موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيات (1-4)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ

غريب الكلمات:

أَوْلِيَاءَ: أي: أصنامًا يَتولَّونَهم بعبادتِهم ودعائِهم، وأصْلُ (ولي): يدُلُّ على القُرْبِ، سواءٌ مِن حيثُ: المكانُ، أو النِّسبةُ، أو الدِّينُ، أو الصَّداقةُ، أو النُّصرةُ، أو الاعتقادُ [6] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((المفردات)) للراغب (ص: 885)، ((تفسير القرطبي)) (15/233)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89)، ((تفسير السعدي)) (ص: 718). .
زُلْفَى: أي: قُربةً ودَرَجةً ومَنزِلةً، وأصلُ (زلف): يدُلُّ على تَقدُّمٍ في قُربٍ إلى شَيءٍ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 379)، ((تفسير ابن جرير)) (20/103)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/21). .
لَاصْطَفَى: أي: لَاختار، ولَاجتبَى، وأصلُ (صفو): خُلوصُ الشَّيءِ مِن كلِّ شَوبٍ [8] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/584)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 99)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/292)، ((المفردات)) للراغب (ص: 488)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 44). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى عن هذا القُرآنِ الكَريمِ أنَّه تَنزيلٌ مِن عِندِه سُبحانَه، وهو العزيزُ الغالِبُ، المُمتَنِعُ عليه كلُّ عَيبٍ ونَقصٍ، الحَكيمُ الَّذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به.
 ثمَّ يُخاطِبُ تعالى نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائِلًا له: إنَّا أنزَلْنا إليك -يا مُحمَّدُ- القُرآنَ بالحَقِّ، فاعبُدِ اللهَ مُخلِصًا له وَحْدَه في جميعِ عِباداتِك. ألَا للهِ وحْدَه الطَّاعةُ الخالِصةُ مِن الشِّركِ والرِّياءِ.
ثمَّ يذكرُ سُبحانَه ما عليه المُشرِكونَ مِن ضَلالٍ، فيقولُ: والمُشرِكونَ الَّذين اتَّخَذوا مَعبوداتٍ باطِلةً يَعبُدونها مِن دونِ اللهِ يَقولونَ: ما نَعبُدُ هذه المعبوداتِ إلَّا لِتُقَرِّبَنا إلى اللهِ قُرْبى! إنَّ اللهَ يَفصِلُ بيْنَهم يومَ القيامةِ فيما هم فيه مُختَلِفونَ في الدُّنيا، إنَّ اللهَ لا يَهدي مَن هو كاذِبٌ شديدُ الكُفرِ.
ثُمَّ يُبَيِّنُ الله سبحانَه أنَّه لا وَلَدَ له؛ ردًّا على مَن زعَم ذلك، فيقولُ: لو أراد اللهُ سُبحانَه وتعالى أن يتَّخِذَ لنَفْسِه ولَدًا لَاختار ما يَشاءُ مِمَّا يَخلُقُه، ولم يَكِلْ ذلك إلى المُشرِكينَ لِيَختاروا له ما شاؤوا بأهوائِهم! تَنزَّهَ اللهُ عن الولَدِ، وعمَّا يَصِفُه به المُشرِكونَ، هو الواحِدُ في ذاتِه وأسمائِه، وصفاتِه وأفعالِه؛ القهَّارُ الَّذي ذلَّ له وخضَع كُلُّ شَيءٍ.

تفسير الآيات:

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1).
أي: تَنزيلُ القُرآنِ مِن عندِ اللهِ شديدِ القوَّةِ، الغالِبِ الَّذي لا يَغلِبُه شَيءٌ، والمُمتَنِع عليه كلُّ عَيبٍ ونَقصٍ؛ الحَكيمِ في شَرعِه وخَلقِه وقَدَرِه، فيَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه الصَّحيحِ اللَّائقِ به [9] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/154)، ((تفسير ابن كثير)) (7/84)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/437)، ((تفسير السعدي)) (ص: 717)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 13-17). .
كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 41، 42].
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2).
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ.
أي: إنَّا أنزَلْنا إليك -يا مُحمَّدُ- القُرآنَ المُشتَمِلَ على الحقِّ؛ فأخبارُه صادِقةٌ، وأحكامُه عادِلةٌ، ومِن ذلك الإخبارُ بألوهيَّةِ اللهِ، والأمرُ بعبادتِه وَحْدَه لا شَريكَ له [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/154)، ((تفسير القرطبي)) (15/233)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/439، 440)، ((تفسير السعدي)) (ص: 717)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/315). والباءُ في قولِه: بِالْحَقِّ قيل: للملابَسةِ، أي: أنزَلْنا إليكَ القرآنَ مُلابِسًا للحقِّ. وقيل: للسَّببيَّةِ، أي: أنزَلْناه بسببِ الحقِّ، أي: إثباتِه وإظهارِه. وقيل: للتَّعديةِ، أي: أنَّ ما اشتَمَل عليه القرآنُ فهو حقٌّ. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (12/224)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/315)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 21). .
فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا بَيَّن تعالى أنَّ هذا الكِتابَ مُشتَمِلٌ على الحَقِّ والصِّدقِ؛ أردَفَه ببَيانِ بَعضِ ما فيه مِن الحَقِّ والصِّدقِ [11] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/431). .
وأيضًا لَمَّا امتَنَّ تعالى على رَسولِه بإنزالِ الكِتابِ عليه بالحَقِّ، وكان الحَقُّ إخلاصَ العبادةِ لله؛ أمَرَه تعالى بعبادتِه [12] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/182). .
وأيضًا لَمَّا كان الكِتابُ نازِلًا مِنَ الحَقِّ، مُشتَمِلًا على الحَقِّ لهِدايةِ الخَلقِ، على أشرَفِ الخَلقِ؛ عَظُمَت فيه النِّعمةُ وجَلَّت، ووجَبَ القِيامُ بشُكرِها، وذلك بإخلاصِ الدِّينِ لله؛ فلهذا قال [13] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 717). :
فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ.
أي: فاعبُدِ اللهَ مُخلِصًا له وَحْدَه في جميعِ عباداتِك الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، ولا تُشرِكْ به شَيئًا، ولا تَقصِدْ بعِبادتِك حَظًّا دُنيويًّا [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/155)، ((تفسير القرطبي)) (15/233)، ((تفسير ابن كثير)) (7/84)، ((تفسير السعدي)) (ص: 717)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/316)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/352). .
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا أمَر الله سُبحانَه رسولَه بهذا الأمرِ نادى باستِحقاقِه لذلك، وأنَّه لم يَطلُبْ غَيرَ حَقِّه، وأنَّ ذلك لا يُتصَوَّرُ أن يكونَ لِغَيرِه سُبحانَه [15] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/441). .
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ.
أي: ألَا لله وَحْدَه الطَّاعةُ والعِبادةُ النَّقيَّةُ مِن شوائِبِ الشِّركِ والرِّياءِ، فهو المُستَحِقُّ وحْدَه لإفرادِه بالعبادةِ؛ فلا يَقبَلُ مِن العَمَلِ إلَّا ما كان خالِصًا له وحْدَه دونَ ما سِواه [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/156)، ((تفسير ابن كثير)) (7/84)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/441)، ((تفسير السعدي)) (ص: 718)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/317، 318)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/352). .
عن أبي أُمامةَ الباهِليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاء رجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أرأيْتَ رَجُلًا غَزا يَلتَمِسُ الأجرَ والذِّكرَ، ما لَه؟ فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا شَيءَ له! فأعادها ثلاثَ مَرَّاتٍ، يقولُ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا شَيءَ له! ثمَّ قال: إنَّ اللهَ لا يَقبَلُ مِن العَمَلِ إلَّا ما كان له خالِصًا، وابتُغِيَ به وَجهُه)) [17] أخرجه من طُرقٍ: النَّسائيُّ (3140) واللَّفظُ له، والطبرانيُّ (8/165) (7628). جوَّد إسنادَه المُنذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (1/40)، وابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/81)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (6/35)، والصنعاني في ((سبل السلام)) (4/68)، وحسَّن إسنادَه العراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (5/112)، وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3140): (حسَنٌ صحيحٌ). .
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا بَيَّن سُبحانَه أنَّ رأسَ العباداتِ ورَئيسَها الإخلاصُ في التَّوحيدِ؛ أردفَه بذَمِّ طَريقةِ المُشرِكينَ [18] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/421). ، وبيَّن شُبهتَهم الَّتي احتجُّوا بها للإشراكِ به تعالى [19] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/352). الَّذي هو مُخالِفٌ للإخلاصِ [20] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/515). ويُنظر أيضًا: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/336). .
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى.
