موسوعة التفسير

سورةُ الحَشْرِ
الآيات (1-4)

ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ

غريب الكلمات:

سَبَّحَ: أي: نَزَّهَ وبَرَّأَ مِن كلِّ عَيبٍ، وأصلُ (سبح) هنا: جِنسٌ مِن العِبادةِ [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 8)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/125)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/403)، ((تفسير السعدي)) (ص: 849). .
دِيَارِهِمْ: أي: مَنازِلِهم، والدَّارُ: المَنزِلُ؛ اعتِبارًا بدوَرانِها الَّذي لها بالحائطِ، ثمَّ تُسمَّى البلدةُ دارًا، والدُّنيا كلُّها دارًا، والدَّارُ أيضًا: القبيلةُ، وأصلُ (دور): يدُلُّ على إحداقِ الشَّيءِ بالشَّيءِ مِن حَوالَيْه [9] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/310)، ((تفسير الماوردي)) (5/498)، ((المفردات)) للراغب (ص: 321)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/254)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (2/30). .
الْحَشْرِ: أي: الجَمعِ والجلاءِ والإخراجِ، وأصلُ الحشرِ: الجمعُ مع سَوقٍ، وكلُّ جمْعٍ حشْرٌ، وقيل: الحَشْرُ: إخراجُ الجماعةِ عن مقرِّهم، وإزعاجُهم عنه إلى الحربِ ونحوِها، وأصلُ (حشر): السَّوقُ والبَعْثُ والانْبِعاثُ [10] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 459)، ((تفسير ابن جرير)) (22/498)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/66)، ((المفردات)) للراغب (ص: 237)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين (1/413). .
حُصُونُهُمْ: الحصونُ جمْعُ حِصْنٍ، وهو كلُّ مَوضِعٍ حَصينٍ لا يوصَلُ إلى جَوفِه، وأصلُ (حصن): الحِفظُ والحِياطةُ والحِرزُ [11] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/69)، ((روح البيان)) للخلوتي (9/340). .
لَمْ يَحْتَسِبُوا: أي: لم يَظُنُّوا، ولم يَخطُرْ ببالِهم، ويَحتسِبُ مُبالَغةٌ في الحِسبانِ، أي: الظَّنِّ، يُقالُ: حَسِبتُ كذا حِسبانًا في معنى ظَنَنْت، وأصلُ (حسب) هنا: العَدُّ، ومنه الحِسْبانُ؛ لأنَّه إذا قال: حَسِبْتُه كذا، فكأنَّه قال: هو في الَّذي أعُدُّه مِن الأمورِ الكائِنَةِ [12] يُنظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/277)، ((مقاييس اللغة)) لابن فاس (2/59)، ((تفسير الرسعني)) (8/42)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/70). .
وَقَذَفَ: أي: ألْقى، وأصلُ (قذف): يدُلُّ على الرَّميِ والطَّرحِ [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/81)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/68)، ((المفردات)) للراغب (ص: 662). .
الرُّعْبَ: أي: الخوفَ والهَلَع والجَزَعَ، وقيل: الرُّعب هو الخَوفُ الَّذي يَملأُ الصَّدرَ والقلبَ، وقيل: إنَّه أشدُّ الخوفِ، وأصلُ (رعب) هنا: الخَوفُ [14] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/410)، ((المفردات)) للراغب (ص: 356)، ((تفسير ابن كثير)) (8/59)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (2/504). .
فَاعْتَبِرُوا: أي: فاتَّعِظوا، والاعتِبارُ والعِبْرةُ: الدَّلالةُ بالشَّيءِ على مِثلِه، وحقيقتُها الحالةُ الَّتي يُتوصَّلُ بها مِن مَعرِفةِ المُشاهَدِ إلى ما ليس بمُشاهَدٍ، وأصلُ (عبر): يدُلُّ على النُّفوذِ والمُضِيِّ في الشَّيءِ [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/503)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/207)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي بن أبي طالب (11/7382)، ((المفردات)) للراغب (ص: 543)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين (3/23). وقال ابن فارس: (كأنَّه قال: انظُروا إلى مَن فعَل ما فعَل، فعُوقِب بما عُوقِب به، فتجَنَّبوا مِثلَ صَنيعِهم؛ لئلَّا يَنزِلَ بكم مِثلُ ما نزَل بأولئك). ((مقاييس اللغة)) (4/210). .
الْجَلَاءَ: أي: الإخلاءَ، والخُروجَ مِن الوَطنِ، وأصلُ (جلو): يدُلُّ على الكَشفِ الظَّاهِرِ [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/504)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 82)، ((المفردات)) للراغب (ص: 200)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 396)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 412). قال الماوَرْدي: (الفرقُ بيْنَ الجَلاءِ والإخراجِ -وإن كان معناهما في الإبعادِ واحدًا- مِن وجهَينِ؛ أحدُهما: أنَّ الجَلاءَ ما كان مع الأهلِ والولدِ، والإخراجَ قد يكونُ مع بقاءِ الأهلِ والولدِ. الثَّاني: أنَّ الجَلاءَ لا يكونُ إلَّا لجماعةٍ، والإخراجَ يكونُ لجماعةٍ ولواحدٍ). ((تفسير الماوردي)) (5/501). .
شَاقُّوا: أي: حَاربُوا وخَالَفُوا، وصارُوا فِي شِقٍّ غيرِ شِقِّه، وأصلُ (شقق): يدُلُّ على انصِداعٍ في الشَّيءِ [17] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 286)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/170)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 126)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 217)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 542). .

المعنى الإجمالي:

ابتدأت هذه السُّورةُ الكريمةُ بالإخبارِ بأنَّه نزَّه اللهَ تعالى عن العُيوبِ والنَّقائِصِ جَميعُ ما في السَّمَواتِ والأرضِ مِن المخلوقاتِ، واللهُ هو العزيزُ الَّذي لا يَغلِبُه شَيءٌ، الحَكيمُ الَّذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه الصَّحيحِ اللَّائِقِ به.
 ثمَّ بيَّن الله تعالى جانبًا مِن مَظاهرِ فضلِه على المؤمنينَ، حيثُ نصَرهم على أعدائِهم، فقال: اللهُ وَحْدَه هو الَّذي أخرَجَ يَهودَ بَني النَّضيرِ مِن مَنازِلِهم حَولَ المدينةِ لأوَّلِ جَمعٍ لليَهودِ، وإجلاءٍ لهم مِن المدينةِ، ما ظَنَنْتُم -يا أصحابَ النَّبيِّ- أن يَخرُجَ يهودُ بَني النَّضيرِ مِن مَنازِلِهم، وظنَّ أولئك اليهودُ أنَّ حُصونَهم ستَمنَعُهم مِن بأسِ اللهِ، فأنزَلَ اللهُ بهم بأسَه وعذابَه مِن حيثُ لم يَخطُرْ ببالِهم، وأَلْقَى في قُلوبِهم الخَوفَ، يُخْرِبونَ مَساكِنَهم بأيديهم، وهم الَّذين ألجؤُوا المؤمنينَ إلى تخريبِها؛ فاتَّعِظوا يا أصحابَ البصائِرِ والعقولِ والأفهامِ بعاقِبةِ أولئك اليَهودِ.
ولولا أنْ كَتَب اللهُ وقدَّرَ على يَهودِ بَني النَّضيرِ إخراجَهم مِن دِيارِهم، لَعذَّبَهم في الدُّنيا، ولهم عذابُ النَّارِ في الآخِرةِ، وإنَّما استَحَقَّوا الجَلاءَ في الدُّنيا، وعذابَ النَّارِ في الآخِرةِ؛ لأنَّهم خالَفوا اللهَ ورسولَه وعادَوهما، ومَن يُخالِفِ اللهَ ويُعادِه فإنَّ اللهَ يُعاقِبُه عِقابًا شَديدًا.

تفسير الآيات:

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1).
