موسوعة التفسير

سورةُ الزُّخرُفِ
الآيات (81-89)

ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ

غريب الكلمات:

يَخُوضُوا: الخوضُ: الدُّخولُ في الحَديثِ، ويُطلَقُ على الجِدالِ واللَّجاجِ غيرِ المحمودِ، والرَّديءِ مِن الكلامِ، وأكثرُ ما ورَدَ في القرآنِ ورَد فيما يُذَمُّ الشُّروعُ فيه، يُقالُ: فلانٌ يَخوضُ، أي: يَتكلَّمُ بما لا يَنْبغي، وأصلُه: الدُّخولُ في الماءِ والشُّروعُ فيه والمرورُ، وأصلُ (خوض): يدُلُّ على تَوسُّطِ شَيءٍ ودُخولٍ [842] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/ 229)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 302)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (1/ 539)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/ 327). .
وَتَبَارَكَ: أي: تعاظَمَ، وتعالَى، وتقَدَّس، وكثُر خَيرُه، وعمَّ إحسانُه، مِن البَرَكةِ: وهي الزِّيادةُ والنَّماءُ، والكثرةُ والاتِّساعُ، وأصلُ (برك): ثَباتُ الشَّيءِ [843] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 310)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 120)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 247)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 319). .
الشَّفَاعَةَ: الشَّفاعَةُ: الانْضِمامُ إلى آخَرَ نُصْرةً له، وسُؤالًا عنه، وشَفَعَ لِفُلانٍ إذا جاءَ مُلْتَمِسًا مَطْلَبَه، ومُعينًا له؛ فأصلُ الشَّفْعِ: ضَمُّ الشَّيءِ إلى مِثلِه. ومِنه: الشَّفاعةُ في القِيامةِ [844] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/290)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/201)، ((المفردات)) للراغب (ص: 457). .
يُؤْفَكُونَ: أي: يُصرَفونَ عن الحَقِّ ويَحيدونَ، وأصلُ (أفك): يَدُلُّ على قَلبِ الشَّيءِ، وصَرفِه عن جِهتِه [845] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 145)، ((تفسير ابن جرير)) (18/438)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/118)، ((المفردات)) للراغب (ص: 79)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 85)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 223). .
وَقِيلِهِ: أي: وقَولِه، والقَولُ والقيلُ والقالُ بمعنًى واحدٍ، مِن النُّطقِ [846] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/ 507)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/ 42)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (2/ 1473)، ((المفردات)) للراغب (ص: 688)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (3/ 348)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 656). .
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ: أي: فأَعرِضْ عنهم، واترُكْ عُقوبتَهم على اللهِ تعالَى، يُقالُ: صَفحْتُ عنه: إذا أعرضْتَ عنه، وأصلُ (صفح): يدُلُّ على الإعراضِ؛ لأنَّ مَن أعرَضَ عن صاحِبِه ولَّاه صَفحةَ عُنُقِه، وصَرَف عنه وجْهَه [847] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 401)، ((تفسير ابن جرير)) (14/106)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/293)، ((المفردات)) للراغب (ص: 486)، ((تاج العروس)) للزبيدي (6/539). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالَى: وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ
قَولُه: وَقِيلِهِ مَجرورٌ على وَجهَينِ؛ أحَدُهما: أنَّه مَعطوفٌ على «السَّاعةِ» في قولِه: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزخرف: 85] ، أي: وعِندَه عِلمُ السَّاعةِ، وعِلمُ قِيلِه: يَا رَبِّ.... الثاني: أنَّ الواوَ حَرفُ قَسَمٍ. و(قِيلِهِ): مُقسَمٌ به مَجرورٌ بواوِ القَسَمِ، وجَوابُ القَسَمِ مَحذوفٌ، تَقديره: لَتُنصَرنَّ، أو لأفْعلَنَّ بهم ما أُريدُ، أو جَوابُ القَسَمِ قَولُه: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ. ومَقولُ القَولِ قَولُه: يَا رَبِّ.
وقُرِئَ بالنَّصبِ، وفيه أوجهٌ: أحدُها: أنَّه مَنصوبٌ عَطفًا على مَحَلِّ السَّاعَةِ أي: وعندَه أنْ يَعلَمَ السَّاعةَ وقِيلَه؛ لأنَّ عِلْمُ السَّاعَةِ مَصدَرٌ مُضافٌ إلى مَفعولِه؛ فلَفظُ السَّاعَةِ مَجرورٌ لَفظًا بالإضافةِ، مَنصوبٌ محَلًّا على المفعوليَّةِ، وما كان كذلك جاز في تابِعِه النَّصبُ إتْباعًا للمَحَلِّ، والخَفضُ إتْباعًا للَّفظِ. الثاني: أنَّه مَعطوفٌ على سِرَّهُمْ في قَولِه: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [الزخرف: 80] ، وما بيْنَهما مُعتَرِضٌ، أي: أمْ يَحسَبونَ أنَّا لا نَسمَعُ سِرَّهم ونَجواهم، وقِيلَه: يا رَبِّ. الثَّالِثُ: أنَّه مَنصوبٌ على المفعوليَّةِ المُطلَقةِ، أي: وقال قِيلَه. الرَّابعُ: أنَّه مَنصوبٌ على المفعوليَّةِ بإضمارِ فِعلٍ، أي: ويَعلَمُ قِيلَه. وقيل غيرُ ذلك [848] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفَرَّاء (3/38)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزَّجَّاج (4/421)، ((تفسير الزمخشري)) (4/268)، ((تفسير أبي حيان)) (9/392)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/611)، ((تفسير الألوسي)) (13/107)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/168). .

المعنى الإجمالي:

يُلقِّنُ اللهُ تعالَى نَبيَّه الحُجَّةَ الَّتي يرُدُّ بها على المشركينَ، فيقولُ: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: لو فُرِضَ أنَّ للرَّحمنِ تعالَى وَلَدًا ببُرهانٍ صَحيحٍ، فأنا أوَّلُ العابِدينَ لذلك الوَلدِ؛ فلو فُرِضَ كان منِّي هذا، ولكِنْ هذا مُمتَنِعٌ في حَقِّه سُبحانَه تعالَى، تنَزَّه اللهُ ربُّ السَّمَواتِ والأرضِ ورَبُّ العَرشِ عمَّا يَصِفُه المُشرِكونَ مِن صِفاتِ النَّقصِ التي لا تَليقُ بكَمالِه وجَلالِه تعالَى!
ثمَّ يُسلِّي اللهُ تعالَى رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُهدِّدُ أولئكَ الكافرينَ، فيقولُ: فاترُكْهم -يا مُحمَّدُ- يَخوضوا في باطِلِهم وجَهلِهم، ويَلعَبوا حتَّى يُلاقُوا اليومَ الذي يَحِلُّ فيه عَذابُهُم!
ثمَّ يقولُ تعالَى مؤكِّدًا على أنَّه الإلهُ الحقُّ: واللهُ وَحْدَه هو المعبودُ في السَّماءِ، وهو المعبودُ وَحْدَه في الأرضِ، وهو الحَكيمُ الذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به، العَليمُ الَّذي لا يَخفى عليه شَيءٌ، وتَبارك اللهُ الَّذي له مُلكُ السَّمَواتِ والأرضِ وما بيْنَهما، وعِندَه عِلمُ مَجيءِ السَّاعةِ، وإليه وَحْدَه تُرجَعونَ يومَ القيامةِ.
ولا يَملِكُ الَّذين يَعبُدُهم المُشرِكونَ مِن دُونِ اللهِ الشَّفاعةَ لأحدٍ إلَّا مَن أقرَّ منهم بالتَّوحيدِ للهِ -كعِيسى والملائِكةِ-، وهم يَشهَدونَ بذلك على عِلمٍ وبَصيرةٍ، فيَأذَنُ لهم اللهُ تعالَى بالشَّفاعةِ للمُؤمِنينَ.
