موسوعة التفسير

سورةُ القَصَصِ
الآيات (85-88)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ

غَريبُ الكَلِماتِ:

وَلَا يَصُدُّنَّكَ: أي: لا يَصْرِفُنَّكَ، والصُّدودُ والصَّدُّ قد يكونُ انصِرافًا عن الشَّيءِ وامتناعًا؛ إذا كان لازمًا غيرَ مُتَعَدٍّ، وقد يكونُ صَرفًا ومنعًا؛ إذا كان مُتعدِّيًا، بمعنى: يصَدُّون غيرَهم، وأصلُ (صدد): إعراضٌ وعدولٌ [1124] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/353)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/282)، ((البسيط)) للواحدي (9/148)، ((المفردات)) للراغب (ص: 477)، ((تفسير ابن عاشور)) (8ب/139). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى مُبَشِّرًا نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ اللهَ الَّذي أنزَلَ عليك القُرآنَ -يا محمَّدُ- وأوجَبَ عليك تِلاوتَه وتَبليغَه والعملَ به؛ سوف يَرُدُّك إلى مكَّةَ مِن بعدِ خُروجِك منها.
 ثمَّ يأمُرُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يرُدَّ على دعاوى المشركينَ، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لهؤلاء المُشِركينَ مِن قَومِك: ربِّي أعلَمُ بمَن جاء بالحقِّ مِن عندِه ومَن هو في ضَلالٍ واضِحٍ.
ثمَّ يُذكِّرُ الله تعالى نبيَّه بنعمتِه العظيمةِ عليه وعلى العبادِ إذْ أرْسَله إليهم، فيقولُ: وما كنتَ تظُنُّ أن يُنزِلَ اللهُ عليك القُرآنَ، لكنَّ اللهَ أنزَلَه عليك رحمةً منه سُبحانَه؛ فلا تَكونَنَّ -يا محمَّدُ- مُعينًا للكافرينَ، ولا يَصرِفَنَّك هؤلاء الكفَّارُ عن آياتِ القُرآنِ بعدَ أن أنزَلْناها إليك، وادْعُ النَّاسَ إلى عبادةِ رَبِّك، ولا تَكونَنَّ مِنَ المُشرِكينَ، ولا تَعبُدْ مع اللهِ مَعبودًا آخَرَ؛ فإنَّه لا معبودَ بحقٍّ إلَّا اللهُ، كُلُّ شَيءٍ فانٍ إلَّا ذاتَ اللهِ سُبحانَه وبِحَمدِه، وله وَحْدَه الحُكْمُ بيْنَ عِبادِه، وإليه وحْدَه تُرَدُّونَ بعدَ مَوتِكم للجَزاءِ والحِسابِ.

تَفسيرُ الآياتِ:

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا شَرَح سُبحانَه لرَسولِه أمْرَ القيامةِ واستَقصَى في ذلك؛ شَرَحَ له ما يتَّصِلُ بأحوالِه [1125] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/19). .
وأيضًا بعدَ أنْ ذكر قصصَ موسى وقَومِه مع قارونَ، وبيَّن بَغْيَ قارونَ واستِطالتَه عليهم، ثمَّ هلاكَه، ونُصرةَ أهلِ الحقِّ عليه؛ أردَف هذا قصصَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابِه مع قومِه، وإيذائِهم إيَّاه، وإخراجِهم له مِن مَسقِطِ رأسِه، ثمَّ إعزازِه إيَّاه بالإعادةِ إلى مكَّةَ، وفتْحِه إيَّاها منصورًا ظافرًا [1126] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (20/104). .
وأيضًا لَمَّا قَرَّرَ ذِكْرَ الآخرةِ الَّتي هي المرجِعُ، وكَرَّرَه، وأثبَتَ الجزاءَ فيها، وأنَّ العاقبةَ للمُتَّقينَ؛ أتْبَعَه ما هو في بيانِ ذلك كالعلَّةِ؛ فقال مستأنِفًا مقَرِّرًا مؤكِّدًا لِمَا تقرَّرَ في أذهانِهم مِن إنكارِ الآخرةِ وما يقتضيه حالُ خروجِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن مكَّةَ المُشرَّفةِ مِن استبعادِ رَدِّه إليها [1127] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/374). :
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ.
