موسوعة التفسير

سورةُ النَّحلِ
الآيات (84-89)

ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ

غريب الكلمات :

يُسْتَعْتَبُونَ: أي: يُطلَبُ منهم أن يُزيلُوا غَضَبَ رَبِّهم بالتَّوبةِ وصالحِ العَمَلِ؛ مِن الاستِعتابِ: وهو الرُّجُوعُ عَن الإساءَةِ، والتَّعَرُّضُ لِطَلَبِ الرِّضا، وأصلُ الكَلِمةِ مِن (العَتْبِ): وهو الغَضَب والمَلامةُ، يُقالُ: عتَبَ عليه يَعتِبُ: إذا غَضِبَ عليه ولامَه، وأعتَبَه: إذا أزالَ عنه عَتْبَه، واستَعْتَبَه: إذا طلَبَ منه الإعتابَ، أي: الرِّضا [1023] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 537)، ((البسيط)) للواحدي (13/165)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 293)، ((تاج العروس)) للزبيدي (3/309)، ((فتح القدير)) للشوكاني (3/223). .
السَّلَمَ: أي: الاستِسلامَ والانقيادَ لأمرِ اللهِ وحُكمِه، يُقالُ: سَلَّم واستسلَمَ وأسلَمَ: إذا انقادَ وخضَع، ومنه الإسلامُ: وهو الطَّاعةُ والانْقيادُ لِله عَزَّ وجلَّ، وأصلُ (سلم): يدُلُّ على الصِّحَّةِ والعافيةِ [1024] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/359)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 243)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/90)، ((الغريبين)) للهروي (3/923)، ((تفسير النسفي)) (2/228)، ((تاج العروس)) (32/372). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: ويومَ نَبعَثُ مِن كُلِّ أمَّةٍ رَسولَها الذي أُرسِلَ إليها، يَشهَدُ عليهم، ثمَّ لا يُؤذَنُ للذينَ كَفَروا بالاعتِذارِ عن كُفرِهم، ولا يُطلَبُ منهم إرضاءُ رَبِّهم. وإذا رأى المشركونَ عذابَ اللهِ في الآخرةِ، فلا يُخفَّفُ عنهم منه شَيءٌ، ولا يُمهَلونَ، وإذا رأى المُشرِكونَ يومَ القيامةِ آلهَتَهم التي عَبَدوها مع اللهِ، قالوا: رَبَّنا هؤلاءِ الذين كُنَّا نَعبُدُهم مِن دُونِك، فقالت آلهتُهم المزعومةُ: إنَّكم- أيُّها المُشرِكونَ- لَكاذِبونَ في اتِّخاذِنا شُرَكاءَ لله! وانقاد المُشرِكون لأمرِ اللهِ واستسلَموا وخضَعوا، وغاب عنهم ما كانوا يختَلِقونَه مِن أنَّ آلهتَهم ستَشفَعُ لهم.
ثم قال الله متوعدًا مَن كفَر، وصدَّ عن سبيلِه: الذين كفَروا ومَنَعوا غَيرَهم مِن الإيمانِ باللهِ ورسولِه زِدْناهم عذابًا فوقَ عذابِهم؛ بسَبَبِ إفسادِهم وصَدِّهم النَّاسَ عن الهدى.
واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- يومَ نبعَثُ في كُلِّ أمَّةٍ رَسولَهم شَهيدًا عليهم، وجِئْنا بك شَهيدًا على أمَّتِك يومَ القيامةِ. ونَزَّلْنا عليك القُرآنَ موضِّحًا لكُلِّ شيءٍ، وهاديًا مِن الضَّلالِة، ورَحمةً لِمَن صدَّقَ وعَمِلَ به، ومُبَشِّرًا للمُؤمِنينَ بحُسنِ عاقِبتِهم.

تفسير الآيات:

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا بَيَّنَ مِن حالِ القَومِ أنَّهم عَرَفوا نِعمةَ اللهِ ثمَّ أنكَروها، وذكَرَ أيضًا مِن حالِهم أنَّ أكثَرَهم الكافِرونَ؛ أتبَعَه بالوعيدِ، فذكَرَ حالَهم يومَ القيامةِ، فقال [1025] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/255). :
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا .
أي: ويومَ [1026] قيل: هو متعلقٌ بمحذوفٍ تقديرُه: واذكُرْ. على اعتبارِ أنَّ التذكيرَ بذلك اليومِ مِن البلاغِ المبينِ الذي أُمِر به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما في الآيةِ قبلَ السابقةِ. وممَّن ذهَب إلى هذا: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/243). وقال ابنُ جرير: (يقولُ تعالى ذكرُه: يَعْرِفونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا اليومَ، ويَستنكِرونَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا). ((تفسير ابن جرير)) (14/327). نَبعَثُ مِن كُلِّ أمَّةٍ شاهِدًا عليهم- وهو رَسولُهم الذي أُرسِلَ إليهم- لِيَشهَدَ بما أجابَتْه به أُمَّتُه فيما بلَّغَها عن اللهِ تعالى [1027] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/327)، ((تفسير ابن كثير)) (4/592)، ((تفسير السعدي)) (ص: 446)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/243). قال ابنُ عاشور: (وَصفُ شَهيدٍ يَقتَضي أنَّه شاهِدٌ على المؤمنينَ به، وعلى الكافرينَ، أي: شَهيدٌ؛ لأنَّه بلَّغَهم رسالةَ الله. وبَعْثُ شَهيدٍ مِن كُلِّ أمَّةٍ يُفيدُ أنَّ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شهيدٌ على هؤلاء الكافرينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (14/243). .
ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا.
أي: ثمَّ لا يُعطَى الذين كَفَروا الإذْنَ للاعتذارِ إلى اللهِ مِن كُفرِهم [1028] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/327)، ((تفسير ابن كثير)) (4/592)، ((تفسير السعدي)) (ص: 446)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/421). .
كما قال تعالى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 35-36] .
وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ .
أي: ولا يُطلَبُ مِن الكافرينَ أن يُرضُوا اللهَ، ولا هم يُرَدُّون إلى الدُّنيا ليَتوبوا، ويَعمَلوا بما أمَرَ اللهُ تعالى به [1029] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/327)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/577)، ((تفسير القرطبي)) (10/162)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/422، 423). .
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85).
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ.
أي: وإذا رأى المُشرِكونَ النَّارَ، فلا يُخفَّفُ عنهم عَذابُها بأيِّ نَوعٍ مِن أنواعِ التَّخفيفِ [1030] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/328)، ((تفسير القرطبي)) (10/162)، ((تفسير ابن كثير)) (4/592)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/230). قال ابن عاشور: (ثمَّ يُساقُونَ إلى العذابِ، فإذا رأوه لا يُخَفَّفُ عنهم، أي: يَسألونَ تَخفيفَه، أو تأخيرَ الإقحامِ فيه، فلا يُستجابُ لهم شيءٌ مِن ذلك). ((تفسير ابن عاشور)) (14/246). .
كما قال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف: 53] .
وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ.
أي: ولا هم يُمهَلونَ عن العَذابِ، ولا يُؤخَّرونَ عن دُخولِ النَّارِ حين يَرَونَها ولو لَحظةً [1031] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/328)، ((تفسير القرطبي)) (10/162)، ((تفسير ابن كثير)) (4/592)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 446). وقال السعدي: (من غير إنظارٍ ولا إمهالٍ من حين يرونَه؛ لأنهم لا حسابَ عليهم؛ لأنَّهم لا حسناتٍ لهم، وإنَّما تعَدُّ أعمالُهم وتحصى، ويُوقَفون عليها ويُقِرُّون بها ويفتَضحون). ((تفسير السعدي)) (ص: 446). .
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86).
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ .
أي: وإذا رأى المُشرِكونَ يومَ القيامةِ مَعبوداتِهم التي جَعَلوها شُرَكاءَ لله في العبادةِ، قالوا: ربَّنا هؤلاءِ الذين كنَّا نَعبُدُهم مِن دُونِك، ونَجعَلُهم شُرَكاءَ لك [1032] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/328)، ((تفسير القرطبي)) (10/163)، ((تفسير ابن كثير)) (4/593)، ((تفسير السعدي)) (ص: 446)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/247). .
فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ .
أي: فقال للمُشرِكينَ شُرَكاؤُهم الذين كانوا يَعبُدونَهم: إنَّكم لكاذِبونَ في ادِّعائِكم أنَّنا آلِهةٌ، وما أمَرْناكم بعِبادتِنا [1033] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/328)، ((تفسير القرطبي)) (10/163)، ((تفسير ابن كثير)) (4/593)، ((تفسير السعدي)) (ص: 446). .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ [يونس: 28] .
وقال سُبحانَه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81-82] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت: 25] .
وقال تبارك وتعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5-6] .
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87).
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ.
أي: واستسْلَم المُشرِكونَ يومَ القيامةِ لله، وذلُّوا وانقادُوا خاضِعينَ لحُكمِه فيهم، وعَلِموا أنَّهم مُستَحِقُّونَ للعذابِ [1034] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/329)، ((تفسير القرطبي)) (10/163)، ((تفسير ابن كثير)) (4/593). .
كما قال تعالى: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات: 25-26] .
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ.
أي: وغاب عن المُشرِكينَ ما كانوا يَعبُدونَه في الدُّنيا، واضْمَحلَّ ما كانوا يَفتَرونَه مِن أنَّ آلهتَهم ستشفَعُ لهم، وتُقَرِّبُهم إلى اللهِ زُلْفى، فليس لهم ناصرٌ ولا معينٌ [1035] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/329)، ((تفسير القرطبي)) (10/163)، ((تفسير ابن كثير)) (4/593)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/248)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/425). !
كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] .
وقال سُبحانَه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [القصص: 74-75] .
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى وعيدَ الذين كَفَروا؛ أتبَعَه بوَعيدِ مَن ضَمَّ إلى كُفرِه صَدَّ الغَيرِ عن سَبيلِ الله، فقال تعالى [1036] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/257). :
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88).
أي: الذين كَفَروا وكَذَّبوا بالحَقِّ لَمَّا جاءَهم، وصَدُّوا النَّاسَ عن اتِّباعِ الإسلامِ؛ زِدْناهم في النَّارِ عذابًا على ما بهم مِن العذابِ؛ لأنَّهم كانوا يُفسِدونَ في الأرضِ بصَدِّهم النَّاسَ عن اتِّباعِ الحَقِّ [1037] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/330، 332)، ((تفسير القرطبي)) (10/164)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/29)، ((تفسير ابن كثير)) (4/593)، ((تفسير السعدي)) (ص: 446)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/249)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/426). قال ابنُ القيم: (فالعذابُ الأوَّلُ بكُفرِهم، والعَذابُ الذي زادهم إيَّاه بصَدِّهم النَّاسَ عن سَبيلِه). ((بدائع الفوائد)) (2/29). .
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه في قَولِ الله عزَّ وجلَّ: زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ قال: (عَقارِب أنيابُها كالنَّخلِ الطِّوالِ) [1038] أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (34138)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (9/226) (9103)، والحاكم في ((المستدرك)) (3357)، والبيهقي في ((البعث والنشور)) (560). صحَّحه الحاكم، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/392): (رجاله رجال الصحيح‏‏)، وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (8/216): (موقوفٌ بسند صحيحٍ، وله شاهدٌ)، وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3678). .
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89).
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
أي: واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- يومَ نَبعَثُ في كُلِّ أمَّةٍ نَبيًّا شاهِدًا عليهم، وهو منهم، ويتحدَّثُ بلسانِهم [1039] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/333)، ((تفسير ابن كثير)) (4/594)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/427). قيل: يشهدُ عليهم بما أجابوه وردُّوا عليه. وممن قال ذلك: ابنُ جريرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/333). وقيل: المعنى: يشهدُ عليهم بأنَّهم بلَّغوا الرسالةَ، ودعَوْهم إلى الإيمانِ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/164). قال السعدي: (وهذا مِن كَمالِ عَدلِ الله تعالى: أنَّ كُلَّ رَسولٍ يَشهَدُ على أمَّتِه؛ لأنَّه أعظَمُ اطِّلاعًا مِن غيرِه على أعمالِ أمَّتِه، وأعدَلُ وأشفَقُ مِن أن يشهَدَ عليهم إلَّا بما يَستَحِقُّونَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 447). .
وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ.
أي: وجِئْنا بك يومَ القيامةِ شاهِدًا على أمَّتِك [1040] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/333)، ((تفسير ابن كثير)) (4/594)، ((تفسير السعدي)) (ص: 447). .
كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] .
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ ما شَرَّفَه اللهُ به من الشَّهادةِ على أمَّتِه، ذكَرَ ما أنزَلَ عليه مِمَّا فيه بيانُ كُلِّ شَيءٍ مِن أمورِ الدِّينِ؛ ليُزيحَ بذلك عِلَّتَهم فيما كُلِّفوا، فلا حُجَّةَ لهم ولا مَعذِرةَ [1041] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/582). .
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ.
أي: ونزَّلْنا عليك القُرآنَ مُبَيِّنًا لكُلِّ شَيءٍ يَحتاجُ النَّاسُ إلى بيانِه، مِن أمورِ دينِهم ودُنياهم وآخِرتِهم [1042] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/333)، ((البسيط)) للواحدي (13/170)، ((تفسير الرازي)) (20/258)، ((تفسير ابن كثير)) (4/594، 595)، ((تفسير السعدي)) (ص: 447)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/253). .
كما قال تعالى: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ [يوسف: 111] .
وقال سُبحانَه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل: 64] .
وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ .
أي: ونَزَّلْنا عليك القُرآنَ هاديًا مِن الضَّلالةِ، ورَحمةً في الدُّنيا والآخرةِ، ومُبَشِّرًا بالخَيرِ في العاجِلِ والآجِلِ للمُسلمينَ المُنقادينَ لحُكمِه، الخاضِعينَ له بتَوحيدِه وطاعتِه سُبحانَه [1043] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/333)، ((تفسير السعدي)) (ص: 447)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/254). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 57-58] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء: 9] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82] .

الفوائد التربوية:

قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ أي: هذه الزِّيادةُ مِن العذابِ إنَّما حَصَلَت مُعَلَّلةً بذلك الصَّدِّ، وهذا يدُلُّ على أنَّ مَن دعا غَيرَه إلى الكُفرِ والضَّلالِ، فقد عَظُمَ عَذابُه، فكذلك إذا دعا إلى الدِّينِ واليَقينِ، فقد عَظُمَ جزاؤُه [1044] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/257). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا أضافوهم إلى أنفُسِهم؛ لأنَّه لا حقيقةَ لِشَرِكتِهم سوى تَسميتِهم لها المُوجِبةِ لضَرِّهم [1045] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/230). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ فيه سؤالٌ: لم قالت الأصنامُ للمُشرِكينَ ذلك، مع أنَّهم كانوا صادقينَ فيه؟
الجوابُ من وجوهٍ:
الأول: أنهم قالوه لهم لتظهَرَ فَضيحتُهم؛ حيث عَبَدوا مَن لا يَعلَمُ بعِبادتِهم [1046] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 314). .
الثاني: أنَّ تكذيبَهم لهم منصبٌّ على زعمِهم أنَّهم آلهةٌ، وأنَّ عبادتَهم حقٌّ، وأنَّها تقرِّبُهم إلى الله زلفى. ولا شكَّ أنَّ كلَّ ذلك مِن أعظمِ الكذبِ وأشنعِ الافتراءِ [1047] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/424). .