ثمَّ يُبيِّنُ سُبحانَه ما كان عليه المشركونَ مِن تناقُضٍ، فيقولُ: ولَئِنْ سألْتَ هؤلاء المُشرِكينَ -يا مُحمَّدُ-: مَن الذي خلَقَكم؟ لَيَقولُنَّ: خَلَقَنا اللهُ وَحْدَه. فكيْف يُصرَفونَ عن عِبادةِ اللهِ تعالَى الذي خَلَقَهم مع اعتِرافِهم بذلك؟!
واللهُ تعالَى عِندَه عِلمُ قَولِ رسولِه: يا رَبِّ، إنَّ هؤلاء المُشرِكينَ قَومٌ لا يُؤمِنونَ؛ فاصفَحْ -يا محمَّدُ- عنهم، وقُلْ لهم: سَلامٌ عليكم؛ فسَوفَ يَعلَمونَ!

تفسير الآيات:

قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الَّذين ظَلَموا بادِّعاءِ بُنُوَّةِ المَلائِكَةِ في قَولِه: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 65] عَقِبَ قَولِه: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا [الزخرف: 57] ، وعَقِبَ قَولِه قبْلَه: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف: 19] ، وأُعقِبَ بما يَنتَظِرُهم مِن أَهواِل القِيامَةِ، وما أُعِدَّ لِلَّذين انخَلَعوا عن الإشراكِ بالإيمانِ -أمَرَ اللهُ رَسولَه أنْ يَنتَقِلَ مِن مَقامِ التَّحذيرِ والتَّهديدِ إلى مَقامِ الاحتِجاجِ على انتِفاءِ أنْ يَكونَ لِلَّهِ وَلَدٌ؛ جَمعًا بيْن الرَّدِّ على بَعضِ المُشرِكين الَّذين عَبَدوا المَلائِكةَ، والَّذين زَعَموا أنَّ بعضَ أصنامِهِم بَناتُ اللهِ، مِثلُ اللَّاتِ والعُزَّى، فأمَره بقَولِه [849] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/263، 364). :
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81).
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك جَدَلًا: إنْ ثَبَت أنَّ للرَّحمنِ وَلَدًا ببُرهانٍ صحيحٍ، فأنا أوَّلُ العابِدينَ لذلك الولدِ [850] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/265، 266)، ((تفسير ابن جزي)) (2/264)، ((تفسير الشوكاني)) (4/648)، ((تفسير القاسمي)) (8/402)، ((تفسير السعدي)) (ص: 770)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/263، 264). قال ابنُ جُزَيٍّ: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ في تأويلِ الآيةِ أربعةُ أقوالٍ: الأوَّلُ: أنَّها احتِجاجٌ ورَدٌّ على الكُفَّارِ على تَقديرِ قَولِهم، ومعناها: لو كان للرَّحمنِ وَلَدٌ كما يقولُ الكُفَّارُ لكُنتُ أنا أوَّلَ مَن يَعبُدُ ذلك الولَدَ. كما يُعَظِّمُ خَدَمُ المَلِكِ وَلَدَ المَلِكِ؛ لِتَعظيمِ والِدِه، ولكِنْ ليس للرَّحمنِ وَلَدٌ؛ فلَستُ بعابِدٍ إلَّا اللهَ وَحْدَه. وهذا نوعٌ مِن الأدِلَّةِ يُسَمَّى دَليلَ التَّلازُمِ؛ لأنَّه عَلَّق عِبادةَ الوَلَدِ بوُجودِه، ووجودُه مُحالٌ؛ فعِبادتُه مُحالٌ. القَولُ الثَّاني: إنْ كان للرَّحمنِ وَلَدٌ [أي: في قولِكم] فأنا أوَّلُ مَن عَبَد اللهَ وَحْدَه، وكَذَّبَكم في قَولِكم: إنَّ له ولَدًا، والْعَابِدِينَ على هذينِ القَولَينِ بمعنى العِبادةِ. القَولُ الثَّالِثُ: أنَّ العابِدينَ بمعنى المُنكِرينَ؛ يقال: عَبِدَ الرَّجُلُ: إذا أنِفَ وتكَبَّرَ وأنكَرَ الشَّيءَ، والمعنى: إنْ زَعمتُم أنَّ للرَّحمنِ ولَدًا فأنا أوَّلُ المُنكِرينَ لذلك، وإِنْ على هذه الأقوالِ الثَّلاثةِ شَرطيَّةٌ. القَولُ الرَّابعُ: قال قتادةُ وابنُ زيدٍ: «إنْ» هنا نافيةٌ، بمعنى: ما كان للرَّحمنِ وَلَدٌ، وتمَّ الكلامُ، ثمَّ ابتدأَ قَولُه: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/264). وممَّن اختار القولَ الأولَ: الزمخشريُّ، والرازي، وابن جُزَيٍّ، والشوكانيُّ، والقاسميُّ، والسعدي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/265)، ((تفسير الرازي)) (27/646)، ((تفسير ابن جزي)) (2/264)، ((تفسير الشوكاني)) (4/648)، ((تفسير القاسمي)) (8/402)، ((تفسير السعدي)) (ص: 770). قال الشوكانيُّ: (وفيه نَفيٌ للوَلَدِ على أبلَغِ وَجهٍ، وأتمِّ عِبارةٍ، وأحسَنِ أُسلوبٍ، وهذا هو الظَّاهِرُ مِنَ النَّظمِ القُرآنيِّ، ومِن هذا القَبيلِ قَولُه: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] ، ومِثلُ هذا قَولُ الرَّجُلِ لِمن يُناظِرُه: إنْ ثَبَت ما تَقولُه بالدَّليلِ فأنا أوَّلُ مَن يَعتَقِدُ ويَقولُ به). ((تفسير الشوكاني)) (4/648). وقال ابنُ جرير: (معْنى الكلامِ: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك الزَّاعِمينَ أنَّ الملائِكةَ بناتُ اللهِ: إنْ كان للرَّحمنِ ولَدٌ فأنا أوَّلُ عابِدِيه بذلك مِنكم، ولكِنَّه لا وَلَدَ له، فأنا أعبُدُه بأنَّه لا وَلَدَ له، ولا يَنبغي أن يكونَ له. وإذا وُجِّهَ الكلامُ إلى ما قُلْنا مِن هذا الوَجهِ لم يكُنْ على وَجهِ الشَّكِّ، ولكِنْ على وَجهِ الإلطافِ مِن الكلامِ وحُسنِ الخِطابِ، كما قال جَلَّ ثَناؤُه قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] ، وقد عَلِمَ أنَّ الحَقَّ معه، وأنَّ مُخالِفِيه في الضَّلالِ المُبِينِ). ((تفسير ابن جرير)) (20/658). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/241). قال ابنُ عطيةَ: (قال قتادةُ والسُّدِّيُّ والطَّبَريُّ: المعنى: قُلْ لهم: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ كما تقولونَ فأنا أوَّلُ مَن يَعبُدُه على ذلك، ولكِنْ ليس به شَيءٌ مِن ذلك، تعالى وجَلَّ). ((تفسير ابن عطية)) (5/65). وممَّن اختار القولَ الثانيَ: ابنُ قُتَيبةَ، والأزهريُّ، والزجَّاج، والثَّعلبي، والواحدي -ونسَبه لأكثر أهلِ العِلم-، والسَّمعانيُّ والبَغويُّ، والعُلَيمي. يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 217)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (2/137)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/420)، ((تفسير الثعلبي)) (8/346)، ((البسيط)) للواحدي (20/79)، ((تفسير السمعاني)) (5/ 118)، ((تفسير البغوي)) (4/170)، ((تفسير العليمي)) (6/238). وممَّن اختار القولَ الثالثَ: أبو عُبيدةَ، ونُسب هذا القولُ إلى الكلْبيِّ، والكسائيِّ، وسفيانَ الثوريِّ، والمُبَرد. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/ 206)، ((تفسير السمرقندي)) (3/ 265)، ((تفسير الماوردي)) (5/ 240، 241)، ((البسيط)) للواحدي (20/ 81)، ((تفسير ابن كثير)) (7/ 242). قال ابن كثيرٍ: (هذا القولُ فيه نظرٌ؛ لأنَّه كيف يَلتئمُ مع الشَّرطِ فيكون تَقديرُه: إنْ كان هذا فأنا مُمتنِعٌ منه؟ هذا فيه نظرٌ، فلْيُتأمَّل. اللهمَّ إلَّا أنْ يقالَ: «إنْ» ليْست شرطًا، وإنَّما هي نافيةٌ). ((تفسير ابن كثير)) (7/ 242). وممَّن اختار القولَ الرابعَ: مقاتلُ بن سُليمان، والأخفشُ، وابنُ أبي زمنين، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/805)، ((معانى القرآن)) للأخفش (1/119)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/196)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/148). .