أي: والمُشرِكونَ الَّذين اتَّخَذوا مِن دُونِ اللهِ أولياءَ يَتولَّونَهم ويَعبُدونَهم يقولونَ: ما نَعبُدُهم إلَّا لِيُقرِّبونا إلى اللهِ قُربةً منه ومَنزِلًة في الدُّنيا [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/156)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/137)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/444)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/321، 322)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 29-31). قال السعدي: (أي: لِتَرفعَ حوائِجَنا لله، وتَشفَعَ لنا عندَه، وإلَّا فنحن نعلَمُ أنَّها لا تَخلُقُ، ولا تَرزُقُ، ولا تَملِكُ مِن الأمرِ شيئًا). ((تفسير السعدي)) (ص: 718). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/156)، ((تفسير القرطبي (15/233)، ((تفسير ابن كثير)) (7/84). وقال الشوكاني: (والموصولُ [أي: قولُه تعالى: وَالَّذِينَ]: عبارةٌ عن المشركين، ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ، وخبرُه قولُه: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وجملةُ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى في محلِّ نصبٍ على الحالِ بتقديرِ القولِ، والاستثناءُ مُفَرَّغٌ مِن أعمِّ العللِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/515). ويُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/241). .
كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18].
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
أي: إنَّ اللهَ يَفصِلُ بَيْنَهم [22] اختَلف المفسِّرونَ في عَودِ الضَّميرِ في قوله: بَيْنَهُمْ؛ فقيل: أي: بيْنَ أهلِ الأديانِ. وممَّن اختاره: ابنُ الجوزي، والقرطبي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/8)، ((تفسير القرطبي)) (15/234)، ((تفسير الشوكاني)) (4/515). وقيل: بيْنَ الكفَرةِ والمشركين، ومُقابِليهم مِن المُسلِمينَ. وممَّن اختار هذا المعنى في الجملةِ: البيضاويُّ، والنسفي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/36)، ((تفسير النسفي)) (3/169)، ((تفسير السعدي)) (ص: 718). وقيل: الضَّميرُ عائدٌ إلى الَّذين اتَّخَذوا أولياءَ. والمرادُ بـ مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: اختِلافُ طرائِقِهم في العبادةِ، وفي أنواعِها. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/321)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 32). قال ابن عاشور: (ومعنى الحُكمِ بيْنَهم أنَّه يُبَيِّنُ لهم ضلالَهم جميعًا يومَ القيامةِ؛ إذ ليس معنى الحُكمِ بيْنَهم مُقتضيًا الحُكمَ لفريقٍ منهم على فريقٍ آخَرَ، بل قد يكونُ الحُكمُ بيْنَ المُتخاصِمَينِ بإبطالِ دَعوى جميعِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (23/322). وقال الواحدي: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بيْن أهلِ الأديانِ، وهم الَّذين اتَّخذوا مِن دونِه أولياءَ). ((الوسيط)) (3/570). وقيل: الضَّميرُ يعودُ إلى الَّذين اتَّخَذوا أولياءَ مِن دون الله، وأوليائِهم، أي: بيْنَ المُتَّخِذينَ والمُتَّخَذينَ، والمعنى: إنَّ الله يَحكُمُ بيْنَهم بأنَّه يُدخِلُ الملائكةَ وعيسى عليهم السَّلامُ الجنَّةَ، ويُدخِلُهم النَّارَ مع الحجارةِ الَّتي نَحَتوها وعبَدوها مِن دون الله تعالى. وممَّن اختار هذا القولَ: الزمخشريُّ، والرسعني، وأبو حيَّان. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/111)، ((تفسير الرسعني)) (6/522)، ((تفسير أبي حيان)) (9/183). وقال العُلَيمي: (بيْنَ العابدِ والمعبودِ، والمسلمِ والكافرِ). ((تفسير العليمي)) (6/51). يومَ القيامةِ فيما هم فيه يَختَلِفونَ في الدُّنيا [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/158)، ((تفسير القرطبي)) (15/234)، ((تفسير ابن كثير)) (7/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 718). .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ.
أي: إنَّ اللهَ لا يُوَفِّقُ إلى الحَقِّ كُلَّ مَن هو كاذِبٌ على الله، شَديدُ الكُفرِ به، فيَصِفُه بما لا يَليقُ به، ويتَّخِذُ مِن دُونِه أولياءَ، ويَدَّعي أنَّ عِبادتَهم تُقرِّبُهم إلى اللهِ زُلْفى [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/158)، ((تفسير القرطبي)) (15/234)، ((تفسير ابن كثير)) (7/85)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/449)، ((تفسير السعدي)) (ص: 719)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/323، 324)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 33، 34). !
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا أخبَرَ سُبحانَه بالحُكمِ بيْنَهم، فكان ذلك -مع تضَمُّنِه التَّهديدَ- وافيًا بنَفيِ الشَّريكِ، كافيًا في ذلك؛ لأنَّ المحكومَ فيه لا يجوزُ أن يكونَ قَسيمًا للحاكِمِ، فلم يَبْقَ في شَيءٍ مِن ذلك شُبهةٌ إلَّا عندَ ادِّعاءِ الوَلَديَّةِ: قال نافيًا لها على سَبيلِ الاستِئنافِ، جوابًا لِمَن يقولُ: فما حالُ مَن يتولَّى الولَدَ [25] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/449). :
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ.
أي: لو أراد اللهُ أن يَتَّخِذَ لنَفْسِه ولَدًا لاختارَ ما يَشاءُ مِمَّا يَخلُقُه، ولم يَكِلْ ذلك إلى المُشرِكينَ لِيَختاروا له ما شاؤوا بأهوائِهم [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/159)، ((تفسير ابن عطية)) (4/518، 519)، ((تفسير القرطبي)) (15/234)، ((تفسير ابن كثير)) (7/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 719)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/325، 326). قال ابن كثير: (هذا شَرطٌ لا يَلزَمُ وُقوعُه ولا جوازُه، بل هو مُحالٌ، وإنَّما قَصَد تَجهيلَهم فيما ادَّعَوه وزَعَموه... ويجوزُ تعليقُ الشَّرطِ على المُستحيلِ؛ لِقَصدِ المتكَلِّمِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/85). !
سُبْحَانَهُ.
أي: تَنزَّهَ اللهُ عن الوَلَدِ، وعمَّا يَصِفُه به المُشرِكونَ مِن النَّقائِصِ والعُيوبِ [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/159)، ((تفسير القرطبي)) (15/234)، ((تفسير ابن كثير)) (7/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 719). .
هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.
أي: هو اللهُ الواحِدُ في ذاتِه وأسمائِه، وصِفاتِه وأفعالِه، لا شَبيهَ له مِن خَلْقِه، ولا نِدَّ له ولا شَريكَ ولا نَظيرَ؛ وهو القَهَّارُ الَّذي قهَرَ كُلَّ شَيءٍ وغَلَبه بقُدرتِه، فذَلَّ له وخَضَع [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/159)، ((تفسير ابن كثير)) (7/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 719)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/327). .

الفوائد التربوية:

1- في وَصفِ    الْحَكِيمِ إيماءٌ إلى أنَّ الله تعالى أنزَلَ القرآنَ بالحِكمةِ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 269] ، وفي هذا إرشادٌ إلى وُجوبِ التَّدبُّرِ في معاني هذا الكِتابِ؛ لِيُتوصَّلَ بذلك التَّدبُّرِ إلى العِلمِ بأنَّه حَقٌّ مِن عندِ الله؛ قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [29] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/314). [فصلت: 53] .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أنَّ العِبادةَ دِينٌ يَدينُ به الإنسانُ، ومعنى كَونِه دِينًا: أنَّه يَعمَلُ لِيُثابَ، ويَتفرَّعُ على هذه الفائِدةِ: أنَّه ينبغي للإنسانِ حينَ العبادةِ أن يُلاحِظَ هذا المعنى -وهو أنَّه يَعمَلُ لِيُثابَ- لأنَّه إذا شَعَر بهذا الشُّعورِ فسوف يُتقِنُ العَمَلَ؛ إذ إنَّ العَقلَ يَهدي الإنسانَ إلى أنَّ الثَّوابَ على قَدْرِ العَمَلِ؛ إنْ أحسنْتَ العمَلَ حَسُنَ الثَّوابُ، وإنْ قَصَّرْتَ فالثَّوابُ يَنقُصُ [30] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 27). .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ التَّحذيرُ مِن الكَذِبِ وخِصالِ الكُفرِ، وأنَّ الكَذِبَ سببٌ لِمَنعِ الهدايةِ، والقاعِدةُ في ذلك: «أنَّ الحُكمَ إذا عُلِّقَ بوَصفٍ وُجِدَ بوُجودِه»، وانتفَى بانتفائِه، ويدُلُّ لهذا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إيَّاكم والكَذِبَ؛ فإنَّ الكَذِبَ يَهدي إلى الفُجورِ، وإنَّ الفُجورَ يَهدي إلى النَّارِ )) [31] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 37). والحديث أخرجه مسلم (2607) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ أنَّ الصِّدقَ سَبَبٌ للهِدايةِ. وَجْهُه: أنَّه إذا كان الكذِبُ سَببًا للغَوايةِ، فضِدُّه سببٌ لضِدِّه؛ فيَكونُ الصِّدقُ سَببًا للهدايةِ، ويَتفرَّعُ على هذه الفائدةِ: التَّرغيبُ في الصِّدقِ، والصِّدقُ يَكونُ مع اللهِ، ومع رَسولِ اللهِ، ومع عِبادِ اللهِ؛ فالصِّدْقُ مع اللهِ هو بالإخلاصِ له، ومع الرَّسولِ هو باتِّباعِه، ومعَ عِبادِ اللهِ هو بحُسنِ المعاملةِ؛ فعليك بالصِّدقِ: ((فإنَّ الصِّدقَ يَهدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهدي إلى الجنَّةِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَصدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدقَ حتَّى يُكتَبَ عندَ اللهِ صِدِّيقًا )) [32] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 37). أخرجه البخاري (6094) بنحوه، ومسلم (2607) واللفظ له من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ دَلَّ استِقراءُ القُرآنِ العَظيمِ على أنَّ اللهَ جَلَّ وعلا إذا ذكَرَ تَنزيلَه لكِتابِه، أتْبَعَ ذلك ببَعضِ أسمائِه الحُسنى المُتضَمِّنةِ صِفاتِه العُليا؛ ففي أوَّلِ هذه السُّورةِ الكريمةِ لَمَّا ذكَرَ تَنزيلَه كِتابَه، بيَّن أنَّ مَبدأَ تَنزيلِه كائِنٌ منه جَلَّ وعلا، وذكرَ اسمَه (اللهَ)، واسمَه (العزيزَ) و(الحَكيمَ)، ولا يخفَى أنَّ ذِكرَه جَلَّ وعلا هذه الأسماءَ الحُسنى العَظيمةَ بعدَ ذِكرهِ تَنزيلَ هذا القُرآنِ العَظيمِ: يدُلُّ بإيضاحٍ على عَظَمةِ القُرآنِ العَظيمِ، وجَلالةِ شَأنِه، وأهمِّيَّةِ نُزولِه [33] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/351). .
2- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ أنَّ القُرآنَ مُنزَّلٌ غيرُ مَخلوقٍ، ووجْهُ كَونِه مُنَزَّلًا ظاهِرٌ مِن قَولِه تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ، ووجْهُ كَونِه غيرَ مخلوقٍ: أنَّ الإنزالَ إذا أُضِيفَ إلى عَينٍ قائمةٍ بنَفْسِها فهذه العَينُ مَخلوقةٌ؛ كقولِه تعالى: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا [ق: 9] ، وقولِه تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر: 6] ، وإذا أُضِيفَ إلى وَصفٍ كان هذا الوَصفُ حسَبَ الموصوفِ، والكلامُ وَصفٌ؛ فإذا كان اللهُ أنزَلَ القرآنَ -وهو كَلامٌ- وأضافه إلى نَفْسِه، فهو عزَّ وجَلَّ -هو بصِفاتِه- أزَلِيٌّ أبَدِيٌّ ليس بمَخلوقٍ، واجبُ الوجودِ [34] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 18). ويُنظر أيضًا: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (6/5-14)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/117، 118). .
3- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أنَّ القُرآنَ نازِلٌ ممَّن هذا وَصْفُه -والكلامُ وَصفٌ للمُتكَلِّمِ، والوَصفُ يَتْبَعُ الموصوفَ- فكما أنَّ الله تعالى هو الكامِلُ مِن كلِّ وَجهٍ، الَّذي لا مَثيلَ له؛ فكذلك كلامُه كامِلٌ مِن كُلِّ وَجهٍ، لا مَثيلَ له؛ فهذا وَحْدَه كافٍ في وَصفِ القُرآنِ، دالٌّ على مَرتبتِه [35] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 717). .
4- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ دَليلٌ على عُلُوِّ اللهِ؛ وَجْهُه: أنَّه قال: مِنَ اللَّهِ، ومِن: للابتداءِ؛ فإذا كان ابتِداءُ الكتابِ مِن عندِ اللهِ -وهو مُنَزَّلٌ- دَلَّ على عُلُوِّ مَن كان مِن عِندِه، وهو اللهُ عزَّ وجلَّ [36] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 18). .
5- في قَولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ سؤالٌ: لَفظُ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ [الزمر: 1] يُشعِرُ بأنَّه تعالى أنزَلَه منَجَّمًا على سبيلِ التَّدريجِ، ولفظُ «الإنزالِ» يُشعِرُ بأنَّه تعالى أنزَلَه دَفعةً واحِدةً؟
الجوابُ: أنَّ طَريقَ الجَمعِ أن يُقالَ: إنَّا حكَمْنا حُكمًا كُلِّيًّا بأن نُوصِلَ إليك هذا الكِتابَ، وهذا هو الإنزالُ، ثمَّ أوصَلْناه إليك نَجمًا نَجمًا على وَفقِ المصالحِ، وهذا هو التَّنزيلُ [37] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/419)، ((تفسير ابن عادل)) (16/466)، ((تفسير الشربيني)) (3/431). .
أو: أنَّه نزَل جملةً واحدةً مِن اللَّوحِ المحفوظِ إلى السَّماءِ الدُّنيا، ثمَّ أُنزِل بعدَ ذلك مُفَرَّقًا [38] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (9/4)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (1/148). .
6- في قَولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ أنَّ مَن لم يَبْلُغْه القُرآنُ لم تَلزَمْه العِبادةُ، ووَجهُ ذلك: أنَّ الفاءَ للتَّفريعِ -وعَلامةُ فاءِ التَّفريعِ أنَّ ما بعدَها يكونُ مُرَتَّبًا على ما قبْلَها- فالمعنى: «فلِإنزالِنا إليك الكتابَ اعبُدِ اللهَ مخلِصًا له الدِّينَ»، ويدُلُّ لهذا آياتٌ أُخرَى، مِثلُ قَولِه تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [39] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 21،24). [الإسراء: 15] .
7- في قَولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ إيماءٌ إلى أنَّ إنزالَ الكِتابِ عليه نِعمةٌ كُبرى، تَقتَضي أنْ يُقابِلَها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالشُّكرِ بإفرادِ الله تعالى بالعِبادةِ، وإيماءٌ إلى أنَّ إشراكَ المُشرِكينَ باللهِ غَيرَه في العِبادةِ كُفرٌ لنِعَمِه الَّتي أنعَمَ بها؛ فإنَّ الشُّكرَ صَرفُ العَبدِ جَميعَ ما أنعَمَ اللهُ به عليه فيما خُلِقَ لِأجْلِه، وفي العِبادةِ تَحقيقُ هذا المَعنى؛ قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [40] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/316). [الذاريات: 56].
8- في قَولِه تعالى: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ أنَّ اللهَ تعالى لا يَقبَلُ إلَّا دِينًا خالِصًا، وأمَّا ما سِواه فليس لله، حتَّى وإنْ أشرَكْتَ به مع الله؛ لأنَّ الدِّينَ لله: هو الخالِصُ النَّقيُّ مِن شوائِبِ الشِّركِ [41] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 34). .
9- في قَولِه تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وُجوبُ الإخلاصِ للهِ في العبادةِ، والإخلاصُ: تَنقيةُ الشَّيءِ مِمَّا يَشُوبُه؛ ولهذا جاء في الحديثِ الصَّحيحِ: أنَّ اللهَ تعالى قال: ((أنا أغنى الشُّرَكاءِ عن الشِّركِ ؛ مَن عَمِلَ عمَلًا أشرَكَ فيه معيَ غيري تَرَكْتُه وشِرْكَه )) [42] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 26). والحديث أخرجه مسلم (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. .
10- في قَولِه تعالى: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ غِنَى اللهِ عزَّ وجلَّ الغِنى التَّامَّ، ووَجهُ ذلك: أنَّه إذا كان اللهُ لا يَقبَلُ إلَّا ما كان خالِصًا، دلَّ على غِناه عن عَمَلِ العِبادِ؛ لأنَّه -وحاشاه مِن ذلك- لو كان فَقيرًا مُحتاجًا لِذلك لَاكتفَى بما يأتيه منهم، ولو على سَبيلِ المُشارَكةِ، كالإنسانِ المُحتاجِ يَقبَلُ منك ما كان خاصًّا له، وما كان مُشتَرَكًا، فلمَّا كان اللهُ لا يَقبَلُ إلَّا ما كان خالِصًا عُلِمَ بهذا غِناه عن العِبادِ، وإلى هذا يُشيرُ قولُه تعالى في الحديثِ القُدُسيِّ: ((أنا أغنى الشُّرَكاءِ عن الشِّركِ )) [43] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 35). أخرجه مسلم (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
11- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ أنَّه لَمَّا كان الإنسانُ مَفطورًا على الخُضوعِ للمَلِكِ الدَّيَّانِ، ولا يَلتَفِتُ إلى غيرِه إلَّا بمُعالَجةِ النَّفْسِ بما لَها مِنَ الهوى والطُّغيانِ؛ عبَّرَ بصيغةِ الافتِعالِ، فقال: اتَّخَذُوا، أي: عالَجوا عُقولَهم حتَّى صَرَفوها عن الله [44] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/444). .