أي: إنَّ اللهَ الَّذي أنزل عليك القُرآنَ -يا محمَّدُ- وأوجَبَ عليك تِلاوتَه وتَبليغَه والعملَ به: لَرادُّك إلى مكَّةَ مِن بَعدِ خُروجِك منها [1128] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/345، 351، 352)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/157، 158)، ((تفسير القرطبي)) (13/321)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/374-377)، ((تفسير السعدي)) (ص: 625)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/192، 193)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 383-385). قال الزَّجَّاجُ: (معنَى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ: أنزلَه عليك وألْزَمَك، وفرَضَ عليك العملَ بما يُوجِبُه القرآنُ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/157). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ أي: مكَّة: مقاتلُ بنُ سُليمانَ، والفَرَّاءُ، والسمرقندي، والواحدي، والرازي، والقرطبي، وجلال الدين المحلي، والألوسي، ونسبه السمعانيُّ للأكثَرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/359)، ((معاني القرآن)) للفراء (2/313)، ((تفسير السمرقندي)) (2/623)، ((الوسيط)) للواحدي (3/411)، ((تفسير الرازي)) (25/19)، ((تفسير القرطبي)) (13/321)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 520)، ((تفسير الألوسي)) (10/333)، ((تفسير السمعاني)) (4/162). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ يومُ القيامةِ، وأنَّ المَعادَ هو البعثُ: الماتُريديُّ، وابنُ كثير، والسعدي، وابن عثيمين، ونسَبَه ابنُ عطيَّةَ للجمهورِ، ونسَبَه مكِّيٌّ للزَّجَّاجِ. يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (8/204)، ((تفسير ابن كثير)) (6/259)، ((تفسير السعدي)) (ص: 625)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 385)، ((تفسير ابن عطية)) (4/303)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5587). ويُنظر أيضًا: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/158). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: المقامُ المحمودُ: أبو السُّعودِ، والشربينيُّ، والقاسميُّ. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/28)، ((تفسير الشربيني)) (3/122)، ((تفسير القاسمي)) (7/541). قال البِقاعي: (إِلَى مَعَادٍ أي: مَرجِعٍ عظيمٍ يا لَه مِن مرجعٍ! يُجزى فيه كلُّ أحدٍ بما عمِل، فيَبعَثُك ربُّك فيه -ثوابًا على إحسانِك في العملِ- مقامًا محمودًا يَغبِطُك فيه الأوَّلونَ والآخِرونَ، بما عانَيْتَ في أمرِه مِن هذه المشَقَّاتِ الَّتي لا تَحمِلُها الجبالُ، ولولا الرَّدُّ إلى إلى هذا المَعادِ لكانت هذه التَّكاليفُ -الَّتي لا يعملُ أكثرُهم بأكثَرِها، ولا يُجازى على المخالفةِ فيها- مِنَ العبثِ المعلومِ أنَّ العاقلَ مِنَ الآدَميِّينَ مُتنزِّهٌ عنه، فكيف بأحكَمِ الحاكِمينَ؟! فاجتهِدْ فيما أنت فيه لعِزِّ ذلك اليومِ؛ فإنَّ العاقبةَ لك). ((نظم الدرر)) (14/375). وقال ابنُ كثيرٍ بعدَ أن ذكَر ما جاء عن ابنِ عبَّاسٍ مِن رواياتٍ في معنى ذلك، ومنها أنَّ المرادَ: لَرادُّك إلى الجنَّةِ، وفي روايةٍ: إلى يومِ القيامةِ، وفي روايةٍ: إلى الموتِ، وفي روايةٍ: إلى مكَّةَ- قال: (وجْهُ الجَمعِ بينَ هذه الأقوالِ: أنَّ ابنَ عبَّاسٍ فسَّر ذلك تارةً برُجوعِه إلى مكَّةَ، وهو الفَتحُ الَّذي هو عندَ ابنِ عبَّاسٍ أمَارةٌ على اقتِرابِ أجَلِه... وفسَّر ابنُ عبَّاسٍ تارةً أخرى قَولَه: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ بالموتِ، وتارةً بيومِ القيامةِ الَّذي هو بعدَ الموتِ، وتارةً بالجنَّةِ الَّتي هي جزاؤُه ومَصيرُه). ((تفسير ابن كثير)) (6/260). .
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
وجهُ تَعَلُّقِ هذه الآيةِ بما قبْلَها أنَّ اللهَ تعالَى لَمَّا وَعَد رسولَه الرَّدَّ إلى مَعادٍ، قال: قُلْ للمشركينَ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى يعني: نفْسَه، وما يَستحِقُّه مِنَ الثَّوابِ في المعادِ، والإعزازِ بالإعادةِ إلى مكَّةَ، وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ يَعْنيهم وما يَستحِقُّونَ مِنَ العقابِ في مَعادِهم [1129] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/20). .
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: ربِّي أعلَمُ بالَّذي جاء بالحَقِّ مِن عِندِه أنا أو أنتم، وأعلَمُ بمَن هو منَّا ومِنكم في ضَلالٍ واضِحٍ [1130] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/352)، ((تفسير القرطبي)) (13/321)، ((تفسير ابن كثير)) (6/261)، ((البحر المديد)) لابن عجيبة (4/282). .
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان رجوعُه صلَّى الله عليه وسلَّمَ إلى مكَّةَ غايةَ البُعدِ؛ لكثرةِ الكفَّارِ، وقِلَّةِ الأنصارِ؛ قرَّبه تعالى بقولِه مُعلِمًا أنَّ كثيرًا مِن الأمورِ تكونُ على غيرِ رجاءٍ، بل وعلى خِلافِ القياسِ [1131] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/378). .
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ.
أي: وما كُنتَ -يا مُحمَّدُ- تَظُنُّ أن يُنزِلَ اللهُ عليك القُرآنَ، لكِنَّ اللهَ أنزله عليك رحمةً منه بك وبِعبادِه [1132] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/352)، ((تفسير القرطبي)) (13/321)، ((تفسير ابن كثير)) (6/261)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/378، 379)، ((تفسير السعدي)) (ص: 625). .
فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا تَسَبَّبَ عمَّا تَقَدَّمَ الاجتِهادُ في تحريكِ الهِمَمِ إلى العُكوفِ على أمْرِ اللهِ؛ طَمَعًا فيما عِندَه سُبحانَه مِن الثَّوابِ، وشُكرًا على إنزالِ الكِتابِ- قال في سياقِ التَّأكيدِ؛ لأنَّ الطَّبعَ البَشريَّ يقتضي إدراكَ مُظاهَرةِ الكُفَّارِ لأمرٍ مِن التَّوفيقِ عَظيمٍ؛ لِكَثرتِهم وقُوَّتِهم وعِزَّتِهم [1133] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/379). :
فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ.
أي: فلا تَكونَنَّ -يا مُحمَّدُ- مُعينًا للكافِرينَ [1134] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/352)، ((البسيط)) للواحدي (17/478)، ((تفسير القرطبي)) (13/321)، ((تفسير ابن كثير)) (6/261)، ((تفسير السعدي)) (ص: 625). .
وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87).
وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ.