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا قال تعالَى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ ... الآيةَ؛ نزَّه نَفسَه تَنزيهًا تامًّا عمَّا يَصِفونَه به مِن نِسبةِ الوَلَدِ إليه، مُبَيِّنًا أنَّ رَبَّ السَّمَواتِ والأرضِ ورَبَّ العَرشِ جَديرٌ بالتَّنزيهِ عن الوَلَدِ، وعن كُلِّ ما لا يَليقُ بكَمالِه وجَلالِه [851] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/166). .
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82).
أي: تَنزَّهَ اللهُ ربُّ السَّمَواتِ والأرضِ ورَبُّ العَرشِ عمَّا يَصِفُه المُشرِكونَ مِن صِفاتِ النَّقصِ التي لا تَليقُ بكَمالِه تعالَى، ومِن ذلك دَعْواهم أنَّ له وَلَدًا سُبحانَه [852] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/658)، ((تفسير السمعاني)) (5/119)، ((تفسير ابن كثير)) (7/243)، ((تفسير السعدي)) (ص: 770)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/166). .
كما قال تعالَى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر: 4] .
وقال سُبحانَه: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون: 91، 92].
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83).
الناسخُ والمنسوخُ:
قيل: هذه الآيةُ مَنسوخةٌ [853] ممَّن اختار أنَّ هذه الآيةَ مَنسوخةٌ بآيةِ السَّيف -وهي قولُه تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ... الآيةَ [التوبة: 29]-: محمدُ بن حزم، وابنُ عطية، وابنُ الفرس، والقُرطبي، والعُلَيمي، والشوكاني، ومرْعي. يُنظر: ((الناسخ والمنسوخ)) لمحمد بن حزم (ص: 18، 55)، ((تفسير ابن عطية)) (5/66)، ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/473)، ((تفسير القرطبي)) (18/296)، ((تفسير العليمي)) (7/166)، ((تفسير الشوكاني)) (5/353)، ((قلائد المرجان)) لمرعي (ص: 185). ونسَب ابنُ الجَوزي والرَّسعنيُّ هذا القولَ للجمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/85)، ((تفسير الرسعني)) (7/154). .
وقيل: لا نسْخَ فيها [854] ممَّن ذهَب إلى هذا القول: ابنُ الجوزي، والرَّسعني، وعلَمُ الدين السخاوي. يُنظر: ((نواسخ القرآن)) لابن الجوزي (ص: 192)، ((تفسير الرسعني)) (7/154)، ((جمال القراء وكمال الإقراء)) للسخاوي (2/825). وعلَّل ذلك ابنُ الجوْزيِّ والرَّسعنيُّ بأنَّها واردةٌ للوعيدِ، وخارجةٌ مَخرجَ التهديدِ؛ فلا نسْخَ إذنْ. .
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83).
أي: فاترُكْ -يا مُحمَّدُ- هؤلاء المُشرِكينَ المُفتَرينَ على اللهِ الكَذِبَ يَخوضُوا في باطِلِهم وجَهْلِهم، ويَلعَبوا في دُنياهم إلى أنْ يُلاقوا اليومَ الَّذي يَحِلُّ فيه عَذابُهُم وهَلاكُهُم [855] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/659)، ((تفسير ابن عطية)) (5/66)، ((تفسير أبي حيان)) (9/391) و(9/396-397)، ((تفسير ابن كثير)) (7/243)، ((تفسير الشوكاني)) (4/649)، ((تفسير السعدي)) (ص: 770). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بقوله: يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ: يومُ القِيامةِ: ابنُ جرير، وابنُ كَثيرٍ، والشوكانيُّ، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. قال ابن عطيةَ: (قال الجمهورُ: اليومُ الذي توعَّدهم به يومُ القِيامةِ. وقال عِكرمةُ وغيرُه: هو يومُ بَدْرٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/66). وقال القرطبيُّ: (إمَّا العذابُ في الدُّنيا، أو في الآخِرةِ). ((تفسير القرطبي)) (16/121). وقال ابنُ عاشورٍ: (اليومُ هنا مُحتَمِلٌ لِيَومِ بَدرٍ، ولِيَومِ القيامةِ، وكِلاهما قدْ وُعِدُوه، والوَعدُ هنا بمعنى الوَعيدِ، كما دَلَّ عليه السِّياقُ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/266). !
كما قال تعالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 3] .
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84).
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ.
أي: واللهُ تعالَى هو المَعبودُ الحَقُّ في السَّماءِ، وهو المعبودُ الحَقُّ في الأرضِ [856] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/659)، ((تفسير ابن كثير)) (7/243)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/491-492)، ((تفسير السعدي)) (ص: 770). قال ابنُ القيِّم: (المعنى الصَّحيحُ المُجتَمَعُ عليه... أنَّه في السَّماءِ إلهٌ مَعبودٌ مِن أهلِ السَّماءِ، وفي الأرضِ إلهٌ مَعبودٌ مِن أهلِ الأرضِ، وكذا قال أهلُ العلمِ بالتَّفسيرِ... وأمَّا قَولُه ...: وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ فالإجماعُ والاتِّفاقُ قد بَيَّن أنَّ المرادَ أنَّه مَعبودٌ مِن أهلِ الأرضِ). ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (2/147). .
كما قال اللهُ تعالَى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام: 3] .
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ.
أي: واللهُ هو البالِغُ الحِكمةِ، فيَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه الصَّحيحِ اللَّائِقِ به، البالِغُ العِلمِ، فيَعلَمُ كُلَّ شَيءٍ، ولا يَخفَى عليه شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ [857] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/660)، ((الوسيط)) للواحدي (4/83)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/492-493)، ((تفسير السعدي)) (ص: 771). .
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا نَزَّه اللهُ تعالَى ذاتَه المُقدَّسةَ، وأثبَتَ لِنَفسِه استِحقاقَ الإلهيَّةِ بالإجماعِ مِن خَلْقِه بما ركَزَه في فِطَرِهم، وهَداهم إليه بعُقولِهم؛ أتْبَعَ ذلك أدِلَّةً أُخرى بإثباتِ كُلِّ كَمالٍ بما تَسَعُه العُقولُ، وبما لا تَسَعُه؛ مُصَرِّحًا بالمُلْكِ، فقال [858] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/493). :
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا.
أي: تعالَى وتَقَدَّس وكَثُر خيرُه وإحسانُه؛ اللهُ الَّذي له مُلكُ جميعِ السَّمَواتِ والأرضِ، وما بيْنَهما مِنَ الخَلقِ، وهو وَحْدَه المتصَرِّفُ فيها [859] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/660)، ((تفسير ابن كثير)) (7/243)، ((تفسير السعدي)) (ص: 771). .
وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ.
أي: وهو وَحْدَه مَن يَعلَمُ وَقتَ مَجيءِ السَّاعةِ [860] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/660)، ((تفسير القرطبي)) (16/121)، ((تفسير الجاوي)) (2/389)، ((تفسير السعدي)) (ص: 771). قال السعديُّ: (مِن تمامِ مُلكِه وسَعَتِه أنَّه مالِكُ الدُّنيا والآخِرةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 771). .
كما قال تعالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] .
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
أي: وإلى اللهِ وَحْدَه تَصيرونَ -أيُّها النَّاسُ- يومَ القِيامةِ، فيَبعَثُكم للحِسابِ، ويُجازي كُلًّا منكم بعَمَلِه [861] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/660)، ((تفسير ابن كثير)) (7/243)، ((تفسير السعدي)) (ص: 771). .
وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أطنَبَ اللهُ تعالَى في نَفيِ الوَلَدِ؛ أردَفَه ببَيانِ نَفيِ الشُّرَكاءِ [862] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/648). .
وأيضًا لَمَّا أَنبَأهم أنَّ لِلَّهِ مُلْكَ السَّمواتِ والأرضِ وما بيْنَهما، وأنَّ عِندَه عِلمَ السَّاعَةِ؛ أَعلَمَهم أنَّ ما يَعبدونَه مِن دونِ اللهِ لا يَقدِرُ على أنْ يَشفَعَ لهم في الدُّنيا؛ إبطالًا لزَعمِهِم أنَّهُم شُفَعاؤُهم عندَ اللهِ، ولَمَّا كان مِن جُمَلةِ مَن عُبِدوا دُونَ اللهِ المَلائِكةُ، استَثناهُم بقَولِه: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أي: فَهُم يَشفَعونَ [863] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/270). .
وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ.
أي: ولا يَملِكُ الذين يَعبُدُهم المُشرِكونَ مِن دُونِ اللهِ الشَّفاعةَ لأحَدٍ عندَ اللهِ [864] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/662-663)، ((تفسير ابن كثير)) (7/243)، ((تفسير السعدي)) (ص: 771). قال السعدي: (ومِن تَمامِ مُلكِه أنَّه لا يَملِكُ أحَدٌ مِن خَلْقِه مِن الأمرِ شَيئًا، ولا يُقدِمُ على الشَّفاعةِ عنده أحَدٌ إلَّا بإذنِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 771). .
إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
أي: إلَّا [865] قيل: الاستِثناءُ هنا متَّصِلٌ. وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، ورجَّحه ابنُ عطيةَ، وهو ظاهِرُ اختيارِ ابنِ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/663)، ((تفسير ابن عطية)) (5/67)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/270). وقيل: الاستِثناءُ هنا مُنقَطِعٌ، بمعنى: لَكِنْ. وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى: الزمخشريُّ، وابنُ تَيميةَ، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/268)، ((الإخنائية)) لابن تيمية (ص: 350)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/402-405، 409-411)، ((تفسير ابن كثير)) (7/243). قال ابن تيميةَ: (التَّحقيقُ في تفسيرِ الآيةِ: أنَّ الاستِثناءَ مُنقَطِعٌ، ولا يَملِكُ أحَدٌ مِن دونِ اللهِ الشَّفاعةَ مُطلقًا. لا يُستَثنى مِن ذلك أحَدٌ عندَ اللهِ... فلمَّا نفى مُلْكَهم الشَّفاعةَ بَقِيَت الشَّفاعةُ بلا مالِكٍ لها، كأنَّه قد قيل: فإذا لم يَملِكوها هلْ يَشفَعونَ في أحَدٍ؟ فقال: نعمْ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. وهذا يَتناوَلُ الشَّافِعَ والمَشفوعَ له). ((مجموع الفتاوى)) (14/402، 409-411). وقال ابن جُزَيٍّ: (اختُلِفَ هل يَعني بـ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ الشَّافِعَ أو المشفوعَ فيه؛ فإنْ أراد المشفوعَ فيه فالاستِثناءُ مُنقَطِعٌ، والمعنى: لا يَملِكُ المَعبودونَ شَفاعةً، لكِنْ مَن شَهِدَ بالحَقِّ وهو عالِمٌ به فهو الذي يُشفَعُ فيه، ويحتَمِلُ على هذا أن يكونَ مَنْ شَهِدَ مَفعولًا بالشَّفاعةِ على إسقاطِ حَرفِ الجَرِّ، تَقديرُه: الشَّفاعة فيمن شَهِدَ بالحَقِّ، وإنْ أراد بـ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ الشَّافِعَ فيَحتَمِلُ أن يكونَ الاستِثناءُ مُنقَطِعًا، وأن يكونَ مُتَّصِلًا، إلَّا فيمن عَبَد عيسى والملائِكةَ، والمعنى على هذا: لا يَملِكُ المعبودونَ شَفاعةً إلَّا مَن شَهِدَ بالحَقِّ). ((تفسير ابن جزي)) (2/264). مَن أقرَّ منهم بالتَّوحيدِ للهِ -كعِيسى والملائِكةِ-، وهم يَشهَدونَ بذلك عن عِلمٍ ويَقينٍ وبَصيرةٍ، فاللهُ يَأذَنُ لهم بالشَّفاعةِ للمُؤمِنينَ المُوحِّدينَ، فتَنفَعُ حِينها شَفاعتُهم [866] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/662، 663)، ((الوسيط)) للواحدي (4/83-84)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/400-411)، ((تفسير ابن كثير)) (7/243)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/495-496)، ((تفسير السعدي)) (ص: 771)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/270). وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى المذكورِ لِقَولِه تعالى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ: ابنُ جرير، والواحديُّ، وابن كثير، والبقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/663)، ((الوسيط)) (4/83-84)، ((تفسير ابن كثير)) (7/243)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/496). وقال ابنُ عاشور: (أي: وهم يَعلَمونَ حالَ مَن يَستَحِقُّ الشَّفاعةَ؛ فقدْ عُلِمَ أنَّهم لا يَشفَعونَ للَّذين خالَف حالُهم حالَ مَن يَشهَدُ لله بالحَقِّ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/270). .
كما قال تعالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 26 - 28] .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه بعْدَ أنْ أمعَنَ في إبطالِ أنْ يكونَ إلهٌ غَيرُ اللهِ بما سِيقَ مِن التَّفصيلاتِ، جاء هنا بكَلِمةٍ جامِعةٍ لإبطالِ زَعمِهم إلهيَّةَ غيرِ اللهِ، بِقَولِه تعالَى [867] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/270). :
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.
أي: ولَئِنْ قُلْتَ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: مَن الذي خَلَقَكم؟ لَيَقولُنَّ: خَلَقَنا اللهُ وَحْدَه [868] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/663)، ((تفسير ابن كثير)) (7/243)، ((تفسير السعدي)) (ص: 771). .
فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ.
أي: فكيفَ ومِن أيِّ جِهةٍ يُصرَفُ المُشرِكونَ -مع اعتِرافِهم هذا- عن عِبادةِ اللهِ الَّذي خلَقَهم، إلى عِبادةِ غَيرِه [869] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/663)، ((تفسير القرطبي)) (16/123)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/497)، ((تفسير السعدي)) (ص: 771). ؟!
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: وَقِيلِهِ بكَسرِ اللَّامِ والهاءِ، قيل: هي مَعطوفةٌ على السَّاعَةِ في قَولِه تعالى: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ والمعنى: وعِندَه عِلمُ السَّاعةِ وعِلمُ قِيلِه. وقيل غيرُ ذلك [870] قرَأ بها عاصمٌ وحمزةُ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/370). ويُنظر لمعنى هذه القِراءة: ((تفسير ابن جرير)) (20/664)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/369)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 655)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/611). .
2- قِراءةُ وَقِيلَهُ بفتْحِ اللَّامِ وضَمِّ الهاء، على العَطفِ على سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ في قَولِه تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [الزخرف: 80] ، أي: أمْ يَحسَبونَ أنَّا لا نَسمَعُ سِرَّهم ونَجْواهم ولا نَسمَعُ قِيلَه: يا رَبِّ. وقيل: مَعطوفٌ على مَوضِعِ السَّاعَةِ في قَولِه تعالى: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [الزخرف: 85] ، أي: وعِندَه أنْ يَعلَمَ السَّاعةَ وقِيلَه. وقيل غيرُ ذلك [871] قرَأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/370). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (20/663)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/369، 370)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 655-656). ويُنظر ما تقدَّم (ص: 23). .
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88).
