موسوعة التفسير

سورةُ فُصِّلَت
الآيات (19-24)

ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ

غريب الكلمات:

يُحْشَرُ: أي: يُجمعُ ويُساقُ، والحَشرُ: الجمعُ مع سَوْقٍ، وكلُّ جمعٍ حَشْرٌ، وقيل: هو الجمعُ بكثرةٍ، والحشرُ: إخراجُ الجَماعةِ عن مقرِّهم، وإزعاجُهم عنه إلى الحربِ ونحوِها [286] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 188)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/66)، ((المفردات)) للراغب (ص: 237)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 161). .
يُوزَعُونَ: أي: يُدفَعونَ، ويُحبَسُ أوَّلُهم على آخِرِهم، وأصلُ الوَزْعِ: يدُلُّ على الكَفِّ والمَنعِ [287] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 323)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 535)، ((المفردات)) للراغب (ص: 868)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 273). .
أَرْدَاكُمْ: أي: أهلَكَكم، والرَّدَى: الموتُ والهَلاكُ، وأصلُ (ردي): يدُلُّ على رَميٍ وتَرامٍ [288] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 389)، ((تفسير ابن جرير)) (20/413)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 77)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/506). .
مَثْوًى: أي: مَنزِلٌ ومُقامٌ، وأصلُ الثَّواءِ: يدُلُّ على الإقامةِ مع الاستِقرارِ [289] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 410)، ((تفسير ابن جرير)) (21/197)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 424)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1 /393)، ((المفردات)) للراغب (ص: 181)، ((تفسير القرطبي)) (16/235)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 295). .
يَسْتَعْتِبُوا: أي: يَطلُبوا إزالةَ غَضَبِ رَبِّهم بالتَّوبةِ وصالحِ العَمَلِ؛ مِن الاستِعتابِ: وهو الرُّجُوعُ عَن الإساءَةِ، والتَّعَرُّضُ لِطَلَبِ الرِّضا، وأصلُ الكَلِمةِ مِن (العَتْبِ): وهو الغَضَبُ والمَلامةُ، يُقالُ: عتَبَ عليه يَعتِبُ: إذا غَضِبَ عليه ولامَه، وأعتَبَه: إذا زالَ عنه عَتْبُه، واستَعْتَبَه: إذا طلَبَ منه الإعتابَ، أي: الرِّضا [290] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 537)، ((البسيط)) للواحدي (13/165)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 293)، ((تاج العروس)) للزَّبيدي (3/309)، ((تفسير الشوكاني)) (3/223). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى -مبيِّنًا جانبًا مِن أحوالِ الكافرينَ يومَ القِيامةِ-: واذكُرْ يومَ يَجمَعُ اللهُ أعداءَه الكافِرينَ به، فيُحبَسُ أوَّلُهم على آخِرِهم، فيُساقُونَ إلى النَّارِ سَوقًا عَنيفًا مُهينًا، حتى إذا جاء أولئك الكُفَّارُ النَّارَ شَهِدَ عليهم سَمعُهم وأبصارُهم وجُلودُهم بما كانوا يَعمَلونَ في الدُّنيا مِن آثامٍ! وقالوا لجُلودِهم مُنكِرينَ عليهم: لم شَهِدْتُم علينا؟! فقالتْ جلودُهم: أنطَقَنا اللهُ الَّذي أنطَقَ كُلَّ شَيءٍ بقُدرتِه، وهو خَلَقَكم أوَّلَ مَرَّةٍ، وإليه تُرجَعونَ بعدَ مَوتِكم!
وما كُنتُم في الدُّنيا تَستَخْفونَ بتَرْكِ الكُفرِ والمعاصي مخافةَ أنْ يَشهَدَ عليكم سَمعُكم وأبصارُكم وجُلودُكم يومَ القِيامةِ، ولكِنْ ظَنَنتُم أنَّ اللهَ لا يَعلَمُ كَثيرًا ممَّا تَعمَلونَ!
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه سُوءَ عاقبةِ ظنِّهم، فيقولُ: وذلكم الظَّنُّ السَّيِّئُ الذي ظنَنْتُموه برَبِّكم أهلَكَكم فأصبَحتُم يومَ القِيامةِ مِنَ الخاسِرينَ الهالِكينَ.
فإنْ يَصبِرْ أولئك الكُفَّارُ على النَّارِ فالنَّارُ مُستَقَرٌّ لهم أبدًا، وإن يَطلُبوا مِنَ اللهِ الرِّضا عنهم وقَبولَ تَوبتِهم ومَعذرِتِهم، فلن يَرضَى عنهم، ولنْ يَقبَلَ تَوبتَهم ومَعذِرتَهم!

تفسير الآيات:

وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالَى كَيفيَّةَ عُقوبةِ أولئك الكُفَّارِ في الدُّنيا، أردَفَه بكَيفيَّةِ عُقوبةِ الكُفَّارِ أولئك وغَيرِهم في الآخِرةِ؛ ليحصُلَ منه تمامُ الاعتبارِ في الزَّجرِ والتَّحذيرِ [291] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/555)، ((تفسير أبي حيان)) (9/298). .
وأيضًا لَمَّا فُرِغَ مِن مَوعِظةِ المُشرِكينَ بِحالِ الأُمَمِ المُكَذِّبةِ مِن قَبلِهم، وإنذارِهم بعَذابٍ يَحلُّ بهم في الدُّنيا كما حَلَّ بأولئك؛ لِيكونَ لهم ذلك عِبرةً؛ فإنَّ لاستِحضارِ النَّظائرِ أثَرًا في النَّفْسِ تَعتَبِرُ به ما لا تَعتَبِرُ بتَوصيفِ المَعاني العَقليَّةِ؛ انتُقِلَ إلى إنذارِهم بما سَيحِلُّ بهم في الآخِرةِ [292] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/264). .
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19).
أي: واذكُرْ يومَ يَجمَعُ اللهُ أعداءَه الكافِرينَ به، فيُحبَسُ أوَّلُهم على آخِرِهم حتَّى يجتَمِعوا ويُساقوا إلى النَّارِ سَوقًا عَنيفًا [293] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/405)، ((تفسير الزمخشري)) (4/195)، ((تفسير القرطبي)) (15/350)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/168)، ((تفسير ابن كثير)) (7/170)، ((تفسير السعدي)) (ص: 747)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/24، 25)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 116-118). قال الشوكانيُّ: (ومعنَى حَشْرِهم إلى النَّارِ سَوْقُهم إليها، أوْ إِلى موقفِ الحِسابِ؛ لأنَّه يَتَبَيَّنُ عندَه فريقُ الجنَّةِ، وفريقُ النَّارِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/586). وقال ابنُ عطيةَ: (أَعْدَاءُ اللَّهِ هم الكفَّارُ المخالِفونَ لأمْرِه). ((تفسير ابن عطية)) (5/10). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/350). وقال ابن عاشور: (وأَعْدَاءُ اللَّهِ: هم مُشْرِكو قُريشٍ؛ لأنَّهم أعداءُ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم). ((تفسير ابن عاشور)) (24/264). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/739)، ((تفسير ابن كثير)) (7/170). وقال الشِّنقيطي: (أصلُ معنى يُوزَعُونَ أي: يُكَفُّ أوَّلُهم عن التقَدُّمِ، وآخِرُهم عن التأخُّرِ، حتى يجتَمِعوا جميعًا، وذلك يدُلُّ على أنَّهم يُساقُونَ سَوقًا عَنيفًا يُجمَعُ به أوَّلُهم مع آخِرِهم... ولعَلَّ الوَزْعَ المذكورَ في الآيةِ يكونُ في الزُّمرةِ الواحِدةِ مِن زُمَرِ أهلِ النَّارِ؛ لأنَّهم يُساقُونَ إلى النَّارِ زُمَرًا زُمَرًا). ((أضواء البيان)) (7/25). وقال ابنُ عُثَيمين: (ولها معنًى آخَرُ أيضًا: يُساقون بالتوزيعِ، يعني: أنَّهم طوائفُ وأممٌ، كلَّما دخَلت أمَّةٌ لعَنتْ أختَها، فهُمْ يُوزَعونَ بالسِّياقِ، أي: يُساقون، ويُوزَعون أيضًا بالتفريقِ، كلُّ أمَّةٍ وحدَها). ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 118). !
