِه. والتَّسبيحُ: التَّنزيهُ عن كُلِّ ما لا يَليقُ به، ومعنى بحَمْدِه: أي: بحَمْدِه أقولُ ذلك. ويحتَمِلُ أن يكونَ المعنى: سَبِّحْه مُتَلَبِّسًا بحَمْدِه؛ فهو أمرٌ بأن يَجمَعَ بينَ التَّسبيحِ والحَمدِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/85). ممَّن اختار أنَّ المرادَ أن يقولَ: سُبحانَ اللهِ وبحَمْدِه: ابنُ عطية، وابنُ جزي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/216)، ((تفسير ابن جزي)) (2/85). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: سَبِّحْه مُتَلَبِّسًا بحَمْدِه -أي أن يقولَ: سُبْحانَ اللهِ، والحمدُ لِلهِ-: جلالُ الدينِ المحليُّ. يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 477). وقال ابن كثير: (اقرنْ بيْنَ حمدِه وتسبيحِه). ((تفسير ابن كثير)) (6/119). وممَّن اختار أنَّ المعنى: نزِّهْه عن صفاتِ النُّقصانِ، مُثنيًا عليه بنعوتِ الكمالِ: البيضاويُّ، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/225)، ((تفسير أبي السعود)) (6/226). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/413)، ((تفسير الألوسي)) (10/37). وممَّن فسَّر التَّسبيحَ بالتَّنزيهِ أيضًا: القرطبيُّ، والشوكانيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/62)، ((تفسير الشوكاني)) (4/97)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/59). وممَّن اختار أنَّ المعنى: اعبُدْهُ شُكرًا منك له على نِعَمِه: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/480)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5243). وممَّن اختار أنَّ المعنى: صَلِّ له شكرًا على نِعَمِه: البغويُّ، والخازنُ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/453)، ((تفسير الخازن)) (3/317). وقال الثعلبي: (اعبُدْه وصَلِّ له شكرًا منك له على نِعَمِه). ((تفسير الثعلبي)) (7/142). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 585). وقال العليمي: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ صلِّ له شكرًا، ونَزِّهْه عن صفات النقصان). ((تفسير العليمي)) (5/36). وقال ابن عاشور: (وأمَّا أمْرُه بالتَّسبيحِ فهو تنزيهُ الله عمَّا لا يليقُ به، وأوَّلُ ذلك الشَّرِكةُ في الإلهيَّةِ، أي: إذا أهمَّك أمرُ إعراضِ المشركينَ عن دعوةِ الإسلامِ، فعليك نفْسَك، فنَزِّهِ اللهَ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/59). .
وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا كان المُسَلَّى ربَّما وقَعَ في فِكرِه أنَّ مَن سَلَّاه إمَّا غيرُ قادرٍ على نَصرِه، أو غيرُ عالِمٍ بذُنوبِ خَصمِه، وكان السِّياقُ للشِّكايةِ مِن إعراضِ المبلَّغِينَ عن القُرآنِ، وما يَتبَعُ ذلك مِن الأذى- أشار بالعَطفِ على غيرِ مذكورٍ إلى أنَّ التقديرَ: «فكفى به لك نصيرًا»، وعطَفَ عليه [835] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/413). :
وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا.
أي: وحَسْبُك -يا محمَّدُ- ربُّك الخَبيرُ بذُنوبِ عبادِه، فلا يخفى عليه شَيءٌ منها، وسيُجازيهم عليها يومَ القيامةِ؛ فليس عليك هُداهم، ولا حِفظُ أعمالِهم، فذلك كلُّه بيَدِ اللهِ وحْدَه [836] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/480)، ((تفسير القرطبي)) (13/62)، ((تفسير السعدي)) (ص: 585). .
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أمَرَ سُبحانَه نبيَّه بالتوكُّلِ والتَّسبيحِ، وذكَرَ صفةَ الحياةِ الدَّائمةِ؛ ذَكَرَ ما دلَّ على القدرةِ التامَّةِ، وهو إيجادُ هذا العالَمِ [837] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/120). ، وأنَّه جديرٌ بأن يُخَصَّ بالتوكُّلِ، تبارَك وتعالى [838] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 234). .
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.
أي: توكَّلْ على الحيِّ الذي خلَقَ السَّمواتِ السَّبْعَ والأرضَ وما بيْنَهما مِن المخلوقاتِ في سِتَّةِ أيامٍ [839] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/480)، ((تفسير ابن كثير)) (6/119)، ((تفسير الشوكاني)) (4/97). قال ابن كثير: (والسِّتَّةُ الأيامِ هي: الأحدُ، والاثنينُ، والثُّلاثاءُ، والأربِعاءُ، والخميسُ، والجُمُعةُ -وفيه اجتمَع الخَلْقُ كلُّه، وفيه خُلِق آدمُ عليه السلام. واختلَفوا في هذه الأيَّامِ: هل كلُّ يَومٍ منها كهذه الأيَّامِ كما هو المتبادرُ إلى الأذهانِ؟ أو كلُّ يَومٍ كألْفِ سَنةٍ كما نَصَّ على ذلك مجاهِدٌ، والإمامُ أحمدُ بنُ حَنبلٍ، ويُروى ذلك مِن روايةِ الضَّحَّاكِ عن ابنِ عبَّاسٍ؟ فأمَّا يومُ السَّبتِ فلمْ يقَعْ فيه خَلْقٌ؛ لأنَّه اليَومُ السابعُ، ومنه سُمِّيَ السبت، وهو القطعُ). ((تفسير ابن كثير)) (3/426). ممَّن اختار أنَّها مِقدارُ ستَّةِ أيَّامٍ مِن أيَّامِ الدُّنيا: الزمخشريُّ، وابنُ عطية -ونَسَبه للجمهورِ-، والبِقاعي، والألوسي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/288)، ((تفسير ابن عطية)) (3/104)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/414)، ((تفسير الألوسي)) (6/62)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 235، 236). قال الألوسي عن هذا القول: (وهو الأنسَبُ بالمقامِ؛ لِما فيه مِن الدَّلالةِ على القُدرةِ الباهرةِ بخَلقِ هذه الأجرامِ العظيمةِ في مِثلِ تلك المُدَّةِ اليسيرةِ، ولأنَّه تعريفٌ لنا بما نعرِفُه). ((تفسير الألوسي)) (6/62). وقال ابنُ عثيمين عن القَولِ بأنَّ الأيامَ الستَّةَ هي مِن أيامِ الدُّنيا: (هذا هو القَولُ المشهورُ، وهو الراجِحُ، وأمَّا مَن قال: في ستةِ أيَّامٍ مِن أيَّامِ الآخرةِ، وإنَّ اليومَ كألْفِ سَنةٍ، أو مَن قال: إنَّ المرادَ بالأيَّامِ مُطلقُ الزمَنِ، أي: في لحظاتٍ- فذلك أيضًا قولٌ مرجوحٌ؛ لأنَّ القرآنَ إنَّما يخاطِبُ النَّاسَ بما يَعرِفونَ، فالصَّحيحُ أنَّ المرادَ سِتةُ أيامٍ مِن أيامِ الدُّنيا). ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 235، 236). وقال الشنقيطي: (العلماء يقولون: إنَّ هذه الأيَّامَ، المرادُ بها أوقاتُها؛ لأنَّه في ذلك الوقتِ لم يكُنْ هنالك يومٌ؛ لأنَّ اليومَ مِن طُلوعِ الشَّمسِ إلى غُروبِها، وإن لم يكُنْ هنالك شَمسٌ لا يُعرَفُ اليومُ، إلَّا أنَّ اللهَ قبْلَ أن يخلُقَ الشَّمسَ والقَمَرَ يعلمُ زمَنَ الأيَّامِ قبْلَ وُجودِ الشَّمسِ). ((العذب النمير)) (3/344، 345). وقال الزمخشري: (أمَّا الدَّاعي إلى هذا العَدَدِ -أعني: السِّتَّةَ دونَ سائِرِ الأعدادِ- فلا نشُكُّ أنَّه داعي حِكْمةٍ؛ لعِلْمنا أنَّه لا يُقدِّر تقديرًا إلَّا بداعي حِكمةٍ، وإن كنَّا لا نطَّلِعُ عليه، ولا نهتدي إلى معرفتِه). ((تفسير الزمخشري)) (3/288). وقال البيضاوي: (ولعلَّ ذِكرَه زيادةُ تقريرٍ؛ لكونِه حقيقًا بأن يُتوكَّلَ عليه؛ من حيثُ إنَّه الخالِقُ للكُلِّ، والمتصَرِّفُ فيه، وتحريضٌ على الثباتِ والتأنِّي في الأمرِ؛ فإنَّه تعالى -مع كمالِ قدرتِه، وسرعةِ نفاذِ أمرِه في كلِّ مُرادٍ- خلَقَ الأشياءَ على تُؤَدةٍ وتدَرُّجٍ). ((تفسير البيضاوي)) (4/129). .
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ .
أي: ثمَّ علا اللهُ الرَّحمنُ على عرشِه بعْدَ خَلْقِه السَّمواتِ والأرضَ عُلُوًّا يليقُ بجلالِه [840] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/480)، ((تفسير الشوكاني)) (2/240)، ((تفسير القاسمي)) (7/434)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 240). قال السعدي: (ثُمَّ اسْتَوَى بعْدَ ذلك عَلَى الْعَرْشِ الذي هو سَقفُ المخلوقاتِ وأعلاها، وأوسَعُها وأجمَلُها). ((تفسير السعدي)) (ص: 585). وقال أبو عمرو الداني: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ تامٌّ، إذا ارتفَع الرَّحْمَنُ بالابتِداءِ، وجُعِل الخبرُ فيما بعْدَه. فإنْ رُفِع بتقدير: هو الرَّحمنُ؛ كان الوقفُ على الْعَرْشِ كافيًا. وإن جُعِل بدَلًا مِنَ المُضمَرِ الذي في اسْتَوَى لم يَكفِ الوقفُ على الْعَرْشِ، وكفى على الرَّحْمَنُ). ((المكتفى في الوقف والابتدا)) (ص: 149). .
فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان العِلمُ لازمًا للمُلْكِ؛ سَبَّبَ عن ذلك قولَه [841] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/415). :
فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا.
أي: فاسألْ [842] قيل: الخطابُ لمحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسلامُ. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/481). وقال الواحديُّ: (هذا الخِطابُ ظاهرُه للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والمرادُ به غيرُه). ((الوسيط)) (3/344). وقال أيضًا: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا فاسأَلْ -أيُّها الإنسانُ الذي لا تَعلَمُ صِفتَه- خَبيرًا يُخبِرْك بصِفاتِه). ((الوجيز)) (ص: 782). وقال أبو السعود: (وما قيل مِن أنَّ التَّقديرَ: إنْ شككتَ فيه فاسألْ به خَبيرًا، على أنَّ الخطابَ له صلَّى الله عليه وسلَّم والمرادَ غيرُه؛ بمعزلٍ مِن السَّدادِ، بل التَّقديرُ: إنْ شئتَ تحقيقَ ما ذُكِر أو تفصيلَ ما ذُكر، فاسألْ معنيًّا بهِ خَبِيرًا). ((تفسير أبي السعود)) (6/227). عن [843] قال ابنُ عثيمين في بيانِ أوجُهِ التَّعْديةِ بالباءِ: (الوَجهُ الأوَّلُ: أن تكونَ «الباءُ» بمعنى «عن»، وهذا واضِحٌ: فاسألْ عنه خَبيرًا. الوَجهُ الثَّاني: أن تكونَ «الباء» متعلِّقةً بمحذوفٍ تقديرُه: مُعْتنيًا أو مُهتَمًّا به، حالٌ مِنَ الضَّميرِ المُستترِ في قولِه: فَاسْأَلْ. وعندي أيضًا أنَّه يوجدُ احتِمالٌ أنَّ المعنى: فاسألْ تُجَبْ به خَبيرًا، يعني كأنَّه ضُمِّنَ السُّؤالُ ما يدُلُّ على الجوابِ، مِثلُ ما قيلَ في: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [المعارج: 1]: سأل سائِلٌ وأُجيب بعَذابٍ واقعٍ، ويكونُ عَدَل عن «عن» إلى «الباء»؛ لأنَّ «عن» إنَّما تدُلُّ على مجرَّدِ السُّؤالِ، و «الباء» تدُلُّ على الإجابةِ أيضًا. وعلى كلِّ حالٍ فالمعنى أنَّ الرحمنَ الذي خلَق السَّمواتِ والأرضَ واستوى على العَرشِ اسألْ عنه خَبيرًا يُخبِرْك). ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 243). الرَّحمنِ عالِمًا [844] قيل: المرادُ بالخبير: اللهُ تعالى. وممَّن قال بذلك: السمعانيُّ، وأبو السعود، والسعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/27)، ((تفسير أبي السعود)) (6/227)، ((تفسير السعدي)) (ص: 585)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 244). وممَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: مجاهدٌ، وابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/481)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2715)، ((تفسير ابن كثير)) (6/120). قال أبو السعود: (خَبِيرًا عظيمَ الشأنِ، محيطًا بظواهِرِ الأمورِ وبواطنِها، وهو اللهُ سبحانه؛ يُطلِعْك على جليَّةِ الأمرِ. وقيل: فاسأَلْ به مَن وَجَدَه في الكُتُبِ المتقَدِّمةِ؛ لِيَصْدُقَك فيه). ((تفسير أبي السعود)) (6/227). وقال السعدي: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا يعني بذلك: نَفْسَه الكريمةَ؛ فهو الذي يعلَمُ أوصافَه وعَظَمَته وجَلالَه، وقد أخبَرَكم بذلك، وأبانَ لكم مِن عظمَتِه ما تَسعَدونَ به مِن معرفتِه، فعَرَفه العارفون وخضَعوا لجلالِه، واستكبَرَ عن عبادتِه الكافِرونَ واستنكَفوا عن ذلك). ((تفسير السعدي)) (ص: 585). وقيل: المرادُ به: محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلم. وممَّن قال بذلك: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/119). قال ابن كثير: (أي: استعلِمْ عنه مَن هو خبيرٌ به عالمٌ به، فاتَّبِعْه واقتَدِ به، وقد عُلِم أنَّه لا أحدَ أعلَمُ بالله ولا أخبَرُ به مِن عبدِه ورسولِه محمدٍ -صلواتُ الله وسلامُه على سيِّدِ ولدِ آدمَ- على الإطلاقِ في الدُّنيا والآخرةِ، الذي لا ينطِقُ عن الهوى، إنْ هو إلا وحيٌ يُوحَى؛ فما قاله فهو حقٌّ، وما أخبَر به فهو صِدقٌ، وهو الإمامُ المحكَّمُ الذي إذا تنازَع الناسُ في شَيءٍ وجَب ردُّ نزاعِهم إليه، فما يوافِقُ أقوالَه وأفعالَه فهو الحقُّ، وما يخالِفُها فهو مردودٌ على قائِلِه وفاعِلِه، كائنًا مَن كان؛ قال الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] ). ((تفسير ابن كثير)) (6/119). وقيل: المرادُ: أهلُ العلمِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ الأنباري. يُنظر: ((إيضاح الوقف والابتداء)) (2/809). قال ابن جُزي: (الأظهرُ أنَّ المُرادَ: اسألْ عنه مَن هو خبيرٌ عارفٌ به، وانتصَب خَبِيرًا على المفعوليَّةِ، وهذا الخبيرُ المَسؤولُ هو جِبريلُ عليه السَّلامُ، والعلماءُ، وأهلُ الكتابِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/85). وقال الرسعني: (إمَّا أن يُرادَ بالخِطابِ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أو غيرُه بخِطابِه؛ كقولِه تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ [يونس: 94] : فإن كان المرادُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فالخبيرُ هو جبريلُ عليه السَّلامُ، في قولِ ابنِ عبَّاسٍ. وقال مجاهدٌ: هو اللهُ عزَّ وجلَّ، على معنى: فسَلْني؛ فإنِّي الخبيرُ. وإن أُريدَ به غيرُه فالمعنى: فاسألْ رجُلًا خبيرًا، أي: عالمًا بما تسألُه عنه. وقيل: الضميرُ في بِهِ يرجِعُ إلى ما دَلَّ عليه فَاسْأَلْ، وهو السؤالُ... المعنى: فاسألْ بسؤالِك خبيرًا أيُّها الإنسانُ). ((تفسير الرسعني)) (5/342). يُخبِرْك عنه وعن عَظَمتِه، وعن خَلقِه وسُلطانِه، وأفعالِه وصفاتِ كَمالِه [845] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (4/73)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 782)، ((تفسير القرطبي)) (13/62)، ((تفسير ابن كثير)) (6/119)، ((تفسير أبي السعود)) (6/227)، ((تفسير السعدي)) (ص: 585)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 243). .
كما قال تعالى: وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14] .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمّا ذَكَرَ إحسانَه إليهم، وإنعامَه عليهم؛ ذَكَرَ ما أبدَوْهُ مِن كفْرِهم في مَوضِعِ شُكْرِهم، فقال [846] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/416). :
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا.
أي: وإذا قيلَ لأولئك المُشرِكين: اسجُدوا للرَّحمنِ الذي أنعَمَ عليكم بالنِّعَمِ، ودفَعَ عنكم النِّقَمَ دونَ غيرِه؛ قالوا متعَجِّبين وكافرين بالله ومُنكِرين لاسمِه الرَّحمنِ: لا نعرِفُ الرَّحمنَ! أنطيعُك -يا محمَّدُ- فنَسجُدُ لله وحْدَه لمجرَّدِ قَولِك وأمْرِك بذلك [847] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/481)، ((تفسير القرطبي)) (13/64)، ((تفسير ابن كثير)) (6/120)، ((تفسير السعدي)) (ص: 585). قال ابنُ عثيمين: (هذا السجودُ يحتَمِلُ أن يرادَ به السجودُ الخاصُّ الذي هو خرورُ الإنسانِ على أعضائِه السبعةِ، ويحتمِلُ أنَّ المرادَ به السجودُ العامُّ الذي هو الخضوعُ المُطلَقُ؛ لأنَّ السجودَ يُطلَقُ بالمعنيين: السجودُ العامُّ الذي هو الخضوعُ والذُلُّ مُطلقًا، أو السجودُ الخاصُّ على هذه الأعضاءِ المعروفةِ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 249). وقيل: المعنى: صَلُّوا للرَّحمنِ. ومِمَّن اختاره: مقاتلُ بن سليمان، والسمرقنديُّ، والثعلبيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/239)، ((تفسير السمرقندي)) (2/543)، ((تفسير الثعلبي)) (3/131). واختار القاسميُّ أنَّ المرادَ بالسُّجودِ: الإذعانُ بالإيمانِ. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (7/435). قال ابن عاشور: (السجودُ الذي أُمِروا به سُجودُ الاعتِرافِ له بالوَحدانيَّةِ، وهو شِعارُ الإسلامِ، ولم يكنِ السُّجودُ مِن عبادتِهم، وإنَّما كانوا يَطوفون بالأصنامِ، وأمَّا سُجودُ الصَّلاةِ التي هي مِن قواعدِ الإسلامِ فليس مُرادًا هنا؛ إذ لم يكونوا ممَّن يُؤمَرُ بالصَّلاةِ، ولا فائدةَ في تكليفِهم بها قبْلَ أن يُسْلِموا). ((تفسير ابن عاشور)) (19/62). وذَكَر النَّسَفي أنَّ المعنى: صَلُّوا لله، واخضَعوا له. يُنظر: (( تفسير النسفي)) (2/546). قال الشنقيطي: (وما ذَكَرَه هنا مِن أنَّهم أُمِروا بالسُّجودِ له وحْدَه -جَلَّ وعلا- مذكورٌ في غيرِ هذا الموضِعِ؛ كقَولِه تعالى: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: 37] ، وقَولِه تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم: 62] ، وقد وَبَّخَهم تعالى على عدَمِ امتِثالِ ذلك في قَولِه تعالى: وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ [الانشقاق: 21] ، وقَولِه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ [المرسلات: 48] ). ((أضواء البيان)) (6/70). وممَّن اقتصَر على تفسيرِ السجودِ في الآيةِ بالسجودِ: ابنُ جرير، والسمعانيُّ، والواحديُّ، والرازي، والخازن، والعليمي، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/481)، ((تفسير السمعاني)) (4/28)، ((الوسيط)) للواحدي (3/344)، ((تفسير الرازي)) (24/479)، ((تفسير الخازن)) (3/317)، ((تفسير العليمي)) (5/38)، ((تفسير السعدي)) (ص: 586)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/70). ؟!