أي: وعِندَ اللهِ تعالَى عِلمُ قولِ رَسولِه -شاكيًا إليه تَكذيبَ قَومِه-: يا رَبِّ، إنَّ هؤلاء المُشرِكينَ قَومٌ لا يُؤمِنونَ بالحَقِّ الذي جِئتُهم به [872] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/664)، ((تفسير ابن كثير)) (7/244)، ((تفسير الجاوي)) (2/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 771)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/169). !
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89).
الناسخُ والمنسوخُ:
قيل: الآيةُ منسوخةٌ [873] ممَّن اختار أنَّ الآيةَ مَنسوخةٌ بآيةِ السَّيف: مقاتلُ بن سُليمان، والثَّعلبي، والمَقَّرِي، ومحمد بن حزم، وابنُ الفرس، والعُلَيمي، ومرْعي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/807)، ((تفسير الثعلبي)) (8/347)، ((الناسخ والمنسوخ)) للمَقَّرِي (ص: 158)، ((الناسخ والمنسوخ)) لمحمد بن حزم (ص: 55)، ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/473)، ((تفسير العليمي)) (6/241)، ((قلائد المرجان)) لمرعي (ص: 185). قال الألوسي: (إنْ أُريدَ مِن الآيةِ الكَفُّ عن القتالِ فهي مَنسوخةٌ، وإنْ أُريدَ الكَفُّ عن مُقابَلتِهم بالكلامِ فليست بمنسوخةٍ). ((تفسير الألوسي)) (13/108). .
وقيل: لا نسْخَ فيها [874] ممَّن اختار أنَّه لا نَسْخَ: الرازيُّ، وعلَمُ الدِّين السخاويُّ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/650)، ((جمال القراء وكمال الإقراء)) للسخاوي (ص: 463). ورجَّح ابنُ باز -تبعًا لابن تيميَّةَ- أنَّه لا نَسْخَ، وأنَّ ذلك يختَلِفُ باختلافِ أحوالِ المسلمينَ قُوَّةً وضَعفًا. قال ابنُ باز: (وهذا القَولُ أظهَرُ وأَبيَنُ في الدَّليلِ؛ لأنَّ القاعِدةَ الأُصوليَّةَ: أنَّه لا يُصارُ إلى النَّسخِ إلَّا عند تعذُّرِ الجمعِ بين الأدِلَّةِ، والجَمعُ هنا غيرُ مُتعَذِّرٍ). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (3/194). ويُنظر أيضًا: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 221). .
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ.
أي: فاصفَحْ -يا محمَّدُ- عن أولئك المُشرِكينَ، وأعرِضْ عن مُؤاخَذتِهم وعِتابِهم [875] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/664)، ((تفسير القرطبي)) (16/124)، ((تفسير ابن كثير)) (7/244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 771)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/170). .
كما قال تعالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر: 85] .
وَقُلْ سَلَامٌ.
أي: وقُلْ لهم: سَلِمْتُم منَّا، فلا نُجيبُكم بسُوءٍ [876] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/665)، ((تفسير ابن كثير)) (7/244)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/170). قال البقاعي: (سَلَامٌ أي: شأني الآنَ مُتاركتُكم بسَلامتِكم منِّي وسلامَتي منكم). ((نظم الدرر)) (17/501). .
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: تَعْلَمُونَ بالتَّاءِ على الخِطابِ، بمعنى: أنَّ اللهَ تعالَى أمَرَ نَبيَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يقولَ ذلك للمُشرِكينَ؛ تَهديدًا لهم، مع قَولِه لهم: سَلامٌ [877] قرأ بها نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وأبو جَعفرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/370). ويُنظر لمعنى هذه القِراءة: ((تفسير ابن جرير)) (20/665)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/274). .
2- قِراءةُ: يَعْلَمُونَ بالياءِ على الغَيبةِ والخَبَرِ، على أنَّه وَعيدٌ مِن اللهِ تعالَى للمُشرِكينَ بما سيَلقَونَه مِنَ العذابِ على كُفرِهم [878] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/370). ويُنظر لمعنى هذه القِراءة: ((تفسير ابن جرير)) (20/665)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/274). .
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
أي: فسَوفَ يَعلَمُ المُشرِكونَ حَقيقةَ ما سيَلقَونَه؛ جَزاءَ كُفرِهم بالحَقِّ، وشِرْكِهم باللهِ تعالَى [879] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/665)، ((تفسير ابن كثير)) (7/244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 771)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/170). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- الشَّرطُ لا يدُلُّ على وُقوعِ المشروطِ؛ بلْ ولا على إمكانِه، كما في قَولِه تعالَى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ونَظائرِه [880] يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (1/99). .
2- قَولُه تعالَى: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ فيه وَصفُه برُبوبِيَّةِ أقْوَى المَوجوداتِ وأَعَمِّها وأعظَمِها؛ لأنَّه يُفيدُ انتِفاءَ أنْ يَكونَ له وَلَدٌ؛ لانتِفاءِ فائِدَةِ الوِلادَةِ؛ فقدْ تَمَّ خَلْقُ العَوالِمِ ونِظامُ نَمائِها ودَوامِها، وعُلِمَ مِن كَونِه خالِقِها أنَّه غَيرُ مَسبوقٍ بعَدَمٍ؛ وإلَّا لَاحتاجَ إلى خالِقٍ يَخلُقُه، واقتَضَى عَدَمُ السَّبقِ بعَدَمٍ أنَّه لا يَلحَقُه فَناءٌ؛ فوُجودُ الوَلَدِ له يَكونُ عَبَثًا [881] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/56)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/266). .
3- قَولُ اللهِ تعالَى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ليْس في ذلك ما يدُلُّ على الحُلولِ بهما، وإنَّما أراد أنَّه إلهُ السَّماءِ ومَن فيها، وإلهُ الأرضِ ومَن فيها، ومِثلُ هذا مِن الكَلامِ قَولُك: هو بخُراسانَ أميرٌ وبمِصرَ أميرٌ؛ فالإمارةُ تَجتَمِعُ له فيهما، وهو حالٌّ بأحدِهما أو بغَيرِهما. هذا واضِحٌ لا يَخفَى [882] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/406). .
4- قَولُه تعالَى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يدُلُّ على مَعنَيَينِ:
أحَدُهما: أنَّ الشَّفاعةَ بالحَقِّ غَيرُ نافِعةٍ إلَّا مع العِلمِ، وأنَّ التَّقليدَ لا يُغني مع عدَمِ العِلمِ بصِحَّةِ المقالةِ.
والثَّاني: أنَّ شَرْطَ سائِرِ الشَّهاداتِ في الحُقوقِ وغَيرِها: أنْ يكونَ الشَّاهِدُ عالِمًا بها [883] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/123). ؛ فالشَّهادةُ لا تكونُ إلَّا عن عِلمٍ سابِقٍ [884] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/63). .
5- في قَولِه تعالَى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنَّ الشَّاهِدَ المَقبولَ عندَ اللهِ هو الذي يَشهَدُ بعِلمٍ وصِدقٍ، فيُخبِرُ بالحَقِّ مُستَنِدًا إلى عِلمِه به [885] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/102). .
6- في قَولِه تعالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أنَّ شِركَ العَرَبِ كان شِركًا في الألوهيَّةِ لا في الرُّبوبيَّةِ [886] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/295). .
7- في قَولِه تعالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أنَّ المُقِرَّ بالرُّبوبيَّةِ لا يُعَدُّ مُؤمِنًا حتى يُقِرَّ بالأُلوهيَّةِ [887] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 95). ؛ فالآيةُ فيها أنَّ الكُفَّارَ كانوا مُعترِفينَ بالصَّانعِ [888] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 124). .