كما قال تعالَى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم: 86] .
وقال سُبحانَه: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور: 13].
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20).
أي: حتَّى إذا جاء الكُفَّارُ النَّارَ شَهِدَ عليهم سَمعُهم وأبصارُهم وجُلودُهم بما كانوا يَعمَلونَ بها في الدُّنيا مِن آثامٍ [294] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/406)، ((تفسير القرطبي)) (15/350)، ((تفسير ابن كثير)) (7/170)، ((تفسير السعدي)) (ص: 747). قال ابنُ الجوزي: (وفي المرادِ بالجُلودِ ثلاثةُ أقوالٍ: أحَدُها: الأيدي والأرجُلُ. والثاني: الفُروجُ. رُوِيَا عن ابنِ عبَّاسٍ. والثَّالثُ: أنَّه الجُلودُ نَفسُها. حكاه الماورديُّ) ((تفسير ابن الجوزي)) (4/49). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/176). وممَّن ذهَب إلى أنَّ المرادَ عُمومُ الجُلودِ مِن جَسَدِ الإنسانِ: ابنُ جرير، واستظهره الماورديُّ، واختاره ابنُ عاشور، ونَسَبَه ابنُ عطية للجمهور، ونسَبه القرطبيُّ لأكثرِ المفسِّرين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/406)، ((تفسير الماوردي)) (5/176)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/266)، ((تفسير ابن عطية)) (5/11)، ((تفسير القرطبي)) (15/350). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ بالجُلودِ هنا: الفُروجُ: الفَرَّاءُ، وأبو السعود. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/16)، ((تفسير أبي السعود)) (8/10، 11). ومِمَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ عباسٍ في رِوايةٍ عنه، وعُبَيدُ اللهِ بنُ أبي جَعفَرٍ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/406)، ((تفسير الثعلبي)) (8/290)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/49). .
كما قال الله تعالَى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] .
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21).
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا.
أي: وقال الكُفَّارُ عِتابًا لجُلودِهم، وإنكارًا عليهم حينَ شَهِدَت عليهم: لمَ شَهِدْتُم علينا بما كُنَّا نَعمَلُه مِنَ السَّيِّئاتِ في الدُّنيا [295] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/407)، ((تفسير القرطبي)) (15/350)، ((تفسير ابن كثير)) (7/170)، ((تفسير السعدي)) (ص: 747)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 120). ؟!
قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ.
أي: فأجابتِ الجُلودُ أصحابَها: أنطَقَنا اللهُ الذي أنطَقَ كُلَّ شَيءٍ بقُدرتِه ومَشيئتِه، فنطَقْنا بغَيرِ اختيارٍ مِنَّا [296] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/407)، ((تفسير ابن كثير)) (7/170)، ((تفسير السعدي)) (ص: 747)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/268). !
كما قال اللهُ سُبحانَه وتعالَى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور: 24] .
وقال سُبحانَه: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس: 65] .
وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فضَحِكَ، فقال: هل تَدرُونَ مِمَّ أضحَكُ؟! قُلْنا: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ! قال: مِن مُخاطَبةِ العَبدِ رَبَّه؛ يقولُ: يا رَبِّ ألَمْ تُجِرْني مِنَ الظُّلمِ؟ قال: يقولُ: بلَى! قال: فيقولُ: فإنِّي لا أُجيزُ على نَفسي إلَّا شاهِدًا مِنِّي! قال: فيقولُ: كفَى بنَفسِك اليومَ عليك شَهيدًا، وبالكِرامِ الكاتِبينَ شُهودًا. قال: فيُختَمُ على فيه، فيُقالُ لأركانِه [297] لأركانِه: أي: لجوارِحِه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/105). : انطِقِي. قال: فتَنطِقُ بأعمالِه، ثم يُخلَّى بيْنَه وبيْنَ الكلامِ، قال: فيقولُ: بُعدًا لَكُنَّ وسُحقًا؛ فعَنْكنَّ كنتُ أُناضِلُ [298] أناضِلُ: أي: أُدافِعُ وأجادِلُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/105). !)) [299] رواه مسلم (2969). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حديثِ الرُّؤيةِ الطَّويلِ، وفي آخِرِه أنَّ اللهَ يُحاسِبُ المنافِقَ: ((فيَقولُ: يا رَبِّ آمَنتُ بك وبِكتابِك وبرُسُلِك، وصَلَّيتُ وصُمتُ وتصَدَّقتُ، ويُثني بخَيرٍ ما استطاعَ! فيقولُ: ها هنا إذَنْ، ثمَّ يُقالُ له: الآنَ نَبعَثُ شاهِدَنا عليك! ويتفَكَّرُ في نَفسِه: مَن ذا الذي يَشهَدُ عَليَّ؟! فيُختَمُ على فيه، ويُقالُ لِفَخِذِه ولَحمِه وعِظامِه: انطِقِي، فتَنطِقُ فَخِذُه ولَحمُه وعِظامُه بعَمَلِه؛ وذلك لِيُعذِرَ [300] لِيُعذِرَ: مِنَ الإعذارِ، وهو إقامةُ الحُجَّةِ على أحَدٍ بحيثُ لا يَبقى له عُذرٌ، والمعنى: لِيُزيلَ اللهُ عُذرَه مِن قِبَلِ نَفسِه بكثرةِ ذُنوبِه وشَهادةِ أعضائِه عليه، بحيثُ لم يَبقَ له عُذرٌ يتمَسَّكُ به. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3529). مِن نَفسِه، وذلك المنافِقُ، وذلك الَّذي يَسخَطُ اللهُ عليه)) [301] رواه مسلم (2968). .
وعن مُعاويةَ بنِ حَيْدةَ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((أوَّلُ ما يُعرِبُ [302] يُعرِبُ: أي: يَنطِقُ ويَتكَلَّمُ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/201). عن أحَدِكم فَخِذُه)) [303] أخرجه مُطَوَّلًا النَّسائي في ((السنن الكبرى)) (11431)، وأحمد (20011) واللَّفظُ له. حَسَّنه البَغَوي في ((شرح السنة)) (7/500)، وصَحَّح إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مشكل الآثار)) (4161). .
وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
أي: واللهُ خلَقَكم أوَّلَ مَرَّةٍ ولم تكونوا شيئًا؛ فالذي قَدَر على ذلك قادِرٌ على إنطاقِ الجُلودِ [304] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/409)، ((تفسير ابن عطية)) (5/11)، ((تفسير القرطبي)) (15/350)، ((تفسير الألوسي)) (12/368). قال الألوسي: (قَولُه تعالى: وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يحتَمِلُ أن يكونَ مِن تمامِ كَلامِ الجُلودِ ومَقولِ القَولِ، ويحتَمِلُ أن يكونَ مُستأنَفًا مِن كَلامِه عزَّ وجلَّ، والأوَّلُ أظهَرُ. والمرادُ على كُلِّ حالٍ: تقريرُ ما قَبلَه بأنَّ القادِرَ على الخَلقِ أوَّلَ مَرَّةٍ قادِرٌ على الإنطاقِ). ((تفسير الألوسي)) (12/368). ويُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/70). وممَّن ذهَب إلى أنَّه من كلامِ الجُلودِ: ابنُ عطية، والقرطبيُّ، والبقاعيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/11)، ((تفسير القرطبي)) (15/350)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/170). والقَولُ بأنَّه ابتداءُ كلامٍ لله تعالى هو ظاهِرُ اختيارِ ابنِ جريرٍ، وممَّن ذهَب إليه: النَّحَّاسُ، والواحديُّ، والبَغويُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/409)، ((معاني القرآن)) للنَّحَّاس (6/258)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 954)، ((تفسير البغوي)) (4/130). وذكَر ابنُ عُثَيمين أنَّ جعْلَه مِن كَلامِ الجُلودِ حتَّى يتَّصِلَ الكلامُ بَعضُه ببعضٍ: أقرَبُ مِن حيثُ اللَّفظُ، لكِنَّ القَولَ الثَّانيَ أقوَمُ للمعنَى، وذَكَر وَجْهَ هذا القَولِ الثاني: أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ أنَّ هؤلاء يُحاسَبونَ يَومَ القِيامةِ، وتَشهَدُ عليهم جَوارِحُهم وجُلودُهم، بَيَّنَ أنَّه قادِرٌ على الإعادة؛ فالقادِرُ على الخَلْقِ أوَّلَ مَرَّةٍ قادِرٌ على الإعادةِ، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] ؛ لأنَّ هؤلاء الذين كَذَّبوا يُنكِرونَ البَعثَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 122). وقال السعديُّ: (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فكما خلَقكم بذواتِكم، وأجسامِكم، خلَق أيضًا صفاتِكم، ومِن ذلك الإنطاقُ... ويحتَمِلُ أنَّ المرادَ بذلك: الاستِدلالُ على البَعثِ بالخَلقِ الأوَّلِ، كما هو طريقةُ القُرآنِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 747). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/587). .
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
أي: وإلى اللهِ تُردُّونَ بعدَ مَوتِكم، فيُجازيكم على أعمالِكم [305] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/409)، ((تفسير السمعاني)) (5/46)، ((تفسير السعدي)) (ص: 747). .
كما قال تعالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 28] .
وكما قال سُبحانَه: وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام: 36] .
وقال عزَّ وجلَّ: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم: 11] .
وقال تبارك وتعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة: 105] .
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22).
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ.
سَبَبُ النُّزولِ:
عن ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (اجتمَعَ عندَ البَيتِ ثَلاثةُ نَفَرٍ؛ قُرَشِيَّانِ وثَقَفيٌّ، أو ثَقَفيَّانِ وقُرَشيٌّ، قَليلٌ فِقهُ قُلوبِهم، كثيرٌ شَحمُ بُطونِهم، فقال أحَدُهم: أتُرَونَ اللهَ يَسمَعُ ما نقولُ؟ وقال الآخَرُ: يَسمَعُ إنْ جَهَرْنا، ولا يَسمَعْ إنْ أخفَيْنا! وقال الآخَرُ: إنْ كان يَسمَعُ إذا جهَرْنا فهو يَسمَعُ إذا أخفَيْنا! فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ ... [فصلت: 22] الآية) [306] رواه البخاري (4816) ومسلم (2775) واللفظ له. .
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ.
أي: وما كُنتُم في الدُّنيا تَستَخْفُونَ بتَرْكِ الكفرِ والمعاصي؛ لِئَلَّا يَشهَدَ عليكم سَمعُكم ولا أبصاركُم ولا جُلودُكم يومَ القِيامةِ [307] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/409، 410)، ((تفسير الزمخشري)) (4/196)، ((تفسير ابن عطية)) (5/11)، ((تفسير القرطبي)) (15/352)، ((تفسير ابن كثير)) (7/172)، ((تفسير السعدي)) (ص: 747)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/271). قال ابنُ عطية: (يحتَمِلُ أنْ يكونَ مِن كَلامِ الجُلودِ ومُحاورتِها، ويحتَمِلُ أنْ يكونَ مِن كَلامِ اللهِ عزَّ وجَلَّ لهم، أو مِن كَلامِ مَلَكٍ يأمُرُه تعالى). ((تفسير ابن عطية)) (5/11). وقال البغويُّ: (تَسْتَتِرُونَ، أي: تستَخْفونَ، عِندَ أكثرِ أهلِ العِلمِ). ((تفسير البغوي)) (4/130). قيل: المرادُ: وما كنتُم في الدُّنيا تَسْتخفونَ حذرًا مِن شَهادةِ سمْعِكم وأبصارِكم وجلودِكم يومَ القِيامةِ، وذلك بتركِ الكُفرِ والمعاصي. وممَّن ذهَب إلى هذا المعنَى: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، وابنُ كَثير، والشوكانيُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/410)، ((تفسير القرطبي)) (15/352)، ((تفسير ابن كثير)) (7/172)، ((تفسير الشوكاني)) (4/587)، ((تفسير السعدي)) (ص: 747). قال الشوكانيُّ: (لَمَّا كانَ الإنسانُ لا يقدِرُ على أنْ يستخفِيَ مِن جوارِحِه عندَ مباشرةِ المعصيةِ كانَ معنَى الاستخفاءِ هنا تركَ المعصيةِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/587). وقيل: معنى وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ أي: ما كُنتُم تَستَخْفونَ مِن أنْ تَشهَدَ عليكم جَوارِحُكم؛ لِأنَّكم ما كُنتُم تَظُنُّونَ ذلك، فلم تَكونوا تَخافون أنْ تَشهَدَ عليكم فتَستَتِروا منها، أو لِأنَّكم لا تَقدِرونَ على الاستِخفاءِ منها. ممَّن قال بهذا المعنَى في الجُملةِ: الواحديُّ، والسمعانيُّ، وابنُ الجوزي، والرَّسعنيُّ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/30)، ((تفسير السمعاني)) (5/46)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/50)، ((تفسير الرسعني)) (7/21). وقيل: المعنى: أنَّكم كُنتُم تَستَتِرونَ بالحِيطانِ والحُجُبِ عِندَ ارتِكابِ الفَواحِشِ، وما كان استِتارُكم ذلك خِيفةَ أنْ تَشهَدَ عليكم جَوارِحُكم. ومِمَّن ذَهَبَ إلى هذا: الزمخشريُّ، والرازيُّ، والبيضاويُّ، والنَّسَفيُّ، وأبو السعود، والعُلَيميُّ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/196)، ((تفسير الرازي)) (27/556)، ((تفسير البيضاوي)) (5/70)، ((تفسير النسفي)) (3/233)، ((تفسير أبي السعود)) (8/10)، ((تفسير العليمي)) (6/152). قال الرازي: (المعنَى إثباتُ أنَّهم كانوا يستترونَ عندَ الإقدامِ على الأعمالِ القَبيحةِ، إلَّا أنَّ استتارَهم ما كانَ لأجلِ خوفِهم مِن أنْ يشهدَ عليهم سَمْعُهم وأبصارُهم وجُلودُهم؛ وذلك لأنَّهم كانوا منكرينَ للبعثِ والقِيامةِ، ولكنَّ ذلك الاستتارَ لأجلِ أنَّهم كانوا يظنُّونَ أنَّ اللَّهَ لا يعلمُ الأعمالَ الَّتي يُقْدِمونَ عليها على سبيلِ الخفيةِ والاستتارِ). ((تفسير الرازي)) (27/556). !
وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ.
أي: ولكِنْ ظَننْتُم في الدُّنيا أنَّ اللهَ لا يَعلَمُ كَثيرًا مِنَ السَّيِّئاتِ التي كُنتُم تَعمَلونَها [308] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/411)، ((تفسير القرطبي)) (15/352)، ((تفسير السعدي)) (ص: 747). قال ابن الجوزي: (وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ قال ابنُ عبَّاسٍ: كان الكفَّارُ يقولونَ: إنَّ الله لا يَعلمُ ما في أنفُسِنا، ولكنَّه يعلمُ ما يَظهرُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/50). وقال السمعاني: (هو قَولُ مَن قالَ: إِنَّ الله يسمعُ إِذا جهرْنا، ولا يسمعُ إِذا أخْفَيْنا). ((تفسير السمعاني)) (5/47). وقال ابن عاشور: (معنى الآيةِ...: أنَّ اللهَ عليمٌ بأعمالِكم ونِيَّاتِكم، لا يخفَى عليه شَيءٌ منها إنْ جهَرْتُم أو سَترْتُم، وليس اللهُ بحاجةٍ إلى شَهادةِ جوارِحِكم عليكم، وما أوقَعَكم في هذا الضُّرِّ إلَّا سُوءُ ظَنِّكم بجلالِ اللهِ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/271). .
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23).
أي: وظَنُّكم السَّيِّئُ هذا قد أهلَكَكم، فأصبَحتُم يومَ القِيامةِ مِنَ الهالِكينَ [309] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/412، 414)، ((تفسير ابن كثير)) (7/172)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 747)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/273). .
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24).
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ.
أي: فإنْ يَصبِرْ أولئك الكُفَّارُ على النَّارِ، فالنَّارُ مَسكَنٌ لهم ومُستَقَرٌّ، ولا مَخرَجَ لهم مِنها أبدًا [310] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/415)، ((الوسيط)) للواحدي (4/31)، ((تفسير السمعاني)) (5/47، 48)، ((تفسير ابن كثير)) (7/172)، ((تفسير الألوسي)) (12/370)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/273). قال الألوسيُّ: (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ أي: محلُّ ثواءٍ وإقامةٍ أَبديةٍ لهم بحيثُ لا براحَ لهم منها، وترتيبُ الجزاءِ على الشَّرطِ لأنَّ التقديرَ: إنْ يَصبِروا -والظنُّ أنَّ الصبرَ ينفعُهم؛ لأنَّه مفتاحُ الفرجِ- لا ينفَعْهم صبرُهم إذا لم يصادفْ محلَّه؛ فإنَّ النارَ محلُّهم لا محالةَ. وقيل: في الكلامِ حذْفٌ، والتقديرُ: أو لا يَصبروا كقولِه تعالى: فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ [الطور: 16]. وقيل: المرادُ فإنْ يَصبِروا على ترْكِ دِينِك واتِّباعِ هواهم فالنارُ مثوًى لهم، وليس بذاك). ((تفسير الألوسي)) (12/370). وممَّن ذهَب إلى المعنى الأوَّل: الزمخشريُّ، والنسفيُّ، والبقاعيُّ، والشوكانيُّ، والقاسميُّ، وابنُ عُثيمين. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/196)، ((تفسير النسفي)) (3/233)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/174)، ((تفسير الشوكاني)) (4/587)، ((تفسير القاسمي)) (8/334)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 127). وممَّن ذهَب إلى أنَّ المعنى: فإنْ يَصبِروا أو لا يَصبِروا لا يَنفَعْهم صبرٌ ولا جزَعٌ: مكيٌّ، والسمعانيُّ، وابنُ عطيَّة، وابنُ كثير. يُنظر: ((الهداية)) لمكي (10/6511)، ((تفسير السمعاني)) (5/47)، ((تفسير ابن عطية)) (5/12)، ((تفسير ابن كثير)) (7/173). قال السعديُّ: (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ فلا جَلَدَ عليها ولا صَبرَ، وكُلُّ حالةٍ قُدِّر إمكانُ الصَّبرِ عليها فالنَّارُ لا يمكِنُ الصَّبرُ عليها). ((تفسير السعدي)) (ص: 747). وممَّن ذهب إلى القول الثَّالِث -وهو أنَّ المعنى: فإنْ يصبِروا في الدُّنيا على أعمالِ أهلِ النَّارِ فالنَّارُ مثوى لهم-: القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/353). وقال ابنُ عاشور: (المعنى...: أنَّ حاصِلَ أمْرِهم أنَّهم قد زُجَّ بهم في النَّارِ؛ فإنْ صَبَروا واستَسلَموا فهم باقُونَ في النَّارِ، وإنْ اعتَذَروا لم ينفَعْهم العُذرُ ولم يُقبَلْ منهم تنَصُّلٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/273). .
كما قال تعالَى -حاكيًا عن أهلِ النَّارِ قَولَهم-: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم: 21] .
وقال سُبحانَه: اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 16].
وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ.
أي: وإنْ طَلَبوا مِنَ اللهِ الرِّضا عنهم، وقَبولَ تَوبتِهم واعتِذارِهم عن أعمالِهم السَّيِّئةِ؛ فلا يُؤاخِذُهم بها؛ فلنْ يَرضَى عنهم، ولن يَقبَلَ تَوبتَهم واعتِذارَهم، ولن يُخرِجَهم مِنَ النَّارِ [311] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/415)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/181)، ((تفسير ابن كثير)) (7/173)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/174)، ((تفسير السعدي)) (ص: 747)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/273، 274). .
كما قال الله تبارك تعالَى: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 106 - 108] .
وقال سُبحانَه: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ [غافر: 49، 50].
وقال عزَّ وجَلَّ: فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الجاثية: 35].
وقال تبارك وتعالى: وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 36] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالَى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إثباتُ الرُّجوعِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فاستعِدَّ لهذا الرُّجوعِ، واعلمْ أنَّك مُلاقٍ ربَّك، ولكنْ أبْشِرْ إنْ كنتَ مؤمنًا؛ قال اللهُ تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة: 223] ، يعني: لا يَخافُ المؤمنُ مِن هذه الملاقاةِ؛ بلْ له البشارةُ في الدُّنيا قبْلَ الآخِرةِ، لكنَّ حَقيقةَ هذه البِشارةِ أنَّها للمُؤمنِ خاصَّةً [312] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 130). .
2- قَولُ الله تعالى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فيه تَنبيهٌ على أنَّ مِن حَقِّ المؤمِنِ ألَّا يَذهَبَ عنه ولا يَزولَ عن ذِهنِه أنَّ عليه مِنَ اللهِ تعالى عَينًا كالِئةً، ورَقيبًا مُهيمِنًا؛ حتَّى يكونَ في أوقاتِه وخَلَواتِه مِن رَبِّه أهيَبَ وأحسَنَ احتِشامًا، وأوفَرَ تحفُّظًا وتصوُّنًا منه مع الملأِ، ولا يَنبَسِطَ في سِرِّه؛ خوفًا مِن التشَبُّهِ بهؤلاءِ الظَّانِّينَ [313] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/514). .