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
أي: نزَّه اللهَ عن العُيوبِ والنَّقائِصِ جَميعُ ما في السَّمَوَاتِ وجميعُ ما في الأرضِ مِن المخلوقاتِ [18] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/56)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/403، 404)، ((تفسير السعدي)) (ص: 849). قال ابن كثير: (يخبِرُ تعالى أنَّ جميعَ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ مِن شَيءٍ يُسبِّحُ له ويُمَجِّدُه ويُقَدِّسُه، ويُصَلِّي له ويوَحِّدُه). ((تفسير ابن كثير)) (8/56). وقال ابن جرير: (يَعْني بقولِه جَلَّ ثَناؤُه: سَبَّحَ لِلَّهِ: صَلَّى لله، وسَجَد له). ((تفسير ابن جرير)) (22/496). .
كما قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] .
وقال سُبحانَه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور: 41] .
وقال عزَّ وجلَّ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 1] .
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: واللهُ هو العزيزُ الَّذي لا يمتَنِعُ عليه شَيءٌ، ولا يَغلِبُه شَيءٌ، الحَكيمُ الَّذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه الصَّحيحِ اللَّائِقِ به [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/496)، ((تفسير ابن كثير)) (8/56)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/404)، ((تفسير السعدي)) (ص: 849). .
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قال الله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 1] بيَّن بعضَ آثارِ عِزَّتِه، وأحكامِ حِكمتِه [20] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (28/33). ، ودلَّ عليهما بدَليلٍ شُهوديٍّ مِن أنَّه أنفَذَ ما كَتَب مِن أنَّه يَغلِبُ هو ورسُلُه، ومِن أنَّه كَبَت الَّذين حادُّوه، وخَيَّب ظَنَّ الَّذين نافَقوا، فتوَلَّوُا اليهودَ مِن أهلِ الكِتابِ؛ لِيَعتَزُّوا بهم، فأذَلَّ اليَهودَ وطَرَدَهم مِن مَهبِطِ الوَحيِ، وأخزَى المنافِقينَ الَّذين جَعَلوهم مَحَطَّ اعتمادِهم، ومَوضِعَ وَلايتِهم ووِدادِهم [21] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/406). .
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ.
أي: هو وَحْدَه الَّذي أخرَجَ يَهودَ بَني النَّضيرِ مِن مَنازِلِهم ودُورِهم حَولَ المدينةِ لأوَّلِ جَمعٍ لليَهودِ، وإجلاءٍ لهم مِن المدينةِ [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/496-498)، ((تفسير الثعلبي)) (9/266-269)، ((تفسير ابن كثير)) (8/56، 57)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/406). قال الرازي: (قولُ ابنِ عبَّاسٍ والأكثَرينَ أنَّ هذا أوَّلُ حشرِ أهلِ الكتابِ، أي: أوَّلُ مرَّةٍ حُشِروا وأُخرِجوا مِن جزيرةِ العرَبِ، لم يُصِبْهم هذا الذُّلُّ قبْلَ ذلك؛ لأنَّهم كانوا أهلَ مَنَعةٍ وعزٍّ). ((تفسير الرازي)) (29/501، 502). وقال السعدي: (وكان إخراجُهم منها [أي: المدينةِ] أوَّلَ حشرٍ وجَلاءٍ كتَبَه اللهُ عليهم على يدِ رسولِه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، فجُلوا إلى خَيْبرَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 849). وقال الشوكاني: (وقد أجمَع المفسِّرونَ على أنَّ هؤلاء المذكورينَ في الآيةِ هم بنو النَّضيرِ، ولم يخالِفُ في ذلك إلَّا الحسَنُ البصريُّ فقال: هم بنو قُرَيْظةَ، وهو غلَطٌ؛ فإنَّ بني قُرَيظةَ ما حُشِروا، بل قُتِلوا بحُكمِ سعدِ بنِ مُعاذٍ لَمَّا رضُوا بحُكمِه). ((تفسير الشوكاني)) (5/233). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/182). وقال ابنُ القيِّم: (زعَم محمَّدُ بنُ شِهابٍ الزُّهْريُّ أنَّ غزوةَ بني النَّضيرِ كانت بعدَ بدرٍ بسِتَّةِ أشهرٍ، وهذا وهمٌ منه أو غلَطٌ عليه، بل الَّذي لا شكَّ فيه أنَّها كانت بعدَ أُحُدٍ). ((زاد المعاد)) (3/223). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/207)، ((الروض الأُنُف)) للسهيلي (6/158)، ((تفسير ابن كثير)) (8/64)، ((إمتاع الأسماع)) للمقريزي (8/359). وقال البِقاعي: (مَن زَعَم أنَّ شيئًا ممَّا في هذه السُّورةِ نُسِخَ بشَيءٍ مِمَّا في سورةِ الأنفالِ، فقد أخطَأَ؛ لأنَّ الأنفالَ نَزَلت في بَدْرٍ، وهي قبْلَ هذه بمدَّةٍ). ((نظم الدرر)) (19/434). ونقَلَ ابنُ عطيَّةَ الاتِّفاقَ على أنَّ الحشرَ: الجمْعُ والتَّوجيهُ إلى ناحيةٍ ما. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/283). قال ابن جُزَي: (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ في معناه أربعةُ أقوالٍ: أحدها: أنَّه حشْرُ القيامةِ، أي: خُروجُهم مِن حُصونِهم أوَّلُ الحَشرِ، والقيامُ مِن القُبورِ آخِرُه... الثَّاني: أنَّ المعنى: لأوَّلِ مَوضِعِ الحَشرِ، وهو الشَّامُ؛ وذلك أنَّ أكثَرَ بَني النَّضيرِ خرَجوا إلى الشَّامِ... الثَّالثُ: أنَّ المرادَ: الحشرُ في الدُّنيا الَّذي هو الجَلاءُ والإخراجُ، فإخراجُهم مِن حُصونِهم أوَّلُ الحَشرِ، وإخراجُ أهلِ خَيْبرَ آخِرُه. الرَّابعُ: أنَّ معناه: إخراجُهم مِن ديارِهم لأوَّلِ ما حَشر لِقِتالِهم؛ لأنَّه أوَّلُ قتالٍ قاتَلَهم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير ابن جزي)) (2/357). فعلى اعتبارِ أنَّ المرادَ بالحشرِ أرضُ المَحشَرِ -وهي الشَّامُ- فتَكونُ الأوَّليَّةُ مَكانيَّةً، أي: لأوَّلِ مكانٍ مِن أرضِ المَحشَرِ، وهي أرضُ الشَّامِ، وأوائلُه خَيْبرُ وأَذْرِعاتٍ. وعلى اعتبارِ أنَّ المرادَ بالحشرِ: الجمعُ، فقد حَشدَ الرَّسولُ لقتالِهم، وهو أوَّلُ قِتالٍ قاتَلَهم: فتكونُ الأوَّليَّةُ زمانيَّةً، وتَقتضي حشرًا بعْدَه. يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/15). .
عن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ أنَّه سألَ ابنَ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما عن سورةِ الحَشرِ، قال: (نزَلَت في بَني النَّضيرِ) [23] رواه البخاريُّ (4029)، ومسلمٌ (3031). .
مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا.
أي: ما ظَنَنْتُم -يا أصحابَ النَّبيِّ- أن يَخرُجَ يهودُ بَني النَّضيرِ مِن مَنازِلِهم ودُورِهم، ويَترُكوا لكم أموالَهم حينَ حاصَرْتُم حُصونَهم المنيعةَ [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/499)، ((تفسير ابن عطية)) (5/284)، ((تفسير القرطبي)) (18/3)، ((تفسير ابن كثير)) (8/59)، ((تفسير السعدي)) (ص: 849). .
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ.
أي: وظنَّ أولئك اليهودُ أنَّ حُصونَهم ستَحميهم مِن بأسِ اللهِ، فتتعَذَّرُ هزيمتُهم [25] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/499)، ((تفسير القرطبي)) (18/3)، ((تفسير السعدي)) (ص: 849)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/69). .
فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا.
أي: فأنزَلَ اللهُ بهم بأسَه وعذابَه مِن حيثُ لم يَخطُرْ ببالِهم [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/500)، ((تفسير القرطبي)) (18/3)، ((تفسير ابن كثير)) (8/57، 59)، ((تفسير السعدي)) (ص: 849). قال الشوكاني: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أي: أتاهم أمْرُ اللهِ مِن حيث لم يَخطُرْ ببالِهم أنَّه يأتيهم أمْرُه مِن تلك الجهةِ، وهو أنَّه سُبحانَه أمَر نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بقِتالِهم وإجلائِهم، وكانوا لا يَظُنُّون ذلك. وقيل: هو قتْلُ رئيسِهم كعبِ بنِ الأشرَفِ، قاله ابنُ جُرَيجٍ والسُّدِّيُّ وأبو صالحٍ؛ فإنَّ قتْلَه أضعَفَ شَوكَتَهم). ((تفسير الشوكاني)) (5/233). وقال السعدي: (قال: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أي: مِن الأمرِ والبابِ الَّذي لم يَخطُرْ ببالِهم أن يُؤْتَوا منه، وهو أنَّه تعالى «قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ»). ((تفسير السعدي)) (ص: 849). .
كما قال تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [النحل: 26].
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.
أي: وأَلْقى اللهُ تعالى في قُلوبِهم الخَوفَ والهَلَعَ حينَ حاصَرَهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/500)، ((تفسير ابن كثير)) (8/59)، ((تفسير القاسمي)) (9/183)، ((تفسير السعدي)) (ص: 849). قال ابن عاشور: (حَصَل الرُّعبُ في قلوبِهم دَفعةً دونَ سابِقِ تأمُّلٍ، ولا حُصولِ سَبَبٍ للرُّعبِ... والمعنى: وجَعَل اللهُ الرُّعبَ في قلوبِهم، فأسرعوا بالاستِسلامِ. وقذْفُ الرُّعبِ في قلوبِهم هو مِن أحوالِ إتيانِ اللهِ إيَّاهم مِن حيثُ لم يحتَسِبوا). ((تفسير ابن عاشور)) (28/71). .
كما قال تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [الأنفال: 12] .
وعن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ [28] أي: نَصَرني اللهُ بإلقاءِ الخَوفِ في قُلوبِ أعدائي مِن مَسيرَةِ شَهرٍ، يَعْني: بيْني وبيْنَهم مِن سائرِ نواحي المَدينةِ وجَميعِ جِهاتِها. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3674)، ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) للمُناوي (1/172). ) [29] رواه البخاريُّ (335) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (521). .
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: يُخْرِبُونَ قِراءتانِ:
1- قِراءةُ يُخَرِّبُونَ بالتَّشديدِ، أي: يُهَدِّمون [30] قرأ بها أبو عَمرٍو. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/386). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (3/63)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 344)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 705). .
2- قراءة يُخْرِبُونَ بالتَّخفيفِ. قيل: بمعنَى التَّركِ والتَّعطيلِ، أي: يَترُكون بُيوتَهم ويُعطِّلونها، تقولُ: أخرَبْتُ المكانَ، إذا خرَجْتَ عنه وترَكْتَه. وقيل: بمعنى الهدمِ، فيَجري ذلك مَجرى أكرَمتُ وكرَّمْتُ، وكذلك خرَّبتُ وأخرَبتُ [31] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/386). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (3/63)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 344)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 705). .
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ.
أي: هم جَعَلوا مَساكِنَهم خرابًا بأيديهم، وهم مَن ألجؤُوا المؤمنينَ إلى تخريبِها [32] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/500)، ((تفسير السمرقندي)) (3/425)، ((الوسيط)) للواحدي (4/270)، ((تفسير السمعاني)) (5/397)، ((تفسير ابن كثير)) (8/57، 60)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/410)، ((تفسير السعدي)) (ص: 849). قال ابنُ جُزَي: (أمَّا إخرابُ المؤمنينَ فهو هدمُ أسوارِ الحُصونِ لِيَدخُلوها، وأسنَدَ ذلك إلى الكُفَّارِ في قولِه: يُخْرِبُونَ؛ لأنَّه كان بسَبَبِ كُفرِهم وغَدرِهم، وأمَّا إخرابُ الكُفَّارِ لِبُيوتِهم فلثلاثةِ مَقاصِدَ؛ أحدُها: حاجتُهم إلى الخَشَبِ والحِجارةِ؛ لِيَسُدُّوا بها أفواه الأزِقَّةِ، ويحَصِّنوا ما خَرَّبه المسلِمون مِن الأسوارِ. والثَّاني: لِيَحمِلوا معهم ما أعجبَهم مِن الخَشَبِ والسَّواري وغيرِ ذلك. والثَّالثُ: ألَّا تَبقى مساكِنُهم مَبنيَّةً للمُسلِمينَ، فهَدَموها شُحًّا عليها). ((تفسير ابن جزي)) (2/357، 358). .
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ.
أي: فاتَّعِظوا يا أصحابَ البصائِرِ والعقولِ والأفهامِ بما أحلَّ الله بهؤلاء اليَهودِ فلم تمنَعْهم قوَّتُهم، ولا حصَّنَتْهم حُصونُهم، وتفكَّروا في عاقِبةِ مَن خالَفَ أمْرَ الله، وخالَف رسولَه؛ فإنَّ في هذا مُعتبَرًا [33] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/503)، ((تفسير القرطبي)) (18/5)، ((تفسير ابن كثير)) (8/57)، ((تفسير السعدي)) (ص: 849). قال ابن عاشور: (الاعتبارُ: النَّظرُ في دَلالةِ الأشياءِ على لَوازِمِها وعواقبِها وأسبابِها). ((تفسير ابن عاشور)) (28/72). ويُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيميَّة (5/109)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيميَّة (5/259)، ((البحر المحيط في أصول الفقه)) للزركشي (7/28-30). وقال القرطبي: (ومِن جملةِ الاعتِبارِ هنا أنَّهم اعتصَموا بالحُصونِ مِن الله، فأنزَلهم اللهُ منها. ومِن وُجوهِه: أنَّه سلَّط عليهم مَن كان يَنصرُهم. ومِن وُجوهِه أيضًا: أنَّهم هدَموا أموالَهم بأيديهم). ((تفسير القرطبي)) (18/5). وقولُه: يَا أُولِي الْأَبْصَارِ أي: يا أصحابَ العقولِ والألبابِ. وقيل: يا مَن عايَنَ ذلك ببصَرِه، فهو جمْعٌ للبصرِ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/5). .
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3).
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
أي: ولولا أنَّ اللهَ قضى وقدَّرَ على يَهودِ بَني النَّضيرِ إخراجَهم مِن دِيارِهم إلى بلادٍ أُخرى لَعذَّبَهم في الدُّنيا [34] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/504، 505)، ((تفسير القرطبي)) (18/5)، ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 24، 28)، ((تفسير ابن كثير)) (8/60)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/73). قال ابن القيِّمِ: (التَّعذيبُ في الدُّنيا هو القِتالُ والإهلاكُ). ((أحكام أهل الذمة)) (3/1394). .
وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ.
