موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيات (60-66)

ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ

غريب الكلمات:

مَثْوًى: أي: مَنزِلٌ ومقامٌ ومأوًى، والثَّواءُ: الإقامةُ مع الاستِقرارِ؛ يُقالُ: ثَوَى يَثْوي ثَواءً، وأصلُ (ثوي): يدلُّ على الإقامةِ [1150] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 410)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 424)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/393)، ((المفردات)) للراغب (ص: 181)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 295). .
بِمَفَازَتِهِمْ: أي: بفَوزِهم ومَنجاتِهم وفَلاحِهم، والفَوزُ: الظَّفَرُ بالخَيرِ مع حُصولِ السَّلامةِ، وأصلُه: يدُلُّ على النَّجاةِ [1151] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 117)، ((تفسير ابن جرير)) (20/240)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/459)، ((المفردات)) للراغب (ص: 161، 647)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 332)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 134)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 878). .
مَقَالِيدُ: أي: مَفاتيحُ، وقيل: هي الخَزائِنُ، سُمِّيَت بذلك؛ لأنَّها تَحفَظُ الأشياءَ وتَحوزُها، وقيل: أصلُها كلمةٌ فارسيةٌ [1152] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 384)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 424)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/19، 20)، ((المفردات)) للراغب (ص: 682)، ((تفسير ابن جزي)) (2/225)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 364). ومقاليدُ جمعٌ وَاحِدُه مقليدٌ ومقلادٌ ومقلدٌ، ويُقالُ: هو جمعٌ لا واحِدَ له مِن لفظِه. يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 424). .
لَيَحْبَطَنَّ: أي: لَيَبْطُلَنَّ؛ فالحَبَطُ: البُطلانُ والألمُ، وأصلُه: أن تُكثِرَ الدَّابَّةُ أكلًا حتَّى يَنتفِخَ بطنُها فتَموتَ [1153] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 82)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 186)، ((المفردات)) للراغب (ص: 216)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/331)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 106). .

المعنى الإجمالي:

 يُبيِّنُ اللهُ تعالى حالَ الكافرينَ يومَ القيامةِ، فيقولُ: ويومَ القيامةِ ترَى المُشرِكينَ الَّذين كَذَبوا على اللهِ وُجوهُهم مُسْودَّةٌ، أليس في جَهنَّمَ مُستَقَرٌّ للمُتكبِّرينَ؟
ثمَّ يُبيِّنُ حالَ المؤمنينَ، فيقولُ: ويُنجِّي اللهُ الَّذين اتَّقَوا اللهَ بامتِثالِ ما أمَرَ، واجتِنابِ ما نهَى، بفَوزِهم: بالنَّجاةِ مِن النَّارِ، ودُخولِهم جَنَّتَه، لا يُصيبُهم في الآخِرةِ سُوءٌ، ولا هم يَحزَنونَ.
ثمَّ يَذكُرُ اللهُ تعالى ما يدُلُّ على كمالِ قدرتِه، فيقولُ: اللهُ وَحْدَه خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قائِمٌ وحافِظٌ، له سُبحانَه وَحْدَه خزائِنُ السَّمَواتِ والأرضِ ومفاتيحُها. والَّذين كَفَروا بآياتِ اللهِ أولئك هم الخاسِرونَ.
ثمَّ يأمُرُ اللهُ رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يوبِّخَ الكافرينَ، فيقولُ: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشرِكي قُرَيشٍ: أتأمُرونَني بعبادةِ غيرِ اللهِ تعالى، أيُّها الجاهِلونَ؟!
ثمَّ يُحذِّرُ سبحانَه مِن الشِّركِ أبْلَغَ تحذيرٍ، فيقولُ: ولقد أُوحِيَ إليك -يا مُحمَّدُ- وإلى الَّذين مِن قَبْلِك مِن الأنبياءِ: لَئِنْ أشرَكْتَ باللهِ لَيَبطُلَنَّ عَمَلُك، ولَتَكونَنَّ مِن الخاسِرينَ، بل اعبُدِ اللهَ وَحْدَه -يا مُحمَّدُ- وكُنْ مِنَ الشَّاكِرينَ.

تفسير الآيات:

وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا ذكَرَ مَقالةَ الكافِرِ؛ ذكَرَ ما يَعرِضُ له يومَ القيامةِ مِن الإنذارِ بسُوءِ مُنقَلَبِه، وفي ضِمنِه وعَيدٌ لِمُعاصِريه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [1154] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/215). .
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ.
أي: وتَرى [1155] قال الألوسي: (الخِطابُ إمَّا لسَيِّدِ المُخاطَبينَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإمَّا لِكُلِّ مَن تَتأتَّى منه الرُّؤيةُ). ((تفسير الألوسي)) (12/274). ممَّن اختار الأوَّلَ: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/238)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6368). وممَّن اختار أنَّ الخِطابَ لغيرِ مُعَيَّنٍ: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/50). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 421). يومَ القيامةِ المُشرِكينَ الَّذين كَذَبوا على اللهِ -بادِّعاءِ أنَّ له شَريكًا أو وَلَدًا، أو زعْمِ أنَّه شَرَع شَيئًا وهو لم يَشرَعْه، إلى غيرِ ذلك- وُجوهُهم قد اسودَّتْ [1156] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/238)، ((تفسير القرطبي)) (15/274)، ((تفسير ابن كثير)) (7/111)، ((تفسير الشوكاني)) (4/541)، ((تفسير السعدي)) (ص: 728)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/50). قال السعدي: (الكَذِبُ على اللهِ يَشملُ: الكَذِبَ عليه باتِّخاذِ الشَّريكِ والوَلَدِ والصَّاحِبةِ، والإخبارَ عنه بما لا يَليقُ بجَلالِه، أو ادِّعاءَ النُّبُوَّةِ، أو القَولَ في شَرعِه بما لم يَقُلْه، والإخبارَ بأنَّه قالَه وشَرَعَه). ((تفسير السعدي)) (ص: 728). وقال البِقاعي: (ويَدخُلُ فيه كُلُّ مَن تكَلَّم في الدِّينِ بجَهلٍ، وكلُّ مَن كَذَب وهو يَعلَمُ أنَّه كاذِبٌ، في أيِّ شَيءٍ كان؛ فإنَّه مِن حيثُ إنَّ فِعلَه فِعلُ مَن يَظُنُّ أنَّ اللهَ لا يَعلَمُ كَذِبَه أو لا يَقدِرُ على جَزائِه، كأنَّه كَذَب على اللهِ). ((نظم الدرر)) (16/541). .
كما قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران: 106] .
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ.
أي: أليس في جَهنَّمَ مَقامٌ ومُستَقَرٌّ للَّذين تَكَبَّروا عن الحَقِّ، فأعرَضوا عن توحيدِ اللهِ، وقَبولِ شَرعِه، وامتَنَعوا عن طاعتِه في أمْرِه ونَهْيِه [1157] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/239)، ((تفسير ابن كثير)) (7/111)، ((تفسير السعدي)) (ص: 728). ؟
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن كان في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ. قال رجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أن يكونَ ثَوبُه حَسَنًا، ونَعْلُه حَسَنةً. قال: إنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ. الكِبْرُ: بَطَرُ الحَقِّ [1158] بطَرُ الحَقِّ: دَفْعُه وإنكارُه؛ ترفُّعًا وتجبُّرًا. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/90). ، وغَمْطُ النَّاسِ [1159] الغَمْطُ: الازدِراءُ والاحتِقارُ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/490). ) [1160] رواه مسلم (91). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((يُحشَرُ المُتكَبِّرونَ يومَ القيامةِ أمثالَ الذَّرِّ [1161] أمثالَ الذَّرِّ: أي: مِثلَ الذَّرَّةِ -وهي النَّملةُ الصَّغيرةُ- في الصِّغَرِ والحَقارةِ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمُظْهِري (5/256)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3192). في صُوَرِ الرِّجالِ، يَغْشاهم الذُّلُّ مِن كُلِّ مَكانٍ، فيُساقُونَ إلى سِجنٍ في جَهنَّمَ يُسمَّى «بُولَسَ»، تَعلوهم نارُ الأنْيارِ [1162] نارُ الأنْيارِ: أي: نارُ النِّيرانِ، وإضافةُ النَّارِ إليها للمُبالغةِ، كأنَّ هذه النَّارَ لِفَرطِ إحراقِها وشِدَّةِ حَرِّها تَفعَلُ بسائِرِ النِّيرانِ ما تَفعَلُ النَّارُ بغَيرِها، أو لأنَّها أصلُ نِيرانِ العالَمِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3193). ، يُسْقَونَ مِن عُصارةِ أهلِ النَّارِ؛ طِينةِ الخَبالِ [1163] طِينةِ الخَبالِ: تفسيرٌ لِما قَبْلَه، وهو اسمُ عُصارةِ أهلِ النَّارِ، وهو ما يَسيلُ منهم مِنَ الصَّديدِ والقَيحِ والدَّمِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3193). ) [1164] أخرجه الترمذي (2492) واللَّفظُ له، وأحمد (6677). قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2492)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/157)، وحسَّنه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (11/260). .