3- قَولُه تعالى: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ الحَسَنُ البَصريُّ: (إنَّ قَومًا ألهَتْهم الأمانيُّ حتى خَرَجوا مِنَ الدُّنيا وما لهم حَسَنةٌ، ويقولُ أحَدُهم: إنِّي أُحسِنُ الظَّنَّ برَبِّي، وكَذَبَ! ولو أحسَنَ الظَّنَّ لأحسَنَ العَمَلَ) [314] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/353). .
4- قالَ اللَّه في حَقِّ مَنْ شَكَّ في تَعَلُّقِ سَمْعِه ببعضِ الجزئِيَّاتِ، وهو السِّرُّ مِنَ القولِ: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فهؤلاءِ لَمَّا ظنُّوا أنَّ اللَّهَ سُبحانَه لا يَعْلَمُ كثيرًا مِمَّا يَعْملونَ، كان هذا إساءَةً لظَنِّهم بِرَبِّهم، فأَرْداهم ذلك الظَّنُّ، وهذا شَأْنُ كُلِّ مَنْ جَحَد صِفاتِ كمالِه، ونُعوتَ جَلالِه، ووَصَفه بما لا يَليقُ به، فإذا ظَنَّ هذا أنَّه يُدْخِلُه الجَنَّةَ كانَ هذا غُرورًا وَخِداعًا مِنْ نَفْسِه، وتَسْويلًا مِنَ الشَّيطانِ، لا إحسانَ ظَنٍّ برَبِّه.
فتَأَمَّلْ هذا الموضعَ، وتأمَّلْ شِدَّةَ الحاجةِ إليه، وكيفَ يَجْتَمِعُ في قلبِ العبدِ تَيَقُّنُه بأنَّه مُلاقٍ اللَّهَ، وأنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ ويَرَى مَكانَه، ويَعْلَمُ سِرَّه وعلانِيَتَه، ولا يخفَى عليه خافِيَةٌ مِنْ أمْرِه، وأنَّه مَوْقوفٌ بينَ يَدَيْه، ومَسْؤولٌ عن كُلِّ ما عَمِل، وهو مُقيمٌ على مَساخِطِه مُضَيِّعٌ لأوامِرِه، مُعَطِّلٌ لحُقوقِه، وهو معَ هذا يُحْسِنُ الظَّنَّ به، وهلْ هذا إلَّا مِنْ خِدَعِ النُّفوسِ، وغُرورِ الأمانِيِّ [315] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 26). ؟!
5- قال اللهُ تعالَى: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ اعلَمْ أنَّ أسبابَ الضَّلالِ في العقائدِ كُلِّها إنَّما تأتي على النَّاسِ مِن فَسادِ التأمُّلِ، وسُرعةِ الإيقانِ، وعَدَمِ التَّمييزِ بينَ الدَّلائِلِ الصَّائِبةِ والدَّلائِلِ المُشابِهةِ؛ وكُلُّ ذلك يُفضِي إلى الوَهمِ المعَبَّرِ عنه بالظَّنِّ السَّيِّئِ أو الباطِلِ، وقد ذكَرَ اللهُ مِثْلَه في المُنافِقينَ، وأنَّ ظَنَّهم هو ظَنُّ أهلِ الجاهِليَّةِ، فقال: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران: 154] ؛ فلْيَحذَرِ المُؤمِنونَ مِن الوُقوعِ في مِثلِ هذه الأوهامِ، فيَبُوؤُوا ببَعضِ ما نُعِيَ على عَبَدةِ الأصنامِ [316] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/273). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالَى: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ شَهادةُ جَوارِحِهم وجُلودِهم عليهم: شَهادةُ تَكذيبٍ وافتِضاحٍ؛ لِأنَّ كَونَ ذلك شَهادةً يَقتَضي أنَّهم لَمَّا رَأوُا النارَ اعتَذَروا بإنكارِ بَعضِ ذُنوبِهم؛ طَمَعًا في تَخفيفِ العَذابِ، وإلَّا فقدْ عَلِمَ اللهُ ما كانوا يَصنَعونَ، وشَهِدتْ به الحَفَظةُ، وقُرِئَ عليهم كِتابُهم، وما أُحضِروا لِلنَّارِ إلَّا وقدْ تَحقَّقتْ إدانَتُهم، فما كانتْ شَهادةُ جَوارِحِهم إلَّا زِيادةَ خِزيٍ لهم، وتَحسيرًا وتَنديمًا على سُوءِ اعتِقادِهم في سَعةِ عِلْمِ اللهِ [317] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/266، 267). .
2- في قَولِه تعالَى: وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ جوازُ استِعمالِ الأدِلَّةِ العَقليَّةِ، ويُؤخَذُ ذلِك مِنَ استِدلالِ اللهِ تعالى بالمَبدأِ على المَعادِ -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ فإنَّ هذا دَليلٌ عَقليٌّ [318] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 129). .
3- في قَولِه تعالى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إشارةٌ إلى الحِكمةِ مِن خَلْقِ الخَلْقِ: أنَّهم يُبتَلَوْنَ فيُؤمَرونَ ويُنهَوْنَ، ومآلُهم إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ يُجازيهم بحَسَبِ أعمالِهم التي كَلَّفَهم بها [319] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 123). .
4- أصولُ الإحساسِ ثلاثةٌ: السمعُ والبصرُ والمَسُّ؛ قال تعالَى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ [320] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (4/343). .
5- قَولُ الله تعالَى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ هذا نَصٌّ صَريحٌ في أنَّ مَن ظَنَّ باللهِ تعالى أنَّه يَخرُجُ شَيءٌ مِن المعلوماتِ عن عِلمِه، فإنَّه يكونُ مِن الهالِكينَ الخاسِرينَ [321] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/557). .
6- أنَّ اللهَ سُبحانَه جَعَلَ مُنكِرَ صِفاتِه مُسِيءَ الظَّنِّ به، وتَوَعَّدَه بما لم يَتَوَعَّدْ به غيرَه مِن أهلِ الشِّركِ والكُفرِ والكَبائرِ، فقال تعالى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فأخبَرَ سُبحانَه أنَّ إنكارَهم هذه الصِّفةَ مِن صِفاتِه هو مِن سُوءِ ظَنِّهم به، وأنَّه هو الذي أهلَكَهم [322] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/324). ، فأعظمُ الذُّنوبِ عندَ اللَّهِ إِساءَةُ الظَّنِّ بِه؛ فإنَّ المُسِيءَ به الظَّنَّ قدْ ظَنَّ به خِلافَ كمالِه المُقَدَّسِ، وظَنَّ به ما يُناقِضُ أسماءَه وصِفاتِه [323] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 138). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
- التَّعبيرُ عنهم بـ أَعْدَاءُ اللَّهِ تَعالَى؛ لِذَمِّهم، والإيذانِ بعِلَّةِ ما يَحِيقُ بهم مِن ألوانِ العَذابِ [324] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/9). .
- قولُه: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ وَيَوْمَ مَفعولٌ لفِعلِ (واذْكُرْ) مَحذوفًا، وقيل: جُملةُ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ... الآياتِ، مَعطوفةٌ على جُملةِ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً ... [فصلت: 13] الآياتِ، والتَّقديرُ: وأنذِرْهم يَومَ نَحشُرُ أعداءَ اللهِ إلى النارِ، ودَلَّ على هذا المُقَدَّرِ قَولُه: أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً ... [فصلت: 13] إلخ، أيْ: وأنذِرْهم يَومَ عِقابِ الآخِرةِ [325] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/264، 265). .