أي: ولهم مع جَلائِهم في الدُّنيا عذابُ النَّارِ في الآخِرةِ [35] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/499)، ((الوسيط)) للواحدي (4/270)، ((تفسير ابن كثير)) (8/61)، ((تفسير الشوكاني)) (5/234)، ((تفسير السعدي)) (ص: 850). .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى بما نالهم في الدُّنيا، ويَنالُهم في الآخِرةِ؛ عَلَّلَه بقَولِه [36] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/413). :
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
أي: إنَّما استَحَقَّ يَهودُ بَني النَّضيرِ الجَلاءَ في الدُّنيا، وعذابَ النَّارِ في الآخِرةِ؛ لأنَّهم خالَفوا اللهَ ورسولَه وعادَوهما [37] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/506)، ((تفسير القرطبي)) (18/6)، ((تفسير ابن كثير)) (8/61)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/413)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/74). قال ابنُ تيميَّةَ: (جَعَل سَبَبَ استحقاقِهم العذابَ في الدُّنيا، وعذابَ النَّارِ في الآخرةِ: هو مُشاقَّةَ اللهِ ورسولِه، والمؤذي للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُشاقٌّ للهِ ورَسولِه...، والعذابُ هنا هو الإهلاكُ بعذابٍ مِن عندِه أو بأيدِينا، وإلَّا فقد أصابهم ما دونَ ذلك مِن ذَهابِ الأموالِ، وفِراقِ الأوطانِ). ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)) (ص: 28). .
وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
أي: ومَن يُخالِفِ اللهَ في أمرِه ونَهْيِه ويُعادِه فإنَّ اللهَ يُعاقِبُه عِقابًا شَديدًا [38] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/506)، ((تفسير السمرقندي)) (3/426)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/74). .

الفوائد التربوية:

1- افتِتاحُ السُّورةِ بالإخبارِ عن تَسبيحِ ما في السَّمواتِ والأرضِ للهِ تعالى، تَذكيرٌ للمؤمنينَ بتَسبيحِهم للهِ تَسبيحَ شُكْرٍ على ما أنالَهُم مِن فتْحِ بِلادِ بني النَّضيرِ، فكأنَّه قال: سبِّحوا للهِ كما سبَّح له ما في السَّمواتِ والأرضِ [39] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/64). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ هو الخَوفُ الشَّديدُ الَّذي هو جُندُ اللهِ الأكبَرُ، الَّذي لا يَنفَعُ معه عَدَدٌ ولا عُدَّةٌ، ولا قوَّةٌ ولا شِدَّةٌ، فالأمرُ الَّذي يحتَسِبونَه ويَظنُّونَ أنَّ الخَلَل يَدخُلُ عليهم منه إن دخَل: هو الحُصونُ الَّتي تحصَّنوا بها، واطمأنَّت نُفوسُهم إليها، ومَن وَثِقَ بغيرِ اللهِ فهو مخذولٌ، ومَن رَكَن إلى غيرِ اللهِ فهو عليه وَبالٌ [40] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 848). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ يدُلُّ على الأمرِ بالاعتِبارِ، وهو اعتِبارُ النَّظيرِ بنَظيرِه، وقياسُ الشَّيءِ على مِثْلِه، والتَّفَكُّرُ فيما تضَمَّنَتْه الأحكامُ مِن المعاني والحِكَمِ الَّتي هي محَلُّ العَقلِ والفِكرةِ، وبذلك يَزدادُ العَقلُ، وتتنوَّرُ البصيرةُ، ويَزدادُ الإيمانُ، ويَحصُلُ الفَهمُ الحقيقيُّ [41] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 848). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ يدُلُّ على أنَّ لهم حَشرًا وجَلاءً غَيرَ هذا؛ فقد وقع حينَ أجلاهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن خَيبَرَ، ثمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه أخرَجَ بَقيَّتَهم منها [42] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 848). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (28/69). . وهذا بِناءً على أنَّ الأوَّليَّةَ زمانيَّةٌ، وأنَّه أوَّلُ حشرٍ وجَلاءٍ كتبه الله عليهم.
2- قَولُ اللهِ تعالى: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ إنَّما ذَكَر اللهُ تعالى ذلك؛ تعظيمًا لهذه النِّعمةِ؛ فإنَّ النِّعمةَ إذا ورَدَت على المرءِ والظَّنُّ بخِلافِه، تكونُ أعظَمَ؛ فالمسلِمونَ ما ظَنُّوا أنَّهم يَصِلونَ إلى مُرادِهم في خروجِ هؤلاء اليَهودِ، فيَتخَلَّصونَ مِن ضَرَرِ مَكايِدِهم، فلمَّا تيسَّرَ لهم ذلك كان وَقْعُ هذه النِّعمةِ أعظَمَ [43] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/502). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يدُلُّ على أنَّ الأمورَ كُلَّها لله؛ وذلك لأنَّ الآيةَ دَلَّت على أنَّ وُقوعَ ذلك الرُّعبِ في قُلوبِهم كان مِنَ اللهِ، ودلَّت على أنَّ ذلك الرُّعبَ صار سَبَبًا في إقدامِهم على بعضِ الأفعالِ، وبالجُملةِ فالفِعلُ لا يحصُلُ إلَّا عندَ حُصولِ داعيةٍ مُتأكِّدةٍ في القَلبِ، وحُصولُ تلك الدَّاعيةِ لا يكونُ إلَّا مِنَ اللهِ؛ فكانت الأفعالُ بأسْرِها مُسنَدةً إلى اللهِ تعالى بهذا الطَّريقِ [44] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/503). .
4- الإتيانُ والمجيءُ مِنَ اللهِ تعالى نوعانِ: مُطلَقٌ، ومُقَيَّدٌ؛ فإذا كان مجيءَ رَحمتِه أو عذابِه كان مُقَيَّدًا... النَّوعُ الثَّاني: المجيءُ والإتيانُ المُطلَقُ، كقَولِه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ [الفجر: 22] ، وقَولِه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة: 210] ، وهذا لا يكونُ إلَّا مجيئَه سُبحانَه... ومِنَ المجيءِ المقَيَّدِ قَولُه: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ [النحل: 26] ، فلمَّا قَيَّده بالمفعولِ -وهو البُنيانُ- وبالمجرورِ -وهو القواعِدُ- دَلَّ ذلك على مجيءِ ما بَيَّنَه، وهذا يُشبِهُ قَولَه تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، فهذا مجيءٌ مُقَيَّدٌ لِقَومٍ مخصوصينَ قد أوقَعَ بهم بَأْسَه، وعَلِمَ السَّامِعون أنَّ جُنودَه مِنَ الملائكةِ والمسلِمينَ أَتَوهم، فكان في هذا السِّياقِ ما يدُلُّ على المرادِ، على أنَّه لا يمتَنِعُ في الآيتَينِ أن يكونَ الإتيانُ على حقيقتِه، ويكونَ ذلك دُنُوًّا ممَّن يريدُ إهلاكَهم بغَضَبِه وانتِقامِه، كما يَدنو عَشِيَّةَ عَرَفةَ مِنَ الحُجَّاجِ برَحمتِه ومَغفرتِه [45] قال ابن تيميَّة: (الرَّبُّ سُبْحانَه إذا وَصَفَه رَسولُه صلَّى الله عليه وسَلَّم بأنَّه يَنزِلُ إلى سماءِ الدُّنْيا كُلَّ لَيلةٍ، وأنَّه يَدْنو عَشِيَّةَ عَرَفةَ إلى الحُجَّاجِ، وأنَّه كَلَّم موسَى في الوادي الأيمَنِ في البُقْعةِ المُبارَكةِ مِن الشَّجَرةِ، وأنَّه استَوَى إلى السَّماءِ وهي دُخَانٌ...: لم يَلْزَمْ مِن ذلك أن تكونَ هذه الأفعالُ مِن جِنْسِ ما نُشاهِدُه مِن نُزولِ هذه الأعيانِ المشهودةِ حتَّى يُقالَ: ذلك يَستَلزِمُ تَفريغَ مكانٍ وشَغْلَ آخَرَ! فإنَّ نُزولَ الرُّوحِ وصُعودَها لا يَستَلزِمُ ذلك، فكيف برَبِّ العالَمينَ؟! وكذلك الملائكةُ لهم صعودٌ ونُزولٌ مِن هذا الجنسِ. فلا يجوزُ نَفْيُ ما أثْبَته اللهُ ورَسولُه مِن الأسماءِ والصِّفاتِ، ولا يجوزُ تَمثيلُ ذلك بصِفاتِ المخلوقاتِ). ((مجموع الفتاوى)) (17/350). ، ولا يَلزَمُ مِن هذا الدُّنُوِّ والإتيانِ المُلاصَقةُ والمُخالَطةُ، بل يأتي هؤلاءِ برَحمتِه وفَضْلِه، وهؤلاء بانتِقامِه وعُقوبتِه، وهو فَوقَ عَرْشِه؛ إذ لا يكونُ الرَّبُّ إلَّا فوقَ كُلِّ شَيءٍ، ففَوقيَّتُه وعُلُوُّه مِن لَوازمِ ذاتِه، ولا تناقُضَ بيْن نُزولِه ودُنُوِّه، وهبوطِه ومجيئِه، وإتيانِه وعُلُوِّه؛ لإحاطتِه وسَعَتِه وعَظَمتِه، وأنَّ السَّمَواتِ والأرضَ في قَبْضَتِه، وأنَّه مع كَونِه الظَّاهِرَ الَّذي ليس فَوقَه شَيءٌ، فهو الباطِنُ الَّذي ليس دُونَه شَيءٌ [46] يُنظر: ((مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم)) للبعلي (ص: 448، 449). .