كما قال تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد: 30] .
وقال سُبحانَه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110] .
وَزَادَهُمْ نُفُورًا.
أي: وزاد المُشرِكينَ أمْرُهم بالسُّجودِ للرَّحمنِ كراهيةً وفِرارًا مِن الحَقِّ [848] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/482)، ((تفسير القرطبي)) (13/64)، ((تفسير السعدي)) (ص: 586)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 253). .
كما قال تعالى: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا [الإسراء: 46] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر: 45] .
وقال سُبحانَه: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر: 49 - 51] .
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا حكى سُبحانَه عنِ الكُفَّارِ مَزيدَ النُّفرةِ عن السُّجودِ؛ ذكَرَ ما لو تفكَّروا فيه لعَرَفوا وجوبَ السُّجودِ والعبادةِ للرَّحمنِ [849] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/479). .
وأيضًا لَمَّا سألَ المُشرِكون بقَولِهم: وَمَا الرَّحْمَنُ كما يَسألون عنِ المجهولِ؛ ذكَرَ لهم القرآنُ ما يُعَرِّفُهم به مِن عظيمِ آياتِه، وجلائلِ إنعاماتِه التي هي مِن آثارِ رحمتِه، فذَكَرَ لهم بُروجَ السماءِ والشَّمسَ والقمرَ، ثمَّ ذَكَرَ لهم تعاقُبَ اللَّيلِ والنهارِ [850] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 189). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ سبحانَه حالَ النَّذيرِ الذي ابتدأَ به السورةَ في دعائِه إلى الرَّحمنِ -الذي لو لم يَدْعُ إلى عبادتِه إلَّا رحمانيَّتُه لكفى، فكيف بكلِّ جمالٍ وجلالٍ- فأنكروه؛ اقتضى الحالُ أن يُوصَلَ به إثباتُه بإثباتِ ما هم عالِمونَ به مِن آثارِ رحمانيَّتِه، ففَصَّلَ ما أُجمِلَ بعْدَ ذِكْرِ حالِ النَّذيرِ، ثمَّ مِن المُلْكِ، مُصَدِّرًا له بوَصفِ الحقِّ الذي جعَلَه مَطلِعَ السورةِ؛ رادًّا لِمَا تضمَّنَ إنكارُهم مِن نفيِه، فقال [851] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/416). :
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا.
أي: تعاظَمَ اللهُ، وكَمَلَت أوصافُه، وكثُرتْ خَيراتُه، ودامتْ وثبتَتْ بَرَكاتُه، فهو الذي جعَلَ في السَّماءِ منازِلَ للشَّمسِ والقَمَرِ في مَسيرِهما [852] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 783)، ((تفسير الرازي)) (24/479)، ((تفسير القرطبي)) (13/65)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/195)، ((تفسير ابن كثير)) (6/120)، ((تفسير الشوكاني)) (4/98)، ((تفسير السعدي)) (ص: 586)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 261، 262). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ [الحجر: 16] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك: 5] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج: 1] .
وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ سُرُجًا على الجَمعِ، قيل: المرادُ بها: ما أضاءَ مِن النُّجومِ، وقيل: المرادُ بها: الشَّمسُ، وإنَّما جاءت بصيغةِ الجَمعِ؛ لِتَعظيمِها [853] قرأ بها حمزةُ والكسائيُّ وخلَفٌ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/334). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 266)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 512)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/417). قال ابن زنجلة: (ومَن قرأ سُرُجًا: الشمسُ والقمرُ والكواكِبُ العِظامُ معها). ((حجة القراءات)) (ص: 512). وقال السمعاني: (على هذه القراءةِ قد دخَل القمرُ في السُّرُجِ، إلَّا أنَّه خصَّه بالذِّكرِ لنوعِ فَضيلةٍ له، وهذا مِثلُ قَولِه تعالى: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: 68]). ((تفسير السمعاني)) (4/28). وقال ابن عثيمين: (فعَطفُ القمَرِ المنيرِ على السُّرجِ مِن بابِ عَطفِ المتغايرينِ، لا مِن بابِ عَطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ فالقمَرُ ليس من السُّرُجِ؛ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [نوح: 16] ، فالشَّمسُ -بلا شكٍّ- سراجٌ، ولكنَّ القمرَ نورٌ؛ فعليه لا يكونُ منها). ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 263). وقال البِقاعي: (قرأ حمزةُ والكسائيُّ بصيغةِ الجَمعِ؛ للتَّنبيهِ على عَظَمتِه في ذلك، بحيثُ إنَّه أعظَمُ مِن ألوفِ ألوفٍ مِن السُّرجِ، فهو قائمٌ مقامَ الوصفِ). ((نظم الدرر)) (13/417). .
2- قِراءةُ سِرَاجًا على الإفرادِ، والمرادُ: الشَّمسُ [854] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/334). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 266)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 512). .
وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا.
أي: وخلَقَ اللهُ في السَّماءِ شَمسًا مُشرِقةً تَبعَثُ النُّورَ والحرارةَ، وقمرًا مُضيئًا في اللَّيلِ [855] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/484، 485)، ((تفسير السمرقندي)) (2/544)، ((تفسير ابن كثير)) (6/120)، ((السراج المنير)) للخطيب الشربيني (2/671)، ((تفسير السعدي)) (ص: 586). .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس: 5] .
وقال سُبحانَه: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [نوح: 16] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [النبأ: 13] .
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ الآيتينِ: الشَّمسَ والقمرَ؛ ذكَرَ ما هُما آيَتاهُ [856] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/418). .
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً.
أي: واللهُ هو الذي جعَل اللَّيلَ والنَّهارَ بحيث يَخلُفُ أحدُهما الآخَرَ، فهُما يَتعاقبانِ أبدًا، ولا يجتَمِعانِ [857] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/487)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/208)، ((تفسير ابن كثير)) (6/121)، ((تفسير السعدي)) (ص: 586). وقال البقاعي: (خِلْفَةً أي: ذوي حالةٍ معروفةٍ في الاختلاف؛ فيأتي هذا خَلفَ ذاك، بضِدِّ ما له مِن الأوصافِ، ويقومُ مقامَه في كثيرٍ مِن المراداتِ، والأشياءِ المقدَّراتِ، ويُعلَمُ قدرُ التسامُحِ فيها، ومَن فاته شَيءٌ مِن هذا قَضاهُ في ذاك). ((نظم الدرر)) (13/418). .
كما قال تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [الأعراف: 54] .
وقال سُبحانَه: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [إبراهيم: 33] .
وقال عزَّ وجلَّ: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40] .
لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا.
القِراءات ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ يَذْكُرَ على معنى: الذِّكرِ لله، وقيل: هي بمعنى يَذَّكَّرَ [858] قرأ بها حمزة، وخلَف. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/334). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القرآن)) للفراء (2/271)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 513)، ((الكشف)) لمكِّي (2/147). .
2- قراءةُ يَذَّكَّرَ أي: يَتذكَّرَ ويتَّعِظَ، ويعتبِرَ ويتفَكَّرَ في اختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ [859] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/334). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (17/489)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 513)، ((تفسير الشوكاني)) (4/99). .
لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا.
أي: جعَل اللهُ اللَّيلَ والنَّهارَ خِلفةً لِمَن أراد أن يتَّعِظَ ويعتبِرَ ويتفَكَّرَ في اختِلافِهما، أو أراد شُكرَ اللهِ على نِعَمِه، فيَعبُدُه فيهما، ويَستَدرِكُ ما فاته في أحَدِهما فيَعمَلُه في وقتِ الآخَرِ [860] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/488)، ((تفسير القرطبي)) (13/66)، ((تفسير البيضاوي)) (4/129)، ((تفسير ابن كثير)) (6/121)، ((تفسير السعدي)) (ص: 586)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/65، 66). قال ابن عاشور: (التذكُّر: تفعُّلٌ مِن الذِّكر، أي: تكَلُّفُ الذِّكر. والذِّكرُ جاء في القرآن بمعنَى التأمُّل في أدلَّةِ الدِّينِ، وجاء بمعنى: تذكُّرِ فائتٍ أو مَنسيٍّ، ويجمَعُ المعنيَينِ استِظهارُ ما احتَجب عن الفِكرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/65). وقال ابنُ عثيمين: (وأمَّا قَولُه: أَوْ أَرَادَ شُكُورًا فـ (أو) هنا هل هي للتقسيمِ والتنويعِ، بمعنى أن يجعلَ هذا قسيمًا للأوَّلِ، فتكونَ مانعةَ اجتماعٍ، أو هي مانعةُ خُلوٍّ؟ الجوابُ: مانعةُ خُلوٍّ؛ لأنَّ مانعةَ الاجتماعِ معناها أنَّه إذا وُجِدَ الأول امتنعَ الثاني، لكنْ مانعةُ الخلوِّ معناها إمَّا أن يوجَدَ هذا أو هذا، أو هما. لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا فهل يمكِنُ أن يجتَمِعا؟ نعَمْ؛ إذَنْ هي مانعةُ خُلوٍّ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 266). .
وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الله عزَّ وجلَّ يَبسُطُ يَدَه باللَّيلِ لِيَتوبَ مُسيءُ النَّهارِ، ويَبسُطُ يدَه بالنَّهارِ لِيَتوبَ مُسيءُ اللَّيلِ، حتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغربِها )) [861] رواه مسلم (2759). .
وعن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن نام عن حِزبِه أو عن شَيءٍ منه، فقرأَه فيما بيْن صَلاةِ الفَجرِ وصَلاةِ الظُّهرِ؛ كُتِب له كأنَّما قَرأَه مِنَ اللَّيلِ )) [862] رواه مسلم (747). .
وعن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها: ((أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا فاتَتْه الصَّلاةُ مِن اللَّيلِ مِن وَجَعٍ أو غَيرِه، صلَّى مِنَ النَّهارِ ثِنْتَيْ عَشْرةَ ركعةً )) [863] رواه مسلم (746). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ إشارةٌ إلى أنَّ المرءَ الكاملَ لا يَثِقُ إلَّا باللهِ؛ لأنَّ التوكُّلَ على الأحياءِ المُعرَّضينَ للموتِ لا يَدومُ [864] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/59). ؛ لأنَّه إذا مات المتوكَّلُ عليه صار المتوكِّلُ ضائِعًا، أمَّا هو سُبحانه وتعالى فإنَّه حيٌّ لا يموتُ، فلا يَضيعُ المتوكِّلُ عليه البتَّةَ [865] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/476). .
2- قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا في قوله تعالى: وَزَادَهُمْ نُفُورًا دليلٌ على أنَّ واجبَ الدَّاعِيةِ أنْ يدعوَ إلى اللهِ، سواءٌ امتَثلَ المدعوُّ أم نفَر [866] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 253). ، وألَّا يربطَ دعوتَه بنتائِجِها، بمعنى: أنَّه لا يقولُ: إنْ وجَدْتُ نتيجةً وإلَّا وقَفْتُ [867] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 257). .
3- في قَولِه تعالى: وَزَادَهُمْ نُفُورًا أنَّ عدَمَ استجابةِ المدعوِّين للدَّاعي لا يدُلُّ على فسادِ قصْدِه أو عمَلِه، ولا يدُلُّ أيضًا على تَقصيرِه، يعني: إذا دعا الإنسانُ ولكِنَّه لم يَنجَحْ، فلا يجوزُ لنا أن نَتَّهِمَه ونقولَ: هذا لو كانت نيَّتُه صالحةً لانتفَعَ الناسُ به! إذنْ هذه فائدةٌ عظيمةٌ؛ لأنَّه ربَّما يكونُ مِن بَعضِ النَّاسِ اعتِراضٌ على الدَّاعي، يقولُ: هذا الدَّاعي نيَّتُه باطِلةٌ، لو أنَّ نيَّتَه صحيحةٌ ما نفَرَ النَّاسُ منه [868] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 257). !
4- إنَّ حياةَ الإنسانِ مِن بدايتِها إلى نهايتِها مَبنيَّةٌ على الأركانِ الثلاثةِ: الإرادةِ، والفِكرِ، والعمَلِ، وهي المذكوراتُ في قَولِه تعالى: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا؛ لأنَّ التذكُّرَ بالتفَكُّرِ، والشُّكرَ بالعملِ، فاستِفادةُ الإنسانِ ممَّا خَلَقَه اللهُ له وجَعَلَه لأجْلِه لا تكونُ إلَّا بهذه الثَّلاثةِ، وهذه الثَّلاثةُ متوقِّفةٌ على ثلاثةٍ أخرى لا بُدَّ للإنسانِ منها؛ فالعملُ متوقِّفٌ على البدَنِ، والفِكرُ متوقِّفٌ على العقلِ، والإرادةُ متوقِّفةٌ على الخُلُقِ، فالتَّفكيرُ الصحيحُ مِن العقلِ الصحيحِ، والإرادةُ القويةُ مِن الخُلُقِ المتينِ، والعملُ المفيدُ مِن البدنِ السليمِ؛ فلهذا كان الإنسانُ مأمورًا بالمحافظةِ على هذه الثلاثةِ: عقْلِه، وخُلُقِه، وبدنِه؛ ودَفْعِ المضارِّ عنها، فيُثَقِّفُ عقْلَه بالعلمِ، ويُقَوِّمُ أخلاقَه بالسلوكِ النبويِّ، ويقُوِّي بدنَه بتنظيمِ الغذاءِ، وتوقِّي الأذى، والتريُّضِ على العمَلِ [869] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 191). .
5- قَولُه تعالى: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا أي: لِمن أراد أن يتذكَّرَ باللَّيلِ والنَّهارِ ويعتَبِرَ ويستَدِلَّ بهما على كثيرٍ مِن المطالِبِ الإلهيَّةِ، ويشكُرَ اللهَ على ذلك، ولِمَن أراد أن يذكُرَ اللهَ ويَشكُرَه وله وِردٌ مِن اللَّيلِ أو النَّهارِ، فمَن فاته وِردُه مِن أحَدِهما أدركَه في الآخَرِ، وأيضًا فإنَّ القُلوبَ تتقَلَّبُ وتنتَقِلُ في ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ، فيَحدُثُ لها النَّشاطُ والكسَلُ، والذِّكرُ والغَفلةُ، والقَبضُ والبَسطُ، والإقبالُ والإعراضُ، فجعَل اللهُ اللَّيلَ والنَّهارَ يتواليانِ على العبادِ ويتكرَّران؛ ليَحدُثَ لهم الذِّكرُ والنَّشاطُ والشُّكرُ لله في وَقتٍ آخَرَ، ولأنَّ أورادَ العباداتِ تتكرَّرُ بتكَرُّرِ اللَّيلِ والنَّهارِ، فكلَّما تكرَّرت الأوقاتُ أحدَثَ للعبدِ هِمَّةً غَيرَ هِمَّتِه التي كَسِلت في الوَقتِ المتقَدِّم، فزاد في تذكُّرِها وشُكرِها، فوظائِفُ الطَّاعاتِ بمنزلةِ سَقيِ الإيمانِ الذي يمُدُّه، فلولا ذلك لَذَوى غَرسُ الإيمانِ ويَبِسَ [870] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 586). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا هذا مِن ألطَفِ خِطابِ القرآنِ وأشرفِ معانيه، وأنَّ المؤمنَ دائمًا مع اللهِ على نفْسِه وهواه وشَيطانِه وعدوِّ ربِّه، وهذا معنى كونِه مِن حزبِ اللهِ وجُندِه وأوليائِه؛ فهو معَ اللهِ على عدوِّه الداخلِ فيه والخارجِ عنه، يُحاربُهم ويُعاديهم ويُغضِبُهم له سُبحانَه، كما يكونُ خَواصُّ الملِكِ معه على حَربِ أعدائِه، والبعيدونَ منه فارِغونَ مِن ذلك، غيرُ مهتمِّينَ به، والكافِرُ معَ شيطانِه ونفْسِه وهواهُ على ربِّه. وعباراتُ السَّلَفِ على هذه تدورُ، فمعنى الآيةِ أنَّه يوالي عدُوَّه على معصيتِه والشِّركِ به، فيكونُ مع عدوِّه مُعينًا له على مَساخِطِ رَبِّه، فالمَعيَّةُ الخاصَّةُ التي للمؤمِنِ مع ربِّه وإلهِه قد صارت لهذا الكافِرِ والفاجِرِ مع الشيطانِ ومع نفْسِه وهواهُ وقُربانِه؛ ولهذا صدَّر الآيةَ بقَولِه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ [الفرقان: 55] ، وهذه العبادةُ هي الموالاةُ والمحبَّةُ والرِّضا بمعبوديهم، المتضَمِّنةُ لمعيَّتِهم الخاصَّةِ، فظاهَروا أعداءَ اللهِ على معاداتِه ومخالفتِه ومَساخِطِه، بخلافِ وليِّه سُبحانَه؛ فإنَّه معه على نفْسِه وشيطانِه وهواه، وهذا المعنى مِن كنوزِ القُرآنِ لِمَن فَهِمَه وعَقَلَه، وبالله التوفيقُ [871] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 79). .
2- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لَمَّا كان سياقُ السُّورةِ للإنذارِ -لِمَا ذُكِر فيها مِن سوءِ مقالِهم، وقُبْحِ أفعالِهم- حَسُنَ التعبيرُ في البِشارةِ بما يدُلُّ على كثرةِ الفِعلِ، ويُفهِمُ كثرةَ المفعولِ؛ بِشارةً بكثرةِ المطيعِ، وفي النِّذارةِ بما يقتضي أن يكونَ صفةً لازمةً، فقال: إِلَّا مُبَشِّرًا أي: لكُلِّ مَن يؤمِنُ، وَنَذِيرًا لكلِّ مَن يعصي [872] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/411). .