- ويَتعَلَّقُ قَولُه: إِلَى النَّارِ بـ يُحْشَرُ؛ لِتَضمينِ يُحْشَرُ مَعنى: يُرسَلُ، أيْ: يُرسَلُون إلى النَّارِ [326] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/265). .
- قولُه: إِلَى النَّارِ، أيْ: إلى مَوقِفِ الحِسابِ -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ إذْ هناك تَتَحَقَّقُ الشَّهادةُ الآتيةُ، لا بِعَدَمِ تَمامِ السُّؤالِ والجَوابِ وسَوْقِهم إلى النَّارِ، والتَّعبيرُ عن مَوقفِ الحِسابِ بالنَّارِ؛ إمَّا للإيذانِ بأنَّها عاقِبةُ حَشرِهم، وأنَّهم على شَرَفِ دُخولِها، وإمَّا لِأنَّ حِسابَهُم يَكونُ على شَفيرِها [327] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/9). .
- والفاءُ في قَولِه: فَهُمْ يُوزَعُونَ عَطفٌ وتَفريعٌ على يُحْشَرُ؛ لأنَّ الحَشرَ يَقتَضي الوَزعَ؛ إذْ هو مِن لَوازِمِه عُرفًا؛ إذ الحَشرُ يَستلزِمُ كَثرةَ عدَدِ المَحشورِين، وكَثرةُ العَدَدِ تَستَلزِمُ الاختِلاطَ، وتَداخُلَ بَعضِهم في بَعضٍ؛ فلا غِنى لهم عنِ الوَزعِ؛ لِتَصفيفِهم، ورَدِّ بَعضِهم عن بَعضٍ. والوَزعُ: كَفُّ بَعضِهم عن بَعضٍ، ومَنعُهم مِنَ الفَوضى، وهو كِنايةٌ وعِبارةٌ عن كَثرةِ المَحشورينَ [328] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/195)، ((تفسير البيضاوي)) (5/69)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/593)، ((تفسير أبي السعود)) (8/9)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/265). .
- قولُه: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ قالَه هنا بذِكرِ (ما)، وبحَذفِها في قَولِه في (النَّملِ): حَتَّى إِذَا جَاءُوا [النمل: 84] ، وفي (الزُّمَرِ): حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا [الزمر: 71] ، وفي (الزُّخرُفِ): حَتَّى إِذَا جَاءَنَا [الزخرف: 38] ؛ لِأنَّ الكَلامَ هنا في أعداءِ اللهِ أبسَطُ وآكَدُ منه في البَقيَّةِ، فناسَبَ ذلك ذِكرَ (مَا)؛ لِلتَّأكيدِ على اتِّصالِ الشَّهادةِ بالحُضورِ، ومَعنى التَّأكيدِ فيها: أنَّ وَقتَ مَجيئِهم النارَ لا مَحالةَ أنْ يَكونَ وَقتَ الشَّهادةِ عليهم، ولا وَجهَ لِأنْ يَخلُوَ منها [329] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/195)، ((تفسير البيضاوي)) (5/69)، ((تفسير أبي حيان)) (9/298)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص 505، 506)، ((تفسير أبي السعود)) (8/10)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/266)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/546، 547). .
- وجُملةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ ... جوابُ (إذا)؛ قيل: في الكلامِ حذْفٌ، والتَّقديرُ: حتَّى إذا ما جاؤُوها -أي: النارَ- وسُئِلوا عَمَّا أجْرَموا فأنكَروا، شَهِد عليهم سَمْعُهم وأبْصارُهم وجُلودُهم بما اكتَسَبوا مِنَ الجَرائِمِ، وكانوا حَسِبوا أنْ لا شاهِدَ عليهم. وقيل: أحسَنُ مِن ذلك أنْ يكونَ جوابُ (إذا) مَحذوفًا؛ للتَّهويلِ، وحذْفُ مِثلِه كثيرٌ في القرآنِ، وتكونَ جُملةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ إلى آخِرِها مُستَأنَفةً استِئنافًا بَيانيًّا نَشَأ عن مُفادِ (حَتَّى) مِنَ الغايةِ؛ لأنَّ السائِلَ يَتطَلَّبُ: ماذا حَصَلَ بيْن حَشرِهم إلى النَّارِ، وبيْن حُضورِهم عِندَ النارِ؟ فأُجيبَ بأنَّه شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، إلى قَولِه: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21] ، ويَتضَمَّنُ ذلك أنَّهم حُوسِبوا على أعمالِهم وأنكَروها، فشَهِدتْ عليهم جَوارِحُهم وأجسادُهم. أو أنْ يكونَ جوابُ (إذا) قولَه: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ... [فصلت: 24] ، وجُملةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وما عُطِفَ عليها مُعترضةً بيْن الشَّرْطِ وجَوابِه [330] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/298)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/266). .
- وتَخصيصُ السَّمعِ والأبصارِ والجُلودِ بالشَّهادةِ على هؤلاء دُونَ بَقيَّةِ الجَوارِحِ؛ لِأنَّ لِلسَّمعِ اختِصاصًا بتَلَقِّي دَعوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَلَقِّي آياتِ القُرآنِ؛ فسَمْعُهم يَشهَدُ عليهم بأنَّهم كانوا يَصرِفونَه عن سَماعِ ذلك، كما حكَى اللهُ عنهم بقولِه: وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ [فصلت: 5] ، ولِأنَّ لِلأبصارِ اختِصاصًا بمُشاهَدةِ دَلائِلِ المَصنوعاتِ الدَّالَّةِ على انفِرادِ اللهِ تعالَى بالخَلقِ والتَّدبيرِ، فذلك دَليلُ وَحدانيَّتِه في إلهيَّتِه، وشَهادةُ الجُلودِ؛ لِأنَّ الجِلدَ يَحوي جَميعَ الجَسَدِ؛ لِتَكونَ شَهادةُ الجُلودِ عليهم شَهادةً على أنْفُسِها، فيَظهَرَ استِحقاقُها لِلحَرقِ بالنَّارِ لِبَقيَّةِ الأجسادِ دُونَ اقتِصارٍ على حَرقِ مَوضِعِ السَّمعِ والبَصَرِ؛ ولذلك اقتَصَروا في تَوجيهِ المَلامةِ على جُلودِهم؛ لأنَّها حاويةٌ لِجَميعِ الحَواسِّ والجَوارِحِ، وبهذا يَظهَرُ وَجهُ الاقتِصارِ على شَهادةِ السَّمعِ والأبصارِ والجُلودِ هنا، بخِلافِ آيةِ سُورةِ (النُّورِ): يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور: 24] ؛ لِأنَّ آيةَ (النُّورِ) تَصِفُ الذين يَرمونَ المُحصَناتِ، وهمُ الذين اختَلَقوا تُهمةَ الإفْكِ، ومَشَوْا في المَجامِعِ يُشيعونَها بيْن الناسِ، ويُشيرونَ بأيديهم إلى مَنِ اتَّهَموه إفْكًا [331] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/267). .