أي: ولا يَصرِفَنَّك الكُفَّارُ -يا مُحمَّدُ- بكَذِبِهم وأذاهم ومَكرِهم عن آياتِ القُرآنِ بعدَ أن أنزَلْناها إليك؛ لِتَتلوَها عليهم، وتعمَلَ بها؛ فلا تُبالِ بهم، ولا تتأثَّرْ بمُخالفتِهم لك، واتِّباعِ أهوائِهم، وامْضِ لِما أُمِرْتَ به [1135] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/353)، ((تفسير ابن عطية)) (4/303)، ((تفسير السعدي)) (ص: 625)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/195، 196)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 398). قال جلال الدين المحلي: (وَلَا يَصُدُّنَّكَ أصْلُه يَصُدُّونَنَّكَ، حُذِفَت نُونُ الرَّفعِ للجازمِ، والواوُ للفاعلِ؛ لالْتِقائِها مع النُّونِ السَّاكنةِ). ((تفسير الجلالين)) (ص: 520). أي: لَمَّا دخلت (لا) النَّاهيةُ على (يَصُدُّونَنَّكَ) وجَب حذفُ النُّونِ الأولى للجزمِ، فصارت: يَصُدونَّك، فلمَّا حُذِفَتِ النُّونُ الأُولى الْتَقَتْ واوُ الفاعلِ السَّاكنةُ مع النُّونِ المُشَدَّدةِ، وهي عبارةٌ عن نُونَينِ: الأُولى ساكنةٌ والثَّانيةُ مُتحرِّكةٌ، وإذا الْتَقى ساكِنانِ وجَب حذْفُ الأوَّلِ منهما. يُنظر: ((تفسير العثيمين- سورة القصص)) (ص: 397). ويُنظر أيضًا: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/291) و(8/701). .
كما قال تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء: 73، 74].
وقال سبحانه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ [الروم: 60].
وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ.
أي: وادْعُ النَّاسَ -يا مُحمَّدُ- إلى رَبِّك؛ لعِبادتِه وَحْدَه لا شَريكَ له [1136] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/322)، ((تفسير ابن كثير)) (6/261)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/380). .
قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] .
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
أي: ولا تَكونَنَّ -يا مُحمَّدُ- مَعدودًا مِنَ المُشرِكينَ [1137] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/353)، ((الوسيط)) للواحدي (3/411)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/381). قال الواحدي: (قال ابنُ عبَّاسٍ: هو مُخاطَبةٌ لأهلِ دينِه. يعني: أنَّ هذا الخِطابَ وإن كان ظاهِرُه له، فالمرادُ به أهلُ دينِه، أي: لا تُظاهِروا الكفَّارَ ولا توافِقوهم، وكذلك قولُه: وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ أي: لا تَعبُدْ معه غيرَه. قال ابنُ عبَّاسٍ: هذا تخويفٌ للمشركين، وأمَّا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقد عصَمَه الله مِن أن يَتَّخِذَ معه إلهًا آخَرَ. يريدُ: أنَّه إذا نُهيَ عن عبادةِ غيرِ الله، كان ذلك تخويفًا لِمَن عبَدَ معه غيرَه. وهذا فائدةُ النَّهيِ عن عبادةِ غيرِه بعدَ أن عُصِم عن ذاك، وحُكِم له بالنُّبوَّةِ في سابقِ الحُكمِ). ((البسيط)) (17/478). وقال السمعاني: (وقَوله: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي: اثْبُتْ على التَّوحيدِ). ((تفسير السمعاني)) (4/163). وقال ابن جرير: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يقولُ: ولا تَترُكَنَّ الدُّعاءَ إلى رَبِّك، وتبليغَ المشركينَ رسالَتَه، فتكونَ مِمَّنْ فَعَلَ فِعْلَ المشركينَ بمعصيَتِه رَبَّه، وخِلافِه أمْرَه). ((تفسير ابن جرير)) (18/353). .
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88).
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ.
أي: ولا تَعبُدْ -يا مُحمَّدُ- مع اللهِ مَعبودًا غَيْرَه، وأخلِصْ عِبادتَك للهِ وَحْدَه [1138] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/353)، ((الوسيط)) للواحدي (3/411)، ((تفسير القرطبي)) (13/322)، ((تفسير السعدي)) (ص: 626). .
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
أي: لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ وَحْدَه، وكُلُّ مَعبودٍ سِواه فهو باطِلٌ [1139] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/353)، ((تفسير القرطبي)) (13/322)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/202)، ((تفسير ابن كثير)) (6/261)، ((تفسير السعدي)) (ص: 626). .
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.
أي: كلُّ شَيءٍ فانٍ إلَّا ذاتَ  اللهِ تعالى، وكُلُّ عَمَلٍ باطلٌ إلَّا ما أُريدَ به وَجْهُه [1140] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/353)، ((تفسير القرطبي)) (13/322)، ((تفسير ابن كثير)) (6/261، 262)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/381، 382). ممَّن ذهَب إلى أنَّ المرادَ بالوَجهِ هنا: الذَّاتُ: مقاتلُ بنُ سُليمانَ، وابنُ جُزَي، وابن كثير، والعُلَيمي، والشوكاني، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/360)، ((تفسير ابن جزي)) (2/121)، ((تفسير ابن كثير)) (6/261)، ((تفسير العليمي)) (5/226)، ((تفسير الشوكاني)) (4/218)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 405، 406). وممَّن قال بهذا القولِ مِنَ السَّلفِ: الضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/397). وفي قَولِه تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ إن أُريدَ بالوَجهِ الذَّاتُ، بمعنى: أنَّ الله تعالى يبقى هو نفْسُه مع إثباتِ الوَجهِ لله، فهذا صَحيحٌ، ويكون هنا عبَّرَ بالوجهِ عن الذَّاتِ لِمَن له وَجهٌ، ويكون المرادُ بالآيةِ: إلَّا ذاتَه المتَّصِفةَ بالوَجهِ. وإنْ أُريدَ بتفسيرِ الوجهِ بالذَّاتِ: أنَّ الوَجهَ عبارةٌ عن الذَّاتِ بدونِ إثباتِ الوَجهِ، فهذا غيرُ مَقبولٍ، وهو تحريفٌ. يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/243). وقيل: المرادُ به: إخلاصُ العَمَلِ لله تعالى، فكُلُّ عَمَلٍ باطِلٌ إلَّا ما أُريدَ به وَجهُه سبحانه. ونسَبَه الرَّسْعَنيُّ لجمهورِ العلماءِ. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (5/583). قال ابن تيميَّة: (قوله: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يَقْتَضي أظهرَ الوجهَيْنِ، وهو أنَّ كلَّ شيءٍ هالِكٌ إلَّا ما كان لوجهِه مِن الأعيانِ والأعمالِ وغيرِهما). ((مجموع الفتاوى)) (2/427). وممَّن قال بهذا القولِ مِنَ السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، والثَّوريُّ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/3028)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/397)، ((تفسير ابن كثير)) (6/261). وقال ابن كثير: (وقولُه: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ: إخبارٌ بأنَّه الدَّائمُ الباقي الحيُّ القَيُّومُ، الَّذي تموتُ الخلائِقُ ولا يموتُ، كما قال تعالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 26، 27]، فعبَّر بالوجهِ عن الذاتِ، وهكذا قولُه هاهنا: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي: إلَّا إيَّاه... وقال مجاهدٌ والثَّوريُّ في قَولِه: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أيْ: إلَّا ما أُريدَ به وجهُه،... وهذا القولُ لا ينافِي القولَ الأوَّلَ؛ فإنَّ هذا إخبارٌ عن كلِّ الأعمالِ بأنَّها باطِلةٌ إلَّا ما أُريدَ بها وجهُ اللهِ عزَّ وجلَّ مِنَ الأعمالِ الصَّالحةِ المطابقةِ للشَّريعةِ. والقولُ الأوَّلُ مُقتضاهُ أنَّ كلَّ الذَّواتِ فانيةٌ وهالكةٌ وزائِلةٌ إلَّا ذاتَه تعالَى؛ فإنَّه الأوَّلُ الآخِرُ، الَّذي هو قبْلَ كلِّ شَيءٍ، وبعدَ كلِّ شيءٍ). ((تفسير ابن كثير)) (6/261). وقال البِقاعي: (لعلَّه عَبَّرَ عن الذَّاتِ بالوجهِ؛ لِيشملَ ما قُصِدَ به مِن العملِ الصَّالحِ، مع ما هو معروفٌ مِن تسويغِه لذلك بكَونِه أشرَفَ الجملةِ، وبكونِ النَّظرِ إليه هو الحامل على الطَّاعةِ بالاستحياءِ، وما في معناه). ((نظم الدرر)) (14/382). .
كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 26، 27].
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((أصدَقُ كَلِمةٍ قالها الشَّاعِرُ كَلِمةُ لَبِيدٍ:
ألَا كُلُّ شَيءٍ ما خلا اللهَ باطِلٌ ))
[1141] رواه البخاري (3841) واللفظ له، ومسلم (2256). .
وعن أبي هُريرةَ رضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((قال اللهُ تبارك وتعالى: أنا أغْنى الشُّرَكاءِ عن الشِّركِ، مَن عَمِلَ عمَلًا أشرَكَ فيه معيَ غَيري ترَكْتُه وشِرْكَه )) [1142] رواه مسلم (2985). .
لَهُ الْحُكْمُ.
أي: لله وَحْدَه الحُكمُ بينَ عِبادِه في الدُّنيا والآخرةِ [1143] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/354)، ((تفسير ابن كثير)) (6/262)، ((تفسير السعدي)) (ص: 626)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/168). قال ابنُ عثيمين: (الصَّحيحُ أنَّه يشملُ الحُكمَ الكونيَّ والشَّرعيَّ، وله القَضاءُ النَّافِذُ على كلِّ أحدٍ، وله أيضًا الفَصلُ بيْنَ الخَلقِ بالأحكامِ الشَّرعيةِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 406). .
كما قال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام: 57].
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
أي: وإلى اللهِ وَحْدَه تُرَدُّونَ بعدَ مَوتِكم، فيُجازي كُلًّا مِنكم بعَمَلِه [1144] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/354)، ((تفسير ابن كثير)) (6/262)، ((تفسير السعدي)) (ص: 626)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/197). .
كما قال تعالى: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية: 25، 26].

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قوله تعالى: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ دَلالةٌ على نُبُوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه أَخبرَ عن الغيبِ ووَقَعَ ما أخبَرَ به، فيكونُ مُعجِزًا [1145] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (15/301). .
2- قَولُه تعالى: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى فيه إثباتُ عِلْمِ اللهِ، وأنَّه أكمَلُ العُلومِ؛ لأنَّ أَعْلَمُ اسمُ تفضيلٍ؛ فيقتضي أنْ يكونَ أفضلَ العُلومِ [1146] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 388). .
3- في قولِه تعالى: أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أنَّ ما عدا الهدَى فهو ضلالٌ؛ وأنَّه ليس ثمَّةَ واسطةٌ بينَ الهدَى والضلالِ، ومِن شواهدِ هذا الأمرِ قولُه تعالى: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ [يونس: 32] ، ومِثْلُ قولِه تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [1147] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 388). [سبأ: 24] .
4- بيانُ تكذيبِ الذين قالوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل: 103] ؛ فالكُفَّارُ يقولونَ: إنَّما يُعَلِّمُ محمَّدًا القُرآنَ بشرٌ. فلو كان الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتعلَّمُ مِن بَشَرٍ لكان متطلِّعًا لهذا القرآنِ، واللهُ يقولُ: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ، فالرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما كان يَتَطَلَّبُ الرسالةَ، ولا خطرتْ له على بالٍ [1148] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 394). .
5- في قوله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أنَّ هذا القرآنَ الذي جاء به محمدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رحمةٌ للخلْقِ، رحمةٌ في الدنيا والآخرةِ، ففي الدنيا تستقرُّ الأمورُ، وتصْلُحُ أحوالُهم، ويَعلو أمْرُهم، وفي الآخرةِ يكونون في جناتِ النعيمِ، فهذا القرآنُ رحمةٌ أولًا وآخرًا، وهو أعظمُ نعمةٍ مِن اللهِ سبحانه وتعالى، وأعظمُ مِن نزولِ المطرِ الذي تحيا به الأرضُ؛ لأنَّ القرآنَ تحيا به القلوبُ، وتصْلُحُ به الأعمالُ، وبحياة القلوبِ والأعمالِ تحيا الأرضُ، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [1149] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 394). [الأعراف: 96] .