5- قال اللهُ تعالى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ مَنطوقُه أنَّ الرُّعبَ سَبَبٌ مِن أسبابِ هزيمةِ اليَهودِ، ومفهومُ المُخالَفةِ يدُلُّ على أنَّ العَكسَ بالعَكسِ، أي: أنَّ الطُّمَأنينةَ -وهي ضِدُّ الرُّعبِ- سَبَبٌ مِن أسبابِ النَّصرِ، وهو ضِدُّ الهزيمةِ [47] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/19). .
6- في قَولِه تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ حُجَّةٌ في إخرابِ بلادِ العَدُوِّ للنِّكايةِ [48] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/257). أثناءَ الحِصارِ.
7- قال اللهُ تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ إن قيل: كيف قال: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، ولا يُتصَوَّرُ أن يُخرِبوا بُيوتَهم بأيدي المؤمِنينَ؟
فالجوابُ: إنَّما أضاف إليهم؛ لأنَّهم هم الَّذين ألجؤُوا المؤمِنينَ إلى التَّخريبِ، وحَمَلوهم على ذلك؛ بسَبَبِ امتِناعِهم عن الإيمانِ وكُفرِهم، ونَقْضِهم العهدَ وغَدرِهم، فكأنَّهم كلَّفوهم إيَّاه، وأمَرُوهم به [49] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/397)، ((تفسير الزمخشري)) (4/499)، ((تفسير البيضاوي)) (5/198)، ((تفسير ابن جزي)) (2/357، 358)، ((تفسير أبي حيان)) (10/138)، ((تفسير أبي السعود)) (8/226)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/71). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ فيه أنَّ الاعتبارَ أحدُ قوانينِ الشَّرعِ، ومَن لم يَعتَبِرْ بغَيرِه، اعتَبَرَ به غيرُه [50] يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/557)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/411). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ استُدِلَّ به على حُجِّيَّةِ القياسِ، وأنَّه فَرضُ كفايةٍ على المجتَهِدينَ؛ لأنَّ الاعتبارَ: قياسُ الشَّيءِ بالشَّيءِ [51] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 258). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (29/503)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/73). .
10- في قَولِه تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ أنَّه سُبحانَه كما يُنْكِرُ التَّسويةَ بيْنَ المُختَلِفاتِ، فهو يُسَوِّي بيْن المُتماثِلاتِ [52] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (3/89). ، فالشَّارعُ حكيمٌ لا يُفرِّقُ بيْنَ متماثِلَينِ إلَّا لاختِصاصِ أحدِهما بما يُوجِبُ الاختِصاصَ، ولا يُسوِّي بيْنَ مُختَلِفَينِ غيرِ مُتساويَينِ، فقال تعالى: فَاعْتَبِرُوا، والاعتبارُ إنَّما يكونُ إذا سَوَّى بيْن المتماثِلَينِ [53] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/127). .
11- الاعتبارُ والقياسُ نَوعانِ: قياسُ الطَّردِ، وقياسُ العَكسِ؛ فقياسُ الطَّردِ: اعتِبارُ الشَّيءِ بنَظيرِه حتَّى يُجعَلَ حُكمُه مِثلَ حُكْمِه. وقياسُ العَكسِ: اعتِبارُ الشَّيءِ بنَقيضِه حتَّى يُعلَمَ أنَّ حُكمَه نَقيضُ حُكمِه. وقَولُه تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ يَتناوَلُ الأمْرَينِ؛ فيَعتَبِرُ العاقِلُ بتعذيبِ اللهِ لِمَن كَذَّب رُسُلَه، كما فَعَل ببَني النَّضيرِ؛ حتَّى يَرغَبَ في نقيضِ ذلك، ويَرهَبَ مِن نظيرِ ذلك، فيَستَعمِل قياسَ الطَّردِ في الرَّهبةِ، وقياسَ العَكسِ في الرَّغبةِ [54] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (5/259). .
12- في قَولِه تعالى: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ حُجَّةٌ في الكِتابةِ القَدَرِيَّةِ على مَن يُنْكِرُها [55] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/257). .
13- في قَولِه تعالى: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وُجوبُ قَتلِ سابِّ اللهِ ورسولِه، وانتقاضُ عَهْدِه؛ لأنَّ التَّعذيبَ في الدُّنيا هو القتالُ والإهلاكُ، ثمَّ عَلَّلَ ذلك بالمُشَاقَّةِ، وأَخَّرَ عنهم ذلك التَّعذيبَ؛ لِمَا سَبَق مِن كتابةِ الجَلاءِ عليهم، فمَن وُجِدَتْ منه المُشَاقَّةُ مِن غَيرِهم ممَّن لَمْ يُكْتَبْ عليه الجَلاءُ، استحَقَّ عذابَ الدُّنيا الَّذي أَخَّرَه عن أولئك [56] يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (3/1394). .
14- إن قيل: إنَّ (لولا) تُفيدُ انتِفاءَ الشَّيءِ لِثُبوتِ غيرِه، فيَلزَمُ مِن ثُبوتِ الجَلاءِ عدَمُ التَّعذيبِ في الدُّنيا، لكنَّ الجَلاءَ نَوعٌ مِن أنواعِ التَّعذيبِ، فإذًا يَلزَمُ مِن ثُبوتِ الجَلاءِ عدَمُه، وهو محالٌ!
والجوابُ: أنَّ معناه: ولولا أن كتَب اللهُ عليهم الجَلاءَ لَعَذَّبهم في الدُّنيا بالقتلِ كما فعَل بإخوانِهم بَني قُرَيْظةَ [57] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/504). . فـ (لولا) حرفُ امتِناعٍ لِوُجودٍ، تُفيدُ امتِناعَ جوابِها مِن أجْلِ وُجودِ شَرْطِها، أي: وُجودُ تقديرِ الله جَلاءَهم سببٌ لانتِفاءِ تعذيبِ الله إيَّاهم في الدُّنيا بعذابٍ آخَرَ، فلو لم يُعاقِبْهم اللهُ بالجَلاءِ لَعاقَبَهم بالقتلِ والأَسْرِ؛ لأنَّهم استَحَقُّوا العِقابَ، فالمُرادُ بالتَّعذيبِ: الألمُ المحسوسُ بالأبدانِ بالقتلِ والجرحِ والأسْرِ والإهانةِ، وإلَّا فإنَّ الإخراجَ مِن الدِّيارِ نَكْبةٌ ومُصيبةٌ، لكنَّها لا تُدرَكُ بالحِسِّ، وإنَّما تُدرَكُ بالوِجْدانِ [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/73). .
15- َقولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ يدُلُّ على أنَّ اللهَ تعالى أوقَعَ ما أوقَعَه ببَني النَّضيرِ مِن إخراجِهم مِن ديارِهم، وتخريبِ بُيوتِهم؛ بسَبَبِ أنَّهم شاقُّوا اللهَ ورَسولَه، وأنَّ المُشاقَّةَ المذكورةَ هي عِلَّةُ العُقوبةِ الحاصِلةِ بهم، ولا شكَّ أنَّ مُشاقَّةَ اللهِ ورَسولِه مِن أعظَمِ أسبابِ الهَلاكِ [59] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية محمد سالم (8/22). .
16- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فيه سؤالٌ: لو كانت المُشاقَّةُ عِلَّةً لهذا التَّخريبِ لَوَجَب أن يُقالَ: أيْنَما حَصَلت هذه المُشاقَّةُ حَصَل التَّخريبُ، ومعلومٌ أنَّه ليس كذلك؟
الجوابُ: أنَّ هذا أحَدُ ما يدُلُّ على أنَّ تخصيصَ العِلَّةِ المنصوصةِ لا يَقدَحُ في صِحَّتِها [60] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/505). قال الشنقيطي: (هذه الآيةُ الكريمةُ تؤيِّدُ قولَ مَن قال إنَّ النَّقضَ [أي: تخلُّفَ حُكمِ العلَّةِ عنها] في فنِّ الأصولِ تخصيصٌ للعلَّةِ مُطلَقًا، لا نقْضٌ لها، وعزاه في «مراقي السعود» للأكثَرينَ). ((آداب البحث والمناظرة)) (ص: 299). ويُنظر: ((نثر الورود شرح مراقي السعود)) للشنقيطي (ص: 200). .
17- شَرْعُ اللهِ وقَدَرُه ووَحْيُه وثوابُه وعِقابُه كلُّه قائمٌ على أصلِ إلحاقِ النَّظيرِ بالنَّظيرِ، واعتِبارِ المِثْلِ بالمِثْلِ؛ ولهذا يَذْكُرُ الشَّارعُ العِلَلَ والأوصافَ المؤثِّرةَ، والمعانيَ المُعتبَرةَ في الأحكامِ القَدَرِيَّةِ والشَّرعيَّةِ والجَزائيَّةِ؛ لِيَدُلَّ بذلك على تَعَلُّقِ الحُكْمِ بها أين وُجِدَتْ، واقتِضائِها لأحكامِها، وعدَمِ تَخَلُّفِها عنها إلَّا لمانعٍ يُعارِضُ اقتِضاءَها، ويُوجِبُ تَخَلُّفَ أثَرِها عنها، كقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وقَولِه تعالى: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [غافر: 12]، وقَولِه تعالى: ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [الجاثية: 35] ، وقَولِه تعالى: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ [غافر: 75] ، وقَولِه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [محمد: 26] ، وقَولِه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 28] ، وقَولِه تعالى: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ [61] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/150). [فصلت: 23] .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- افتِتاحُ السُّورةِ بالإخبارِ عن تَسبيحِ ما في السَّمواتِ والأرضِ للهِ تعالى تَعريضٌ بأولئك الَّذين نزَلَت السُّورةُ فيهم بأنَّهم أصابَهُم ما أصابَهُم لتَكبُّرِهم عن تَسبيحِ اللهِ حقَّ تَسبيحِه بتَصديقِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إذ أعْرَضوا عن النَّظَرِ في دَلائلِ رِسالتِه، أو كابَروا في مَعرفتِها [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/64). .
- وأيضًا فافتِتاحُ السُّورةِ بذِكرِ تَسبيحِ اللهِ وتَنزيهِه مُؤذِنٌ بأنَّ أهمَّ ما اشتَمَلَت عليه إثباتُ وصْفِ اللهِ بالصِّفاتِ الجليلةِ المُقتَضيةِ أنَّه مُنزَّهٌ عمَّا ضلَّ في شأْنِه أهلُ الضَّلالِ مِن وصْفِه بما لا يَليقُ بجَلالِه، وأوَّلُ التَّنزيهِ هو نفْيُ الشَّريكِ له في الإلهيَّةِ؛ فإنَّ الوَحدانيَّةَ هي أكبرُ صِفةٍ ضلَّ في كُنْهِها المُشرِكون، وهي الصِّفةُ الَّتي يُنبِئُ عنها اسمُه العَلَمُ (الله)؛ لأنَّ أصْلَه الإلهُ، أي: المُنفرِدُ بالإلهيَّةِ، وأُتْبِعَ هذا الاسمُ بصِفاتٍ رَبَّانيَّةٍ تدُلُّ على كَمالِ اللهِ تعالى، وتَنزُّهِه عن النَّقصِ، فكانت هذه الفاتحةُ بَراعةَ استِهلالٍ لهذه السُّورةِ [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/356، 357). .
- قال تعالى في أوَّلِ سُورةِ (الحديدِ): مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وهاهنا قال: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ؛ لأنَّ فاتحةَ سُورةِ الحديدِ تَضمَّنَت الاستِدلالَ على عَظَمةِ اللهِ تعالى وصِفاتِه وانفرادِه بخَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، فكان دَليلُ ذلك هو مَجموعَ ما احتَوَت عليه السَّمواتُ والأرضُ مِن أصنافِ الموجوداتِ، فجُمِعَ ذلك كلُّه في اسمٍ واحدٍ هو (ما) المَوصولةُ، الَّتي صِلَتُها قولُه: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وأمَّا فاتحةُ سُورةِ الحَشرِ فقدْ سِيقَت للتَّذكيرِ بمِنَّةِ اللهِ تعالى على المسلِمينَ في حادثةٍ أرْضيَّةٍ، وهي خِذلانُ بَني النَّضيرِ؛ فناسَبَ فيها أنْ يُخَصَّ أهلُ الأرضِ باسمٍ مَوصولٍ خاصٍّ بهم، وهي (ما) المَوصولةُ الثَّانيةُ الَّتي صِلَتُها فِي الْأَرْضِ [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/64، 65). .
أو كُرِّرَ الموصولُ هاهنا؛ لزِيادةِ التَّقريرِ، والتَّنبيهِ على استِقلالِ كلٍّ مِن الفَريقينِ بالتَّسبيحِ [65] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/224). .
- وأُوثِرَ هنا الإخبارُ عن سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ بفِعلِ المُضِيِّ؛ لأنَّ المُخبَرَ عنه تَسبيحُ شُكْرٍ عن نِعمةٍ مَضَت قبْلَ نُزولِ السُّورةِ، وهي نِعمةُ إخراجِ أهلِ النَّضيرِ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/65). .
2- قولُه تعالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ
- يَجوزُ أنْ تُجعَلَ جُملةُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... إلى آخِرِها استِئنافًا ابتدائيًّا؛ لقَصْدِ إجراءِ هذا التَّمجيدِ على اسمِ الجَلالةِ؛ لِما يَتضمَّنُه مِن باهِرِ تَقديرِه، ولِما يُؤذِنُ به ذلك مِن التَّعريضِ بوُجوبِ شُكْرِه على ذلك الإخراجِ العجيبِ. ويَجوزُ أنْ تُجعَلَ عِلَّةً لِما تَضمَّنَه الخبرُ عن تَسبيحِ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ مِن التَّذكيرِ للمؤمنينَ، والتَّعريضِ بأهلِ الكِتابِ والمُنافِقين الَّذين همْ فَرِيقانِ ممَّا في الأرضِ؛ فإنَّ القصَّةَ الَّتي تَضمَّنَتها فاتحةُ السُّورةِ مِن أهمِّ أحوالِهما. ويَجوزُ أنْ تُجعَلَ مُبيِّنةً لجُملةِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 1] ؛ لأنَّ هذا التَّسخيرَ العظيمَ مِن آثارِ عِزِّه وحِكمتِه، وعلى كلِّ الوُجوهِ فهو تَذكيرٌ بنِعمةِ اللهِ على المسلمينَ، وإيماءٌ إلى أنْ يَشكُروا اللهَ على ذلك، وتَمهيدٌ للمقصودِ مِن السُّورةِ، وهو قِسمةُ أمْوالِ بني النَّضيرِ [67] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/225)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/65). .