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا ذكَرَ حالةَ المتكَبِّرينَ؛ ذكَرَ حالةَ المتَّقينَ، فقال [1165] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 728). :
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ.
أي: ويُنَجِّي اللهُ الَّذين اتَّقَوُا اللهَ بامتِثالِ ما أمَرَ، واجتِنابِ ما نهَى، بفوزِهم: بنَجاتِهم مِن النَّارِ، ودُخولِهم الجنَّةَ [1166] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/240)، ((تفسير ابن كثير)) (7/111)، ((تفسير الشوكاني)) (4/541)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/52). قال ابنُ عاشور: (الباءُ للمُلابَسةِ، أي: مُتلَبِّسينَ بالفَوزِ، أو الباءُ للسَّببيَّةِ، أي: بسَبَبِ ما حَصَلوا عليه مِنَ الفَوزِ. ويجوزُ أن تكونَ المفازةُ اسمًا للفَلاةِ، سُمِّيَت مفازةً باسمِ مكانِ الفَوزِ، أي: النَّجاةِ، وتأنيثُها بتأويلِ البُقعةِ، وسَمَّوْها مَفازةً باعتبارِ أنَّ مَن حَلَّ بها سَلِمَ مِن أن يَلحَقَه عَدُوُّه، وعلى هذا المعنى فالباءُ بمعنى «في». والمفازةُ: الجنَّةُ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/52). وقال ابن الجوزي في معنى بِمَفَازَتِهِمْ: (وفيها للمفسِّرينَ ثلاثةُ أقوالٍ؛ أحدُها: بفضائلِهم، قاله السُّدِّيُّ. والثَّاني: بأعمالِهم، قاله ابنُ السَّائبِ، ومُقاتِلٌ. والثَّالثُ: بفَوزِهم مِن النَّارِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/24). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: بنَجاتِهم بأعمالِهم الحسَنةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والثَّعلبيُّ، والبغوي، والخازن. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/684)، ((تفسير الثعلبي)) (8/249)، ((تفسير البغوي)) (4/98)، ((تفسير الخازن)) (4/63). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: بفَلاحِهم: الزمخشريُّ، والبيضاوي، والنسفي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/140)، ((تفسير البيضاوي)) (5/47)، ((تفسير النسفي)) (3/190). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: بمكانِ فَوزِهم مِن الجنَّةِ: جلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ، والعُلَيميُّ. يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 615)، ((تفسير العليمي)) (6/85). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي السعود)) (7/261). وقيل: معنى قَولِه تعالى: بِمَفَازَتِهِمْ بسَبَبِ ما سبَقَ لهم من السَّعادةِ والفَوزِ عند الله تعالى. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/111). وقال الزمخشري: (بِمَفَازَتِهِمْ: بفَلاحِهم، يُقالُ: فاز بكذا؛ إذا أفلَحَ به، وظَفِرَ بمُرادِه منه. وتفسيرُ المَفازةِ قولُه: لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، كأنَّه قيل: ما مَفازَتُهم؟ فقيل: لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ، أي: يُنجِّيهم بنَفْيِ السُّوءِ والحزنِ عنهم. أو بسببِ مَنْجاتِهم، مِن قولِه تعالى: فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ [آل عمران: 188]، أي: بمَنجاةٍ منه، لأنَّ النَّجاةَ مِن أعظَمِ الفَلاحِ، وسببُ مَنجاتِهم العملُ الصَّالحُ؛ ولهذا فسَّر ابنُ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما المَفازةَ بالأعمالِ الحسَنةِ. ويجوزُ: بسببِ فَلاحِهم؛ لأنَّ العملَ الصَّالحَ سببُ الفَلاحِ، وهو دُخولُ الجنَّةِ. ويجوزُ أن يُسمَّى العملُ الصَّالحُ في نفْسِه مَفازةً؛ لأنَّه سببُها). ((تفسير الزمخشري)) (4/140). وقال البِقاعي: (بِمَفَازَتِهِمْ أي: بسببِ أنَّهم عدُّوا أنفُسَهم في مَفازةٍ بعيدةٍ مَخوفةٍ، فوقَفوا فيها عن كلِّ عمَلٍ إلَّا بدليلٍ؛ لئلَّا يَمشوا بغيرِ دليلٍ فيَهلِكوا، فأدَّتْهم تَقْواهم إلى الفوزِ، -وهو الظَّفَرُ بالمُرادِ- وزمانِه ومكانِه الَّذي سُمِّيَتِ المَفازةُ به تَفاؤُلًا). ((نظم الدرر)) (16/543). .
كما قال تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا [النبأ: 31 - 36].
لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
أي: لا يُصيبُ المتَّقينَ في الآخِرةِ سُوءٌ، ولا يُصيبُهم حُزنٌ أبَدًا [1167] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/241)، ((الوسيط)) للواحدي (3/590)، ((تفسير ابن كثير)) (7/111)، ((تفسير السعدي)) (ص: 728). قال ابنُ جريرٍ: (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتَهم مِن آرابِ الدُّنيا، إذْ صاروا إلى كرامةِ اللهِ، ونعيمِ الجِنانِ). ((تفسير ابن جرير)) (20/241). وقال ابن كثير: (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أي: ولا يَحْزُنُهم الفزعُ الأكبرُ، بل هم آمِنونَ مِن كلِّ فزَعٍ، مُزَحْزَحونَ عن كُلِّ شرٍّ، مُؤمِّلون كُلَّ خَيرٍ). ((تفسير ابن كثير)) (7/111). .
كما قال الله سُبحانَه وتعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ [الحجر: 45، 46].
وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:101 - 103].
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا أطال الكلامَ في شَرحِ الوَعدِ والوَعيدِ؛ عاد إلى دَلائِلِ الإلهيَّةِ والتَّوحيدِ، فقال [1168] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/470). :
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.
أي: اللهُ وَحْدَه خالِقُ الأشياءِ كُلِّها، فهو ربُّها ومالِكُها، والمتفَرِّدُ بالتَّصَرُّفِ فيها [1169] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/241)، ((تفسير ابن كثير)) (7/111)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/54)، ((تفسير السعدي)) (ص: 728). .
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.
أي: واللهُ على كُلِّ شَيءٍ قائِمٌ وحافِظٌ، ومُدَبِّرٌ له [1170] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/241)، ((تفسير القرطبي)) (15/274)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/544)، ((تفسير السعدي)) (ص: 728)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 429). .
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63).
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: أزِمَّةُ الأمورِ بيَدِ اللهِ تعالى وَحْدَه لا شَريكَ له، فعِندَه وَحْدَه خَزائِنُ السَّمَواتِ والأرضِ ومفاتيحُها، وهو المُنفَرِدُ بتَدبيرِها والتَّصَرُّفِ فيها [1171] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/242)، ((تفسير القرطبي)) (15/274)، ((تفسير ابن كثير)) (7/112)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/544)، ((تفسير السعدي)) (ص: 728)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/54)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 431). قال ابن كثير: (قَولُه: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قال مجاهِدٌ: المَقاليدُ هي: المفاتيحُ... وقال السُّدِّيُّ: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي: خزائِنُ السَّمَواتِ والأرضِ. والمعنى على كِلا القولَينِ: أنَّ أزِمَّةَ الأمورِ بيَدِه، له المُلكُ وله الحَمدُ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ). ((تفسير ابن كثير)) (7/112). وقال ابن جرير: (يعني تعالَى ذِكرُه بقولِه: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: له مفاتيحُ خزائِنِ السَّمواتِ والأرضِ، وبيَدِه مَغاليقُ الخَيرِ والشَّرِّ ومفاتيحُها، فما يَفْتَحْ مِن رحمةٍ فلا مُمْسِكَ لها، وما يُمْسِكْ فلا مُرسِلَ له مِن بَعدِه). ((تفسير ابن جرير)) (20/478). .
كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21] .