الثالث: أنَّهم لَمَّا كانوا غيرَ راضِينَ بعِبادتِهم، فكأنَّ عِبادتَهم لم تَكُنْ عِبادةً، والدَّليلُ عليه قولُ الملائكةِ: قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 41] ، يَعْنون أنَّ الجِنَّ كانوا راضِينَ بعِبادتِهم، لا نَحن؛ فهُم المعبودونَ دونَنا [1048] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/627). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ فيه سُؤالٌ: كيف أثبَتَ للأصنامِ نُطقًا هنا، ونفاه عنها في قَولِه تعالى في الكهفِ: فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ؟
الجواب: المُثبَتُ لهم هنا النُّطقُ بتَكذيبِ المُشرِكينَ في دعوى عبادتِهم لها، والمنفيُّ عنهم في الكَهفِ النُّطقُ بالإجابةِ إلى الشَّفاعةِ لهم، ودَفْعِ العذابِ عنهم، فلا تنافيَ [1049] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 314- 315). .
4- قال تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ وفائدةُ قولِهم ذلك مع أنَّه تعالى عالِمٌ بهِم: أنَّهم لَمَّا أنكَروا الشِّرْكَ بقولِهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كنَّا مُشْرِكينَ [الأنعام: 23] عاقَبَهم اللهُ بإصماتِ ألسِنَتِهم، وأنطَقَ جوارِحَهم، فقالوا عِندَ مُعايَنةِ آلهتِهم: رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا فأقرُّوا بعدَ إنكارِهم؛ طلَبًا للرَّحمةِ، وفِرارًا مِن الغضبِ، فكان هذا القولُ على وَجْهِ الاعترافِ مِنهم بالذَّنبِ، لا على وجهِ إعلامِ مَن لا يَعلَمُ، أو أنَّهم لَمَّا عايَنوا عَظيمَ غضَبِ اللهِ، قالوا ذلك رجاءَ أن يُلزِم اللهُ الأصنامَ ذُنوبَهم فيَخِفَّ عنهم العذابُ [1050] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 314). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ هذا دليلٌ على تفاوُتِ الكُفَّارِ في عذابِهم، كما يتفاوَتُ المُؤمِنونَ في مَنازِلِهم في الجَنَّة ودَرَجاتِهم، كما قال الله تعالى: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [1051] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/594). [الأعراف: 38] . وتفاوتُ أهل النارِ في العذابِ، هو بحسبِ تفاوتِ أعمالِهم التي دخلوا بها النارَ، كما قال تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام: 132] ، وقال تعالى: جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ: 26] ، فليس عقابُ مَن تغلَّظ كفرُه، وأفسَد في الأرضِ، ودعا إلى الكفرِ، كمَن ليس كذلك [1052] يُنظر: ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 181). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ فيه سؤالٌ: إذا كان كذلك، فكيف اختَلَفَت الأئمَّةُ في كثيرٍ مِن الأحكامِ؟
الجوابُ: لأنَّ أكثَرَ الأحكامِ ليس مَنصوصًا عليه فيه، وبعضُها مُستنبَطٌ منه، وطُرُقُ الاستنباطِ مُختَلِفةٌ؛ فبَعضُها بالإحالةِ إمَّا على السُّنَّة، بقَولِه تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] ، وقولِه تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم: 3] ، أو على القياسِ بقَولِه تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2] ، والاعتبارُ: النظَرُ والاستدلالُ اللَّذانِ يَحصُلُ بهما القياسُ [1053] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 315). .
7- قال الله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لَمَّا كان التِّبيانُ قد يكون للضَّلالِ، قال تعالى: وَهُدًى أي: مُوصِلًا إلى المقصودِ، ولَمَّا كان ذلك قد لا يكونُ على سبيلِ الإكرامِ، قال تعالى: وَرَحْمَةً، ولَمَّا كان الإكرامُ قد لا يكونُ بما هو في أعلَى طبقاتِ السُّرورِ، قال سُبحانَه: وَبُشْرَى أي: بشارةً عظيمةً جدًّا لِلْمُسْلِمِينَ [1054] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/235). .
8- في قَولِه تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ بيانُ أنَّ هذا الدِّينَ شامِلٌ كامِلٌ لا يَحتاجُ إلى زيادةٍ، كما أنَّه لا يجوزُ فيه النَّقصُ؛ فما مِن شَيءٍ يَحتاجُ النَّاسُ إليه في مَعادِهم ومَعاشِهم إلَّا بَيَّنَه اللهُ تعالى في كِتابِه؛ إمَّا نصًّا، أو إيماءً، وإمَّا منطوقًا، وإمَّا مَفهومًا [1055] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (5/244). .