8- في قَولِه تعالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ دَليلٌ على أنَّ الإنسانَ لا يكونُ بإقرارِه ببعضِ الحقِّ مُؤمِنًا حتى يُقِرَّ بجَميعِه، وأنَّ الكُفرَ ببَعضِ الحقِّ كُفرٌ بجَميعِه؛ فالقَومُ قالوا حقًّا ولم يَنفَعْهم الإقرارُ به؛ حيثُ رَدُّوا غَيرَه [889] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/123). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ
- قَولُه: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ... وصحَّ ذلك، وثبَتَ ببُرهانٍ صَحيحٍ تُورِدونَه، وحُجَّةٍ واضحةٍ تُدْلُون بها؛ فأنا أَوَّلُ مَن يُعظِّمُ ذلك الوَلدَ، وأسْبقُكم إلى طاعتِه والانقيادِ له، كما يُعظِّمُ الرَّجلُ ولَدَ المَلِكِ لتَعظيمِ أبيه. وهذا كَلامٌ وارِدٌ على سَبيلِ الفَرضِ والتَّمثيلِ لغَرَضٍ، وهو المُبالَغةُ في نَفيِ الوَلَدِ والإطنابُ فيه، وألَّا يَترُكَ النَّاطِقُ به شُبهَةً إلَّا مُضمَحِلَّةً، مع التَّرجَمَةِ عن نَفسِه بثَباتِ القَدَمِ في بابِ التَّوحيدِ؛ وذلك أنَّه عَلَّق العِبادَةَ بكَينونَةِ الوَلَدِ، وهي مُحالٌ في نَفسِها؛ فكان المُعَلَّقُ بها مُحالًا مِثلَها؛ فهو في صُورةِ إثباتِ الكَينونَةِ والعِبادَةِ، وفي مَعنَى نَفيِهما على أبلَغِ الوُجوهِ وأقْواها [890] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/265، 266)، ((تفسير البيضاوي)) (5/97)، ((تفسير أبي حيان)) (9/389، 390)، ((تفسير أبي السعود)) (8/56)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/ 264، 265). .
- قَولُه: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ وهذا الاستِدلالُ الذي في الآيةِ على وِزانِ الاستدلالِ في قولِه تعالَى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] ، إلَّا أنَّ تلك جُعِلَ شَرْطُها بأداةٍ صَريحةٍ في الامتناعٍ (لو)، وهذه جُعِلَ شَرْطُها بأداةٍ غيرِ صَريحةٍ في الامتناعِ (إنْ). والنُّكتَةُ في العُدولِ عن الأداةِ الصَّريحةِ في الامتِناعِ هنا: إيهامُهُم في بادِئِ الأمْرِ أنَّ فَرْضَ الوَلَدِ لِلَّهِ مَحَلُّ نَظَرٍ، ولِيَتَأتَّى أنْ يَكونَ نَظمُ الكَلامِ مُوَجَّهًا؛ حتَّى إذا تَأَمَّلوه وَجَدوه يَنفِي أنْ يَكونَ لِلَّهِ وَلَدٌ بطَريقِ المَذهَبِ الكَلامِيِّ [891] قال أبو حيَّان: (هذا النَّوعُ عند عُلماءِ البيانِ يُسمَّى: الاحتجاجَ النَّظريَّ، وهو: أن يَذكُرَ المُتكلِّمُ معنًى يَستدُلُّ عليه بضُروبٍ من المعقولِ، نحو: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] ... وبعضُهم يُسمِّيه: المذهبَ الكلاميَّ). ((تفسير أبي حيان)) (3/395- 396). ؛ ففي نَظمِ الآيَةِ إيجازٌ بَديعٌ، وإطماعٌ للخُصومِ بما إنْ تَأَمَّلوه استَبانَ وَجهُ الحَقِّ، فإنْ أعرَضُوا بعْدَ ذلك عُدَّ إعراضُهُم نُكوصًا [892] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/97)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/181)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/264، 265). .
- وأُسلوبُ الآيَةِ قَريبٌ مِن المُشاكَلَةِ، وإطْباقِ الجَوابِ على السُّؤالِ؛ فإنَّهُم لَمَّا قالوا: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا [الأنبياء: 26] ، حَسُنَ منه صَلَواتُ اللهِ عليه أنْ يَقولَ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [893] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/180). .
2- قولُه تعالَى: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ يَجوزُ أن يكونَ تَكمِلَةً لِمَا أُمِرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يَقولَه، أي: قلْ: إنْ كان للرَّحمَنِ وَلَدٌ على الفَرضِ والتَّقديرِ؛ مع تَنْزيهِهِ عن تَحَقُّقِ ذلك في نَفْسِ الأمرِ. وليْسَ في ضَميرِ يَصِفُونَ الْتفاتٌ؛ لأنَّ تَقديرَ الكلامِ: قُلْ لهم: إنْ كان للرَّحمنِ وَلَدٌ. ويَجوزُ أن يَكونَ كَلامًا مُستَأنَفًا مِن جانِبِ اللهِ تعالَى؛ لإنشاءِ تَنْزيهِه عمَّا يَقولُون؛ فتَكونَ مُعتَرِضَةً بيْن جُملَةِ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ وجُملَةِ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ [الزخرف: 84] ، ولهذه الجُملَةِ مَعنَى التَّذيِيلِ؛ لأنَّها نَزَّهَت اللهَ عن جَميعِ ما يَصِفونَه به مِن نِسبَةِ الوَلَدِ وغَيرِ ذلك [894] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/265، 266). .
- قَولُه: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَمَّا كان المَقامُ للتَّنزيهِ، وجِهَةُ العُلوِيَّةِ أجدَرَ -لأنَّه أبعَدُ عن النَّقصِ والنَّقيضِ- ولم يَقتَضِ الحالُ إعادَةَ لَفظِ الرَّبِّ، بخِلافِ ما يأتي آخِرَ (الجاثِيَةِ) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ [الجاثية: 36] ؛ فإنَّه لإثباتِ الكَمالِ، ونَظَرِه إلى جَميعِ الأشياءِ على حَدٍّ سَواءٍ، فقال: وَالْأَرْضِ -أي: ولم يقُلْ: (ورَبِّ الأرضِ) [895] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/490). .
- وفي تَكريرِ اسمِ الرَّبِّ في قَولِه: رَبُّ الْعَرْشِ تَفخيمٌ لِشَأنِ العَرشِ [896] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/56). .
3- قولُه تعالَى: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ اعتِراضٌ بتَفريعٍ عن تَنْزيهِ اللهِ عمَّا يَنسُبونَه إليه مِن الوَلَدِ والشُّركاءِ، وهذا تَأْيِيسٌ مِن إجداءِ الحُجَّةِ فيهم، وأنَّ الأَوْلَى به مُتارَكَتُهم في ضَلالِهم إلى أنْ يَحينَ يَومُ يَلقَون فيه العَذابَ المَوعودَ [897] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/266). .
- والأَمرُ في قولِه: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا مُستَعمَلٌ في التَّهديدِ، مِن قَبيلِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [898] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/267). [فصلت: 40] .
4- قولُه تعالَى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
- قَولُه: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ عَطفٌ على جُملَةِ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ [الزخرف: 81] ، والجُملَتانِ اللَّتانِ بيْنَهما اعتِراضانِ؛ قُصِد مِن العَطفِ إفادَةُ نَفيِ الشَّريكِ في الإلَهِيَّةِ مُطلقًا بعْدَ نَفيِ الشَّريكِ فيها بالبُنُوَّةِ، وقُصِد بذِكْرِ السَّماءِ والأرضِ الإحاطَةُ بعَوالِمِ التَّدبيرِ والخَلْقِ؛ لأنَّ المُشرِكين جَعَلوا لِلَّهِ شُرَكاءَ في الأرضِ، وهم أصنامُهم المَنصُوبةُ، وجَعَلوا له شُرَكاءَ في السَّماءِ، وهم المَلائِكةُ؛ إذ جَعَلوهم بَناتٍ لِلَّهِ تعالَى؛ فكان قَولُه: فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ إبطالًا للفَريقَينِ ممَّا زُعِمت إلَهِيَّتُهم [899] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/267). .