وقال سُبحانَه: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر: 2] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يدُ اللهِ مَلْأى لا تَغِيضُها [1172] لا تَغِيضُها: أي: لا تَنقُصُها. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (10/386). نَفَقةٌ، سَحَّاءُ اللَّيلَ والنَّهارَ [1173] سَحَّاءُ اللَّيلَ والنَّهارَ: أي: دائِمةُ الصَّبِّ والهَطلِ بالعَطاءِ. يُنظر: ((المصدر السابق)). ، أرَأَيْتُم ما أنفَقَ مُنذُ خَلَق السَّماءَ والأرضَ؟ فإنَّه لم يَغِضْ ما في يَدِه، وكان عَرشُه على الماءِ، وبيَدِه الميزانُ، يَخفِضُ ويَرفَعُ )) [1174] رواه البخاري (4684) واللفظ له، ومسلم (993). .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا بَيَّن مِن عَظَمتِه ما يَقتَضي أن تَمتلِئَ القُلوبُ له إجلالًا وإكرامًا؛ ذكَرَ حالَ مَن عَكَس القَضيَّةَ فلم يَقدُرْه حَقَّ قَدْرِه [1175] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 729). !
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.
أي: والَّذين كَفَروا بآياتِ اللهِ وحُجَجِه الدَّالَّةِ عليه -سُبحانَه- وعلى وَحدانيَّتِه: أولئك هم الَّذين خَسِروا نَصيبَهم مِنَ الخَيرِ الَّذي بيَدِ اللهِ تعالى؛ فهم مَخذولونَ في الدُّنيا عن الإيمانِ والعمَلِ الصَّالحِ، مُخَلَّدونَ يومَ القيامةِ في النَّارِ، مَحرومونَ مِن دُخولِ الجنَّةِ [1176] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/242)، ((تفسير القرطبي)) (15/275)، ((تفسير ابن كثير)) (7/112)، ((تفسير السعدي)) (ص: 728)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/55)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 433). .
كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15] .
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64).
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشرِكي قُرَيشٍ: أتأمُرونَني بعِبادةِ غَيرِ اللهِ تعالى، أيُّها الجاهِلونَ بعَظَمتِه وباستِحقاقِه العِبادةَ وَحْدَه دونَ ما سِواه [1177] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/243)، ((تفسير الزمخشري)) (4/141)، ((تفسير القرطبي)) (15/276)، ((تفسير ابن كثير)) (7/112)، ((تفسير السعدي)) (ص: 729)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/57، 58). ؟!
كما قال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: 14] .
وقال سُبحانَه: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 164] .
وقال عزَّ وجَلَّ: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 8، 9].
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65).
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ.
أي: ولقد أُوحِيَ إليك -يا مُحمَّدُ- وأُوحِيَ إلى الَّذين مِن قَبْلِك مِنَ الأنبياءِ: لَئِنْ أشرَكْتَ باللهِ لَيَبطُلَنَّ عَمَلُك الصَّالِحُ، فلا يُثيبُك اللهُ عليه [1178] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/244)، ((تفسير القرطبي)) (15/276، 277)، ((تفسير البيضاوي)) (5/48)، ((تفسير الشوكاني)) (4/544)، ((تفسير السعدي)) (ص: 729)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/58، 59). قال الشوكاني: (هذا الكلامُ مِن بابِ التَّعريضِ لِغَيرِ الرُّسُلِ؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَه قد عَصَمَهم عن الشِّركِ، ووَجْهُ إيرادِه على هذا الوَجهِ: التَّحذيرُ والإنذارُ للعبادِ مِن الشِّركِ؛ لأنَّه إذا كان مُوجِبًا لإحباطِ عَمَلِ الأنبياءِ على الفَرضِ والتَّقديرِ، فهو مُحبِطٌ لعَمَلِ غَيرِهم مِن أُمَمِهم بطَريقِ الأَولى). ((تفسير الشوكاني)) (4/544). وقال القاسمي: (وإطلاقُ الإحباطِ هنا يَستَدِلُّ به مَن ذَهَب إلى أنَّ الرِّدَّةَ مُبطِلةٌ للعَمَلِ مُطلَقًا، كالحَنَفيَّةِ. وغيرُهم يرَى الإحباطَ مُقيَّدًا بالاستمرارِ عليه إلى الموتِ، وأنَّه هو المُحبِطُ في الحقيقةِ، وأنَّه إنَّما تَرَك التَّقييدَ به اعتِمادًا على التَّصريحِ به في آيةٍ أخرى، وهي قَولُه تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [البقرة: 217] ). ((تفسير القاسمي)) (8/295). وممَّن اختار أنَّ هذه الآيةَ مُقَيَّدةٌ بالموتِ على الشِّركِ، كما في الآيةِ الأخرى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ [البقرة: 217] : ابنُ تيميَّة، والشوكاني. يُنظر: ((شرح العمدة- كتاب الصلاة)) لابن تيمية (ص: 39)، ((تفسير الشوكاني)) (4/544). قال ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا الرِّدَّةُ عن الإسلامِ بأن يَصيرَ الرَّجُلُ كافِرًا مُشرِكًا أو كِتابيًّا، فإنَّه إذا مات على ذلك حَبِطَ عَمَلُه باتِّفاقِ العُلَماءِ، كما نَطَق بذلك القُرآنُ في غيرِ مَوضِعٍ؛ كقَولِه تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ [البقرة: 217] ، وقَولِه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة: 5] ، وقَولِه: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 88] ، وقَولِه: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. ولكِنْ تَنازَعوا فيما إذا ارتَدَّ ثمَّ عاد إلى الإسلامِ: هل تَحبَطُ الأعمالُ الَّتي عَمِلَها قبْلَ الرِّدَّةِ أم لا تَحبَطُ إلَّا إذا مات مُرتدًّا؟ على قولَينِ مَشهورَينِ، هما قَولانِ في مَذهَبِ الإمامِ أحمَدَ. والحُبوطُ: مَذهَبُ أبي حنيفةَ ومالكٍ. والوُقوفُ: مَذهَبُ الشَّافعيِّ). ((مجموع الفتاوى)) (4/257). ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/462). .
كما قال الله تعالى: وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 84 - 88] .
وقال سُبحانَه وتعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 217] .
وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
أي: ولَتَكونَنَّ -إنْ أشرَكْتَ باللهِ- مِن جُملةِ الَّذين خَسِروا ثوابَ أعمالِهم، واستحقُّوا عذابَ اللهِ [1179] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/244)، ((تفسير الزمخشري)) (4/142)، ((تفسير السعدي)) (ص: 729)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/59). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة: 5] .
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66).
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ.
أي: بَلِ [1180] قيل: بَلِ لإبطالِ مَضمونِ جُملةِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ، أي: بل لا تُشرِكْ، أو لإبطالِ مَضمونِ جُملةِ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/59، 60). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/548)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 443). اعبُدِ اللهَ وَحْدَه -يا مُحمَّدُ- دونَ ما سِواه مِن الآلهةِ، مُخلِصًا له في عِبادتِك [1181] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/244)، ((تفسير ابن كثير)) (7/112)، ((تفسير السعدي)) (ص: 729)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/59، 60). .
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا كانت عِبادتُه لا يُمكِنُ أن تَقَع إلَّا شُكرًا؛ لِما له مِن عُمومِ النِّعَمِ سابِقًا ولاحِقًا -وشُكرُ المُنعِمِ واجِبٌ- نَبَّه على ذلك [1182] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/548). .
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
أي: وكُنْ مِنَ الشَّاكِرينَ لله على نِعَمِه بالأعمالِ الصَّالِحةِ [1183] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/244)، ((تفسير القرطبي)) (15/277)، ((تفسير السعدي)) (ص: 729)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/60)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 445). .
كما قال تعالى: اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا صلَّى قام حتَّى تَفطَّرَ رِجْلاه! قالت عائِشةُ: يا رَسولَ اللهِ، أتصنَعُ هذا وقد غُفِرَ لك ما تقَدَّمَ مِن ذَنْبِك وما تأخَّرَ؟! فقال: يا عائِشةُ، أفلا أكونُ عَبدًا شَكورًا؟!)) [1184] رواه البخاري (4837)، ومسلم (2820) واللَّفظُ له. .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ التَّحذيرُ مِن التَّكَبُّرِ، وأنَّ عُقوبةَ المُتكبِّرِين دُخولُ النَّارِ، بل إذا كان التَّكبُّرُ تَكبُّرًا مُطلَقًا فإنَّ عُقوبتَه السُّكنى في النَّارِ، والخُلودُ في النَّارِ، أمَّا مَن تَكَبَّرَ مُطلَقَ تَكَبُّرٍ فهذا لا يُحكَمُ له بالخُلودِ في النَّارِ؛ لأنَّه قد يَتَكبَّرُ عن بَعضِ الحَقِّ، أو يَتكَبَّرُ على الخَلقِ؛ فلا يَستَحِقُّ الخُلودَ [1185] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 424). .