6- قَولُه تعالى: مِنْ رَبِّكَ فيه إثباتُ ربوبيَّةِ اللهِ الخاصَّةِ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فهذا يقتَضي ربوبيَّةً خاصَّةً، كما أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له عُبوديةٌ خاصَّةٌ. فعبوديتَّهُ خاصةٌ، وربوبيَّةُ اللهِ له خاصَّةٌ أيضًا [1150] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 395). .
7- في قَولِه تعالى: فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ تحريمُ مُظاهرةِ الكُفَّارِ -أي: مُعاونتِهم-؛ لأنَّ النَّهيَ للتَّحريمِ، لا سيَّما وقد أُكِّدَ بنونِ التَّوكيدِ [1151] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 395). .
8- إذا قيل: ما الفائِدةُ مِن قَولِه: بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ، وأصلُ النَّهيِ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ لا يَقَعُ إلَّا إذا كانت نازِلةً؟ فهل هذا الكَلامُ لَغوٌ لا فائدةَ منه؟
الجوابُ: لا، ليس لَغوًا لا فائِدةَ منه، بل فيه فائِدةٌ، وهو تذكيرُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحالِ الإنزالِ، حتى يكونَ ذلك أثبَتَ له؛ فإنَّها إذا كانت أُنزِلَت إليه مِن عندِ الله فإنَّه لا يُمكِنُ لأحدٍ أن يَصُدَّه عنه [1152] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 398، 399). .
9- في قَولِه تعالى: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ سؤالٌ: أنَّ هذا لا يَقَعُ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فما فائدةُ ذلك النَّهيِ؟
الجوابُ مِن أوجُهٍ:
أولًا: أنَّه ذُكِرَ للتَّهييجِ والإلهابِ، وقَطعِ أطماعِ المُشركينَ عن مُساعدتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم، وإظهارِ أنَّ المنهيَّ عنه في القُبحِ والشَّرِّيةِ بحيثُ يُنهَى عنه من لا يُمكِنُ صُدورُه عنه أصلًا [1153] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/123)، ((تفسير أبي السعود)) (7/28). .
ثانيًا: أنَّ الخطابَ وإنْ كان معه، لكِنَّ المرادَ غيرُه، كما في قَولِه تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [1154] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/20)، ((تفسير الشربيني)) (3/123). [الزمر: 65] فهذه الأوامِرُ والنواهي وإن كان خِطابُها مُتَوجِّهًا إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فالمقصودُ بها أتباعُه، ولعَلَّها إنَّما وُجِّهَت إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ أمرَ الرئيسِ أدعى لأتباعِه إلى القَبولِ [1155] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/382). .
ثالثًا: أنَّ النهيَ عن الشيءِ قد يُوَجَّه إلى مَن لم يقعْ منه كقوله تعالى: وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فمِن المعلومِ أنهم لم يصدُّوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن آياتِ الله! وأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يقَعْ منه شركٌ! والغرضُ مِن توجيهِ النهيِ إلى مَن لا يقعُ منه: التنديدُ بمَن وقعَ منهم؛ والتحذيرُ مِن منهاجهم [1156] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (المقدمة/48). .
10- قوله تعالى: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هذا النفيُ لا يَتعارضُ مع ما قَبْلَه وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ! لأنَّ ما قَبْلَه باعتبارِ أنَّه إلهٌ باطلٌ، والثاني باعتبارِ أنَّه إلهٌ حقٌّ؛ فلا إلهَ حقٌّ إلَّا اللهُ [1157] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 404). .
11- في قَولِه تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أنَّ اللهَ تعالى شَيءٌ، لأنَّه استثنَى مِن قولِه: كُلُّ شَيْءٍ استثناءً يُخرِجُ ما لولاه لوَجَبَ أو لَصَحَّ دخولُه تحتَ اللَّفظِ؛ فوَجَبَ كونُه شيئًا، يؤكِّدُه ما في سورةِ الأنعامِ، وهو قولُه: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ [1158] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/22). [الأنعام: 19] ، فيصحُّ إطلاقُ لفظةِ (شيء) على الله عَزَّ وجلَّ أو على صفةٍ مِن صفاتِه، لكن لا يقالُ: (الشيء) اسمٌ مِن أسمائِه تعالى [1159] يُنظر: ((صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة)) للسقاف (ص: 217). قال البخاري: (باب قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ. وسَمَّى اللَّهُ تعالَى نفْسَه شيئًا، وسمَّى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ القرآنَ شيئًا وهو صِفةٌ مِن صِفاتِ اللهِ. وقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ). (كتاب بَدْء الوحي) من ((صحيح البخاري)) (9/151). .
12- خُلِقت الجَنَّةُ وما فيها، وخُلِقَت النَّارُ وما فيها؛ خلَقَهما اللهُ عَزَّ وجَلَّ وخَلَقَ الخَلْقَ لهما، ولا يَفْنَيانِ ولا يفنى فيهما ما فيهما أبدًا، فإذا احتَجَّ مُبتَدِعٌ أو زِنديقٌ بقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وبنَحوِ هذا مِن مُتشابهِ القُرآنِ، قيل له: كُلُّ شَيءٍ مِمَّا كَتَب اللهُ عليه الفَناءَ والهلاكَ هالِكٌ، والجنَّةُ والنَّارُ خَلَقهما اللهُ للبَقاءِ لا للفَناءِ ولا للهَلاكِ، وهما مِنَ الآخرةِ لا مِنَ الدُّنيا [1160] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 412). .
13- في قَولِه تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ إثباتُ صِفةِ الوَجهِ لله عزَّ وجَلَّ، وهو ثابِتٌ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ [1161] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/357). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ الآيةُ ابتِداءُ كَلامٍ؛ للتَّنويهِ بشأنِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَثْبيتِ فُؤادِه، ووعْدِه بحُسْنِ العاقبةِ في الدُّنيا والآخِرةِ، وإنَّ إنكارَ أهلِ الضَّلالِ رسالتَه لا يَضيرُه؛ لأنَّ اللهَ أعْلَمُ بأنَّه على هدًى، وأنَّهم على ضلالٍ بعدَ أنْ قَدَّمَ لذلكَ مِن أحوالِ رِسالةِ موسى عليه السَّلامُ ما فيه عبرةٌ بالمقارنةِ بينَ حالَيِ الرَّسولَينِ وما لَقَياهُ مِن المُعْرِضينَ [1162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/191، 192). .