3- في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ سؤالٌ: أنَّ الأيَّامَ عِبارةٌ عن حرَكاتِ الشمسِ في السَّمواتِ، فقَبْلَ السَّمواتِ لا أيَّامَ، فكيف قال اللهُ: خَلَقَها في ستَّةِ أيَّامِ؟
الجوابُ: يعني في مُدَّةٍ مِقدارُها هذه المدَّةُ [873] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/477). .
4- في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ سؤالٌ: لِمَ لمْ يَخلُقْها سُبحانَه في لحظةٍ وهو قادِرٌ على ذلك؟
والجوابُ مِن وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّه يَجِبُ على المُكَلَّفِ أن يَقطَعَ الطَّمَعَ عن مِثلِ هذا؛ فإنَّه بَحرٌ لا ساحِلَ له، مِن ذلك تَقديرُ الملائِكةِ الذين هم أصحابُ النَّارِ بتِسعةَ عَشَرَ، وحَملةِ العَرشِ بثَمانيةٍ، والشُّهورِ باثنَي عَشَرَ، والسَّمَواتِ بالسَّبْعِ، وعَدَدِ الصَّلواتِ، ومَقاديرِ النُّصُبِ في الزَّكَواتِ، والحُدودِ والكَفَّاراتِ؛ فالإقرارُ بأنَّ كُلَّ ما قاله اللهُ حَقٌّ: هو الدِّينُ، والواجِبُ تَركُ البَحثِ عن هذه الأشياءِ.
الثَّاني: ما جاء عن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ: (إنَّما خَلَقَها في سِتَّةِ أيَّامٍ، وهو قادرٌ أنْ يُخلَقَها في لَحظةٍ واحِدةٍ؛ تَعليمًا لخلْقِه الرِّفقَ والتثَبُّتَ) [874] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/669). والأثر ذكره الثعلبيُّ في ((تفسيره)) (4/238). .
5- اسمُ الرَّحمنِ هو على وزنِ (فَعْلان) الذي يدُلُّ على سَعةِ هذا الوَصفِ، وثبوتِ جَميعِ معناه الموصوفِ به، ألا ترَى أنَّهم يقولونَ: (غَضبانُ) للمُمتلئِ غَضَبًا، و: (نَدْمانُ وحَيرانُ وسَكْرانُ ولَهْفانُ)، لِمن مُلئَ بذلك، فبناءُ (فَعلان) للسَّعةِ والشُّمولِ؛ ولهذا يَقرِنُ استِواءَه على العَرشِ بهذا الاسمِ كثيرًا، كقَولِه تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ، فاستوى على عرشِه باسمِ «الرَّحمنِ»؛ لأنَّ العرشَ محيطٌ بالمخلوقاتِ قد وَسِعَها، والرَّحمةَ محيطةٌ بالخَلقِ واسِعةٌ لهم، كما قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] ، فاستوَى على أوسَعِ المخلوقاتِ بأوسعِ الصِّفاتِ؛ فلذلك وَسِعَتْ رحمتُه كلَّ شيءٍ، وفي الصَّحيحِ مِن حديثِ أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لَمَّا قضَى اللهُ الخَلْقَ كتَب في كتابٍ فهو عندَه موضوعٌ على العرشِ: إنَّ رحمتي تغلِبُ غَضَبي )) [875] أخرجه البخاري (7404)، ومسلم (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، وفي لفظٍ: ((فهو عندَه على العَرشِ)) [876] أخرجه البخاري (7404). . فتأمَّلِ اختِصاصَ هذا الكِتابِ بذِكرِ الرَّحمةِ، ووضْعِه عندَه على العَرشِ، وطابِقْ بيْنَ ذلك وبيْن قَولِه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ، وقَولِه: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان: 59] ؛ ينفَتِحْ لك بابٌ عظيمٌ مِن معرفةِ الربِّ تبارك وتعالى إنْ لم يُغلِقْه عنك التَّعطيلُ والتجَهُّمُ [877] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/56، 57). .
6- قال الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى بعد ذلك عَلَى الْعَرْشِ أثبَتَ اللهُ تعالى بهذه الآيةِ خَلْقَه للمخلوقاتِ، واطِّلاعَه على ظاهرِهم وباطنِهم، وعُلوَّه فوقَ العرشِ، ومباينتَه إيَّاهم [878] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 585). .
7- في قَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أنَّ الاستِواءَ مِن الصِّفاتِ الفِعليَّةِ، ليس مِن الصِّفاتِ الذاتيَّةِ؛ لأنَّه مرتَّبٌ بعْدَ خلْقِ السَّمواتِ، يعني: حادِثًا [879] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 246). .
8- في قَولِه تعالى: الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا أنَّه لا تُطلَبُ معرفةُ اللهِ إلَّا مِن اللهِ؛ مِن الخبيرِ به، وهو اللهُ سُبحانَه وتعالى -على قولٍ في التفسيرِ-. وهذه الآيةُ تَشهَدُ لِمَا عليه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ مِن أنَّ أسماءَ اللهِ وصفاتِه توقيفيَّةٌ، لا يجوزُ لأحدٍ أن يُثبِتَ منها إلَّا ما أثبَتَه اللهُ ورسولُه، يعني: أنَّ وصْفَ اللهِ تعالى لا يكونُ إلَّا بحسَبِ ما عَلِمْناه منه، فلا يمكِنُ أن نَصِفَ اللهَ تعالى بما لم يَصِفْ به نفْسَه [880] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 247). !
9- في قَولِه تعالى: اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ أنَّ السُّجودَ مِن أسبابِ الرَّحمةِ، سواءٌ السجودُ العامُّ أو السُّجودُ الخاصُّ؛ فإنَّه مِن أسبابِ الرَّحمةِ؛ ولهذا لم يَقُلْ: «اسجُدوا للهِ»، بل قال: اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ، يعني: لِتَصِلوا إلى رحمةِ هذا المَسجودِ له [881] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 258). .
10- مِن عادةِ الكُفَّارِ إنكارُ ما لا يَعرفونَ، سواءٌ كان عمليًّا أو اعتقاديًّا؛ لِقَولِه تعالى: قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا [882] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 256). .
11- قال الله تعالى: قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا إنَّ تعطيلَ الجَهميَّةِ وشِبهِهم أعظَمُ مِن تعطيلِ هؤلاء، فإذا كان هؤلاء كُفْرُهم بإنكارِ الرَّحمنِ، فكيف بمَن يُنكِرُ جميعَ الأسماءِ، مِن الجهميَّةِ ونحوِهم؟! ومعروفٌ أنَّ المعتزلةَ لا يُنكِرون الأسماءَ، لكنْ يُنكِرُها غُلاةُ الجهميَّةِ، ومعلومٌ أنَّ الذي يُنكِرُ الأسماءَ أعظَمُ مِن الذي يُنكِرُ اسمًا واحدًا، والكفَّارُ يُقِرُّون باللهِ ويُقِرُّون بالرَّحيمِ، لم يُنكِروا إلَّا الرَّحمنَ، قالوا: ما نعرفُ إلَّا رحمنَ اليمامةِ [883] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 256). !
12- في قَولِه تعالى: وَزَادَهُمْ نُفُورًا أنَّ المعاصيَ يَجُرُّ بعضُها بعضًا [884] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 258). .
13- في قَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا أنَّه لَمَّا كان جَعلُ اللَّيلِ والنهارِ خِلفةً لأجلِ التذكُّرِ والعمَلِ، كان كلُّ واحدٍ منهما صالحًا للعمَلِ الذي يُعمَلُ في صاحبِه، فمَن فاته عَمَلٌ بالليلِ أتَى به في النَّهارِ، ومَن فاته عَمَلٌ بالنَّهارِ أتَى به في الليلِ، وهذا إذا كان مِن العاداتِ فهو على سبيلِ التدارُكِ، وإذا كان مِن العباداتِ فهو على سبيلِ القضاءِ [885] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 191). ، وفيه حجَّةٌ في قضاءِ النَّوافلِ [886] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/512). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا
- قولُه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواوُ للحالِ، وهذا مُستعمَلٌ في التَّعجُّبِ مِن استِمرارِهم في الشِّركِ؛ أُعقِب ذِكرَ ما نَفَع اللهُ به النَّاسَ مِن إلطافِه بهم في تَصاريفِ الكائناتِ؛ إذْ جَعَل لهمُ اللَّيلَ والنَّهارَ، وخَلَق لهمُ الماءَ، فأنبَتَ به الزَّرعَ، وسَقَى به النَّاسَ والأنعامَ، مع ما قارَنَه مِن دَلائلِ القُدرةِ، بذِكرِ عبادتِهم ما لا يَنفَعُ النَّاسَ؛ عَوْدًا إلى حكايةِ شَيءٍ مِن أحوالِ مُشْركي مكَّةَ [887] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/56). .
- والتَّعبيرُ بصِيغةِ المُضارعِ (يَعْبُدُونَ)؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ عبادتِهمُ الأصنامَ، وعدَمِ إجداءِ الدَّلائلِ [888] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/56). . فالتعبيرُ بالمضارعِ فيه إشارةٌ إلى أنَّهم لو فعَلوا ذلك مرَّةً لكان في غايةِ العجبِ، فكيفَ وهو على سبيلِ التجديدِ والاستمرارِ؟! وهو مصوِّرٌ لحالِهم زيادةً في تبشيعِها [889] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/409). .