2- قولُه تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا فيه التَّرغيبُ في هذا الوصفِ الجليلِ الَّذي هو التَّقْوى [1186] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/216). .
3- في قَولِه تعالى: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَفْتُ نَظَرِ الإنسانِ إلى ألَّا يَستعينَ إلَّا بالله تعالى، ولا يَسألَ إلَّا اللهَ تعالى، ولا يَتوكَّلَ إلَّا على اللهِ تعالى؛ وجْهُ ذلك: أنَّه هو الَّذي له مَقاليدُ السَّمواتِ والأرضِ؛ فإذًا لا تَلتفِتْ إلى غيرِه [1187] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 435). .
4- قَولُه تعالى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ فيه وُجوبُ إخلاصِ العبادةِ للهِ تعالى؛ والإخلاصُ للهِ تعالى هو مِن شُكْرِ اللهِ؛ لأنَّه أعقَبَ قَولَه: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ بقَولِه تعالى: وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [1188] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 446). .
5- قولُه تعالى: وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ فيه وُجوبُ الشُّكرِ على كلِّ أحدٍ [1189] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 446). ، وكما أنَّ اللهَ تعالى يُشكَرُ على النِّعَمِ الدُّنيويَّةِ، كصِحَّةِ الجِسمِ وعافيتِه، وحُصولِ الرِّزقِ وغَيرِ ذلك؛ كذلك يُشكَرُ ويُثْنَى عليه بالنِّعَمِ الدِّينيَّةِ، كالتَّوفيقِ للإخلاصِ والتَّقْوى. بل نِعَمُ الدِّينِ هي النِّعَمُ على الحقيقةِ، وفي تدبُّرِ أنَّها مِنَ اللهِ تعالى، والشُّكرِ للهِ عليها: سَلامةٌ مِن آفةِ العُجبِ الَّتي تَعرِضُ لكثيرٍ مِن العامِلينَ؛ بسَبَبِ جَهْلِهم [1190] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 729). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ فكما سَوَّدوا وَجْهَ الحَقِّ بالكَذِبِ، سَوَّد اللهُ وُجوهَهم؛ جزاءً مِن جِنسِ عَمَلِهم [1191] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 728). .
2- الحاكِمُ والمُفتي والشَّاهِدُ: كُلٌّ مِنهم مُخبِرٌ عن حُكمِ اللهِ؛ فالحاكِمُ مُخبِرٌ مُنفِّذٌ، والمُفتي مُخبِرٌ غيرُ مُنفِّذٍ، والشَّاهِدُ مُخبِرٌ عن الحُكمِ الكَونيِّ القَدَريِّ المُطابِقِ للحُكمِ الدِّينيِّ الأمْريِّ؛ فمَنْ أخبَرَ منهم عمَّا يَعلَمُ خِلافَه فهو كاذِبٌ على اللهِ عَمدًا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ، ولا أظلَمَ مِمَّن كَذَب على اللهِ وعلى دينِه، وإنْ أخبَروا بما لم يَعلَموا فقد كَذَبوا على اللهِ جَهلًا وإنْ أصابوا في الباطِنِ، وأخبَروا بما لم يأذَنِ اللهُ لهم في الإخبارِ به، وهم أسْوَأُ حالًا مِن القاذِفِ إذا رأى الفاحِشةَ وَحْدَه فأخبَرَ بها؛ فإنَّه كاذِبٌ عندَ اللهِ، وإن أخبَرَ بالواقِعِ؛ فإنَّ اللهَ لم يأذَنْ له في الإخبارِ بها إلَّا إذا كان رابِعَ أربعةٍ، فإنْ كان كاذِبًا عندَ اللهِ في خبَرٍ مُطابِقٍ لِمَخْبَرِه؛ حيثُ لم يأذَنْ له في الإخبارِ به، فكيف بمَن أخبَرَ عن حُكمِه بما لم يَعلَمْ أنَّ اللهَ حَكَمَ به، ولم يأذَنْ له في الإخبارِ به؟! وهذه الآياتُ وإن كانت في حَقِّ المُشرِكينَ والكُفَّارِ فإنَّها مُتناوِلةٌ لِمَن كَذَب على اللهِ في تَوحيدِه ودِينِه، وأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه، ولا تَتناوَلُ المُخطِئَ المأجورَ إذا بَذَل جُهْدَه واستَفرَغَ وُسْعَه في إصابةِ حُكمِ اللهِ وشَرْعِه؛ فإنَّ هذا هو الَّذي فَرَضه اللهُ عليه، فلا يَتناوَلُ المُطيعَ لله وإنْ أخطَأ [1192] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/133). .
3- في قَولِه تعالى: لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أنَّ هؤلاء النَّاجِينَ لا يَمَسُّهُم سوءٌ في المستقبَلِ؛ ولا يَحزَنونَ على شَيءٍ مَضَى؛ وبذلك يَتِمُّ نعيمُهم؛ لأنَّ النَّعيمَ يَنْقُصُ إذا أصاب الإنسانَ هَمٌّ أو غَمٌّ للمُستقبَلِ، ويَنْقُصُ أيضًا إذا أصابَه حُزْنٌ على الماضي، أمَّا إذا عَرَف أنَّه كَسَبَ الماضيَ، وأنَّه لن يَنالَه سوءٌ في المستقبَلِ؛ فسوف يَتِمُّ له النَّعيمُ [1193] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 427). .
4- قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هذا عامٌّ مَحفوظٌ لا يَخرُجُ عنه شَيءٌ مِن العالَمِ؛ أعيانِه وأفعالِه، وحَرَكاتِه وسَكَناتِه، وليس مخصوصًا بذاتِه وصِفاتِه؛ فإنَّه الخالِقُ بذاتِه وصِفاتِه، وما سِواه مخلوقٌ له، واللَّفظُ قد فَرَّق بيْن الخالِقِ والمخلوقِ، وصِفاتُه سُبحانَه داخِلةٌ في مُسمَّى اسمِه؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه اسمٌ للإلهِ المَوصوفِ بكُلِّ صِفةِ كَمالٍ، المنَزَّهِ عن كُلِّ صِفةِ نَقصٍ ومِثالٍ، والعالَمُ قِسْمانِ: أعيانٌ وأفعالٌ، وهو الخالِقُ لأعيانِه، وما يَصدُرُ عنها مِن الأفعالِ، كما أنَّه العالِمُ بتفاصيلِ ذلك؛ فلا يَخرُجُ شَيءٌ منه عن عِلمِه، ولا عن قُدرتِه، ولا عن خَلْقِه ومَشيئتِه [1194] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 53). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 429). .
5- استدَلَّ الجَهميَّةُ على قَولِهم الباطِلِ بخَلقِ القُرآنِ، بِقَولِه تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16] ، قالوا: والقُرآنُ شَيءٌ! فأجابهم السَّلَفُ بأنَّ القُرآنَ كَلامُه، وكلامُه مِن صِفاتِه، وصِفاتُه داخِلةٌ في مُسمَّى اسمِه؛ كعِلْمِه وقُدرتِه وحياتِه، وسَمْعِه وبصَرِه، ووَجْهِه ويَدَيه؛ فليس اللهُ اسمًا لِذَاتٍ لا نَعْتَ لها ولا صِفةَ ولا فِعلَ، ولا وَجْهَ ولا يَدينِ؛ ذلك إلهٌ مَعدومٌ مَفروضٌ في الأذهانِ، لا وُجودَ له في الأعيانِ [1195] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/337). !
6- في قَولِه تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الرَّدُّ على القَدَريَّةِ الَّذين قالوا: إنَّ الإنسانَ خالقُ أفعالِه. ووجهُ الرَّدِّ: أنَّ أفعالَ العِبادِ شَيءٌ مِن الأشياءِ؛ فتَكونُ داخِلةً في العُمومِ [1196] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 429). .
7- في قَولِه تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هذه العِبارةُ وما أشبَهَها ممَّا هو كثيرٌ في القُرآنِ: تدُلُّ على أنَّ جَميعَ الأشياءِ -غيرَ اللهِ- مَخلوقةٌ؛ ففيها ردٌّ على كُلِّ مَن قال بقِدَمِ بَعضِ المَخلوقاتِ، كالفلاسِفةِ القائِلينَ بقِدَمِ الأرضِ والسَّمَواتِ، وكالقائِلينَ بقِدَمِ الأرواحِ، ونحوِ ذلك مِن أقوالِ أهلِ الباطِلِ المتضَمِّنةِ تَعطيلَ الخالِقِ عن خَلْقِه [1197] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 728). !