- وكان مُقتَضَى الظَّاهِرِ بهَذِه الجُملَةِ أنْ يَكونَ أوَّلُها الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ، على أنَّه وَصْفٌ للرَّحمنِ مِن قَولِه: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ [الزخرف: 81] ؛ فعُدِلَ عن مُقتَضَى الظَّاهِرِ بإيرادِ الجُملَةِ مَعطوفَةً، وبإيرادِ مُبتَدَأٍ فيها؛ لإفادَةِ قَصرِ صِفَةِ الإلَهِيَّةِ في السَّماءِ وفي الأَرضِ على اللهِ تعالَى، لا يُشارِكُه في ذلك غَيرُه؛ لأنَّ إيرادَ المُسنَدِ إليه مَعرِفَةً والمُسنَدِ مَعرِفَةً طَريقٌ مِن طُرُقِ القَصرِ؛ فالمَعنَى: وهو -لا غَيرُه- الَّذي في السَّماءِ إِلَهٌ وفي الأَرضِ إِلَهٌ [900] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/267). .
- وصِلَةُ الَّذِي جُملَةٌ اسمِيَّةٌ حُذِفَ صَدرُها، وصَدرُها ضَميرٌ يَعودُ إلى مُعادِ ضَميرِ وَهُوَ، وحَذفُ صَدرِ الصِّلَةِ استِعمالٌ حَسَنٌ إذا طالَت الصِّلَةُ كما هنا، والتَّقديرُ: الَّذي هو في السَّماءِ إِلَهٌ [901] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/267)، ((تفسير البيضاوي)) (5/97)، ((تفسير أبي حيان)) (9/391). .
- قَولُه: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ فيه دَلالةٌ على اختِصاصِه تعالَى باستِحقاقِ الأُلوهيَّةِ؛ فإنَّ التَّقديمَ يدُلُّ على الاختِصاصِ [902] يُنظر: ((حاشية الجمل على الجلالين)) (4/98). .
- وكَرَّرَ لَفْظَ إِلَهٌ مُنَكَّرًا؛ لأنَّ الإلَهَ هنا بمَعنَى المَعبودِ، وهو تعالَى مَعبودٌ فيهما، والمُغايَرَةُ إنَّما هي بيْن مَعبودِيَّتِه في السَّماءِ ومَعبودِيَّتِه في الأرضِ؛ لأنَّ المَعبودَ به مِن الأُمورِ الإضافِيَّةِ؛ فيَكفِي التَّغايُرُ فيها مِن أَحَدِ الطَّرَفَينِ؛ فإذا كان العابِدُ في السَّماءِ غيرَ العابِدِ في الأرضِ، صَدَق أنَّ مَعبودِيَّتَه في السَّماءِ غَيرُ مَعبودِيَّتِه في الأرضِ، مع أنَّ المَعبودَ واحِدٌ [903] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/97)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 515)، ((تفسير أبي السعود)) (8/57)، ((حاشية الجمل على الجلالين)) (4/ 97). .
- قَولُه: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ بعْدَ أنْ وُصِفَ اللهُ بالتَّفَرُّدِ بالإلَهِيَّةِ، أُتْبِعَ بوَصفِه بالحَكيمِ العَليمِ؛ تَدقيقًا للدَّليلِ الَّذي في قَولِه: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ، حيثُ دلَّ على نَفيِ إلَهِيَّةِ غَيرِه في السَّماءِ والأرضِ، واختِصاصِه بالإلَهِيَّةِ فِيهِما؛ لِمَا في صِيغَةِ القَصرِ مِن إثباتِ الوَصفِ له، ونَفْيِه عمَّن سِواهُ؛ فكان قَولُه: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ تَتميمًا للدَّليلِ، واستِدلالًا عليه [904] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/97)، ((تفسير أبي السعود)) (8/57)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/268). .
5- قولُه تعالَى: وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
- قَولُه: وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا عطْفٌ على سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الزخرف: 82] ، قُصِدَ منه إتْباعُ إنشاءِ التَّنزيهِ بإنشاءِ الثَّناءِ والتَّمجيدِ. و(تَبارَكَ) خَبَرٌ مُستَعمَلٌ في إنشاءِ المَدحِ؛ لأنَّ مَعنَى (تَبارَكَ): كان مُتَّصِفًا بالبَرَكَةِ اتِّصافًا قَوِيًّا؛ لِمَا يَدُلُّ عليه صِيغَةُ (تَفاعَلَ) مِن قُوَّةِ حُصولِ المُشتَقِّ منه؛ لأنَّ أصْلَها أنْ تَدُلَّ على صُدورِ فِعلٍ مِن فاعِلِين، مِثلُ: تَقاتَل وتَمارَى، فاستُعْمِلَت في مُجرَّدِ تَكرُّرِ الفِعلِ، وذلك مِثلُ: تَسامَى وتَعالَى [905] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/268). .
- وقدْ ذُكِرَ مع التَّنْزيهِ أنَّه رَبُّ السَّمواتِ والأرضِ؛ لاقتِضاءِ الرُّبوبِيَّةِ التَّنْزيهَ عن الوَلَدِ المَسوقِ الكَلامُ لنَفيِه، وعن الشَّريكِ المَشمولِ بقولِه: عَمَّا يَصِفُونَ [الزخرف: 82] ، وذُكِرَ مع التَّبريكِ والتَّعظيمِ أنَّ له مُلْكَ السَّمواتِ والأرضِ؛ لمُناسَبةِ المُلْكِ للعَظَمَةِ وفَيضِ الخَيرِ؛ فلا يَرِيبُكَ أنَّ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُغنٍ عن الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لأنَّ غَرَضَ القُرآنِ التَّذكيرُ، وأغراضُ التَّذكيرِ تُخالِفُ أغراضَ الاستِدلالِ والجَدَلِ؛ فإنَّ التَّذكيرَ يُلائِمُ التَّنبيهَ على مُختَلَفِ الصِّفاتِ، باختِلافِ الاعتِباراتِ، والتَّعرُّضِ للاستِمدادِ مِن الفَضلِ. ثمَّ إنَّ صِيغَةَ (تَبَارَكَ) تدُلُّ على أنَّ البَرَكَةَ ذاتِيَّةٌ لِلَّهِ تعالَى؛ فيَقتَضِي استِغناءَه عن الزِّيادَةِ باتِّخاذِ الوَلَدِ واتِّخاذِ الشَّريكِ؛ فبهذا الاعتِبارِ كانتْ هذه الجُملَةُ استِدلالًا آخَرَ تابِعًا لدَليلِ قَولِه: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [906] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/269). [الزخرف: 82] .
- وقدْ تَأَكَّدَ انفِرادُه برُبوبِيَّةِ أعظَمِ المَوجوداتِ ثَلاثَ مرَّاتٍ بقَولِه: رَبِّ الْعَرْشِ [الزخرف: 82] ، وقَولِه: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف: 84] ، وقَولِه: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [907] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/269). .
- ولَمَّا كان قَولُه: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُفيدًا التَّصَرُّفَ في هذه العَوالِمِ مُدَّةَ وُجودِها ووُجودِ ما بيْنها؛ أردَفَه بقَولِه: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؛ للدَّلالَةِ على أنَّ لِلَّهِ مع مُلكِ العَوالِمِ الفانِيَةِ مُلْكَ العَوالِمِ الباقِيَةِ، وأنَّه المُتَصَرِّفُ في تِلكَ العَوالِمِ بما فيها بالتَّنعيمِ والتَّعذيبِ؛ فكان قَولُه: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ تَوطِئَةً لقَولِه: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وإدماجًا [908] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غَرَضًا في غرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرَّحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/ 427). لإثباتِ البَعثِ [909] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/269). .
- قَولُه: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيه الْتفَاتٌ مِن الغَيبَةِ إلى الخِطابِ؛ للمُباشَرَةِ بالتَّهديدِ [910] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/97)، ((تفسير أبي السعود)) (8/57)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/270). .
- وتَقديمُ المَجرورِ في وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لقَصدِ التَّقَوِّي؛ إذ لَيس المُخاطَبون بمُثبِتينَ رُجعَى إلى غَيرِه؛ فإنَّهُم لا يُؤمِنون بالبَعثِ أصلًا. وأمَّا قَولُهُم للأصنامِ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ، فمُرادُهم أنَّهُم شُفعاءُ لهم في الدُّنيا، أو هو على سَبيلِ الجَدَلِ؛ ولذَلِكَ أُتبِعَ بقَولِه: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ [911] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/269، 270). [الزخرف: 86] .