- قولُه: مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ فيه نَفيُ الضُّرِّ بَعْدَ نَفيِ النَّفعِ؛ للتَّنبيهِ على انتِفاءِ شُبهةِ عَبَدةِ الأصنامِ في شِركِهِم؛ لأنَّ موجبَ العبادةِ إمَّا رَجاءُ النَّفعِ، وإمَّا اتِّقاءُ ضُرِّ المَعبودِ، وكِلاهما مُنتَفٍ عنِ الأصنامِ بالمُشاهَدةِ [890] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/56). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ قُدِّمَ هنا النَّفعُ على الضُّرِّ، فقالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ، وعكَسَ ذلك في سُورةِ (يونسَ) فقالَ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [يونس: 18] ، وفائِدتُه: أنَّه في سُورةِ (يونسَ) بدَأَ بما هو أبلَغُ إذا ابتُدئَ به؛ لأنَّ امتِلاكَ الضُّرِّ أَسهَلُ مِنَ امتِلاكِ النَّفعِ؛ فالواحدُ منَّا يَقدِرُ لغَيرِه مِنَ الضُّرِّ ما لا يَقدِرُ عليه مِنَ النَّفعِ، ويتَسهَّلُ عليه ضُرُّه ما لا يَتسهَّلُ عليه نفْعُه، أي: يَعبُدون أصنامًا لا تَقدِرُ على ما يَتسهَّلُ على الفاعِلينَ؛ فكيف ما يَتعذَّرُ؟! ثمَّ ذَكَر بَعدَه: وَلَا يَنْفَعُهُمْ لاستِيعابِ ما في البابِ. وأمَّا هنا في سورةِ (الفُرقانِ) فإنَّه تَبِعَ على ما قُدِّمَ فيه الأفضلُ على الأَنقصِ؛ لقَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [الفرقان: 53] ، وقولِه بعْدَه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [الفرقان: 54] ، فقَدَّمَ خِلطةَ النَّسبِ على خِلطةِ السَّببِ -وهي المُصاهَرةُ-، ثمَّ جاءَ بعدَ ذلك: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ؛ فقَدَّم النَّفعَ على الضُّرِّ اتِّباعًا لِمَا تقدَّمَ [891] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 959)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 405). .
- وأيضًا لَمَّا كان هذا السياقُ لِتَعدادِ نِعَمِه سُبحانَه، وكان الحامِلُ للإنسانِ على الإذعانِ رجاءَ الإحسانِ أو خوفَ الهَوانِ، وكان رجاءُ الإحسانِ مُقبِلًا به إلى المحسِنِ في السِّرِّ والإعلانِ- قَدَّمَ النفعَ فقال: مَا لَا يَنْفَعُهُمْ أي: بوَجهٍ، ولَمَّا كان الخوفُ إنَّما يوجِبُ الإقبالَ ظاهِرًا فقط؛ أتبَعَه قولَه: وَلَا يَضُرُّهُمْ أي: أصلًا في إزالةِ نعمةٍ مِن نِعَمِ اللهِ عنهم، فلا أسخَفَ عقلًا ممَّن يترُكُ مَن بيدِه كلُّ نفعٍ وضرٍّ، وهو يتقلَّبُ في نِعَمِه في يقظتِه ونومِه، وأمسِه ويومِه، ويُقبِلُ على مَن لا نَفعَ بيَدِه ولا ضُرَّ أصلًا [892] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/409). !
- قولُه: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا تَذْييلٌ لِما قَبلَه؛ فاللَّامُ في تَعريفِ الكافرِ للاستِغراقِ، أي: كُلُّ كافرٍ على ربِّه ظَهيرٌ. وجُعِل الخَبرُ عنِ الكافرِ خَبرًا لـ (كان)؛ للدَّلالةِ على أنَّ اتِّصافَه بالخبرِ أمْرٌ مُتقرِّرٌ مُعتادٌ مِن كلِّ كافرٍ. وكذلك جُعِل المُشرِكُ في إشراكِه -مع وُضوحِ دَلالةِ عدَمِ استِئهالِ الأصنامِ للإلهيَّةِ- كأنَّه يَنصُرُ الأصنامَ على ربِّه الحقِّ [893] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/56، 57). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (3/287)، ((تفسير البيضاوي)) (4/128)، ((تفسير أبي حيان)) (8/119)، ((تفسير أبي السعود)) (6/226). .
- قَولُه: وَكَانَ الْكَافِرُ فيه إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ، فالسياقُ يقتضي أنْ يقولَ: (وكانوا على ربِّهم)، لكنْ قال: وَكَانَ الْكَافِرُ إشارةً إلى أنَّ هذه العبادةَ أوصلَتْهم إلى الكُفرِ، وأيضًا لفائدةِ التعميمِ [894] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 227). .
- وفي ذِكرِ الرَّبِّ تعالى: تَعريضٌ بأنَّ الكافرَ عاقٌّ لمَولاهُ [895] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/57). .
2- قولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [896] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/119). . وهذا الكلامُ الواردُ في الرَّدِّ عليهم جامعٌ بيْن إبطالِ إنكارِهم لرِسالتِه وبيْن تأنيسِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنَّه ليس بمُضِلٍّ، ولكنَّه مُبشِّرٌ ونَذيرٌ. وفيه تَعريضٌ بألَّا يَحزَنَ لتَكذيبِهم إيَّاهُ [897] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/57). .
- وهاهنا نُكتةٌ شَريفةٌ؛ وهي أنَّه تعالى لَمَّا خَصَّ ذِكرَ النَّذيرِ في فاتحةِ السُّورةِ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان: 1] أَمسَكَ عن ذِكرِ المؤْمنينَ، وحين قَرَنه بالبَشيرِ في هذه الآيةِ، أتَى بذِكرِ الفَريقَينِ -أَعْني: قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [الفرقان: 60] ، وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ [الفرقان: 63] -؛ لتَكونَ الخاتِمةُ مُشتمِلةً على ذِكرِ الأولياءِ، فلا تَخْلو السُّورةُ مِن ذِكرِهم [898] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/261، 262). .
3- قولُه تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا
- قولُه: إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا استِثناءٌ، وهو تأكيدٌ لنَفيِ أنْ يَكونَ يَسألُهم أجْرًا؛ لأنَّه استِثناءٌ مِن أحوالٍ عامَّةٍ مَحذوفٍ ما يدُلُّ عليها لقَصدِ التَّعميمِ، والاستِثناءُ مِعيارُ العُمومِ؛ فلذلك كثُرَ في كلامِ العربِ أن يُجعَلَ تأكيدُ الفِعلِ في صورةِ الاستِثناءِ، ويُسمَّى تأكيدَ المدحِ بما يُشْبِهُ الذَّمَّ، أو: تأكيدَ الشَّيءِ بما يُشبِهُ ضِدَّه؛ فقَولُه تعالى: إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا مِن قَبيلِ التأكيدِ في الجُملةِ؛ لأنَّ الكلامَ على حذْفِ مُضافٍ يُناسِبُ أجْرًا؛ إذِ التَّقديرُ: إلَّا عمَلَ مَن شاءَ أن يَتَّخِذَ إلى ربِّه سبيلًا، وذلك هو اتِّباعُ دِينِ الإسلامِ. ولَمَّا كان هذا إجابةً لدَعوةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَشبَهَ الأجرَ على تلك الدَّعوةِ، وقد يُسمَّى مِثلُ هذا الاستِثناءِ: الاستِثناءَ المُنقطِعَ، ويُقدِّرونه كالاستِدراكِ [899] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/58). .
- وقدْ صَوَّرَ ذلك بصُورةِ الأجرِ مِن حيثُ إنَّه مَقصودُ الإتيانِ به، واستَثنَى منه قلعًا كُلِّيًّا لشَائبةِ الطَّمعِ، وإظهارًا لغايةِ الشَّفقةِ عليهم، حيثُ جَعَل ذلك مع كَونِ نَفعِه عائدًا إليهم، عائدًا إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [900] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/288)، ((تفسير أبي السعود)) (6/226). .
- وجُعِل السَّبيلُ هنا إلى اللهِ؛ لأنَّه وسيلةٌ إلى إجابتِه فيما دَعاهُم إليه، وهذا كقَولِه تعالى: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا [النبأ: 39] . وذِكرُ وصْفِ الرَّبِّ دُونَ الاسمِ العَلَمِ؛ للإشارةِ إلى استِحقاقِه السَّيرَ إليه؛ لأنَّ العبدَ مَحقوقٌ بأن يَرجِعَ إلى ربِّه، وإلَّا كان آبِقًا [901] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/58). .
4- قولُه تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا
- قولُه: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ هذا أمرٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو يَشمَلُ الأُمَّةَ ما لم يكنْ دَليلٌ على الخُصوصيَّةِ [902] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/59). . وأصلُ الكلامِ: تَوكَّلْ علَيَّ، ثمَّ حُوِّل إلى: تَوكَّلْ على اللهِ؛ فخَصَّ الحَيَّ الَّذي لا يَموتُ بالذِّكرِ؛ ليَكونَ تَعريضًا بأنَّ غَيرَه لا يَصِحُّ أن يُتوكَّلَ عليه؛ أمَّا الأصنامُ فإنَّها أَمواتٌ لا يُكْفى أمْرُ مَن يَتوكَّلُ عليها، وأمَّا الأحياءُ الَّذين يَموتون فإنَّهم إذا ماتوا ضاعَ المُتوكِّلُ. أو نقولُ: إنَّ التَّركيبَ مِن بابِ تَرتيبِ الحُكمِ على الوَصفِ المُناسِبِ، وهو أنَّ المتوكِّلَ إذا عَلِم أنَّ المُتوكَّلَ عليه دائِمٌ باقٍ يَعتَمِدُ عليه بشَراشِرِه -أي: بكُلِّيَّتِه-، ولا يَتوزَّعُ خاطِرُه إلى الغَيرِ بخِلافِه إذا لم يَكنْ كذلك؛ فإذَنْ لا يَصِحُّ التَّوكُّلُ إلَّا على الحَيِّ الَّذي لا يَموتُ، وهو اللهُ تعالى؛ فصَحَّ الحَصرُ [903] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/269، 270). .