8- في قَولِه تعالى: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أنَّ أعمالَ العبادِ مَخلوقةٌ للهِ تعالى؛ لأنَّ فِعلَ العَبدِ لو وَقَع بتَخليقِ العبدِ لَكان ذلك الفِعلُ غيرَ مَوكولٍ إلى اللهِ تعالى؛ فلم يَكُنِ اللهُ تعالى وكيلًا عليه، وذلك يُنافي عُمومَ الآيةِ [1198] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/470). .
9- في قَولِه تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ عنايةُ اللهِ سُبحانَه وتعالى بما خَلَقَ؛ لأنَّه لَمَّا ذَكَرَ أنَّه خَلَق كلَّ شيءٍ بَيَّنَ أنَّه على كلِّ شيءٍ وكيلٌ، وهذا يدُلُّ على عنايةِ اللهِ تبارَك وتعالى بخَلْقِه [1199] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 430). .
10- في قَولِه تعالى: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هذه المقَدِّمةُ تُشيرُ إلى أنَّ اللهَ تعالى هو مُعطي ما يَشاءُ لِمَن يَشاءُ مِن خَلْقِه، ومِن أعظَمِ ذلك النُّبوَّةُ وهَدْيُ الشَّريعةِ؛ فإنَّ جَهْلَ المُشرِكينَ بذلك هو الَّذي جرَّأهم على أنْ أنكَروا اختِصاصَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالرِّسالةِ دُونَهم، واختِصاصَ أتْباعِه بالهُدى، فقالوا: أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [1200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/55). [الأنعام: 53] !
11- في قَولِه تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ أنَّه إذا كان المشركونَ يُحاوِلونَ أنْ يُشْرِكَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فما بالُك بأتْباعِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؟! فإنَّهم سوفَ يُحاوِلونَ أنْ يَجعلوهم مُشركينَ أكثرَ مِن مُحاوَلتِهم إشراكَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويَتَفَرَّعُ على هذه الفائدةِ: الحذرُ مِن دعاةِ الشِّركِ والكفرِ، الَّذين يُحاوِلونَ بكلِّ ما يَستطيعونَ أنْ يُضَلِّلُوا المُسلِمينَ، ويَعمَلونَ على إخراجِهم مِن دينِهم [1201] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 439). .
12- قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ في تَقديرِ فَرضِ وُقوعِ الإشراكِ مِنَ الرَّسولِ والَّذينَ مِن قَبْلِه مع تَحقُّقِ عِصمَتِهم: التَّنبيهُ على عِظَمِ أمْرِ التَّوحيدِ، وخَطَرِ الإشراكِ؛ لِيَعلَمَ النَّاسُ أنَّ أعلى الدَّرجاتِ في الفَضلِ لو فُرِضَ أنْ يَأتيَ عليها الإشراكُ لَمَا أَبقَى منها أثرًا، ولَدَحَضَها دَحْضًا [1202] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/59). !
13- في قَولِه تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ أنَّ الشِّركَ -والعياذُ باللهِ- مَحبَطةٌ للعَمَلِ، وأنَّه يُبطِلُ جَميعَ أعمالِ الإنسانِ [1203] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/468). ، ويُستدَلُّ بهذه الآيةِ على حُبوطِ عَمَلِ المرتَدِّ مِن صلاةٍ وغَيرِها [1204] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/219). قال ابنُ العربي: (إنَّه بيانٌ أنَّ الكُفرَ يُحبِطُ العمَلَ كيف كان، ولا يَعني به الكُفرَ الأصليَّ؛ لأنَّه لم يكُنْ فيه عَمَلٌ يُحبَطُ، وإنَّما يعني به أنَّ الكُفرَ يُحبِطُ العَمَلَ الَّذي كان مع الإيمانِ... وقد بَيَّن اللهُ تعالى ذلك بقَولِه: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 88] ، وقال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة: 5] ، فمَن كَفَر مِن أهلِ الإيمانِ حَبِطَ عَمَلُه). ((أحكام القرآن)) (4/79). .
14- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ أنَّ في نُبُوَّةِ جَميعِ الأنبياءِ أنَّ الشِّركَ مُحبِطٌ لجَميعِ الأعمالِ، كما قال تعالى في سورةِ (الأنعامِ) لَمَّا عدَّدَ كَثيرًا مِن أنبيائِه ورُسُلِه؛ قال عنهم: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [1205] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 729). [الأنعام: 88] .
15- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ سُؤالٌ: كيف صَحَّ هذا الكلامُ مع عِلمِ اللهِ تعالى أنَّ رُسُلَه لا يُشرِكونَ ولا تَحبَطُ أعمالُهم؟! الجوابُ: أنَّ قَولَه تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ هو على سَبيلِ الفَرضِ، والمُحالاتُ يَصِحُّ فَرْضُها [1206] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/219). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (27/472). ، وهو شرطٌ، والشَّرطُ لا يَقتضي جَوازَ الوُقوعِ، كقولِه: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ الآيةَ [الزخرف: 81] على القولِ بأنَّ (إنْ) شرطيَّةٌ، وقولِه: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا الآيةَ [الأنبياء: 17] ، وقولِه: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا الآيةَ [1207] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/487) و (4/139). [الزمر: 4] .
وقيل: الخِطابُ في قولِه: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ كالخِطابِ العامِّ المُوَجَّهِ لجميعِ النَّاسِ وإن كان لفظُه مفردًا، كما هو معروفٌ، كقولِ طَرَفةَ بنِ العبدِ [1208] يُنظر: ((ديوان طرفة بن العبد)) (ص: 29). :
ستُبْدي لك الأيَّامُ ما كنتَ جاهلًا      ويأتيك بالأخبارِ مَنْ لم تُزَوِّدِ [1209] قوله: (ويأتيكَ بالأخبارِ مَن لم تُزَوِّدِ) معناه: يأتيك بالخبرِ مَن لم تَسألْه عن ذلك. يُنظر: ((شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات)) لأبي بكر الأنباري (ص: 230).
فإنَّ هذا الخِطابَ لَفْظُه كأنَّه مُفرَدٌ، ومعناه عامٌّ موجَّهٌ لكلِّ مَن يصِحُّ منه الخِطابُ [1210] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/173). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 86). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ
- قولُه: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ عطْفٌ على إحْدَى الجُمَلِ المُتقَدِّمةِ المُتَعلِّقةِ بعَذابِ المُشركينَ في الدُّنيا والآخِرةِ، والأحسَنُ أنْ يَكونَ عَطفًا على جملةِ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا [الزمر: 51] ، أي: في الدُّنيا كما أَصابَ الَّذينَ مِن قَبْلِهم، ويَومَ القيامةِ تَسْوَدُّ وُجوهُهم، فيَجوزُ أنْ يَكونَ اسْوِدادُ الوُجوهِ حقيقةً جَعَلَه اللهُ عَلامةً لهم، وجعَلَ بَقيَّةَ النَّاسِ بخِلافِهم، وقد جعَلَ اللهُ اسْوِدادَ الوُجوهِ يَومَ القيامةِ عَلامةً على سوءِ المَصيرِ، كما جعَلَ بَياضَها عَلامةً على حُسنِ المَصيرِ [1211] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/49). . ويَحتمِلُ أنْ يَكونَ عبَّرَ بالسَّوادِ عن اربِدادِ [1212] الارْبِدادُ والرُّبْدَة: الغُبْرةُ، أو لَونٌ إلى الغُبْرةِ، وقيل: هو لونٌ بيْن السَّوادِ والغُبْرةِ، وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((مشارق الأنوار)) للقاضي عياض  (2/ 246)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (8/82). وُجوهِهم، وغالِبِ همِّهم، وظاهِرِ كآبَتِهم [1213] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/216). .
- والَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ هُمُ الَّذينَ نَسَبوا إليه ما هو مُنَزَّهٌ عنه مِنَ الشَّريكِ وغيرِ ذلك مِن تَكاذيبِ الشِّركِ؛ فـ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ هُمُ الَّذينَ ظَلَموا، الَّذينَ ذُكِروا في قولِه: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا [الزمر: 51] ، وُصِفوا أوَّلًا بالظُّلْمِ، ثمَّ وُصِفوا بالكَذِبِ على اللهِ في حكايةٍ أخرى؛ فليس قولُه: الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ إظهارًا في مَقامِ الإضمارِ [1214] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/50). .
- وجملةُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ واقِعةٌ مَوقِعَ الاستِئنافِ البَيانيِّ لجُملةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ، ولتَعليلِ اسْوِدادِ وُجوهِهم؛ لأنَّ السَّامعَ يَسألُ عن سببِ اسْوِدادِ الوُجوهِ، فيُجابُ بأنَّ في جَهنَّمَ مَثْواهُم، يعني: لأنَّ السَّوادَ يُناسِبُ ما سيَلْفَحُ وُجوهَهم مِن مَسِّ النَّارِ، فأُجيبَ بطريقةِ الاستِفهامِ التَّقريريِّ؛ لتَقريرِ ما قَبْلَه مِن رُؤيتِهم كذلك، بتَنزيلِ السَّائلِ المُقَدَّرِ مَنزِلةَ مَن يَعلَمُ أنَّ مَثْواهُم جَهنَّمُ، فلا يَليقُ به أنْ يَغفُلَ عن مُناسَبةِ سَوادِ وُجوهِهم لِمَصيرِهم إلى النَّارِ؛ فإنَّ للدَّخائلِ عَناوينَها [1215] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/47)، ((تفسير أبي السعود)) (7/260)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/50، 51)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/441). .
- وتعريفُ المُتكبِّرينَ في قولِه: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ للاستِغراقِ، ووَصْفُهم بالمُتكبِّرينَ إيماءٌ إلى أنَّ عِقابَهم بتَسويدِ وُجوهِهم كان مُناسِبًا لكِبريائِهم؛ لأنَّ المُتكبِّرَ إذا كان سَيِّئَ الوَجهِ انكسَرَتْ كِبرياؤُه؛ لأنَّ الكِبرياءَ تَضعُفُ بمِقدارِ شُعورِ صاحِبِها بمَعرفةِ النَّاسِ نَقائصَه [1216] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/51). .
2- قولُه تعالَى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
- قولُه: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ ... عَطفٌ على جُملةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60] إلى آخِرِها، أي: ويُنَجِّي اللهُ الَّذينَ اتَّقوا مِن جَهنَّمَ؛ لأنَّهم ليسوا بمُتكبِّرينَ، وهذا إيذانٌ بأنَّ التَّقْوى تُنافي التَّكبُّرَ؛ لأنَّ التَّقوى كمالُ الخُلُقِ الشَّرعيِّ، وتَقتَضي اجتِنابَ المَنْهيَّاتِ، وامتِثالَ الأمرِ في الظَّاهرِ والباطِنِ. والكِبْرُ مرَضٌ قَلْبيٌّ باطِنيٌّ، فإذا كان الكِبْرُ مُلْقيًا صاحِبَه في النَّارِ بحُكمِ قَولِه: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 60] ، فضِدُّ أولئك ناجُون منها وهُمُ المُتَّقونَ؛ إذِ التَّقْوى تَحولُ دُونَ أسبابِ العِقابِ الَّتي منها الكِبْرُ، فالَّذينَ اتَّقوا هُم أهْلُ التَّقْوى وهي مَعروفةٌ؛ ولذلك ففِعلُ اتَّقَوْا مُنَزَّلٌ مَنزِلةَ اللَّازمِ لا يُقَدَّرُ له مَفعولٌ [1217] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/51، 52). .
- وإضافةُ مَفازةٍ إلى ضَميرِهم في قولِه: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ كِنايةٌ عن شِدَّةِ تَلَبُّسِهم بالفَوزِ حتَّى عُرِفَ بهم، كما يُقالُ: فازَ فَوْزَ فُلانٍ، وهذه الإضافةُ لتَعريفِها بهم، أي: المَفازةِ الَّتي عَلِمتُم أنَّها لهم، وهي الجَنَّةُ، وقد عُلِم ذلك مِن آياتٍ وأخبارٍ؛ منها قولُه: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا [1218] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/216)، ((تفسير أبي السعود)) (7/261)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/52). [النبأ: 31 - 33] .
- وجملةُ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ مُبَيِّنةٌ ومُفَسِّرةٌ لجُملةِ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ، كأنَّه قيل: ما مَفازَتُهم؟ فقيل: لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ، أي: يُنَجِّيهم بنَفْيِ السُّوءِ والحُزنِ عنهم؛ لأنَّ نَفْيَ مَسِّ السُّوءِ هو إنجاؤُهم، ونَفْيَ الحُزنِ عنهم نَفْيٌ لأثَرِ المَسِّ السُّوءِ، وهي حالٌ مُفيدةٌ لكَونِ نَجاتِهم أو فَوْزِهم بالجَنَّةِ غَيْرَ مَسبوقةٍ بمَساسِ العَذابِ والحُزنِ [1219] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/140)، ((تفسير أبي السعود)) (7/261)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/53). .
- وجيءَ في جانبِ نَفْيِ السُّوءِ بالجُملةِ الفِعليَّةِ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ؛ لأنَّ ذلك لنَفْيِ حالةِ أهْلِ النَّارِ عنهم، وأهْلُ النَّارِ في مَسٍّ مِنَ السُّوءِ مُتَجدِّدٍ، وجيءَ في نَفْيِ الحُزنِ عنهم بالجُملةِ الاسميَّةِ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ؛ لأنَّ أهْلَ النَّارِ أيضًا في حُزنٍ وغَمٍّ ثابتٍ لازِمٍ لهم. ومِن لَطيفِ التَّعبيرِ هذا التَّفَنُّنُ؛ فإنَّ شأنَ الأَسْواءِ الجسَديَّةِ تَجدُّدُ آلامِها، وشأنَ الأكدارِ القَلبيَّةِ دَوامُ الإحساسِ بها [1220] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/53). .
3- قولُه تعالَى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ استِئنافٌ ابتِدائيٌّ تَمهيدٌ لقولِه: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر: 64] في ذِكرِ تَمسُّكِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والرُّسلِ مِن قَبْلِه بالتَّوحيدِ، ونَبْذِ الشِّركِ والبَراءةِ منه، والتَّصلُّبِ في مَقاوَمتِه، والتَّصميمِ على قَطعِ دابِرِه. وجُعِلَتِ الجُمَلُ الثَّلاثُ مِن قَولِه: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إلى قولِه: السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُقدِّماتٍ تؤيِّدُ ما يَجيءُ بَعْدَها مِن قولِه: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [1221] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/53). [الزمر: 64] .
- وجيءَ بجملةِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ مَعطوفةً؛ لِأنَّ مَدلولَها مُغايرٌ لِمَدلولِ الَّتي قَبْلَها مِن قولِه: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. والوكيلُ: المُتصرِّفُ في شَيءٍ بدُونِ تَعقُّبٍ، ولَمَّا لم يُعَلَّقْ بذلك الوَصفِ شَيءٌ عُلِم أنَّه مَوكولٌ إليه جِنسُ التَّصرُّفِ وحقيقتُه الَّتي تَعُمُّ جميعَ أفرادِ ما يُتصَرَّفُ فيه؛ فعَمَّ تَصَرُّفُه أحوالَ جميعِ المَوجوداتِ مِن تقديرِ الأعمالِ والآجالِ والحرَكاتِ، وهذه المُقدِّمةُ تَقتَضي الاحتياجَ إليه بالإمدادِ، فهُمْ بعْدَ أنْ أَوجَدَهم لم يَستَغْنوا عنه لَمحةً ما [1222] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/54). .
4- قولُه تعالَى: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
- جملةُ: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جيءَ بها مَفصولةً؛ لأنَّها تُفيدُ بيانَ الجُملةِ الَّتي قَبْلَها مِن قولِه: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ؛ فإنَّ الوكيلَ على شَيءٍ يَكونُ هو المُتصرِّفَ في العطاءِ والمنعِ [1223] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/54). .
- وفيها مَزيدُ دَلالةٍ على الاستِقلالِ والاستِبدادِ؛ لأنَّ الخزائنَ لا يَدخُلُها ولا يَتصرَّفُ فيها إلَّا مَن بيَدِه مَفاتيحُها؛ فهي كِنايةٌ عن حِفظِ ذَخائرِها، فذَخائرُ الأرضِ عَناصِرُها ومَعادِنُها وكَيفيَّاتُ أجوائِها وبِحارِها، وذَخائرُ السَّمواتِ سَيْرُ كَواكِبِها وتَصرُّفاتِ أرواحِها في عَوالِمِها وعَوالِمِنا وما لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ تعالى، ولَمَّا كانت تلك العناصِرُ والقُوى شَديدةَ النَّفعِ للنَّاسِ، وكان النَّاسُ في حاجةٍ إليها؛ شُبِّهَتْ بنَفائسِ المَخزوناتِ [1224] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/140)، ((تفسير البيضاوي)) (5/47)، ((تفسير أبي السعود)) (7/261)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/54). .