12- في قَولِه تعالى: مِنْ دُونِهِ تَنبيهٌ على خَطَئِهم في رِضاهم بالأدْنَى عن الأعلَى، ومَعلومٌ أنَّ كُلَّ شَيءٍ دُونَه [45] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/444). .
13- في قَولِه تعالى: لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى أنَّ المُشرِكينَ في عَهدِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُقِرُّون بوُجودِ اللهِ تعالى، وأنَّه أعظَمُ مِن كلِّ عَظيمٍ، فهم مُعتَرِفونَ باللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّه أعظَمُ مِن أصنامِهم؛ ولهذا جَعَلوها وسيلةً للتَّقَرُّبِ إليه [46] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 36). .
14- في قَولِه تعالى: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى أنَّ اتِّخاذَ الوَسائِطِ مِن دُونِ اللهِ هو مِن أصولِ كُفرِ الكُفَّارِ [47] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/403). .
15- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى هذه الشُّبهةُ هي الَّتي اعتَمَدها المُشرِكونَ في قديمِ الدَّهرِ وحَديثِه، وجاءَتْهم الرُّسُلُ -صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم أجمعينَ- برَدِّها والنَّهيِ عنها، والدَّعوةِ إلى إفرادِ العبادةِ لله وَحْدَه لا شَريكَ له، وأنَّ هذا شَيءٌ اختَرَعه المُشرِكونَ مِن عندِ أنفُسِهم، لم يأذَنِ اللهُ فيه، ولا رَضِيَ به، بل أبغَضَه ونهَى عنه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] ، وأخبَرَ أنَّ الملائِكةَ الَّتي في السَّمَواتِ -مِن المقَرَّبينَ وغَيرِهم- كُلُّهم عَبيدٌ خاضِعونَ لله، لا يَشفَعونَ عِندَه إلَّا بإذنِه لِمَنِ ارتَضَى، وليسوا عندَه كالأُمراءِ عندَ مُلوكِهم، يَشفَعونَ عِندَهم بغيرِ إذنِهم فيما أحَبَّه الملوكُ وأبَوْه، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل: 74] . تعالى اللهُ عن ذلك [48] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/85). .
16- في قَولِه تعالى: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى أنَّ هؤلاء قاسُوا الَّذي ليس كمِثلِه شَيءٌ، المَلِكَ العَظيمَ: بالملوكِ، وزَعَموا بعُقولِهم الفاسِدةِ ورأيِهم السَّقيمِ أنَّ الملوكَ كما أنَّه لا يُوصَلُ إليهم إلَّا بوُجَهاءَ وشُفَعاءَ ووُزراءَ يَرفَعونَ إليهم حوائِجَ رعاياهم، ويَستَعطِفونَهم عليهم، ويُمهِّدون لهم الأمرَ في ذلك؛ أنَّ الله تعالى كذلك! وهذا القياسُ مِن أفسَدِ الأقيِسةِ، وهو يَتضَمَّنُ التَّسويةَ بيْنَ الخالِقِ والمخلوقِ، مع ثُبوتِ الفَرقِ العظيمِ عقلًا ونَقلًا وفِطرةً؛ فإنَّ الملوكَ إنَّما احتاجوا للوَساطةِ بيْنَهم وبيْنَ رعاياهم لأنَّهم لا يَعلَمونَ أحوالَهم، فيَحتاجُون مَن يُعلِمُهم بأحوالِهم، ورُبَّما لا يكونُ في قُلوبِهم رَحمةٌ لصاحِبِ الحاجةِ، فيَحتاجُون مَن يُعَطِّفُهم عليه، ويَسترحِمُه لهم، ويحتاجونَ إلى الشُّفَعاءِ والوُزَراءِ، ويخافونَ مِنهم؛ فيَقضُونَ حوائِجَ مَن توسَّطوا لهم؛ مُراعاةً لهم، ومُداراةً لخواطِرِهم، وهم أيضًا فُقَراءُ؛ قد يَمنَعونَ لِما يَخشَونَ مِن الفَقرِ، وأمَّا الرَّبُّ تعالى فهو الَّذي أحاط عِلمُه بظواهِرِ الأمورِ وبواطِنِها، الَّذي لا يَحتاجُ مَن يُخبِرُه بأحوالِ رعيَّتِه وعبادِه، وهو تعالى أرحَمُ الرَّاحِمينَ، وأجوَدُ الأجوَدِينَ، لا يَحتاجُ إلى أحَدٍ مِن خَلْقِه يَجعَلُه راحِمًا لعبادِه، بل هو أرحَمُ بهم مِن أنفُسِهم ووالدِيهم، وهو الَّذي يَحُثُّهم ويَدْعوهم إلى الأسبابِ الَّتي يَنالُونَ بها رَحمتَه، وهو يريدُ مِن مَصالحِهم ما لا يُريدونَه لأنفُسِهم، وهو الغَنيُّ الَّذي له الغِنى التَّامُّ المُطلَقُ، الَّذي لو اجتمَعَ الخَلقُ مِن أوَّلِهم وآخِرِهم في صَعيدٍ واحدٍ فسَألوه، فأعطَى كلًّا منهم ما سَأل وتمنَّى: لم يَنقُصوا مِن غِناه شيئًا، ولم يَنقُصوا مِمَّا عندَه إلَّا كما يَنقُصُ البَحرُ إذا غُمِسَ فيه المِخْيَطُ! وجميعُ الشُّفَعاءِ يَخافونَه؛ فلا يَشفَعُ منهم أحَدٌ إلَّا بإذْنِه، وله الشَّفاعةُ كُلُّها. فبهذه الفُروقِ يُعلَمُ جَهلُ المُشرِكينَ به، وسَفَهُهم العَظيمُ، وشِدَّةُ جَراءتِهم عليه، ويُعلَمُ أيضًا الحِكمةُ في كَونِ الشِّركِ لا يَغفِرُه اللهُ تعالى؛ لأنَّه يَتضَمَّنُ القَدْحَ في الله تعالى؛ ولهذا قال حاكِمًا بيْنَ الفريقَينِ: المُخلِصينَ والمُشرِكينَ -على قولٍ في التَّفسيرِ- وفي ضِمنِه التَّهديدُ للمُشرِكينَ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [49] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 718). !
17- لَمَّا حكَى الله تعالى مَذهبَ المشركينَ اقتَصَر في الجوابِ على مجرَّدِ التَّهديدِ، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ؛ وذلك لأنَّ الرَّجُلَ المُبطِلَ إذا ذَكَر مَذهَبًا باطِلًا، وكان مُصِرًّا عليه؛ فالطَّريقُ في علاجِه أن يُحتالَ بحِيلةٍ تُوجِبُ زَوالَ ذلك الإصرارِ عن قَلبِه، فإذا زال الإصرارُ عن قَلبِه فبعدَ ذلك يُسمِعُه الدَّليلَ الدَّالَّ على بُطلانِه؛ فيَكونُ هذا الطَّريقُ أفضَى إلى المقصودِ [50] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/421). .
18- في قَولِه تعالى: فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أنَّهم ليس لهم أصلٌ يَضبِطُهم؛ فهم لا يَرجِعونَ إلَّا إلى الخَلفِ كيفَما تقلَّبوا؛ لأنَّهم مَظروفون لذلك العمَلِ الَّذي مبناه الهوى الَّذي هو مَنشَأُ الاختِلافِ، فكيف إذا انضَمَّ إلى ذلك خِلافُ المُخلِصينَ وإنكارُهم عليهم، الَّذي أرشَدَ إليه اعتِذارُهم؟! فظهَرَ مِن هذا أنَّ اختِلافَ الأئمَّةِ في فَهمِ كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقواعِدَ مُعتبَرةٍ استَنبطوها مِن ذلك لا يَخرُجونَ عنها: ليس مِن الخِلافِ المذمومِ؛ لِوَحدةِ ما يَرجِعونَ إليه مِنَ الأصلِ الصَّحيحِ الثَّابتِ عن اللهِ [51] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/446). .
19- في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ أنَّ الكُفرَ سَبَبٌ للغَوايةِ، ويُؤَيِّدُ هذا قَولُه تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] [52] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 38). ، وأنَّ مَن أصَرَّ على الكَذِبِ والكُفرِ بَقِيَ مَحرومًا مِن الهِدايةِ [53] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/422). .
20- قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ أي: دائِمٌ على كُفرِه وكَذِبِه، أو لا يَهديه إلى حُجَّةٍ يُلزِمُ بها المؤمِنينَ [54] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 491، 492). ، أو يكونُ المعنى: إنَّ اللهَ لا يَهدي الكاذبَ الكفَّارَ في حالِ كذبِه وكفرِه، أو يَكونُ لفظُها العمومَ ومعناها الخصوصَ فيمَن ختَم الله عليه بالكفرِ، وقضَى في الأزلِ أنَّه لا يؤمنُ أبدًا، وإلَّا فقد وُجِد الكاذبُ الكَفَّارُ وقد هُدِيَ كثيرًا [55] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/518). .