9- في قَولِه تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ أنَّه لا يُمكِنُ أنْ يُوجَدَ في القرآنِ آياتٌ مُتشابِهةٌ على جَميعِ النَّاسِ لا يَعرِفونَ معناها! فلا يُوجدُ فيه شَيءٌ غيرُ واضِحٍ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء: 174] ، فلا يُمكِنُ إطلاقًا أن يُوجَدَ فيه آيةٌ أو كَلِمةٌ لا يُفْهَمُ معناها، لكنَّ الذي يَخفى هو حقيقةُ مَدلولاتِ الآياتِ، مِثْلَ ما أَخْبَرَ اللهُ به عن نفْسِه واليومِ الآخرِ؛ فإنَّنا لا نَعرِفُ حقيقتَه [1056] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/629). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ
- قولُه: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا بَقِي الظَّرفُ (يَوْمَ) بدونِ مُتعلَّقٍ فلم يَكُنْ للسَّامعِ بُدٌّ مِن تقديرِه بما تَذهَبُ إليه نفْسُه، وذلك يُفيدُ التَّهويلَ والتَّفظيعَ، وهو مِن بديعِ الإيجازِ [1057] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/243). .
- قولُه: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ثُمَّ للتَّراخي الرُّتْبيِّ؛ للدَّلالةِ على أنَّ ابتلاءَهم بالمنعِ عن الاعتذارِ المنبئِ عن الإقناطِ الكليِّ- وهو عندَما يُقالُ لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] - أشدُّ مِن ابتلائِهم بشهادةِ الأنبياءِ- عليهم السلامُ- عليهم [1058] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/237)، ((تفسير أبي حيان)) (6/579)، ((تفسير أبي السعود)) (5/134)، ((تفسير الألوسي)) (7/443). .
- ويجوزُ أن يَكونَ نَفْيُ الإذنِ ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ كِنايةً عن الطَّرْدِ، كما كان الإذنُ كِنايةً عن الإكرامِ، وعليه فيُقالُ: استَعتَب فلم يُستَعتَبْ، ويُقالُ على الأصلِ: استَعتَب فُلانٌ فلم يُعتَبْ، وهذا استِعمالٌ نشَأ عن الحذفِ، وأصلُه: استُعتِبَ له، أي: طُلِب منه أن يَستعتِبَ؛ فكَثُر في الاستعمالِ حتَّى قَلَّ استِعْمالُ استُعتِبَ مَبنيًّا للمجهولِ في غيرِ هذا المعنى [1059] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/243). .
2- قَولُه تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ
- قولُه: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ الَّذين ظلَموا هم الَّذين كفَروا؛ فالتَّعبيرُ به مِن الإظهارِ في مقامِ الإضمارِ؛ لِقَصدِ إجراءِ الصِّفاتِ المتلبِّسينَ بها علَيهم [1060] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/246). .
- وجاء المسنَدُ إليه في قَولِه تعالى: فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ مُخبَرًا عنه بالجملةِ الفعليَّةِ؛ لأنَّ الإخبارَ بالجملةِ الفعليَّةِ عن الاسمِ يُفيدُ تَقوِّيَ الحكمِ، فأُريدَ تَقوِّي حُكمِ النَّفيِ، أي: إنَّ عدَمَ تَخفيفِ العذابِ عَنهم مُحقَّقُ الوقوعِ، لا طَماعيَةَ في إخلافِه؛ فحصَل تأكيدُ هذه الجملةِ، كما حصَل تأكيدُ الجملةِ الَّتي قبْلَها بالفاءِ، أي: فهُم يُلْقَون بسُرعةٍ في العذابِ [1061] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/246). .