- وقَدَّمَ الخَبَرَ في قَولِه: لَهُ مَقَالِيدُ، وتقديمُ الخَبَرِ يُفيدُ الحصرَ، أي: أنَّ المُدَبِّرَ للسَّمواتِ والأرضِ هو اللهُ تعالى وحْدَه [1225] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 435). .
- قولُه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ مُتَّصِلٌ بقَولِه: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، وما بيْنَهما اعتِراضٌ للدَّلالةِ على أنَّه مُهَيمِنٌ على العبادِ، مُطَّلِعٌ على أفْعالِهِم، مُجازٍ عليها، وقد جُعِل مُتَّصِلًا بما يليهِ على أنَّ كُلَّ شَيءٍ في السَّمَواتِ والأرضِ فاللهُ خالِقُه، وفاتِحُ بابِهِ، والَّذين كَفَروا وجَحَدوا أنْ يكونَ الأمْرُ كذلك أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [1226] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/140)، ((تفسير البيضاوي)) (5/47)، ((تفسير أبي السعود)) (7/262). .
- وتَغْييرُ النَّظْمِ من التَّعْبيرِ بالجُمْلةِ الفِعْليَّةِ وَيُنَجِّي اللَّهُ ... إلى التَّعْبيرِ بالجُمْلةِ الاسميَّةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ؛ للإشْعارِ بأنَّ العُمْدةَ في فَلاحِ المُؤمِنينَ فَضْلُ اللهِ، فلذا جعَل نجاتَهم مُسنَدةً له تعالى، غيرَ ثابتةٍ قبْلَ ذلك بالاستِحقاقِ والأعمالِ، بخلافِ هلاكِ الكفرةِ؛ فإنَّهم قدَّموه لأنفُسِهم بما اتَّصَفوا به مِن الكفرِ والضَّلالِ، كما أنَّ فيه التَّصْريحَ بالوَعْدِ والتَّعْريضَ بالوعيدِ، حيثُ قيل: الْخَاسِرُونَ، ولم يُقَلِ: الهالِكونَ أو المعَذَّبونَ أو نحوَه [1227] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/47، 48)، ((تفسير الألوسي)) (12/277). .
وقيل: لَمَّا كان التَّقديرُ: فالَّذين آمَنوا باللهِ، وتقبَّلوا آياتِه أولئك هم الفائزونَ، عطَف عليه قولَه الَّذي اقتضاه سياقُ التَّهديدِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [1228] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/544). .
- وفي قولِه: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ تَخْصيصُ الخَسارِ بهم؛ لأنَّ غَيرَهُم ذو حظٍّ مِن الرَّحْمةِ والثَّوابِ، مع ما في اسْمِ الإشارةِ مِن البُعدِ، فهُمُ البُعَداءُ الَّذين كَفَروا، فإنَّهم خَسِروا نُفوسَهُم وكُلَّ شَيءٍ يَتَّصِلُ بها على وَجهِ النَّفعِ؛ لأنَّ كُفرَهم أقبَحُ الكُفرِ مِن حيث إنَّه مُتعلِّقٌ بأظهَرِ الأشياءِ، وهي الآياتُ الظَّاهِرةُ [1229] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/47، 48)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/467). .
- وكذلك جملةُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ تَحتمِلُ الاعتِراضَ، ولكنَّ اقتِرانَها بالواوِ بعْدَ نَظائِرِها يُرَجِّحُ أنْ تَكونَ الواوُ فيها عاطفةً، وأنَّها مَقصودةٌ بالعَطفِ على ما قَبْلَها؛ لأنَّ فيها زيادةً على مُفادِ الجُملةِ قَبْلَها، وهي مُقدِّمةٌ مَقصودٌ بها تَجهيلُ الَّذينَ كَفَروا الَّذينَ هُم ضِدُّ المَقصودِ مِن هذه المُقدِّماتِ مِنَ الاهتِداءِ؛ فإنَّ الاستِدلالَ على الحقِّ بإبطالِ ضِدِّه ضَربٌ مِن ضُروبِ الاستِدلالِ؛ لأنَّ الاستِدلالَ يَعودُ إلى تَرغيبٍ وتَنفيرٍ، فإذا كان الَّذين كَفَروا بآياتِ اللهِ خاسِرينَ؛ لا جَرَمَ كان الَّذينَ آمَنوا بآياتِ اللهِ هُمُ الفائزينَ [1230] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/55). .
- وأيضًا جُملةُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ تُقابِلُ جُملةَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ [الزمر: 61] المُنتقَلَ منها إلى هؤلاء الآياتِ، وهي مع ذلك مُفيدةٌ إنذارَهم وإضْعافَ آرائِهم؛ لأنَّ مَوقِعَها بعْدَ دَلائلِ الوَحدانيَّةِ -وهي آياتٌ دالَّةٌ على أنَّ اللهَ واحِدٌ- يَقتَضي التَّنديدَ عليهم في عدَمِ الاهتِداءِ بها [1231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/55). .
- قولُه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وُصِف (الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) بأنَّهمُ الْخَاسِرُونَ؛ لأنَّهم كَفَروا بآياتِ مَن له مَقاليدُ خَزائنِ الخَيرِ، فعَرَّضوا أنفُسَهم للحِرمانِ ممَّا في خَزائنِه، وأَعظَمُها خَزائنُ خَيرِ الآخرةِ [1232] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/55). .
- والإخبارُ عن (الَّذِينَ كَفَرُوا) باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المُشارَ إليهم خَسِروا لأجْلِ ما وُصِفوا به قبْلَ اسمِ الإشارةِ، وهو الكُفرُ بآياتِ اللهِ [1233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/56). .
- وتَوسُّطُ ضَميرِ الفَصلِ هُمُ؛ لإفادةِ حَصرِ الخَسارةِ فيهم، وهو قَصرٌ ادِّعائيٌّ [1234] القصرُ أو الحَصرُ في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مثل: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثل: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). بِناءً على عدَمِ الاعتِدادِ بخَسارةِ غَيرِهم بالنِّسبةِ إلى خَسارتِهم؛ فخَسارتُهم أعظَمُ خَسارةٍ [1235] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/56). .
5- قولُه تعالَى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ هو نَتيجةُ المُقدِّماتِ السَّابقةِ، وهو المَقصودُ بالإثباتِ؛ فالفاءُ في قولِه: أَفَغَيْرَ اللَّهِ لتَفريعِ الكلامِ الَّذي أُمِر الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يَقولَه على الكلامِ المُوحَى به إليه لِيَقرَعَ به أسماعَهم؛ فإنَّ الحقائقَ المُتَقدِّمةَ موَجَّهةٌ إلى المُشرِكينَ، فبَعْدَ تَقَرُّرِها عِندَهم وإنذارِهم على مُخالَفةِ حالِهم لِما تَقتَضيهِ تلك الحقائقُ أُمِر الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يوَجِّهَ إليهم هذا الاستِفهامَ الإنكاريَّ مُنَوَّعًا على ما قَبْلَه؛ إذْ كانت أنفُسُهم قد خَسِئَتْ بما جَبَهَها مِنَ الكلامِ السَّابِقِ تأييسًا لهم مِن محاولةِ صَرفِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن التَّوحيدِ إلى عِبادةِ غَيرِ اللهِ [1236] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/56). .
- وتَوسُّطُ فِعلِ قُلْ في قولِه: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ اعتِراضٌ بيْن التَّفريعِ والمُفَرَّعِ عنه؛ لتَصييرِ المَقامِ لخِطابِ المُشرِكينَ خاصَّةً بعْدَ أنْ كان مَقامُ الكَلامِ قَبْلَه مَقامَ البَيانِ لكلِّ سامِعٍ مِنَ المؤمِنينَ وغَيرِهم؛ فكان قولُه: قُلْ هو الواسِطةَ في جَعلِ التَّفريعِ خاصًّا بهم، وهذا مِن بَديعِ النَّظمِ ووَفرةِ المَعاني، وهو حقيقٌ بأنْ يُسمَّى (تلوينَ البِساطِ). وتَأْمُرُونِّي اعتِراضٌ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم أَمَروه به عَقِيبَ ذلك وقالوا: استَلِمْ بعضَ آلهَتِنا ونؤْمِنْ بإلهِكَ؛ لفَرطِ غَباوَتِهم [1237] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/48)، ((تفسير أبي السعود)) (7/262)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/56). .
- قولُه: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ لَمَّا كان الأمرُ بعِبادةِ غَيرِ اللهِ لا يَصدُرُ إلَّا مِن غَبيٍّ جاهِلٍ، ناداهُم بالوَصفِ المُقتَضي ذلك، فقال: أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [1238] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/218). .