21- في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ دَليلٌ على أنَّ المؤمِنَ هداه اللهُ إلى إيمانِه، وهو حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ في أشياءَ؛ فمِنها: ما يَزعُمونَ أنَّ اللهَ جلَّ جلالُه ليس له في فِعلِ العبدِ صُنعٌ بمَعونةٍ ولا غَيرِها! وقد أخبَرَ نصًّا هاهنا أنَّ الكافرَ مُحتاجٌ إلى هدايةِ اللهِ إيَّاه، وأنَّ المؤمِنَ به اهتدى. ومنها: ما يَلزَمُهم في ادِّعاءِ العَدْلِ الَّذي لا يَعقِلونَه، مِن مُطالَبةِ الكافِرِ بالإيمانِ، وعُقوبتِه على الكُفرِ، وليس يَقدِرُ على ما أُمِرَ به إلَّا بهِدايةِ آمِرِه [56] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/3). !
22- قَولُه تعالى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ المقصودُ مِن هذه الآيةِ إبطالُ إلهيَّةِ أصنامِ المشركينَ، وقد بُنِيَ الدَّليلُ على قاعِدةِ استِحالةِ الوَلَدِ على اللهِ تَعالى؛ إذْ بُنيَ القياسُ الشَّرطيُّ [57] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 163)، ((الموافقات)) للشاطبي (5/421). على فَرضِ اتِّخاذِ الوَلَدِ، لا على فَرضِ التَّوَلُّدِ، فاقتَضى أنَّ المُرادَ باتِّخاذِ الوَلَدِ التَّبَنِّي؛ لِأنَّ إبطالَ التَّبَنِّي بهذا الاستِدلالِ يَستَلزِمُ إبطالَ تَوَلُّدِ الابنِ بالأَوْلى، وعَزَّزَ المَقصودَ مِن ذِكرِ فِعلِ الاتِّخاذِ بتَعقيبِه بفِعلِ الاصطِفاءِ على طَريقةِ مُجاراةِ الخَصمِ المُخطِئِ؛ لِيُغيرَ في مَهواةِ خَطَئِه، أيْ: لو كان لِأحَدٍ مِنَ اللهِ نِسبةُ بُنوَّةٍ لَكانت تلك النِّسبةُ التَّبَنِّيَ، لا غَيرُ؛ إذْ لا تُعقَلُ بُنوَّةٌ للهِ غَيرُ التَّبَنِّي، ولو كان اللهُ مُتبَنِّيًا لَاختارَ ما هو الأليَقُ بالتَّبَنِّي مِن مَخلوقاتِه دُونَ الحِجارةِ الَّتي زَعَمتُموها بَناتٍ للهِ. وإذا بَطَلتْ بُنوَّةُ تلك الأصنامِ الثَّلاثةِ المَزعومةِ، بَطَلتْ إلَهيَّةُ سائِرِ الأصنامِ الأُخرى الَّتي اعتَرَفوا بأنَّها في مَرتَبةٍ دونَ مَرتَبةِ اللَّاتِ والعُزَّى ومَناةَ بطَريقِ الأَوْلى، واتِّفاقِ الخَصمَيْنِ؛ فقدِ اقتَضى الكَلامُ دَليلَيْنِ، طُوِيَ أحَدُهما، وهو دَليلُ استِحالةِ الوَلَدِ بالمَعنى الحَقيقيِّ عن الله تعالى، وذُكِرَ دَليلُ إبطالِ التَّبَنِّي لِمَا لا يَليقُ أنْ يَتبَنَّاه الحَكيمُ [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/325، 326). .
23- قَولُه تعالى: لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ فيه بيانُ كمالِ سُلطانِ اللهِ سُبحانه وتعالى، وأنَّه لو أراد شَيئًا لم يَمتنِعْ عليه، ومِن وَجهٍ آخَرَ: أنَّ فيه رَدًّا لِدَعواهم بأنَّ الملائكةَ بناتُ اللهِ، أو المسيحَ ابنُ اللهِ، أو عُزَيرًا، فيَقولُ: لو أراد اللهُ أنْ يَتَّخِذَ ولدًا لَاصطفى ما يَشاءُ دون أنْ يَتَّخِذَ ما ادَّعَوه [59] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 42). !
24- قَولُه تعالى: لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ فيه إثباتُ الأفعالِ الاختياريَّةِ للهِ عزَّ وجَلَّ. والأفعالُ الاختياريَّةُ للهِ ثابِتةٌ بالسَّمعِ والعَقلِ؛ أمَّا السَّمعُ فما أكثرَ الأفعالَ الَّتي يُضِيفُها اللهُ عزَّ وجلَّ إلى نَفْسِه، وأمَّا العَقلُ فلِأنَّ الفاعِلَ بالاختيارِ أكمَلُ ممَّن لا يَفعَلُ [60] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 43). .
25- قَولُه تعالى: سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ أي: الواحِدُ في ذاتِه، وفي أسمائِه، وفي صِفاتِه، وفي أفعالِه؛ فلا شَبيهَ له في شَيءٍ مِن ذلك، ولا مُماثِلَ؛ فلو كان له ولَدٌ لاقتَضَى أن يَكونَ شَبيهًا له في وَحدتِه؛ لأنَّه بَعضُه وجُزءٌ منه، ووَحدتُه تعالى وقَهرُه مُتلازِمانِ؛ فالواحِدُ لا يكونُ إلَّا قهَّارًا، والقهَّارُ لا يكونُ إلَّا واحِدًا، وذلك يَنفي الشَّرِكةَ له مِن كُلِّ وَجهٍ [61] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 719). ، وكَونُه قَهَّارًا يَمنَعُ مِن ثُبوتِ الولَدِ له؛ لأنَّ المُحتاجَ إلى الولَدِ هو الَّذي يَموتُ فيَحتاجُ إلى ولَدٍ يَقومُ مَقامَه؛ فالمُحتاجُ إلى الولَدِ هو الَّذي يكونُ مَقهورًا بالموتِ، أمَّا الَّذي يكونُ قاهِرًا ولا يَقهَرُه غَيرُه فيكونُ الولَدُ في حَقِّه مُحالًا؛ فثَبَت أنَّ في قَولِه: هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ألفاظًا مُشتَمِلةً على دلائِلَ قاطِعةٍ في نَفيِ الولَدِ عنِ اللهِ تعالى [62] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/422). .
26- في قَولِه تعالى: الْوَاحِدُ أنَّ الولَدَ لا يَحصُلُ إلَّا مِن الزَّوجِ والزَّوجةِ، والزَّوجانِ لا بُدَّ أن يكونَا مِن جِنسٍ واحِدٍ؛ فلو كان له -تعالى- ولَدٌ لَما كان واحِدًا، بل كانت زَوجتُه مِن جِنسِه [63] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/422). !
27- في قَولِه تعالى: الْوَاحِدُ إثباتُ الوَحدانيَّةِ له سبحانَه، وهذا يُبطِلُ الشَّريكَ في الإلهيَّةِ على تفاوُتِ مَراتبِه، وإثباتُ الْقَهَّارُ يُبطِلُ ما زَعَموه مِن أنَّ أولياءَهم تُقَرِّبُهم إلى اللهِ زُلْفى وتَشفَعُ لهم [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/327). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فاتِحةٌ أنيقةٌ في التَّنويهِ بالقُرآنِ، جُعِلَت مُقدِّمةً لهذه السُّورةِ؛ لأنَّ القُرآنَ جامِعٌ لِمَا حَوَتْه وغيرِه مِن أُصولِ الدِّينِ [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/314). .
- وتَنْزِيلُ خَبَرٌ لِمُبتَدَأٍ مَحذوفٍ هو اسمُ إشارةٍ، أُشيرَ به إلى السُّورةِ تَنزيلًا لها مَنزِلةَ الحاضِرِ المُشارِ إليه؛ لِكَونِها على شَرَفِ الذِّكرِ والحُضورِ. وقيلَ: إنَّه خَبَرٌ، والمُبتَدأُ (هو)؛ لِيَعودَ على قَولِه: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [ص: 87] ، كأنَّه قيلَ: وهذا الذِّكرُ ما هو؟ فقيلَ: هو تَنزيلُ الكِتابِ [66] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/181)، ((تفسير أبي السعود)) (7/240). .
- وأيضًا تَنْزِيلُ: مَصدرُ (نَزَّلَ) المضاعَفِ، وهو مُشعِرٌ بأنَّه أنزَلَه مُنجَّمًا. واختيارُ هذه الصِّيغةِ هنا للرَّدِّ على الطَّاعنينَ؛ لأنَّ مِن جُملةِ ما تَعلَّلوا به قولَهم: لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [67] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/314). [الفرقان: 32] .