وقيلَ: لَمَّا كانتِ الحَواسُّ خَمسًا: السَّمعَ، والبَصَرَ، والشَّمَّ، والذَّوقَ، واللَّمسَ، وكانَ الذَّوقُ مُندَرِجًا في اللَّمسِ؛ إذْ بمُماسَّةِ جِلدةِ اللِّسانِ والحَنَكِ لِلمَذوقِ يَحصُلُ إدراكُ المَذوقِ، وكانَ حِسُّ الشَّمِّ ليسَ فيه تَكليفٌ ولا أمْرٌ ولا نَهيٌ [332] لكن ذكَر ابنُ القيِّمِ أنَّ حاسةَ الشمِّ تتعلَّقُ بها العبودياتُ الخمسُ؛ فقد يكونُ الشمُّ واجبًا أو مستحبًّا أو حرامًا أو مكروهًا أو مباحًا. يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/139). ، وهو ضَعيفٌ؛ اقتُصِرَ مِنَ الحَواسِّ على السَّمعِ والبَصَرِ واللَّمسِ؛ إذْ هذه هي التي جاءَ فيها التَّكليفُ؛ فهذه -واللهُ أعلَمُ- حِكمةُ الاقتِصارِ على هذه الثَّلاثةِ [333] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/556)، ((تفسير أبي حيان)) (9/298). . أو خَصَّ هذه الأعضاءَ الثَّلاثةَ؛ لأنَّ أكثَرَ الذُّنوبِ إنَّما تقَعُ بها، أو بسَببِها [334] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:747). وتقدَّم في الفوائدِ أنَّ هذه الثلاثةَ هي أصولُ الإحساسِ. .
- وأفرَدَ سَمْعُهُمْ؛ لِتَقارُبِ النَّاسِ فيه، وجمَعَ (أَبْصَارُهُمْ)؛ لِعِظَمِ التَّفاوتِ فيها [335] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/169). .
- وأيضًا في قَولِه: شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ كِنايةٌ عن مَوصوفٍ -على القولِ بأنَّ المرادَ بالجُلودِ الفُروجُ خاصَّةً-؛ فقد كَنَّى عنِ الفُروجِ بالجُلودِ. وجَعْلُ الكلامِ كِنايةً أنسَبُ بتَخصيصِ السُّؤالِ بها في قولِه تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا [فصلت: 21] ؛ فإنَّ ما تَشهَدُ به مِنَ الزِّنا أعظَمُ جِنايةً وقُبحًا وأجلَبُ لِلخِزْيِ والعُقوبةِ مِمَّا يَشهَدُ به السَّمعُ والأبصارُ مِنَ الجِناياتِ المُكتَسَبةِ بتَوسُّطِهما، وعلى القولِ بأنَّه أرادَ بالجُلودِ الجَوارِحَ عامَّةً، والعَطفُ مِن عَطفِ العامِّ على الخاصِّ؛ فليس في الكَلامِ كِنايةٌ إذَنْ [336] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/195)، ((تفسير أبي حيان)) (9/298)، ((تفسير أبي السعود)) (8/9، 10)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/549). .
- والاستِفهامُ في قولِه: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا مُستَعمَلٌ في المَلامةِ والتَّوبيخِ والتَّعَجُّبِ مِن هذا الأمْرِ، وهم يَحسَبونَ أنَّ جُلودَهم -لِكَونِها جُزءًا منهم- لا يَحِقُّ لها شَهادَتُها عليهم؛ لِأنَّها تَجُرُّ العَذابَ إليها [337] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/195)، ((تفسير البيضاوي)) (5/69)، ((تفسير أبي حيان)) (9/299)، ((تفسير أبي السعود)) (8/10)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/267، 268)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/547). . وإنَّما قالوا ذلك لِجُلودِهم دُونَ أنْ يَقولوهُ لِسَمْعِهم وأبصارِهم؛ لِأنَّ الجُلودَ مُواجِهةٌ لهم يَتَوَجَّهونَ إليها بالمَلامةِ [338] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/267). ، أو: لأنَّ عَذابَ الجِلدِ عامٌّ يَشملُ الجَسَدَ كلَّه، لكِنَّ عَذابَ السَّمْعِ والبَصَرِ خاصٌّ بالسَّمْعِ والبَصَرِ، كما قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [339] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 231). [النساء: 56] .
وقيل: لا قصْدَ هنا للسُّؤالِ أصْلًا، وإنَّما القصْدُ إلى التَّعجُّبِ ابتداءً؛ لأنَّ التَّعجُّبَ يكونُ فيما لا يُعلَمُ سَببُه وعِلَّتُه؛ فالسُّؤالُ عن العِلَّةِ المُستلزِم لعدَمِ مَعرفتِها جُعِلَ كِنايةً عن التَّعجُّبِ، فقدْ قيل: إذا ظهَرَ السَّببُ بطَلَ العجَبُ، فكأنَّه قِيل: ليْس نُطقُنا بعَجَبٍ مِن قُدرةِ اللهِ تعالَى الذي أنْطَقَ كلَّ شَيءٍ [340] يُنظَر: ((تفسير الألوسي)) (12/368) .
- وإجراءُ ضَمائِرِ السَّمعِ والبَصَرِ والجُلودِ بصِيغَتَيْ ضَميرِ جَمعِ العُقَلاءِ؛ لِأنَّ التَّحاوُرَ معها صَيَّرَها بحالةِ العُقَلاءِ يَومَئِذٍ، ولِوُقوعِها في مَوقِعِ السُّؤالِ والجَوابِ المُختَصَّيْنِ بالعُقَلاءِ [341] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/69)، ((تفسير أبي حيان)) (9/299)، ((تفسير أبي السعود)) (8/10)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/267)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/547). .
- قَولُه: الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ قيل: المَعنى: الذي أنطَقَ كُلَّ شَيءٍ له نُطقٌ مِنَ الحَيَوانِ، واختِلافُ دَلالةِ أصواتِها على وِجدانِها؛ فعُمومُ كُلَّ شَيْءٍ مَخصوصٌ بالعُرفِ [342] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/268). .
- قولُه: وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يَجوزُ أنْ تَكونَ هذه الجُملةُ والتي عُطِفتْ عليها مِن تَمامِ ما أنطَقَ اللهُ به جُلودَهم؛ تَشهيرًا بخَطَئِهم في إنكارِهمُ البَعثَ والمَصيرَ إلى اللهِ؛ لِزِيادةِ التَّنديمِ والتَّحسيرِ، وهذا ظاهِرُ كَونِ الواوِ في أوَّلِ الجُملةِ واوَ العَطفِ؛ فَيَكونَ التَّعبيرُ بالفِعلِ المُضارِعِ في قَولِه: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لاستِحضارِ حالَتِهم؛ فإنَّهم ساعَتَئِذٍ في قَبضةِ تَصَرُّفِ اللهِ مُباشَرةً، وأمَّا رُجوعُهم بمَعنى البَعثِ فإنَّه قدْ مَضى بالنِّسبةِ لِوَقتِ إحضارِهم عِندَ جَهَنَّمَ، أو يَكونُ المُرادُ بالرُّجوعِ الرُّجوعَ إلى ما يَنتَظِرُهم مِنَ العَذابِ الخالِدِ المُتَرتِّبِ عِندَ التَّخاطُبِ، على تَغليبِ المُتَوقَّعِ على الواقِعِ، على أنَّ فيه مراعاةَ الفواصلِ. ويَجوزُ أنْ تَكونَ هذه الجُملةُ وما بَعدَها اعتِراضًا بيْن جُملةِ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ وجُملةِ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [فصلت: 24] ، وهو كَلامٌ مُوَجَّهٌ مِن جانِبِ اللهِ تعالَى إلى المُشرِكينَ الأحياءِ؛ لِتَذكيرِهم بالبَعثِ عَقِبَ ذِكرِ حالِهم في القِيامةِ؛ انتِهازًا لِفُرصةِ المَوعِظةِ السَّابِقةِ عِندَ تَأثُّرِهم بسَماعِها، وَيَكونَ فِعلُ تُرْجَعُونَ مُستَعمَلًا في الاستِقبالِ على أصْلِه. والكَلامُ استِدلالٌ على إمكانِ البَعثِ [343] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/10)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/268). .