- ونداؤُهم بوَصفِ الجاهِلينَ في قولِه: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ تَقريعٌ لهم بعْدَ أنْ وُصِفوا بالخُسرانِ؛ ليُجمَعَ لهم بيْنَ نَقصِ الآخرةِ ونَقصِ الدُّنيا [1239] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/57). .
- وحُذِف مَفعولُ الْجَاهِلُونَ؛ لتَنزيلِ الفِعلِ مَنزِلةَ اللَّازمِ، كأنَّ الجهلَ صار لهم سَجيَّةً، فلا يَفقَهونَ شَيئًا؛ فهُم جاهِلونَ بما أفادَتْه الدَّلائلُ مِنَ الوَحدانيَّةِ الَّتي لو عَلِموها لَمَا أَشرَكوا، ولَمَا دَعَوُا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى اتِّباعِ شِركِهم، وهُم جاهِلونَ بمَراتِبِ النُّفوسِ الكامِلةِ جَهلًا أَطمَعَهم أنْ يَصرِفوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن التَّوحيدِ، وأنْ يَستَزِلُّوه بخُزَعْبِلاتِهم وإطماعِهم إيَّاهُ أنْ يَعبُدوا اللهَ إنْ هو شارَكَهم في عِبادةِ أصنامِهم، يَحسَبونَ الدِّينَ مُساوَمةً ومُغابَنةً وتَطفيفًا [1240] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/57، 58). !
6- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ كلامٌ واردٌ على طريقةِ الفَرضِ؛ لتَهْييجِ الرُّسلِ وإقناطِ الكَفَرةِ، والإيذانِ بغايةِ شَناعةِ الإشراكِ وقُبْحِه. وإطلاقُ الإحباطِ يَحتمِلُ أنْ يَكونَ مِن خَصائصِهم؛ لأنَّ شِركَهم أَقبَحُ، أو يَكونَ على التَّقييدِ بالمَوتِ، كما صُرِّح في قَولِه: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [البقرة: 217] . وعَطْفُ: وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ مِن عَطفِ المُسَبَّبِ على السَّبَبِ. ويَحتمِلُ أنْ يَكونَ المعنَى: ولَتَكونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ بسَببِ حُبوطِ العمَلِ. ويَحتمِلُ: ولتَكونَنَّ في الآخرةِ مِن جُملةِ الخاسِرينَ الَّذينَ خَسِروا أنفُسَهم إنْ مِتَّ على الرِّدَّةِ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ غضَبُ اللهِ على الرَّسولِ أشَدَّ، فلا يُمهِلَه بعْدَ الرِّدَّةِ، ألَا ترى إلى قَولِه تعالى: إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [1241] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/142)، ((تفسير البيضاوي)) (5/48)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/427)، ((تفسير أبي السعود)) (7/262). [الإسراء: 75] .
- وهذه الآيةُ تمثيلٌ لحالِ مَن أشرَك بعْدَ التَّوحيدِ؛ فإنَّ الإشراكَ قد طَلَب به مُبتَكِروهُ زيادةَ القُرْبِ مِنَ اللهِ إذْ قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ، فكان حالُهم كحالِ التَّاجِرِ الَّذي طلَبَ الزِّيادةَ على ما عِندَه مِنَ المالِ، ولكنَّه طلَبَ الرِّبحَ مِن غَيرِ بابِه، فباءَ بخُسرانِه وتَبابِه [1242] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/59). .
- قولُه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ إنْ قيلَ: المُوحَى إليهم جماعةٌ؛ فكيف قال: لَئِنْ أَشْرَكْتَ على الإفرادِ؟
قيل: لأنَّ معناه: أُوحِيَ إليك: لَئِنْ أشركْتَ ليَحبطَنَّ عمَلُك، وإلى الَّذين مِن قَبلِك مِثلُه؛ فيكون فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، تَقديرُه: ولقد أُوحيَ إليك لئنْ أَشرَكْتَ، وكذلك أُوحِيَ إلى الَّذينَ مِن قَبْلِكَ. أو أُوحيَ إليك وإلى كُلِّ واحدٍ منهم: لئنْ أشركتَ. وقيل: فيه إضمارُ نائبِ الفاعِلِ، تَقديرُه: ولقد أُوحيَ إليك وإلى الَّذينَ مِن قَبْلِكَ التَّوحيدُ، ثمَّ ابتَدأَ فقال: لَئِنْ أَشْرَكْتَ [1243] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/141)، ((تفسير أبي حيان)) (9/218)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 497). .
- والتَّاءُ في أَشْرَكْتَ تاءُ الخِطابِ لكلِّ مَن أُوحيَ إليه بمَضمونِ هذه الجُملةِ مِنَ الأنبياءِ؛ فتَكونُ الجُملةُ بَيانًا لِما أُوحيَ إليه وإلى الَّذينَ مِن قَبْلِه. ويَجوزُ أنْ يَكونَ الخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فتَكونَ الجُملةُ بَيانًا لجُملةِ أُوحِيَ إِلَيْكَ، ويَكونَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اعتِراضًا؛ لأنَّ البَيانَ تابِعٌ للمُبَيَّنِ عُمومُه ونحوه. وأيًّا ما كان فالمَقصودُ بالخِطابِ تَعريضٌ بقَومِ الَّذي أُوحيَ إليه؛ لأنَّ فَرْضَ إشراكِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غَيرُ مُتَوقَّعٍ [1244] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/58). .
- وقولُه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ إلى قولِه: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ تأييدٌ لأمرِ النَّبيِّ بأنْ يَقولَ للمُشرِكينَ تلكَ المَقالةَ مَقالةَ إنكارٍ أنْ يَطمَعوا منه في عِبادةِ اللهِ، بأنَّه قَولٌ استَحَقُّوا أنْ يُرْمَوا بغِلظتِه؛ لأنَّهم جاهِلونَ بالأدِلَّةِ، وجاهِلونَ بنفْسِ الرَّسولِ وزَكائِها. وأعقَبَ بأنَّهم جاهِلونَ بأنَّ التَّوحيدَ هو سُنَّةُ الأنبياءِ، وأنَّهم لا يَتطَرَّقُ الإشراكُ حوالَيْ قُلوبِهم، فالمَقصودُ الأهَمُّ مِن هذا الخبَرِ التَّعريضُ بالمُشركينَ إذْ حاوَلوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الاعتِرافِ بإلهيَّةِ أصنامِهم. وتأكيدُ الخبَرِ بلامِ القَسَمِ وبحَرفِ (قد) تأكيدٌ لِمَا فيه مِنَ التَّعريضِ للمُشرِكينَ [1245] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/58). .
7- قولُه تعالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
- قولُه: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (بل) لإبطالِ مَضمونِ جملةِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ، أي: بلْ لا تُشرِكْ. أو لإبطالِ مَضمونِ جملةِ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ؛ فهو رَدٌّ لِما أَمَروهُ به مِنِ استِلامِ بعضِ آلهتِهم [1246] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/59). .
- والفاءُ في قولِه: فَاعْبُدْ يَظهَرُ أنَّها تَفريعٌ على التَّحذيرِ مِن حَبطِ العمَلِ ومِنَ الخُسرانِ، فحصَلَ باجتِماعِ (بل) والفاءِ في صَدرِ الجُملةِ أنْ جَمعَتْ غَرَضَينِ: غرَضَ إبطالِ كلامِهم، وغرضَ التَّحذيرِ مِن أحوالِهم، وهذا وَجْهٌ رَشيقٌ [1247] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/142)، ((تفسير أبي حيان)) (9/219)، ((تفسير أبي السعود)) (7/262)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/59). .
- قولُه: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ فيه تقديمُ المَعمولِ اللَّهَ على فَاعْبُدْ؛ لإفادةِ القَصرِ والاختِصاصِ، كما تَقدَّمَ في قولِه في هذه السُّورةِ: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ [الزمر: 14] أيْ: أعبُدُ اللهَ لا غَيْرَه، وهذا في مَقامِ الرَّدِّ على المُشركينَ كما تَضَمَّنَه قولُه: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر: 64] ، ولولا دَلالةُ التَّقديمِ على القَصرِ والاختِصاصِ لم يَكُنْ ردًّا لِما أمَروه به؛ فإنَّهم لم يأمُروه بتركِ عبادةِ الله، بل باستلامِ آلهتِهم والشِّركِ [1248] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/142)، ((تفسير البيضاوي)) (5/48)، ((تفسير أبي السعود)) (7/262)، ((حاشية الشهاب على البيضاوي)) (7/351)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/60). .
- قوله: وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أيْ: إنعامَه عليك، وفيه إشارةٌ الى مُوجبِ الاختِصاصِ [1249] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/48). .