- وافتِتاحُ الكَلامِ بحَرْفِ التأكيدِ للاهتِمامِ به، وجِيءَ بالمُسنَدِ إليه اسمٌ مَوصولٌ (الَّذي) دونَ اسمِه تعالَى العلَمِ؛ لِمَا في الصِّلةِ مِن الإيماءِ إلى وَجْهِ بِناءِ الخبَرِ، وأنَّه خبَرُ الكَرامةِ والتَّأْييدِ، أي: إنَّ الذي أَعطاكَ القُرآنَ ما كان إلَّا مُقَدِّرًا نَصْرَك وكرامتَكَ؛ لأنَّ إعطاءَ القرآنِ شيءٌ لا نظيرَ له؛ فهو دَليلٌ على كَمالِ عِنايةِ اللهِ بالمُعطَى، وفيه إيماءٌ إلى تَعظيمِ شَأْنِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [1163] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/192). .
- قولُه: إِلَى مَعَادٍ، أي: مَعادٍ ليس لغَيرِكَ مِن البَشَرِ، وتَنكيرُ المعادِ لذلكَ. وقيلَ: المرادُ به مَكَّةُ، ووجْهُه أنْ يُرادَ ردُّه إليها يومَ الفَتْحِ؛ ووجْهُ تَنكيرِه أنَّها كانتْ في ذلكَ اليومِ مَعادًا له شأنٌ، ومَرجِعًا له اعتِدادٌ؛ لغَلَبَةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليها، وقَهْرِه لأهلِها، ولِظُهورِ عزِّ الإسلامِ وأهلِه، وذُلِّ الشِّرْك وحِزْبِه [1164] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/436)، ((تفسير أبي حيان)) (8/331)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (20/304)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/394). . وقيل: والتَّنكيرُ في مَعادٍ للتعظيمِ كما يَقْتَضِيهِ مَقامُ الوَعْدِ والبِشارَةِ، والمَعادُ يَجوزُ أنْ يكونَ مُستعمَلًا في مَعنَى آخِرِ أحوالِ الشَّيءِ وقَرارِه الذي لا انتقالَ منه تَشبيهًا بالمكانِ العائدِ إليهِ، بَعْدَ أنْ صَدَر منه، أو كِنايةً عنِ الأَخَارَةِ، فيَكونُ مُرادًا به الحياةُ الآخرةُ؛ فتَنكيرُ مَعَادٍ أَفَادَ أنَّه عظيمُ الشأنِ، وتَرتُّبُه على الصِّلةِ أفاد أنَّه لا يُعطَى لغيرِه مِثْلُه؛ كما أنَّ القُرآنَ لم يُفْرَضْ على أحَدٍ مثلِه، ويَجوزُ أنْ يُرادَ بالمَعادِ مَعْناهُ المَشهودُ القريبُ مِن الحَقيقةِ، وهو ما يَعودُ إليه المرءُ إنْ غابَ عنه، فيُرادُ به هنا بلَدُه الذي كانَ به وهو مَكَّةُ، وهذا الوجهُ يَقتَضي أنَّه كِنايةٌ عن خُروجِه منه ثم عَودُه إليه؛ لأنَّ الرَّدَّ يَستَلْزِمُ المُفارقَةَ، وإذ قدْ كانتِ السُّورةُ مكيَّةً ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في مَكَّةَ؛ فالوَعْدُ بالرَّدِّ كِنايةٌ عن الخُروجِ منْهُ قَبْلَ أن يُرَدَّ عليه [1165] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/192، 193). .
- وجُملةُ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ بالنِّسبةِ إلى الوَجْهِ الأولِ بمَنزلةِ التَّفْريعِ على جُملةِ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ، أي: رادُّكَ إلى يومِ المعادِ؛ فمُظْهِرٌ المُهْتديَ والضَّالِّينَ؛ فيكونُ عِلْمُ اللهِ بالمُهتدي والضالِّ مُكَنًّى به عنِ اتِّضاحِ الأمرِ بلا رَيْبٍ؛ لأنَّ عِلْمَ اللهِ تعالَى لا يَعْتَرِيهِ تَلْبيسٌ، وتكونُ هذه الكِنايةُ تَعْريضًا بالمشركينَ أنَّهم الضالُّونَ، وأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو المُهتَدِي، ولهذِه النُّكتةِ عَبَّرَ عنْ جانبِ المُهتَدِي بفِعْل مَنْ جَاءَ؛ للإشارةِ إلى أنَّ المُهتَدِيَ هو الَّذي جاءَ بِهَدْيٍ لم يَكُنْ مَعروفًا مِنْ قَبْلُ؛ كما يَقْتَضِيه: جاءَ بكذا. وبالنسبةِ إلى الوَجْهِ الثاني تكونُ بمَنزلةِ المُوادَعَةِ والمُتارَكَةِ وقَطْعِ المُجادَلَةِ، فالمعنى: عُدْ عن إثباتِ هُداكَ وضَلالِهم، وكِلْهم إلى يومِ ردِّكَ إلى مَعادِك يومَ يَتَبَيَّنُ أنَّ اللهَ نَصَرَكَ وخَذَلَهم، وعلى المَعْنَيَيْنِ؛ فجملة قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ ... مُستَأْنَفَةٌ استِئنافًا بيانيًّا عن جملةِ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ؛ جوابًا لسؤالِ سائلٍ يُثيرُه أحَدُ المَعْنَيَينِ، وفي تقديمِ جملةِ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ على جملةِ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى؛ إعدادٌ لصَلاحِيَةِ الجملةِ الثانيةِ للمعنييْنِ المذكورَينِ؛ فهذا مِن الدَّلالةِ على مَعاني الكلامِ بمَواقعِه، وتَرتيبِ نِظامِه، وتقديمِ الجملِ عنْ مَواضِعِ تأخيرِها لتَوْفيرِ المعاني [1166] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/193، 194). .