- وأُجْرِيَ على اسمِ الجَلالةِ الوَصفُ بـ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ؛ للإيماءِ إلى أنَّ ما يَنزِلُ منه يأْتي على ما يُناسِبُ الصِّفتَينِ؛ فيكونُ عَزيزًا؛ قال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ [فصلت: 41] ، أي: القرآنُ عزيزٌ غالبٌ بالحُجَّةِ لِمَن كذَّبَ به، وغالِبٌ بالفَضْلِ لِما سِواهُ مِن الكُتبِ، مِن حيثُ إنَّ الغَلَبةَ تَستلزِمُ التَّفضُّلَ والتَّفوُّقَ، وغالِبٌ لِبُلغاءِ العرَبِ؛ إذ أعجَزَهم عن مُعارَضةِ سُورةٍ منه، ويكونُ حَكيمًا مِثلَ صِفَةِ مُنزِّلِه [68] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/240)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/314). .
- والحَكيمُ: إمَّا بمعنى الحاكمِ؛ فالقرآنُ أيضًا حاكمٌ على مُعارِضيه بالحُجَّةِ، وحاكمٌ على غَيرِه مِن الكُتبِ السَّماويَّةِ بما فيه مِن التَّفصيلِ والبيانِ؛ قال تعالى: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48] . وإمَّا بمعنى: المُحكِمِ المُتقِنِ؛ فالقُرآنُ مُشتمِلٌ على البَيانِ الَّذي لا يَحتمِلُ الخطَأَ، وإمَّا بمعنى الموصوفِ بالحِكمةِ؛ فالقُرآنُ مُشتمِلٌ على الحِكمةِ كاتِّصافِ مُنزِّلِه بها. على أنَّ في هذَينِ الوَصفَينِ إيماءً إلى أنَّ القُرآنَ مُعجِزٌ ببَلاغةِ لَفظِه، وبإعجازِه العِلميِّ؛ إذِ اشتَمَلَ على عُلومٍ لم يَكُنْ لِلنَّاسِ عِلْمٌ بها [69] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/314، 315). .
- والتَّعريفُ في الْكِتَابِ لِلعَهدِ، وهو القُرآنُ المَعهودُ بَيْنَهم عِندَ كُلِّ تَذكيرٍ، وكُلِّ مُجادَلةٍ [70] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/314). . ويَجوزُ أنْ يَكونَ لَفظُ الْكِتَابِ اسمًا عامًّا لِجَميعِ ما تَنَزَّلَ مِن عِندِ اللهِ مِنَ الكُتُبِ، وكأنَّه أخبَرَ إخبارًا مُجرَّدًا أنَّ الكُتُبَ الهاديةَ الشَّارعةَ إنَّما تَنزيلُها مِنَ اللهِ، وجَعَل هذا الإخبارَ تَقدِمةً وتَوطِئةً لِقَولِه: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ [71] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/181). [الزمر: 2] .
2- قولُه تعالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ
- قَولُه: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ استِئنافٌ وشُروعٌ في بَيانِ شَأنِ المُنَزَّلِ إليه، وما يَجِبُ عليه، إثْرَ بَيانِ شَأنِ المُنزَّلِ، وكَونِه مِن عِندِ اللهِ تَعالى [72] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/240)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/388). .
- وافتِتاحُ الجُملةِ بحَرفِ (إنَّ) مُراعًى فيه ما استُعمِلَ فيه الخَبَرُ مِنَ الامتِنانِ؛ فيُحمَلُ حَرفُ (إنَّ) على الاهتِمامِ بالخَبَرِ. وما أُريدَ به مِنَ التَّعريضِ بالَّذين أنكَروا أنْ يَكونَ مُنَزَّلًا مِنَ الله، فيُحمَلُ حَرفُ (إنَّ) على التَّأكيدِ؛ استِعمالًا لِلمُشتَرَكِ في مَعنَيَيْه، ولِمَا أنَّ ما في هذه الآيةِ مِن زِيادةِ الإعلانِ بصِدقِ النَّبيِّ المُنَزَّلِ عليه الكِتابُ جَديرٌ بالتَّأكيدِ؛ لِأنَّ دَليلَ صِدقِه ليس في ذاتِه، بل هو قائِمٌ بالإعجازِ الَّذي في القُرآنِ، وبغَيرِه مِنَ المُعجِزاتِ؛ فكان مُقتَضَى التَّأكيدِ مَوجودًا، بخِلافِ مُقتَضى الحالِ في قَولِه: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ [الزمر: 1] ؛ فجُملةُ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ تَتنَزَّلُ مَنزِلةَ البَيانِ لِجُملةِ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ [73] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/315). [الزمر: 1] .
- قولُه: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فيه إعادةُ لَفظِ الْكِتَابَ؛ لتَعظيمِه، ولِمَزيدِ الاعتناءِ بشأنِه؛ جَريًا على خِلافِ مُقتَضَى الظَّاهِرِ بالإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ. فهو تكريرٌ على جِهةِ التَّفخيمِ والتَّعظيمِ؛ أُبرِز في جُملةٍ أخرَى مَلحوظًا فيه إسنادُ إنزالِه إلى ضَميرِ العَظَمةِ، وتَشريفُ مَن أُنزِلَ إليه بالخِطابِ، وتَخصيصُه بالحَقِّ [74] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/181)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/406)، ((تفسير أبي السعود)) (7/240)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/315). .
- والباءُ في بِالْحَقِّ لِلمُلابَسةِ، وهي ظَرفٌ مُستَقَرٌّ [75] الظَّرْف المُستقَرُّ -بفتح القاف-: سُمِّي بذلك؛ لاستِقرارِ الضَّميرِ فيه بَعْدَ حذْفِ عامِلِه، وهو الفِعلُ (استقرَّ)، ولأنَّه حينَ يصيرُ خبرًا مثلًا يَنتقِلُ إليه الضَّميرُ مِن عامِلِه المحذوفِ ويَستقِرُّ فيه؛ وبسببِ هذَينِ الأمْرَينِ استحقَّ عاملُه الحذفَ وجوبًا. فإذا أُلغِيَ الضَّميرُ فيه سُمِّي ظرفًا لَغوًا؛ لأنَّه فَضلةٌ لا يُهتَمُّ به، وسُمِّيَ أيضًا «اللَّغوُ» لغوًا؛ لأنَّ وُجودَه ضئيلٌ. فقولك: كان في الدَّارِ زَيدٌ، أي: كان مُستقِرًّا في الدَّارِ زيدٌ؛ فالظَّرفُ مُستقَرٌّ فيه، ثمَّ حُذِف الجارُّ، كما يُقالُ: المحصولُ للمَحصولِ عليه، ولم يُستحسَنْ تقديمُ الظَّرفِ اللَّغوِ، وهو ما ناصِبُه ظاهِرٌ؛ لأنَّه -إذَنْ- فَضلةٌ؛ فلا يُهتمُّ به، نحو: كان زيدٌ جالسًا عندَك. يُنظر: ((شرح الرضي على الكافية)) (4/210)، ((موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب)) لخالد الأزهري (ص: 82)، ((النحو الوافي)) لعباس حسن (2/446، 447). هو حالٌ مِنَ الكِتابِ، أيْ: أنزَلْنا إليكَ القُرآنَ مُلابِسًا لِلحَقِّ في جَميعِ مَعانيه لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42] ، أو بسَبَبِ إثباتِ الحَقِّ وإظهارِه وتَفصيلِه، وإمَّا مُتعَلِّقةٌ بمَحذوفٍ هو حالٌ مِن نُونِ العَظَمةِ [76] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/36)، ((تفسير أبي حيان)) (9/182)، ((تفسير أبي السعود)) (7/240)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/315). .
- والفاءُ في قَولِه: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ لِتَرتيبِ الأمْرِ بالعِبادةِ على إنزالِ الكِتابِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالحَقِّ؛ فأُمِرَ بأنْ يَعبُدَ اللهَ مُخلِصًا له العِبادةَ، مُمَحِّضًا له الدِّينَ مِن شَوائِبِ الشِّركِ والرِّياءِ، حَسبَما بُيِّنَ في تَضاعيفِ ما أُنزِلَ إليكَ. وفي هذا التَّفريعِ تَعريضٌ بما يُناسِبُ المَعنى التَّعريضيَّ في المُفَرَّعِ عليه، وهو أنَّ المُعرَّضَ بهم أنْ يَعبُدوا اللهَ مُخلِصينَ له الدِّينَ، عليهم أنْ يَدَّبَّروا في المَعنى المُعَرَّضِ به [77] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/182)، ((تفسير أبي السعود)) (7/240)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/315، 316). .
- قَولُه: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ المَقصودُ مِنَ الأمْرِ بالعِبادةِ التَّوطِئةُ إلى تَقييدِ العِبادةِ بحالةِ الإخلاصِ مِن قَولِه: مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، فالمَأمورُ به عِبادةٌ خاصَّةٌ؛ ولذلك لم يَكُنِ الأمْرُ بالعِبادةِ مُستَعمَلًا في مَعنى الأمْرِ بالدَّوامِ عليها، ولذلك أيضًا لم يُؤتَ في هذا التَّركيبِ بصِيغةِ قَصرٍ، خِلافَ قَولِه: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: 66] ؛ لِأنَّ المَقصودَ هنا زِيادةُ التَّصريحِ بالإخلاصِ، والرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُنَزَّهٌ عن أنْ يَعبُدَ غيرَ اللهِ [78] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/315، 316). .