- والضَّميرُ (هو) راجِعٌ إلى اللهِ تعالَى بذلك العُنوانِ؛ إمَّا بِناءً على كَمالِ ظُهورِ اتِّصافِه تَعالى بهما -الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- مع مُساعدةٍ تامَّةٍ مِن المَقامِ، أو على جَعْلِ الضَّميرِ مُعبَّرًا به عن اسمِ الإشارةِ، كأنَّه قيلَ: ذلك المنْعوتُ بالعِزَّةِ والحِكمةِ الَّذي أخْرَجَ... إلخ؛ ففيهِ إشعارٌ بأنَّ في الإخراجِ حِكمةً باهرةً [68] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/225). .
- وتَعريفُ جُزأَيِ الجُملةِ بالضَّميرِ والمَوصولِ هُوَ الَّذِي يُفيدُ قصْرَ صِفةِ إخراجِ الَّذين كَفَروا مِن دِيارِهم عليه تعالَى، وهو قصْرٌ ادِّعائيٌّ [69] القَصرُ أو الحَصرُ: في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحَقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمُبالَغةِ، بتنزيلِ غَيرِ المذكورِ مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. يُنظر: ((مِفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ لعَدَمِ الاعتِدادِ بسَعْيِ المؤمنينَ في ذلك الإخراجِ، ومُعالجتِهم بَعضَ أسبابِه، كتَخريبِ دِيارِ بَني النَّضيرِ؛ ولذلك فجُملةُ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا تَتنزَّلُ مَنزِلةَ التَّعليلِ لجُملةِ القصْرِ [70] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/65، 66). .
- والمُرادُ بـ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بنو النَّضيرِ، ووُسِمُوا بالَّذين كَفَروا؛ لأنَّهم كَفَروا بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -بالإضافةِ إلى أنواعِ الكفرِ الأُخرَى-؛ تَسجيلًا عليهم بهذا الوصْفِ الذَّميمِ [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/66). .
- و(مِنْ) في قولِه: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَيانيَّةٌ؛ لأنَّ المُرادَ بأهلِ الكِتابِ هنا خُصوصُ اليهودِ، أي: الَّذين كَفَروا برِسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -بالإضافةِ إلى أنواعِ الكفرِ الأُخرَى-، وهمْ أهلُ الكِتابِ، وأراد بهم اليهودَ، فوُصِفوا بـ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لئلَّا يُظَنَّ أنَّ المُرادَ بـ الَّذِينَ كَفَرُوا المُشرِكون بمكَّةَ، أو بَقيَّةُ المشركين بالمدينةِ، فيُظَنَّ أنَّ الكلامَ وَعيدٌ [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/67). .
- قولُه: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ يتعلَّقُ بـ أَخْرَجَ، ومِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَتعلَّقُ بمَحذوفٍ، أي: كائنِينَ مِن أهلِ الكتابِ، وصحَّتِ الإضافةُ إليهم؛ لأنَّهم كانوا ببَرِّيَّةٍ لا عُمْرانَ فيها، فبَنَوْا فيها وأنْشَؤوا [73] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/137). .
- واللَّامُ في قولِه: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ لامُ التَّوقيتِ، وهي الَّتي تَدخُلُ على أوَّلِ الزَّمانِ المَجعولِ ظَرْفًا لعَملٍ، وهي بمعْنى (عندَ)، فالمعْنى: أنَّه أخرَجَهم عِندَ مَبدَأِ الحشْرِ المُقدَّرِ لهم، وهذا إيماءٌ إلى أنَّ اللهَ قدَّرَ أنْ يُخرَجوا مِن جَميعِ دِيارِهم في بلادِ العرَبِ؛ فالتَّعريفُ في الْحَشْرِ تَعريفُ العهْدِ [74] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/499)، ((تفسير أبي حيان)) (10/137)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/68)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/33). .
- ونظْمُ جُملةِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ على هذا النَّظمِ دونَ أنْ يُقالَ: (وظَنُّوا أنَّ حُصونَهم مانِعتُهم)؛ لِيَكونَ الابتِداءُ بضَميرِهم؛ لأنَّه سيَعقُبُه إسنادُ مَانِعَتُهُمْ إليه، فيَكونُ الابتداءُ بضَميرِهم مُشيرًا إلى اغترارِهم بأنفُسِهم أنَّهم في عِزَّةٍ ومَنَعةٍ، وأنَّ مَنَعةَ حُصونِهم هي مِن شُؤونِ عِزَّتِهم، ففيه تقديمُ مَانِعَتُهُمْ -وهو وصْفٌ- على حُصُونُهُمْ وهو اسمٌ، والاسمُ -بحسَبِ الظَّاهرِ- أَوْلى بأنْ يُجعَلَ في مَرتبةِ المبتدأِ، ويُجعَلَ الوصْفُ خَبَرًا عنه؛ فعُدِلَ عن ذلك، وقُدِّم الخبرُ على المُبتدَأِ دليلًا على فَرطِ وُثوقِهم بحصانتِها ومَنْعِها إيَّاهم، وفي تصييرِ ضميرِهم اسمًا لـ (أنَّ)، وإسنادِ الجملةِ إليه دليلٌ على اعتقادِهم في أنفُسِهم أنَّهم في عزَّةٍ ومَنَعةٍ، وليس ذلك في قولِك: (وظنُّوا أنَّ حُصونَهم تَمنَعُهم) [75] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/499)، ((تفسير الرازي)) (29/502)، ((تفسير البيضاوي)) (5/198)، ((تفسير النسفي)) (3/455)، ((تفسير أبي حيان)) (10/138)، ((تفسير أبي السعود)) (8/225)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/69، 70). .
- قولُه: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ الأصلُ: (ظَنُّوا ألَّا يُخرَجوا)؛ لقولِه: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، بِناءً على قولِه: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ ليُطابِقَ ما قبْلَه بإيقاعِ النَّاصبةِ للفِعلِ بعْدَها، فخُولِفَ ليُؤذِنَ بأنَّ ظنَّ المؤمنينَ كان على الرَّجاءِ والطَّمَعِ، وظَنَّهم على العِلمِ واليقينِ، فعُلِمَ مِن التَّأسيسِ أنَّ بِناءَ أمْرِه على الجزْمِ والثُّبوتِ، ثمَّ في المَرتبةِ الثَّانيةِ (ظَنُّوا أنَّ حُصونَهم تَمنَعُهم) نظَرًا إلى كَلامِ أوساطِ النَّاسِ، ثمَّ لَمَّا أُريِدَ مَزيدُ التَّوكيدِ قِيل: (ظَنُّوا أنَّ حُصونَهم مانِعَتُهم)؛ لإرادةِ الثُّبوتِ في الدَّرجةِ الثَّانيةِ، ثمَّ في المَرتبةِ الثَّالثةِ: (ظَنُّوا أنَّه مانِعَتُهم حُصونُهم)؛ لإفادةِ التَّخصيصِ، وأنْ ليس لحُصونِهم صِفةٌ سِوى المنْعِ، وأنَّه لا بُدَّ منه، ثمَّ في المَرتبةِ الرابعةِ: (ظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ)؛ ليَتقوَّى الحُكمُ لإفادةِ تَكثيرِ الإسنادِ، وإنْ لم يُرَدْ ما ذُكِرَ فما بالُ التَّرتيبِ لم يُترَكْ على أصْلِه؛ وهو: (ظَنُّوا ألَّا يُخرَجوا) [76] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/306، 307). ؟!
- قولُه: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ تَفريعٌ على مَجموعِ جُملتَيْ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ اللَّتينِ هما تَعليلٌ للقصْرِ في قولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/70). .