3- قَولُه تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ
- قولُه: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ الَّذين أشرَكوا هم الَّذين ظلَموا، الَّذين يَرَوْن العذابَ، وهم الَّذين كفَروا، الَّذين لا يُؤذَنُ لهم، وإجراءُ هذه الصِّلاتِ الثَّلاثِ علَيهم؛ لزيادةِ التَّسجيلِ عليهم بأنواعِ إجرامِهم الرَّاجعةِ إلى تَكذيبِ ما دَعاهم اللهُ إليه، وهو نُكتةُ الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ هنا [1062] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/247). .
- قولُه: فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ الفاءُ في فَأَلْقَوْا للتَّعقيبِ؛ للدَّلالةِ على المبادَرةِ بتكذيبِ ما تَضمَّنَه مَقالُهم، أنطَق اللهُ تلك الأصنامَ فكَذَّبَت ما تَضمَّنَه مَقالُهم مِن كونِ الأصنامِ شُركاءَ للهِ، أو مِن كونِ عِبادتِهم بإغراءٍ منها؛ تَفْضيحًا لهم وحَسْرةً عليهِم. والجمعُ في اسمِ الإشارةِ واسمِ الموصولِ: هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ جمعُ العُقَلاءِ؛ جَريًا على اعتِقادِهم إلهيَّةَ الأصنامِ. ولَمَّا كان نُطقُ الأصنامِ غيرَ جارٍ على المتعارَفِ عَبَّر عنه بالإلقاءِ المؤْذِنِ بكَونِ القولِ أجْراه اللهُ على أفواهِ الأصنامِ مِن دونِ أن يَكونوا ناطِقين، فكأنَّه سقَط منها. وأجرَى عليهم ضَميرَ جَمعِ العُقلاءِ في فِعْلِ أَلْقَوْا مُشاكَلةً لاسْمِ الإشارةِ واسمِ الموصولِ للعُقلاءِ [1063] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/247). .
4- قَولُه تعالى: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ أعيدَ فِعلُ أَلْقَوْا؛ لاختلافِ فاعلِ الإلقاءِ؛ فضَميرُ القَولِ الثَّاني عائِدٌ إلى الَّذين أشرَكوا [1064] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/248). .
5- قَولُه تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ
- قولُه: زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ تعريفُ الْعَذَابِ تعريفُ الجنسِ المعهودِ؛ حيث تَقدَّم ذِكرُه في قولِه تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ؛ لأنَّ عَذابَ كُفرِهم لَمَّا كان مَعلومًا بكَثرةِ الحديثِ عنه صارَ كالمعهودِ، وأمَّا عذابُ صَدِّهِمُ النَّاسَ فلا يَخطُرُ بالبالِ؛ فكان مَجهولًا؛ فناسَبه التَّنكيرُ [1065] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/248). .
6- قَولُه تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ
- قولُه: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ تكريرٌ لجُملةِ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا؛ لِيُبنَى عليه عَطفُ جُملةِ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ على جُملةِ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ ولَمَّا كان تَكْريرًا أُعيدَ نَظيرُ الجملةِ على صورةِ الجملةِ المؤكِّدةِ مُقترِنةً بالواوِ، ولأنَّ في هذه الجملةِ زِيادةَ وصْفِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فحَصَلَت مُغايَرةٌ معَ الجملةِ السَّابقةِ، والمغايَرةُ مُقتضِيَةٌ للعطفِ أيضًا، ومِن دَواعي تَكْريرِ مَضمونِ الجملةِ السَّابقةِ أنَّه لِبُعدِ ما بينَ الجُملتَينِ بما اعتَرض بينَهما مِن قولِه تعالى: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إلى قولِه: بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ مع أنَّ الإعادةَ هنا أجْدَرُ؛ لأنَّ الفَصْلَ أطوَلُ، وقد حصَل مِن هذه الإعادةِ تأكيدُ التَّهديدِ والتَّسجيلِ. وعُدِّي فِعلُ نَبْعَثُ هنا بحَرفِ (في)، وعُدِّي نَظيرُه في الجملةِ السَّابقةِ بحَرفِ (مِنْ)؛ لِيَحصُلَ التَّفنُّنُ بينَ المكرَّرين؛ تجديدًا لِنَشاط السَّامِعين [1066] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/249- 250). .