- وعَبَّر عن جانِبِ الضَّالِّينَ بالجُملةِ الاسميةِ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ المُقْتَضِيَةِ ثَباتَ الضَّلالِ المُشْعِرِ بأنَّ الضَّلَالَ هو أَمْرُهم القديمُ الراسخُ فيهم، مع ما أفادَه حَرْفُ الظَّرفيةِ (في) مِنِ انغِماسِهم في الضَّلالِ وإحاطَتِه بهم، ويكونُ المَعنى حينَئذٍ على حَدِّ قولِه تعالَى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] ؛ لظُهورِ أنَّ المُبَلِّغَ لهذا الكلامِ لا يُفرَضُ في حَقِّه أنْ يكونَ هو الشِّقَّ الضالَّ؛ فيَتَعَيَّنُ أنَّ الضالَّ مَن خالَفَه [1167] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/193). .
- قولُه: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ تقريرٌ للوعيدِ السَّابقِ، وكذا قولُه تعالَى: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ [1168] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/187)، ((تفسير أبي السعود)) (7/28). .
- قوله: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ في ذلكَ مُتارَكَةٌ للكفَّارِ وتوبيخٌ [1169] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8/331). .
2- قولُه تعالَى: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ
- جُملةُ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ عَطْفٌ على جملةِ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ ... إلخ؛ باعتبارِ ما تضمَّنَتْه مِن الوعدِ بالثَّوابِ الجزيلِ، أو بالنَّصرِ المُبينِ، أي: كما حمَّلك تبليغَ القرآنِ؛ فكانَ ذلكَ علامةً على أنَّهُ أَعَدَّ لكَ الجزاءَ بالنَّصْرِ في الدُّنيا والآخرةِ، كذلك إِعطاؤُه إياكَ الكتابَ عن غيرِ ترقُّبٍ منكَ، بل بمَحْضِ رحمةِ ربِّك، أي: هو كذلكَ في أنَّه علامةٌ لك على أنَّ اللهَ لا يَتْرُكُ نصرَك على أعدائِكَ؛ فإنَّه ما اختارَكَ لذلكَ إلَّا لأنَّه أَعَدَّ لكَ نصرًا مُبينًا، وثوابًا جزيلًا، وهذا أيضًا مِن دَلالةِ الجُملةِ على مَعنًى غيرِ مُصَرَّحٍ به، بل على مَعنًى تعريضيٍّ بدَلالةِ مَوقعِ الجُملةِ [1170] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/194). .
- قولُه: فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ الظَّهيرُ: المُعينُ، والمُظاهَرَةُ: المُعاوَنَةُ، وهي مَراتبُ؛ أعْلاها: النُّصْرَةُ، وأَدْناها: المُصانَعَةُ والتسامُحُ؛ لأنَّ في المُصانَعَةِ على المَرغوبِ إعانةً لراغبِه، فلَمَّا شَمِلَ النَّهْيُ جَميعَ أكوانِ المُظاهَرَةِ لهمُ اقْتَضَى النَّهْيَ عن مُصانَعَتِهم والتسامُحِ معهم، وهو يَستَلْزِمُ الأمرَ بضِدِّ المُظاهَرَةِ؛ فيكونُ كِنايةً عنِ الأمرِ بالغِلْظَةِ عليهم؛ كصَريحِ قولِه تعالَى: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73] ، وهذا المَعنى يُناسِبُ كَوْنَ هذه الآياتِ آخِرَ ما نَزَلَ قَبْلَ الهِجرةِ وبعدَ مُتاركَتِه المشركينَ ومُغادَرَتِه البَلدَ الذي يَعْمُرونَه، وقيل: النَّهْيُ للتَّهْييجِ لإثارةِ غَضَبِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليهم، وتَقْوِيَةِ داعي شِدَّتِه معهم. ووَجْهُ تأويلِ النَّهْيِ بصَرْفِه عن ظاهرِه أو عن بَعضِ ظاهرِه؛ هو أنَّ المَنْهِيَّ عنه لا يُفْرَضُ وُقوعُه مِن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى يُنْهَى عنه؛ فكان ذلك قرينةً على أنَّه مُؤَوَّلٌ. وتَوجيهُ النَّهْيِ إليه عنْ أنْ يَصُدُّوه عن آياتِ اللهِ في قولِه: وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ كِنايةٌ عن نَهْيِهِ عن أن يَتَقَبَّلَ منهم ما فيه صَدٌّ عن آياتِ اللهِ؛ كما يقولُ العربُ: لا أعْرِفَنَّك تفعلُ كذا، كَنَّوْا به عن: أنه لا يَفْعَلُه، فيَعْرِفُ المُتكلِّمُ الناهي فعلَه. والمقصودُ تَحْذيرُ المُسلمينَ مِن الرُّكونِ إلى الكافرينَ في شَيءٍ مِن شُؤونِ الإسلامِ؛ فإنَّ المشركينَ يُحاوِلونَ صَرْفَ المُسلمينَ عن سَماعِ القرآنِ؛ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ، وقيل: هو للتَّهْييجِ أيضًا، وتأويلُ هذا النَّهْيِ آكَدُ مِن تأويلِ قولِه: فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ [1171] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/195، 196). .