- قَولُه: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ الإخلاصُ: الإمحاضُ وعَدَمُ الشَّوبِ بمُغايِرٍ، وهو يَشملُ الإفرادَ، وسُمِّيَتِ السُّورةُ الَّتي فيها تَوحيدُ اللهِ (سُورةَ الإخلاصِ)، أيْ: إفرادُ اللهِ بالإلَهيَّةِ، وأُوثِرَ الإخلاصُ هنا لِإفادةِ التَّوحيدِ، وأخَصَّ منه؛ وهو أنْ تَكونَ عِبادةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَبَّه غَيرَ مَشوبةٍ بحَظٍّ دُنيَويٍّ [79] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/316). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، بلَفظِ إِلَيْكَ، وقال فيما بعْدُ: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ [الزمر: 41] ، بلَفظِ عَلَيْكَ؛ ووَجْهُه: أنَّ إِلَيْكَ وعَلَيْكَ هنا مُترادِفَتانِ على معنًى واحدٍ مِن معنى الخِطابِ؛ فتارةً يُراعى وُصولُ المنزَّلِ بواسطةِ المَلَكِ، وتارةً يُراعى وُصولُه مِن عندِ اللهِ سُبحانه مِن غيرِ واسطةٍ، فإذا رُوعِيَ هذا قيل: (عليك)، وإذا رُوعِي الأوَّلُ قِيل: (إليك)، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة: 4] ، وقال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف: 1] ، والأوَّلُ أكثَرُ، فبُدِئَ هنا به. ثمَّ إنَّه ورَدَ في الآيةِ الثَّانيةِ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ، واللَّامُ الجارَّةُ في قولِه: لِلنَّاسِ تُفِيدُ الاختصاصَ، وتُرادِفُ كثيرًا لفظةَ (إلى)، فلو ورَدَتِ الآيةُ الثَّانيةُ بـ (إلى)، فقِيل: (إنَّا أنْزَلْنا إليك الكتابَ للنَّاسِ)، لَكان ذلك كالمُرادِفِ لِقولِه: (إنَّا أنْزَلْنا إليك الكتابَ إلى النَّاسِ)، وكان يكونُ فيه إيصالُ الفِعلِ إلى مَجرورينِ بحرْفٍ واحدٍ، وليس أحدُهما مَعطوفًا على الآخَرِ! فجِيءَ بالآيتَينِ على ما يُناسِبُ ويُلائمُ، واللهُ أعلمُ [80] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/424). . وقيل: إنَّ (على) تَتضمَّنُ معنَى (فوق)، وأنْ يكون الوحيُ جاءه مِن تلك الجهةِ، وإنَّ (إلى) للنِّهايةِ، فلا تَختَصُّ بجِهةٍ دونَ جِهةٍ؛ ولذلك كان أكثرُ المواضعِ الَّتي ذُكِرَ فيها إنزالُ القرآنِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عُدِّيَ بـ (على)، كقولِه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف: 1] ، وقولِه: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [النحل: 2] ، وقولِه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] ، وأكثَرُ ما ذُكِرَ إنزالُه على النَّاسِ جاء مُعدًّى بـ (إلى)، كقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [81] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1105-1109). [النساء: 174] .
وقيل: إنَّ كلَّ مَوضعٍ خاطَبَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقولِه: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ففيه تَكليفٌ، وإذا خاطَبَه بقولِه: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ففيه تَخفيفٌ؛ فالَّذي في أوَّلِ السُّورةِ (إليك)؛ فكلَّفَه الإخلاصَ في العبادةِ، والَّذي في آخِرِها (عليك)، فختَمَ الآيةَ بقولِه: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر: 41] ، أي: لستَ بمسؤولٍ عنهم؛ فخفَّفَ عنه ذلك [82] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 217). .
3- قولُه تعالَى: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ
- قَولُه: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ استِئنافٌ؛ لِلتَّخلُّصِ إلى استِحقاقِه تعالى الإفرادَ بالعِبادةِ، وهو غَرَضُ السُّورةِ، وأفادَ التَّعليلَ لِلأمْرِ بالعِبادةِ الخالِصةِ للهِ؛ لِأنَّه إذا كان الدِّينُ الخالِصُ مُستَحَقًّا للهِ وخاصًّا به، كان الأمْرُ بالإخلاصِ له مُصيبًا مَحَزَّه [83] المَحَزُّ: مَوضِعُ الحَزِّ: أي: القَطعِ. وأصابَ المحَزَّ: عبارةٌ عن فِعلِ الأمرِ على ما يَنبَغي ويَليقُ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 71)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 873). ؛ فصارَ أمْرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بإخلاصِ العِبادةِ له مُسَبَّبًا عن نِعمةِ إنزالِ الكِتابِ إليه، ومُقتَضًى لِكَونِه مُستَحِقَّ الإخلاصِ في العِبادةِ اقتِضاءَ الكُلِّيَّةِ لِجُزئيَّاتِها، وبهذا العُمومِ أفادَتِ الجُملةُ مَعنى التَّذييلِ، فتَحمَّلتْ ثَلاثةَ مَواقِعَ، كُلُّها تَقتَضي الفَصلَ [84] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/36)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/335)، ((تفسير أبي السعود)) (7/241)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/317)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/388). .
- وأيضًا افتُتِحتِ هذه الجُملةُ بأداةِ التَّنبيهِ (ألَا)؛ تَنويهًا بمَضمونِها لِتَتَلقَّاه النَّفْسُ بشَراشِرِها -أي: بجُملتِها أو بكُلِّيتِها-، وذلك هو ما رَجَّحَ اعتِبارَ الاستِئنافِ فيها، وجَعَل مَعنى التَّعليلِ حاصِلًا تَبَعًا مِنْ ذِكرِ إخلاصٍ عامٍّ بَعدَ إخلاصٍ خاصٍّ، ومَورِدُهما واحِدٌ [85] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/317). .
- واللَّامُ في لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ لامُ المِلْكِ، الَّذي هو بمَعنى الاستِحقاقِ، أيْ: لا يَحِقُّ الدِّينُ الخالِصُ -أيْ: الطَّاعةُ غَيرُ المَشوبةِ- إلَّا له [86] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/317). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ في قَولِه: لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ؛ لإفادةِ الاختصاصِ؛ فأفادَ قولُه: لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ أنَّه مُستحِقُّه، وأنَّه مُختَصٌّ به [87] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/336)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/317، 318). .
- وفي إبرازِ اسمِ (اللَّه) الجامِعِ: شأنٌ عَظيمٌ، وخَطبٌ جَليلٌ؛ لِإفادةِ إيجابِ اختِصاصِه بأنْ تُخلَصَ له العِبادةُ [88] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/111)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/336). .
- قَولُه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ عَطفٌ على جُملةِ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ؛ لِزيادةِ تَحقيقِ مَعنى الإخلاصِ للهِ في العِبادةِ، وأنَّه خُلوصٌ كامِلٌ لا يَشوبُه شَيءٌ مِنَ الإشراكِ، ولا إشراكُ الَّذين زَعَموا أنَّهمُ اتَّخَذوا أولياءَ وعَبَدوهم حِرصًا على القُربِ مِنَ اللهِ، يَزعُمونَه عُذرًا لهم، فقَولُهم مِن فَسادِ الوَضعِ، وقَلبِ حَقيقةِ العِبادةِ؛ بأنْ جَعَلوا عِبادةَ غَيرِ اللهِ وَسيلةً إلى القُربِ مِنَ اللهِ، فنَقَضوا بهذه الوَسيلةِ مَقصدَها، وتَطَلَّبوا القُربةَ بما أبْعَدَها، والوَسيلةُ إذا أفضَتْ إلى إبطالِ المَقصدِ كان التَّوسُّلُ بها ضَربًا مِنَ العَبَثِ [89] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/241)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/321). .
- والاستِثناءُ في قَولِه: إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا استِثناءٌ مِن عِلَلٍ مَحذوفةٍ، أيْ: ما نَعبُدُهم لِشَيءٍ إلَّا لِعِلَّةِ أنْ يُقَرِّبونا إلى الله؛ فيُفيدُ قَصرًا على هذه العِلَّةِ قَصرَ قَلبٍ إضافيًّا [90] القصرُ أو الحَصرُ في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مثل: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثل: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، أيْ: دُونَ ما شَنَّعتُم علينا مِن أنَّنا كَفَرْنا نِعمةَ خالِقِنا إذْ عَبَدْنا غَيرَه [91] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/322). !
- وقَولُهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى فيه احتِباكٌ [92] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). : فذَكَر فِعلَ التَّقريبِ أوَّلًا؛ دَليلًا على فِعلِ الزَّلَفِ ثانيًا، واسمَ الزَّلَفِ ثانيًا؛ دَليلًا على الاسمِ مِن التَّقريبِ أوَّلًا [93] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/445). .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وَعيدٌ وتَهديدٌ لهم على قَولِهم ذلك؛ فعُلِمَ منه إبطالُ تَعَلُّلِهم في قَولِهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى؛ لِأنَّ الواقِعَ أنَّهم عَبَدوا الأصنامَ أكثَرَ مِن عِبادَتِهم للهِ [94] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/183)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/321). .