- قولُه: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وصَفَ تعالى نفْسَه بالصِّفةِ الَّتي تَقتَضي التَّوكُّلَ في قَولِه: الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ؛ لأنَّ هذا المعنى يختصُّ به تعالى دُونَ كلِّ حَيٍّ، كما قال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [904] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/120). [القصص: 88] .
- قولُه: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وصْفٌ بالصِّفةِ الفِعليَّةِ بعدَ وصْفِه بالأبَديَّةِ الَّتي هي مِنَ الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ. والإشارةُ إلى اتِّصافِه بالعِلمِ الشَّاملِ؛ لتَقريرِ وُجوبِ التَّوكُّلِ عليه تعالى وتَأكيدِه؛ فإنَّ مَن أَنشَأَ هذه الأجرامَ العِظامَ على هذا النَّمطِ الفائقِ، والنَّسَقِ الرَّائقِ، بتَدبيرٍ مَتينٍ، وتَرتيبٍ رَصينٍ، في أوقاتٍ مُعيَّنةٍ، مع كمالِ قُدرتِه على إبداعِها دَفعةً، لحِكَمِ جليلةٍ، وغاياتٍ جميلةٍ، لا تَقِفُ على تفاصيلِها العُقولُ: أَحَقُّ مَن يُتوكَّلُ عليه، وأَوْلى مَن يُفوَّضُ الأمرُ إليه [905] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/227). .
- قولُه: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ الحَيُّ الَّذي لا يَموتُ هو اللهُ تعالى، وعَدَل عنِ اسم ِالجلالةِ إلى هذَينِ الوَصفَينِ؛ لِما يؤْذِنُ به مِن تَعليلِ الأمرِ بالتَّوكُّلِ عليه؛ لأنَّه الدَّائمُ، فيُفيدُ ذلك معنَى حَصرِ التَّوكُّلِ في الكَونِ عليه؛ فالتَّعريفُ في الحَيِّ للكاملِ، أي: الكاملِ حياتُه؛ لأنَّها واجبةٌ باقيةٌ مُستمِرَّةٌ، وحياةُ غَيرِه مُعرَّضةٌ للزَّوالِ بالمَوتِ، ومُعرَّضةٌ لاختِلالِ أثَرِها بالذُّهولِ كالنَّومِ ونَحوِه، فإنَّه مِن جِنسِ المَوتِ؛ فالتَّوكُّلُ على غَيرِه مُعرَّضٌ للاختِلالِ وللانخِرامِ. وفي ذِكرِ الوَصفَينِ تَعريضٌ بالمشرِكينَ؛ إذْ ناطُوا آمالَهم بالأصنامِ، وهي أمواتٌ غيرُ أَحياءٍ [906] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/59). .
- ولَمَّا كان الوَكيلُ يَحمِلُ عن الموكِّلِ ثِقَلَ ما أظهَرَ له عَجْزَه فيه، ويَقومُ بأَعبائِه حتَّى يَصيرَ كمَنْ يَحمِلُ عن آخَرَ عَينًا مَحسوسةً لا يَصيرُ له عليه شَيءٌ منها أصلًا؛ عَبَّر بحرفِ الاستِعلاءِ تَمثيلًا لذلك، فقال: عَلَى الْحَيِّ [907] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/413). .
- قولُه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ الباءُ في بِحَمْدِهِ للمُصاحَبةِ، أي: سبِّحه تَسبيحًا مُصاحِبًا للثناءِ عليه بما هو أهلُه، وقد جَمَع له في هذا الأمرِ التَّخليةَ والتَّحليةَ، مُقدِّمًا التَّخليةَ؛ لأنَّ شأنَ الإصلاحِ أن يَبدَأ بإزالةِ النَّقصِ [908] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/59). .
- قولُه: وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا اعتِراضٌ في آخِرِ الكلامِ، فيُفيدُ معنَى التَّذييلِ؛ لِما فيه مِنَ الدَّلالةِ على عمومِ عِلمِه تعالى بذُنوبِ الخَلْقِ، ومِن ذلك أحوالُ المُشركينَ الَّذين هُم غرَضُ الكلامِ؛ ففي (ذُنوبِ عِبادِهِ) عُمومانِ: عُمومُ ذُنوبِهم كلِّها؛ لإفادةِ الجَمعِ المُضافِ عمومَ إفرادِ المُضافِ، وعمومُ النَّاسِ؛ لإضافةِ (عِبادِ) إلى ضَميرِ الجلالةِ، أي: جميعِ عِبادِه، مع ما في صيغةِ (خَبير) مِن شدَّةِ العِلمِ، وهو يَستلزِمُ العُمومَ؛ فكان كعُمومٍ ثالثٍ [909] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/59، 60). .
- والعِلمُ بالذُّنوبِ كِنايةٌ عن لازِمِه، وهو أنَّه يُجازيهم على ذُنوبِهم [910] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/60). .
- وأيضًا في قولِه: وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا تَعريضٌ بتَسليةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما يُلاقيهِ مِن أَذاهُم، ووعيدٌ للكفَّارِ [911] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/120)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/60). .
5- قولُه تعالى: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا في ذِكرِ هذه الآيةِ زِيادةُ تَقريرٍ لكَونِه حَقيقًا بأنْ يُتوكَّلَ عليه؛ مِن حيثُ إنَّه الخالقُ للكلِّ والمُتصرِّفُ فيه، وتَحريضٌ على الثَّباتِ والتَّأنِّي في الأمرِ؛ فإنَّه تعالى مع كَمالِ قُدرتِه وسرعةِ نَفاذِ أمْرِه في كلِّ مُرادٍ خلَقَ الأشياءَ على تؤَدَةٍ وتَدرُّجٍ [912] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/129). .
- وأُجريَتْ هذه الصِّلةُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... وصْفًا ثانيًا لـ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الفرقان: 58] ؛ لاقتِضائِها سَعةَ العِلمِ، وسَعةَ القُدرةِ، وعَظيمَ المجدِ؛ فصاحبُها حَقيقٌ بأنْ يُتوكَّلَ عليه، ويُفوَّضَ أمْرُ الجزاءِ إليه. وهذا تَخلُّصٌ إلى العَودِ إلى الاستِدلالِ على تَصرُّفِ اللهِ تعالى بالخَلقِ [913] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/60). .
- وقولُه: الرَّحْمَنُ هو خَبرُ مبتدأٍ مَحذوفٍ، أي: هو الرَّحمنُ - وذلك على قولٍ-، وهذا مِن حذْفِ المُسنَدِ إليه الغالِبِ في الاستِعمالِ عِندَ ما تَتقدَّمُ أَخبارٌ أو أوصافٌ لصاحبِها، ثمَّ يُرادُ الإخبارُ عنه بما هو إفصاحٌ عن وصْفٍ جامعٍ لِما مضَى أو أهَمَّ في الغرضِ ممَّا تَقدَّمَه؛ فإنَّ وصْفَ الرَّحمنِ أهَمُّ في الغرضِ المَسوقِ له الكلامُ، وهو الأمرُ بالتَّوكُّلِ عليه؛ فإنَّه وصْفٌ يَقتَضي أنَّه يُدبِّرُ أُمورَ مَن تَوكَّلَ عليه بقَويِّ الإسعافِ [914] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/60). .
- وفُرِّعَ على وَصْفِه بالرَّحمنِ قَولُه: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا؛ للدَّلالةِ على أنَّ في رَحمتِه مِنَ العَظَمةِ والشُّمولِ ما لا تَفِي فيه العِبارةُ، فيَعدِلُ عن زِيادةِ التَّوصيفِ إلى الحَوالةِ على عَليمٍ بتَصاريفِ رَحمتِه، مُجرِّبٍ لها، مُتلَقٍّ أحاديثَها ممَّن عَلِمَها وجرَّبَها [915] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/61). ، وذلك على قولٍ في التفسيرِ.
- وتَنكيرُ خَبِيرًا؛ للدَّلالةِ على العُمومِ، فلا يَظنُّ خبيرًا مُعَيَّنًا؛ لأنَّ النَّكِرةَ إذا تَعلَّقَ بها فِعلُ الأمرِ اقتَضَتْ عُمومًا؛ فقوله: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا يَجري مَجرَى المَثَلِ، ولَعلَّه مِن مُبتكَراتِ القُرآنِ، نَظيرَ قَولِ العربِ: «على الخَبيرِ سَقَطْتَ»، يَقولُها العارِفُ بالشَّيءِ إذا سُئِل عنه. والمَثَلانِ وإنْ تَساوَيَا في عددِ الحُروفِ المَنطوقِ بها؛ فالمَثَلُ القُرآنيُّ أَفصَحُ؛ لسَلامتِه مِن ثِقَلِ تَلاقي القافِ والطَّاءِ والتَّاءِ في (سقَطْتَ)، وهو أيضًا أَشرَفُ؛ لسَلامتِه مِن مَعنَى السُّقوطِ. وهو أَبلَغُ مَعنًى؛ لِما فيه مِن عُمومِ كلِّ خَبيرٍ، بخِلافِ قَولِهم: «على الخَبيرِ سقَطْتَ»؛ لأنَّها إنَّما يَقولُها الواحدُ المُعَيَّنُ [916] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/61). .
- والباءُ في قولُه: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا يَجوزُ أن تَكونَ مُتعلِّقةً بـ خَبِيرًا، وتَقديمُ المَجرورِ للرَّعيِ على الفاصِلةِ، وللاهتِمامِ [917] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/61). .
6- قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا لَمَّا جَرَى وصْفُ اللهِ تعالى بالرَّحمن مع صِفاتٍ أُخَرَ؛ استَطرَدَ بذِكْرِ كُفرِ المُشركينَ بهذا الوَصفِ، والخَبرُ هنا مُستعمَلٌ كِنايةً في التَّعجُّبِ مِن عِنادِهم وبُهتانِهم، وليس المَقصودُ إفادةَ الإخبارِ عنهم بذلك؛ لأنَّه أمْرٌ مَعلومٌ مِن شأنِهم [918] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/61، 62). .
- قولُه: قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ استَفهَمَ كُفَّارُ قُرَيشٍ عنِ الرَّحمنِ استِفهامَ مَن يَجهَلُه وهُم عالِمونَ به؛ فأَظهَروا التَّجاهُلَ بهذه الصِّفةِ الَّتي للهِ؛ مُغالَطةً منهم ووقاحةً، فقالوا: وَمَا الرَّحْمَنُ، وهُم عارِفونَ به وبصِفتِه الرَّحمانيَّةِ، كما قال فِرعونُ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23] حين قال له موسى: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 104] على سَبيلِ المُناكَرةِ، وهو عالِمٌ برَبِّ العالَمينَ [919] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/122). ! فـ (ما) في قَولِه: وَمَا الرَّحْمَنُ استِفهاميَّةٌ، والاستِفهامُ مُستعمَلٌ في الاستِغرابِ، يَعْنونَ تَجاهُلَ هذا الاسمِ؛ ولذلك استَفهَموا عنه بـ (ما) دُونَ (مَن)، باعتِبارِ السُّؤالِ عن معنَى هذا الاسمِ [920] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/62). .
- والاستِفهامُ في قَولِه: أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا استِفهامُ إنكارٍ وامتِناعٍ [921] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/62). .
- ومَفعولُ تَأْمُرُنَا في قولِه: أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ الكلامِ عليه، تَقديرُه: يَأمُرُنا سُجودَه، نَحوَ قَولِهم: أَمَرْتُك الخَيرَ [922] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/289)، ((تفسير أبي حيان)) (8/122). .
- قولُه: وَزَادَهُمْ نُفُورًا فيه إسنادُ زيادةِ النُّفورِ إلى القَولِ؛ لأنَّه سبَبُ تلك الزِّيادةِ، فهُم كانوا أصحابَ نُفورٍ مِن سُجودٍ للهِ، فلمَّا أُمِروا بالسُّجودِ للرَّحمن زادُوا بُعدًا مِنَ الإيمانِ، وهذا كقَولِه في سورةِ (نوح): فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا [923] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/63). [نوح: 6] .
7- قولُه تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا استِئنافٌ ابتِدائيٌّ؛ جُعِل تمهيدًا لقَولِه: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ... الآياتِ [924] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/63، 64). [الفرقان: 63] .
- قولُه: وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا على قِراءةِ (سُرُجًا) بالجَمعِ، وهو يَجمَعُ الأنوارَ؛ يكونُ خَصَّ القمرَ بالذِّكرِ تَشريفًا [925] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/124). . وقولُه: (سُرُجًا) جَمعُ سِراجٍ؛ فيَشمَلُ مع الشَّمسِ النُّجومَ؛ فيكونُ امتِنانًا بحُسنِ مَنظرِها للنَّاسِ، كقَولِه: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [الملك: 5] . والكلامُ جارٍ على التَّشبيهِ البَليغِ؛ لأنَّ حقيقةَ السِّراجِ: المِصباحُ الزَّاهِرُ الضِّياءِ. والمقصودُ: أنَّه جَعَل الشَّمسَ مُزِيلةً للظُّلْمةِ كالسِّراجِ، أو خَلَقَ النُّجومَ كالسِّراجِ في التَّلأْلُؤِ وحُسنِ المَنظرِ [926] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/64). .
8- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا
- اختِيرَتْ لَفظةُ (الخِلْفةِ) هنا؛ لدَلالتِها على الهيئةِ، فتكونُ مُنبِّهةً على هيئةِ هذا الاختِلافِ؛ بالطُّولِ والقِصَرِ المُختلفينِ في جِهاتٍ مِن الأرضِ، وذلك مُنبِّهٌ على أسبابِ هذا الاختِلافِ مِن وضْعِ جِرمِ الأرضِ وجِرمِ الشَّمسِ، وذلك كلُّه مِن آياتِ اللهِ الدَّالَّةِ عليه، وبتلك الهيئةِ مِنَ الاختلافِ المُقدَّرِ المُنظَّمِ عَظُمَت النِّعمةُ على البشرِ، وشَمِلَتْهم الرَّحمةُ؛ فكانتْ هذه اللَّفظةُ الواحدةُ مُنبِّهةً على ما في اختِلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ مِن آيةٍ دالَّةٍ، ومِن نِعمةٍ عامَّةٍ؛ وهكذا جميعُ ألْفاظِ القرآنِ في انتِقائِها لِمواضعِها [927] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 190). .
- والجارُّ في لِمَنْ أَرَادَ يتعلَّقُ بـ جَعَلَ، وكان الجَعلُ لهما؛ لأنَّهما المُستفيدانِ منه، ولم يُكرِّرِ الاسمَ الموصولَ؛ لأنَّ الشَّخصَ الواحدَ يُمكِنُ أنْ يتَّصِفَ بالصِّفتينِ معًا. وكرَّرَ فِعلَ الإرادةِ؛ لأنَّها لا بدَّ منها في التَّذكُّرِ وفي الشُّكرِ [928] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 190). .
- قولُه: خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا جِيءَ في جانبِ المُتذكِّرينَ بقَولِه: أَنْ يَذَّكَّرَ؛ لدَلالةِ المضارعِ على التَّجدُّدِ والحُدوثِ؛ فإنَّ الغَفلةَ مُستوليةٌ على الإنسانِ، والآياتُ المرئيَّةُ ما تَزالُ تُحدِثُ له التذكُّرَ وتُجدِّدُه له. واقتَصَر في جانبِ الشَّاكِرينَ على المصدرِ بقَولِه: أَوْ أَرَادَ شُكُورًا؛ لأنَّ الشُّكرَ يَحصُلُ دَفعةً. ولأجْلِ الاختِلافِ بيْن النَّظْمَينِ أُعيدَ فِعلُ (أَرَادَ)؛ إذْ لا يَلتئِمُ عَطْفُ شُكُورًا على أَنْ يَذَّكَّرَ، وقيل: شُكُورًا؛ لمُناسَبةِ رُؤوسِ الآيِ [929] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 190)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/66). .
- قولُه: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا نَشْرٌ لمعنَى اللَّفِّ [930] اللَّفُّ والنَّشْرُ: هو ذِكرُ شيئينِ أو أشياءَ، إمَّا تفصيلًا -بالنصِّ على كلِّ واحدٍ-، أو إجمالًا -بأن يُؤتَى بلفظٍ يشتملُ على متعدِّدٍ- ثم يذكرُ أشياءَ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضُ إلى عقلِ السامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الذي يُؤتَى به أوَّلًا، والنشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الذي يتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ. مثل قوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يدخلَ الجنةَ إلا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنةَ إلَّا النَّصارى، وهذا لفٌّ ونَشْر إجماليٌّ. واللَّفُّ المُفصَّلُ يأتي النَّشرُ اللَّاحقُ له على وجهين: الوجه الأوَّل: أن يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّف، ويُسَمَّى «اللَّفَّ والنشر المرتَّبَ». الوجه الثاني: أن يأتيَ النَّشرُ على غيرِ تَرتيبِ اللَّفِّ، ويُسمَّى «اللَّفَّ والنشرَ غيرَ المُرتَّبِ»، وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّف والنَّشر المُشَوَّشِ»، أو «المعكوس». يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/403) . في قَولِه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً؛ فإنَّ مجرَّدَ الانتِقالِ والتَّغييرِ يدُلُّ على ناقِلٍ ومُغيِّرٍ عظيمِ القُدرةِ، وكَونَ ذلك الانتِقالِ مؤَدِّيًا إلى النَّفعِ العظيمِ يدُلُّ على مُنعِمٍ واسعِ النِّعمةِ، وهُمَا يوجِبانِ المعرفةَ والعِبادةَ [931] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/279). [المرسلات: 6] .
وأَوْ للتنويعِ على معنى الاشتمالِ على هذينِ المعنيينِ، أو للتخييرِ على معنى الاستقلالِ بكلٍّ، ولا منعَ مِن الاجتماعِ. وفائدةُ هذا الأسلوبِ إفادةُ الاستقلالِ، ولو ذكَر الواوَ بدلَها لتُوُهِّمَ المعيةُ [932] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (10/42). وتقدَّمت الإشارةُ إلى أنَّ (أو) مانعةُ خلوٍّ؛ فإمَّا أنْ يوجدَ هذا أو يُوجدَ هذا، ويمكنُ أن يجتمِعا. يُنظر: ((تفسير القنوجي)) (9/344)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 266). .
- وقوله: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا تَعريضٌ بأنَّ الَّذين قالوا: وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا أبَوُا التَّفكُّرَ في آياتِ اللهِ جُحودًا وعِنادًا، وامتَنَعوا عنِ الشُّكرِ لآلائِه عُتُوًّا واستِكبارًا، وتَصريحٌ بأنَّ الَّذين تَوسَّموا بعِبادِ الرَّحمنِ على خِلافِ ذلك؛ ولذلك قال: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا، وقال: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ليُقابِلَ قَولَهم: أَنَسْجُدُ، وقولَه: وَزَادَهُمْ نُفُورًا [933] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/279). .