3- قولُه تعالَى: وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
- قولُه: فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ * وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَفريعٌ على جُملةِ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ [القصص: 85] ، وما عُطِفَ عليها وما تَخَلَّلَ بينَهما ممَّا اقْتَضى جميعُه الوعدَ بنَصْرِه، وظُهورَ أَمْرِه وفَوزَه في الدُّنيا والآخِرةِ، وأنَّه جاء مِن اللهِ إلى قَومٍ هم في ضَلالٍ مُبينٍ، وأنَّ الذي رحِمَه فآتاهُ الكتابَ على غيرِ ترقُّبٍ منه لا يَجْعَلُ أمْرَه سُدًى، فأعْقَب ذلك بتَحْذيرِه مِنْ أدنَى مُظاهَرةٍ للمُشركينَ، فإنَّ فِعْلَ الكَونِ لَمَّا وَقَع في سِياقِ النَّهيِ -وكان سِياقُ النَّهْيِ مِثْلَ سِياقِ النَّفْيِ؛ لأنَّ النَّهْيَ أَخُو النَّفْيِ في سائرِ تَصاريفِ الكلامِ- كانَ وُقوعُ فِعْلِ الكَوْنِ في سِياقِه مُفيدًا تَعميمَ النَّهْيِ عنْ كلِّ كَونٍ مِن أَكْوانِ المُظاهَرَةِ للمُشركينَ [1172] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/194، 195). .
- والتَّقييدُ بالبَعْديَّةِ في قَولِه: بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ لتَعليلِ النَّهْيِ، والأمرُ في قولِه: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ مُستَعْمَلٌ في الأمرِ بالدَّوامِ على الدَّعوةِ إلى اللهِ، لا إلى إيجادِ الدعوةِ؛ لأنَّ ذلكَ حاصِلٌ، أي: لا يَصْرِفُكَ إعراضُ المشركينَ عن إعادةِ دَعْوتِهم إعذارًا لهم، ويجوزُ أنْ يكونَ الدُّعاءُ مُستَعمَلًا في الأكمَلِ مِن أنواعِه، أي: إنَّك بعدَ الخُروجِ مِن مَكَّةَ أشَدُّ تَمكُّنًا في الدعوةِ إلى اللهِ ممَّا كنتَ مِنْ قَبْلُ؛ لأنَّ تَشْغيبَ المُشركينَ عليه كان يُرنِّقُ صَفاءَ تفَرُّغِه للدعوة، وجميعُ هذه النَّواهي والأوامرِ داخِلَةٌ في حَيِّزِ التَّفْريعِ بالفاءِ في قولِه: فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ. أمَّا قولُه: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فإنْ حُمِلَتْ (مِن) فِيه على مَعنى التَّبْعيضِ؛ كان النَّهْيُ مُؤَوَّلًا بمِثْلِ ما أَوَّلُوا به النَّهْيَيْنِ اللَّذينِ قَبْلَهُ أنه للتَّهْييج، أو أنَّ المقصودَ به المُسلمونَ [1173] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/196). .
4- قولُه تعالَى: وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هذا النَّهْيُ مُوَجَّهٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الظاهرِ، والمَقصودُ به إبطالُ الشِّرْكِ وإظهارُ ضَلالِ أهلِه؛ إذْ يَزْعُمون أنهم مُعتَرِفونَ بإلهيَّةِ اللهِ تعالَى، وأنَّهم إنما اتَّخَذوا له شُركاءَ وشُفعاءَ؛ فبَيَّنَ لهم أنَّ اللهَ لا إلَهَ غيرُه، وأنَّ انفِرادَه بالإلهيَّة في نفْسِ الأمرِ يَقضي ببُطلانِ الإشْراكِ في الاعتقادِ ولو أَضْعَفَ إشراكٍ؛ فجُملةُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ في مَعنى العِلَّةِ للنَّهْي الذي في الجُملةِ قَبْلَها [1174] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/196، 197). .
- وجملةُ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ علَّةٌ ثانيةٌ للنَّهْيِ؛ لأنَّ هَلاكَ الأشياءِ التي منها الأصنامُ وكلُّ ما عُبِدَ مع اللهِ وأُشْرِكَ به، دَليلٌ على انتفاءِ الإلهيَّةِ عنها؛ لأنَّ الإلهيَّةَ تُنافي الهلاكَ، وهو العدَمُ [1175] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/197). .
- وجملةُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تَذْييلٌ؛ فلذلكَ كانتْ مَفْصُولةً عمَّا قبْلَها، أي: لم تُعطَفْ عليها. وتقديمُ المجرورِ باللَّامِ لَهُ لإفادةِ الحَصرِ، والمَحْصورُ فيه هو الحُكمُ الأتَمُّ، أي: الذي لا يَرُدُّه رادٌّ [1176] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/197). .
- قولُه: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيه تقديمُ المجرورِ بـ (إلى) للاهتِمامِ بالخبَرِ؛ لأنَّ المشركينَ نَفوا الرُّجوعَ مِن أصلِه، ولم يَقولوا بالشَّرِكةِ في ذلكَ حتَّى يكونَ التَّقديمُ للتَّخْصيصِ [1177] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/197). .
- والمَقصودُ مِن تَعدُّدِ هذه الجُملةِ إثباتُ أنَّ اللهَ مُنفَرِدٌ بالإلهيَّةِ في ذاتِهِ، وهو مدَلْولُ جُملةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وذلك أيضًا يدُلُّ على صِفةِ الأوليَّةِ، وأنَّه الأوَّلُ الَّذي ليس قبْلَه شَيءٌ؛ لأنه لَمَّا انْتَفَى جِنْسُ الإلهيَّةِ عن غيرِه تعالَى؛ تَعَيَّن أنَّه لم يُوجِدْه غيرُه؛ فثَبَت أنَّ الله تعالى قبْلَ كلِّ شَيءٍ، وأنَّه باقٍ لا يَعْتَرِيهِ العدَمُ، وذلك مَدْلولُ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، وأنَّه تعالَى مُنفَرِدٌ في أفعالِه بالتصرُّفِ المُطلَق الذي لا يَرُدُّه غيرُه، فيَتَضَمَّنُ ذلك إثباتَ الإرادةِ والقدرةِ. وفي كلِّ هذا رَدٌّ على المشركينَ الَّذين جَوَّزُوا شَرِكتَهُ في الإلهيَّةِ، وأَشْرَكوا معه آلهتَهم في التصرُّفِ بالشفاعةِ والغَوْثِ، ثمَّ أَبْطَلَ إنكارَهمُ البعثَ بقولِه: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [1178] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/197). .