- قَولُه: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أيْ: بَيْنَهم وبيْنَ خُصَمائِهمُ الَّذين همُ المُخلِصونَ لِلدِّينِ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وقد حُذِفَ لِدَلالةِ الحالِ عليهِ [95] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/241). .
- وعلى القولِ بأنَّ ضَمِيرَ بَيْنَهُمْ عائدٌ إلى الَّذينَ اتَّخذوا أولياءَ، وأنَّ المرادَ بقولِه: مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اختلافُ طرائِقِهم في عبادةِ الأصنامِ وفي أنواعِها- فنَظمُ قَولِه: هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يفيدُ أمْرَينِ: أنَّ الاختِلافَ ثابِتٌ لهم، وأنَّه مُتكَرِّرٌ مُتَجدِّدٌ؛ فالأوَّلُ مِن تَقديمِ المُسنَدِ إليه هُمْ على الخَبَرِ الفِعليِّ يَخْتَلِفُونَ، والآخَرُ مِن كَونِ المُسنَدِ فِعلًا مُضارِعًا [96] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/322). .
- وقولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ يَجوزُ أنْ يَكونَ خَبَرًا ثانيًا عن قَولِه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ، وهو كِنايةٌ عن كَونِهم كاذِبينَ في قَولِهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وعن كَونِهم كَفَّارينَ بسَبَبِ ذلك، وكِنايةٌ عن كَونِهم ضالِّينَ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ استِئنافًا بَيانيًّا؛ لِأنَّ قَولَه: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يُثيرُ في نُفوسِ السَّامِعينَ سُؤالًا عن مَصيرِ حالِهم في الدُّنيا مِن جَرَّاءِ اتِّخاذِهم أولياءَ مِن دُونِه، فيُجابُ بأنَّ اللهَ لا يَهدي مَن هو كاذِبٌ كَفَّارٌ، أيْ: يَذَرُهم في ضَلالِهم، ويُمهِلُهم إلى يَومِ الجَزاءِ، بعدَ أنْ بَيَّنَ لهمُ الدِّينَ فخالَفوه [97] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/323). .
- وقيل: الجُملةُ تَعليلٌ لِمَا ذُكِرَ مِن حُكمِه تَعالى، واعتِراضٌ لِلتَّأكيدِ، ودفْعِ ذلك التَّأويلِ [98] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/337)، ((تفسير أبي السعود)) (7/241). .
- وعُلِمَ مِن مُقارَنةِ وَصفِهم بالكَذِبِ بوَصفِهم بالأبلَغيَّةِ في الكُفرِ أنَّهم مُتبالِغونَ في الكَذِبِ أيضًا؛ لِأنَّ كَذِبَهمُ المَذمومَ إنَّما هو كَذِبُهم في كُفريَّاتِهم؛ فلَزِمَ مِن مُبالَغةِ الكُفرِ مُبالَغةُ الكَذِبِ فيه [99] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/324). .
- والمُرادُ بـ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ الَّذين اتَّخَذوا مِن دونِه أولياءَ، أيْ: المُشرِكونَ، فكان مُقتَضَى الظَّاهِرِ الإتيانَ بضَميرِهم، وعُدِلَ عنه إلى الإضمارِ، والتَّعبيرِ عنهم بطَريقِ المَوصوليَّةِ؛ لِمَا في المَوصولِ مِنَ الصَّلاحيةِ لِإفادةِ الإيماءِ إلى عِلَّةِ الفِعلِ؛ لِيُفيدَ أنَّ سَبَبَ حِرمانِهمُ التَّوفيقَ هو كَذِبُهم وشِدَّةُ كُفرِهم [100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/323). .
4- قولُه تعالَى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَوقِعُ هذه الآيةِ مَوقِعُ الاحتِجاجِ على أنَّ المُشرِكينَ كاذِبونَ وكَفَّارونَ في اتِّخاذِهم أولياءَ مِن دونِ اللهِ، وفي قَولِهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، وأنَّ اللهَ حَرَمَهمُ الهُدى، وذلك ما تَضَمَّنَه قَولُه قَبْلَه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر: 3] ، فقَصَد إبطالَ شِركِهم بإبطالِ أقْواه، وهو عَدُّهم في جُملةِ شُرَكائِهم شُرَكاءَ زَعَموا لهم بُنُوَّةً لله تعالى، حيثُ قالوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [البقرة: 116] ؛ فإنَّ المُشرِكينَ يَزعُمونَ أنَّ اللَّاتَ والعُزَّى ومَناةَ بَناتٌ لله، قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى [101] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/324). [النجم: 19- 21] .
- وقَولُه: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ قيل: إنَّه استِئنافٌ مَسوقٌ لِتَحقيقِ الحَقِّ، وإبطالِ القَولِ بأنَّ المَلائِكةَ بَناتُ اللهِ، وأنَّ عيسى ابنُه -تَعالى عن ذلك عُلوًّا كَبيرًا-؛ ببَيانِ استِحالةِ اتِّخاذِ الوَلَدِ في حَقِّه تعالى على الإطلاقِ؛ لِيَندَرِجَ فيه استِحالةُ ما قيل اندِراجًا أوَّليًّا [102] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/241، 242). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (4/8، 9). .
- في قولِه: مِمَّا يَخْلُقُ عَبَّر بـ «ما» دونَ «مَن»؛ وذلك لأنَّ «ما» أعَمُّ مِن «مَن»، وأيضًا لأنَّه إذا أُريدَ ملاحظةُ الصِّفةِ فإنه يُعَبَّرُ بـ «ما» عن «مَن»، وهنا يُرادُ ملاحظةُ الصِّفةِ، وهي: العبادةُ [103] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 40). .
- وجُملةُ سُبْحَانَهُ تَقريرٌ لِمَا ذُكِرَ مِن استِحالةِ اتِّخاذِ الشُّرَكاءِ والأولياءِ والوَلَدِ في حَقِّه تَعالى، وتَأكيدٌ له ببَيانِ تَنَزُّهِه تَعالى عنه، أيْ: تَنَزَّهَ بالذَّاتِ عن ذلك تَنَزُّهَه الخاصَّ به [104] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/112)، ((تفسير البيضاوي)) (5/37)، ((تفسير أبي السعود)) (7/242)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/327). .
- وقولُه: هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ استِئنافٌ مُبَيِّنٌ لِتَنَزُّهِه تعالى بحَسَبِ الصِّفاتِ إثْرَ بَيانِ تَنَزُّهِه تعالى عنه بحَسَبِ الذَّاتِ؛ فإنَّ صِفةَ الأُلوهيَّةِ المُستَتبِعةَ لِسائِرِ صِفاتِ الكَمالِ، النَّافيةَ لِسِماتِ النُّقصانِ، والوَحدةَ الذَّاتيَّةَ المُوجِبةَ لِامتِناعِ المُماثَلةِ والمُشارَكةِ بَيْنَه تعالى وبيْنَ غَيرِه على الإطلاقِ، مِمَّا يَقضِي بتَنَزُّهِه تعالى عمَّا قالوا قضاءً مُتقَنًا. وكذا وَصفُ القَهَّاريَّةِ؛ لِمَا أنَّ اتِّخاذَ الوَلَدِ شَأنُ مَن يَكونُ تَحتَ مَلَكوتِ الغَيرِ عُرضةً لِلفَناءِ؛ لِيَقومَ وَلَدُه مَقامَه عِندَ فَنائِه، ومَن هو مُستَحيلُ الفَناءِ قَهَّارٌ لِكُلِّ الكَائِناتِ، كيف يُتَصوَّرُ أنْ يَتَّخِذَ مِنَ الأشياءِ الفانيةِ ما يَقومُ مَقامَه [105] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/112)، ((تفسير البيضاوي)) (5/37)، ((تفسير أبي السعود)) (7/242). ؟!
- وأيضًا جُملةُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ دَليلٌ لِتَنزيهِ اللهِ المُستَفادِ مِن سُبْحَانَهُ؛ فجُملةُ هُوَ اللَّهُ تَمهيدٌ لِلوَصفَينِ، وذِكرُ اسمِه العَلَمِ اللَّهُ؛ لِإحضارِه في الأذهانِ بالاسمِ المُختَصِّ به؛ فلِذلك لم يَقُلْ: هو الواحِدُ القَهَّارُ، كما قال بَعدُ: أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [الزمر: 5] . وإثباتُ الوَحدانيَّةِ له يُبطِلُ الشَّريكَ في الإلهيَّةِ على تَفاوُتِ مَراتِبِه، وإثباتُ القَهَّارِ يُبطِلُ ما زَعَموه مِن أنَّ أولياءَهم يُقَرِّبونَهم إلى اللهِ زُلْفى ويَشفَعونَ لهم [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/327). .