6- قولُه تعالَى: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
- قولُه: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ جُمِعَ الضَّميرُ في وَهُمْ يَعْلَمُونَ باعتِبارِ مَعنَى مَنْ، كما أنَّ الإفرادَ أوَّلًا في شَهِدَ بِالْحَقِّ باعتِبارِ لَفظِها [912] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/57). .
7- قولُه تعالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ
- وفرَّع على هذا التَّقريِر والإقرارِ الإنكارَ والتَّعجيبَ منِ انصِرافِهِم مِن عِبادَةِ اللهِ إلى عِبادَةِ آلِهَةٍ أُخرَى بقَولِه: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [913] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/271). .
- وبُنِي يُؤْفَكُونَ للمَجهولِ؛ إذ لم يَصرِفْهم صارِفٌ، ولَكِنْ صَرَفوا أنفُسَهم عن عِبادَةِ خالِقِهم، كقَولِ العَرَبِ: أين يُذْهَبُ بك، أي: أيْن تَذهَبُ بنَفسِكَ؛ إذ لا يُرِيدون أنَّ ذاهِبًا ذَهَب به يَسأَلونه عنه، ولَكِنَّ المُرادَ أنَّه لم يَذهَبْ به أَحَدٌ، وإنَّما ذَهَب بنَفسِه [914] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/271). .
- والخِطابُ في قَولِه: سَأَلْتَهُمْ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ لغَيرِ مُعَيَّنٍ، أي: إنْ سَأَلَهم مَن يتَأَتَّى منه أنْ يَسأَلَ، وهذا أعَمُّ [915] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/271). .
8- قولُه تعالَى: وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ
- ضَميرُ الغائِبِ في وَقِيلِهِ الْتِفاتٌ عن الخِطابِ في قَولِه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف: 87] ؛ فإنَّه بعْدَ ما مَضَى مِن المُحاجَّةِ ومِن حِكايَةِ إقرارِهِم بأنَّ اللهَ الَّذي خَلَقهم، ثمَّ إنَّهُم لم يَتَزَحزَحوا عن الكُفرِ قِيدَ أُنْمُلَةٍ؛ حَصَل اليَأسُ للرَّسولِ مِن إيمانِهِم؛ فقال: يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ الْتِجاءً إلى اللهِ فيهم، وتَفويضًا إليه؛ ليُجرِيَ حُكمَه عليهم، وهذا منِ استِعمالِ الخَبَرِ في التَّحَسُّرِ أو الشِّكايَةِ، وهو خَبَرٌ بمَعنَى الإنشاءِ، ويُؤَيِّدُ هذا تَفريعُ: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ [الزخرف: 89] ؛ ففي ضَميرِ الغَيبَةِ الْتِفاتٌ؛ فمُقتَضى الظَّاهِر: وقَولُك: يا رَبِّ... إلخ، ويُحَسِّنُ هذا الالْتِفاتَ أنَّه حِكايَةٌ لشَيءٍ في نَفْسِ الرَّسولِ؛ فجَعَل الرَّسولَ بمَنزِلَةِ الغائِبِ؛ لإظهارِ أنَّ اللهَ لا يُهمِلُ نِداءَهُ وشَكواهُ [916] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/185)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/271، 272). .
- وإضافَةُ القِيلِ إلى ضَميرِ الرَّسولِ مُشعِرَةٌ بأنَّه تكَرَّر منه، وعُرِفَ به عِندَ رَبِّه، أي: عُرِفَ بِهَذا وبما في مَعناهُ [917] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/272). .
- ويَجوزُ في جَرِّ قولِه: وَقِيلِهِ وَجهانِ: أحدُهما: أنْ يَكونَ مَجرورًا عَطفًا على السَّاعَةِ في قَولِه: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [الزخرف: 85] ، أي: وعِلمُ قِيلِ الرَّسولِ: يا رَبِّ، وهو على هذا وَعدٌ للرَّسولِ بالنَّصرِ وتَهديدٌ لهم بالانتِقامِ. وثانيهما: أنْ تكونَ الواوُ للقسَمِ، ويكونَ جَوابُ القسَمِ جُملةَ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ، على أنَّ اللهَ أقسَمَ بقَولِ الرَّسولِ: يا ربِّ، تَعظيمًا للرَّسولِ ولِقِيلِه الذي هو تَفويضٌ للرَّبِّ وثِقةٌ به. ومَقولُ (قِيلِه) هو يَا رَبِّ فقطْ، أي: أُقْسِمُ بنِداءِ الرَّسولِ ربَّه نِداءَ مُضطَرٍّ. وقدْ حُذِفَ بعْدَ النِّداءِ ما نُودِي لأَجلِه ممَّا دلَّ عليه مَقامُ مَن أَعيَتْه الحِيلَةُ فيهم؛ ففَوَّضَ أَمْرَه إلى رَبِّه، فأَقسَمَ اللهُ بتِلكَ الكَلِمَةِ على أنَّهُم لا يُؤمِنون، ولَكِنَّ اللهَ سيَنتَقِمُ مِنهُم؛ فلذلك قال: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [918] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/268)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/186)، ((تفسير أبي حيان)) (9/393)، ((تفسير أبي السعود)) (8/57)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/273). [الزخرف: 89] .
- والإشارَةُ بـ هَؤُلَاءِ إلى المُشرِكين مِن أهلِ مَكَّة، كما هي عادَةُ القُرآنِ غالِبًا. ووَصْفُهم بأنَّهم قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ أدَلُّ على تَمَكُّنِ عَدَمِ الإيمانِ مِنهُم مِن أنْ يَقولَ: (هَؤُلاءِ لا يُؤمِنون) [919] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/273). .
9- قولُه تعالَى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
- الفاءُ في قَولِه: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ فَصيحَةٌ؛ لأنَّها أفصَحَت عن مُقَدَّرٍ، أي: إذْ قُلتَ ذلك القِيلَ، وفَوَّضْتَ الأمْرَ إلينا؛ فسَأتَوَلَّى الانتِصافَ مِنهُم، فاصْفَحْ عنهم، أي: أَعرِضْ عنهم، ولا تَحزَنْ لهم [920] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/273). .
- وأصلُ سَلَامٌ مَصدرٌ جاء بَدَلًا مِن فِعلِه؛ فأَصلُه النَّصبُ، وعُدِلَ إلى رَفعِه؛ لقَصدِ الدَّلالَةِ على الثَّباتِ [921] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/273). .
- قَولُه: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، أي: فسَوفَ يَعلَمون حالَهم البتَّةَ وإنْ تأخَّرَ ذلكَ، وهو وَعيدٌ وتَهديدٌ لهم مِن اللهِ، وتَسلِيَةٌ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [922] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/268)، ((تفسير البيضاوي)) (5/98)، ((تفسير أبي حيان)) (9/393)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/185)، ((تفسير أبي السعود)) (8/57)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/274). . وعلى قراءةِ تَعْلَمُونَ [923] يُنظر ما تقدَّم في القراءاتِ ذاتِ الأثرِ في التفسيرِ (ص: 299 - 300). ففيه الْتِفاتٌ مِنَ الغَيْبةِ إلى الخِطابِ؛ لِتَهديدِهم وتَقريعِهم وتَوبيخِهم [924] يُنظر: ((حاشية الجمل على الجلالين)) (4/98). ، ويكونُ مِمَّا أُمِر الرَّسولُ بأنْ يَقولَه لهم، أيْ: وقُلْ: سوفَ تَعْلَمونَ [925] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/274). .
- وحُذِفَ مَفعولُ يَعْلَمُونَ للتَّهويلِ؛ لتَذهَبَ نُفوسُهم كلَّ مَذهَبٍ مُمكِنٍ [926] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/274). .
- وما في هذه الآيَةِ مِن الأمْرِ بالإعراضِ والتَّسليمِ في الجِدالِ والوَعيدِ، ما يُؤذِنُ بانتِهاءِ الكَلامِ في هذه السُّورَةِ، وهو مِن بَراعَةِ المَقطَعِ [927] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/274). .