-  وَيَوْمَ نَبْعَثُ عبَّر بالمضارِعِ عن بَعْثِ الشُّهداءِ للأُممِ الماضيَةِ؛ لأنَّه مُرادٌ به بَعثُهم يومَ القيامةِ [1067] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/251). .
- قولُه: وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ فيه إيثارُ لفظِ (المَجيءِ) على (البَعْثِ)؛ لكَمالِ العنايةِ بشأنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وصيغةُ الماضي وَجِئْنَا للدَّلالةِ على تَحقُّقِ الوقوعِ [1068] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/135). .
- ولم يُوصَفْ هنا نبيُّنا محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه مِن أنفُسِهم كما وُصِفَ كلُّ شَهيدِ أُمَّةٍ بقوله: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ وذلك لأنَّ مُحمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم مَبعوثٌ إلى جَميعِ الأممِ، وشَهيدٌ عليهم جميعًا، وأمَّا وصفُه بذلك في قولِه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] ، فذلك وَصْفٌ كاشِفٌ اقْتَضاهُ مَقامُ التَّذكيرِ للمُخاطَبين مِن المنافِقين- في سورةِ (التوبةِ)- فهم الَّذين ضَمُّوا إلى الكُفرِ باللهِ كُفرانَ نِعمةِ بَعثِ رسولٍ إليهم مِن قومِهم، وليس في قولِه: عَلَى هَؤُلَاءِ ما يَقْتضي تَخْصيصَ شَهادتِه بكَونِها شَهادَةً على المتحدَّثِ عنهم مِن أهلِ الشِّركِ، ولكِنِ اقْتصَرَ عليهِم؛ لأنَّ الكلامَ جارٍ في تَهْديدِهم وتَحذيرِهم، وهَؤُلَاءِ إشارةٌ إلى حاضِرٍ في الذِّهنِ وهُم المشرِكون الَّذين أكثَرُ الحديثِ علَيهم [1069] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/252). .
-  وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ... عطفٌ على جملةِ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا وهذا تَخلُّصٌ للشُّروعِ في تَعْدادِ النِّعمِ على المؤمِنين مِن نِعَمِ الإرشادِ، ونِعَمِ الجزاءِ على الامتثالِ، وبَيانِ برَكاتِ هذا الكتابِ المنزَّلِ لهم [1070] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/252). .
- قولُه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ التِّبيانُ مَصدرٌ دالٌّ على المبالَغةِ في المصدريَّةِ، ثمَّ أُريدَ به اسمُ الفاعِلِ، فحَصَلَت مُبالَغتانِ. و(كُلِّ شَيْءٍ) يُفيدُ العُمومَ، إلَّا أنَّه عمومٌ عُرْفيٌّ في دائرةِ ما لِمِثلِه تَجيءُ الأديانُ والشَّرائعُ؛ مِن إصلاحِ النُّفوسِ، وإكمالِ الأخلاقِ، وتقويمِ المجتمَعِ، وتبيينِ الحقوقِ وغيرِ ذلك، وفي خِلالِ ذلك كلِّه أسرارٌ ونُكتٌ مِن أصولِ العلومِ والمعارفِ، صالِحةٌ لأَنْ تَكونَ بَيانًا لكلِّ شيءٍ على وجهِ العُمومِ الحقيقيِّ إنْ سُلِك في بَيانِها طَريقُ التَّفصيلِ، واستُنيرَ فيها بما شَرَح الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما قَفَّاه به أصحابُه وعُلماءُ أُمَّتِه؛ ففي كلِّ ذلك بَيانٌ لكلِّ شيءٍ يُقصَدُ بَيانُه للتَّبصُّرِ في هذا الغرَضِ الجليلِ؛ فيَؤولُ ذلك العُمومُ العُرفيُّ بصَريحِه إلى عُمومٍ حقيقيٍّ بضِمْنِه ولَوازِمِه، وهذا مِن أبدَعِ الإعجازِ [1071] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/253). .