- قولُه: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا الاحتِسابُ: مُبالَغةٌ في الحِسبانِ -أي: الظَّنِّ- أي: مِن مَكانٍ لم يَظُنُّوه؛ لأنَّهم قَصَروا استِعدادَهم على التَّحصُّنِ والمَنَعةِ، ولم يَعلَموا أنَّ قُوَّةَ اللهِ فوقَ قُوَّتِهم [78] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/70). .
- قولُه: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ قذْفُ الرُّعبِ في قُلوبِهم هو مِن أحوالِ إتيانِ اللهِ إيَّاهم مِن حيثُ لم يَحتَسِبوا؛ فتَخصيصُه بالذِّكرِ للتَّعجيبِ مِن صُنْعِ اللهِ، وعطْفُه على فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا عطْفُ خاصٍّ على عامٍّ؛ للاهتِمامِ [79] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/71). .
- والقذْفُ: الرَّميُ باليدِ بقُوَّةٍ، وهو مُعبَّرٌ به عن الحُصولِ العاجلِ، أي: حصَلَ الرُّعبُ في قُلوبِهم دَفْعةً دونَ سابقِ تأمُّلٍ ولا حُصولِ سَببٍ للرُّعبِ؛ ولذلك لم يُؤْتَ بفِعلِ القذْفِ في آيةِ (آلِ عمرانَ): سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/71). [آل عمران: 151] .
- وجُملةُ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ حالٌ مِن الضَّميرِ المُضافِ إليه قُلُوبِهِمُ؛ لأنَّ المُضافَ جُزْءٌ مِن المُضافِ إليه، فلا يَمنَعُ مَجيءَ الحالِ منه، والمَقصودُ التَّعجيبُ مِن اختلالِ أُمورِهم؛ فإنَّهم وإنْ خرَّبوا بُيوتَهم باختيارِهم، لكنْ داعي التَّخريبِ قَهْريٌّ [81] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/71). .
- والخِطابُ في قولِه: يَا أُولِي الْأَبْصَارِ مُوجَّهٌ إلى غيرِ مُعيَّنٍ، ونُودِيَ أُولو الأبصارِ بهذه الصِّلةِ؛ ليُشِيرَ إلى أنَّ العِبرةَ بحالِ بَني النَّضيرِ واضحةٌ مَكشوفةٌ لكلِّ ذي بصَرٍ ممَّن شاهَدَ ذلك، ولكلِّ ذي بصَرٍ يَرى مَواقعَ دِيارِهم بعْدَهم -على قولٍ في التَّفسيرِ-، فتَكونَ له عِبرةً قُدْرةُ اللهِ على إخْراجِهم، وتَسليطِ المسلِمينَ عليهم مِن غيرِ قِتالٍ، وفي انتصارِ الحقِّ على الباطلِ، وانتصارِ أهلِ اليَقينِ على المُذَبْذَبينَ [82] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/72). .
3- قولُه تعالَى: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
- جُملةُ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا جُملةٌ مُعترِضةٌ ناشِئةٌ عن جُملةِ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [الحشر: 2] ؛ فالواوُ اعتراضيَّةٌ، أي: أخْرَجَهم اللهُ مِن قَريتِهم؛ عِقابًا لهم على كُفْرِهم وتَكذيبِهم للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [83] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/73). .
- قولُه: وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ استِئنافٌ غيرُ مُتعلِّقٍ بجَوابِ (لولا)؛ جِيءَ به لبَيانِ أنَّهُم إنْ نَجَوا مِن عَذابِ الدُّنيا بكِتابةِ الجَلاءِ لا نَجاةَ لهم مِن عَذابِ الآخرةِ [84] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/199)، ((تفسير أبي السعود)) (8/226)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/35). . وقيل: إنَّ قولَه: وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ عطْفٌ على جُملةِ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الآيةَ، أو على جُملةِ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحشر: 2] ، وليس عطْفًا على جَوابِ (لولا)؛ فإنَّ عَذابَ النارِ حاقٌّ عليهم، وليس مُنتفيًا، والمَقصودُ الاحتراسُ مِن تَوهُّمِ أنَّ الجَلاءَ بدَلٌ مِن عَذابِ الدُّنيا ومِن عَذابِ الآخِرةِ [85] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/74). .
- قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ عُطِفَ اسمُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على اسمِ الجلالةِ؛ لقصْدِ تَعظيمِ شأْنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليَعلَموا أنَّ طاعتَه طاعةُ اللهِ؛ لأنَّه إنَّما يَدْعو إلى ما أمَرَه اللهُ بتَبليغِه، ولم يُعطَفِ اسمُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الجُملةِ الثَّانيةِ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ؛ استِغناءً بما عُلِمَ مِن الجُملةِ الأُولى [86] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/75). ، وأيضًا اقتُصِر على ذِكرِ مُشاقَّتِه تعالَى؛ لتَضمُّنِها لمُشاقَّتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وليُوافِقَ قولَه تَعالى: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [87] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/226). .
- وأيضًا في قولِه: وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ  تُرِك الإدغامُ على حالِه؛ قيل: لأنَّهم ما أظهَروا مُعاداةً، وإنَّما كان ما فَعَلوا مكرًا ومُساتَرةً، وذلك أخَفُّ مِن المُجاهَرةِ، وأُظهِرَ في (الأنفالِ) -يعني في قولِه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 13] -؛ لقوَّةِ أمرِ المُجاهِرينَ. ولم يُعَدْ ذِكرُ الرَّسولِ؛ تفخيمًا له بإفهامِ أنَّ مُشاقَقتَه مُشاقَقةٌ للهِ مِن غَيرِ مَثْنويَّةٍ أصلًا، وإشارةً إلى أنَّهم بالَغوا في إخفاءِ مُشاقَقتِهم، فلم يَظهَرْ عليها غيرُ الله، فلمْ يَحصُلْ منهم في ذلك مُفاعَلةٌ بيْنَهم وبيْنَ الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّه لم يَمكُرْ بهم، وإنَّما جاهَرَهم حينَ أَعلَمَه الله بمَكرِهم، بخِلافِ ما تقدَّمَ في (الأنفالِ)؛ فإنَّ المَقامَ اقتضَى هناك الذِّكرَ؛ لأنَّهم مَكَروا به، كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] ، وهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخفى أمرَ هِجرتِه، وأعمَلَ الحِيلةَ في الخلاصِ مِن مَكرِهم على حسَبِ ما أمَرَه الله به، فحصلَتِ المُفاعَلةُ في تَحيُّزِ كلٍّ مِن الفَريقَينِ إلى شِقٍّ غَيرِ شِقِّ الآخَرِ خُفْيَةً [88] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/414، 415). .
- وجُملةُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ تَذْييلٌ، أي: شَديدُ العِقابِ لكلِّ مَن يُشاقِقُه مِن هؤلاء وغيرِهم [89] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/74). .
- قولُه: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ إمَّا نفْسُ الجزاءِ قد حُذِفَ منه العائدُ إلى (مَنْ)، أي: شَديدُ العِقابِ له، أو تَعليلٌ للجزاءِ المحذوفِ، أي: وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ يُعاقِبْه اللهُ؛ فإنَّ اللهَ شَدِيدُ العقابِ، وأيًّا ما كانَ فالشَّرطيَّةُ تَكمِلةٌ لِما قبْلَها، وتَقريرٌ لمَضمونِه، وتَحقيقٌ للسَّببيَّةِ بالطَّريقِ البُرهانيِّ، كأنَّه قِيلَ: ذلك الَّذي حاقَ بهم مِن العِقابِ العاجِلِ والآجِلِ بسَببِ مُشاقَّتِهم للهِ تَعالى ورَسولِه، وكلُّ مَن يُشاقِّ اللهِ كائنًا مَن كان فلهُ بسَببِ ذلكَ عِقابٌ شديدٌ؛ فإذَنْ لهم عِقابٌ شديدٌ [90] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/226)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/75). .