- قولُه: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ التَّعبيرُ بصِيغةِ المضارِعِ إذا كان الخِطابُ يومَ القِيامةِ -مع أنَّ الرَّجْعَ فيه مُتحقِّقٌ لا مُستقبَلٌ-؛ لِمَا أنَّ المرادَ بالرجْعِ ليس مجرَّدَ الرَّدِّ إلى الحَياةِ بالبعثِ، بلْ ما يعمُّه وما يَترتَّبُ عليه مِن العذابِ الخالِدِ المرتقَبِ عِندَ التَّخاطُبِ على تَغليبِ المتوقَّعِ على الواقِعِ. وجُوِّزَ أنْ تكونَ لاستحضارِ الصُّورةِ [344] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (12/368). .
- وتَقديمُ مُتعلَّقِ تُرْجَعُونَ عليه؛ لِلاهتِمامِ ورِعايةِ الفاصِلةِ [345] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/269). .
2- قولُه تعالَى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ
- قولُه: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ حِكايةٌ لِمَا سَيُقالُ لَهم يَومَئِذٍ مِن جِهَتِه تعالَى بطَريقِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ؛ تَقريرًا لِجَوابِ الجُلودِ -على قولٍ-، أيْ: ما كُنتُم تَستَتِرونَ في الدُّنيا عِندَ مُباشَرَتِكم الفَواحِشَ؛ مَخافةَ أنْ تَشهَدَ عليكم جَوارِحُكم بذلك كما كُنتُم تَستَتِرون مِنَ النَّاسِ؛ مَخافةَ الافتِضاحِ عِندَهم، بلْ كُنتُم جاحِدينَ البَعثَ والجَزاءَ رَأْسًا [346] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/299)، ((تفسير أبي السعود)) (8/10). .
ويَجوزُ أنْ تَكونَ جُملةُ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ... بتَمامِها مَعطوفةً على جُملةِ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... [فصلت: 21] إلخ؛ فتَكونَ مَشمولةً لِلاعتِراضِ، مُتَّصِلةً بالتي قَبلَها. ويَجوزُ أنْ تَكونَ مُستَقِلَّةً عنها: إمَّا مَعطوفةً على جُملةِ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت: 19] الآياتِ، وإمَّا مُعتَرِضةً بيْن تلك الجُملةِ وجُملةِ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [فصلت: 24] ، وتَكونَ الواوُ اعتِراضيَّةً، ومُناسَبةُ الاعتِراضِ ما جَرَى مِن ذِكرِ شَهادةِ سَمعِهم وأبصارِهم وجُلودِهم عليهم؛ فيَكونَ الخِطابُ لِجَميعِ المُشرِكينَ الأحياءِ في الدُّنيا، أو لِلمُشرِكينَ في يَومِ القِيامةِ [347] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/269). ؟!
- وأيضًا قولُه: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ، أيْ: تَستَتِرونَ بأعمالِكم عن سَمعِكم وأبصارِكم وجُلودِكم -على قولٍ في التفسيرِ-، وذلك تَوبيخٌ؛ كِنايةً عن أنَّهم ما كانوا يَرَوْنَ ما هم عليه قَبيحًا حتى يَستَتِروا منه [348] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/271). .
- قولُه: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ الإشارةُ إلى الظَّنِّ المَأخوذِ مِن جُملةِ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ، ويُستَفادُ مِنَ الإشارةِ إليه تَمييزُه أكمَلَ تَمييزٍ، وتَشهيرُ شَناعَتِه؛ لِلنِّداءِ على ضَلالِهم [349] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/271). . وما في الإشارةِ مِن مَعنى البُعدِ؛ لِلإيذانِ بغايةِ بُعدِ مَنزِلَتِه في الشَّرِّ والسُّوءِ [350] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/11). .
- وأتْبَعَ اسمَ الإشارةِ بالبَدَلِ بقَولِه: ظَنُّكُمُ؛ لِزيادةِ بَيانِه؛ لِيَتَمَكَّنَ ما يَعقُبُه مِنَ الخَبَرِ، والخبَرُ هو فِعلُ أَرْدَاكُمْ وما تَفَرَّعَ عليه فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [351] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/272). .
- والإتيانُ بالمَوصولِ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ؛ لِمَا في الصِّلةِ مِنَ الإيماءِ إلى وَجهِ بِناءِ الخَبَرِ، وهو أَرْدَاكُمْ وما تَفَرَّعَ عليه، أي: الذي ظَنَنتُم برَبِّكم ظَنًّا باطِلًا [352] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/272). .
- والعُدولُ عنِ اسمِ (اللهِ) العَلَمِ إلى بِرَبِّكُمْ؛ لِلتَّنبيهِ على ضَلالِ ظنِّهم؛ إذْ ظنُّوا خَفاءَ بَعضِ أعمالِهم عن عِلْمِه، مع أنَّه رَبُّهم وخالِقُهم؛ فكيف يَخلُقُهم وتَخفَى عنه أعمالُهم؟! وهو يُشيرُ إلى قَولِه: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] ؛ ففي وَصفِ بِرَبِّكُمْ إيماءٌ إلى هذا المَعنى [353] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/272). .
- وفي الإتيانِ بالمُسنَدِ أَرْدَاكُمْ فِعلًا، إفادةُ قَصرٍ، أيْ: ما أرْداكم إلَّا ظنُّكم ذلك، وهو قَصرٌ إضافيٌّ، أيْ: لم تُرْدِكُم شَهادةُ جَوارِحِكم حتى تَلوموها، بلْ أرْداكم ظنُّكم أنَّ اللهَ لا يَعلَمُ أعمالَكم، فلم تَحذَروا عِقابَه [354] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/272). .
- ونُعِيَ عليهم سُوءُ استِدلالِهم، وفَسادُ قِياسِهم في الأُمورِ الإلهيَّةِ، وقياسِهمُ الغائِبَ على الشَّاهِدِ؛ تلك الأُصولُ الَّتي استَدرَجَتْهم في الضَّلالةِ، فأحالوا رِسالةَ البَشَرِ عنِ اللهِ، ونَفَوُا البَعثَ، ثمَّ أثبَتوا شُركاءَ للهِ في الإلهيَّةِ، وتَفَرَّعَ لهمْ مِن ذلك كُلِّه قَطعُ نَظَرِهم عمَّا وَراءَ الحياةِ الدُّنيا، وأمْنُهم مِنَ التَّبِعاتِ في الحياةِ الدُّنيا؛ فذلك جِماعُ قَولِه تَعالى: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [355] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/272). .
3- قولُه تعالَى: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ
- قولُه: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ تَفريعٌ على جَوابِ إِذَا [فصلت: 20] ، أو تَفريعٌ على جُملةِ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا [فصلت: 21] ، أو هو جَوابُ إِذَا [فصلت: 20] ، وما بيْنهما اعتِراضٌ، على حَسَبِ ما يُناسِبُ وُجوهَ التَّفسيرِ، والمَعنى على جَميعِ الوُجوهِ: أنَّ حاصِلَ أمْرِهم أنَّهم قد زُجَّ بهم في النارِ، فإنْ صَبَروا واستَسلَموا فهمْ باقونَ في النَّارِ، وإنِ اعتَذَروا لم يَنفَعْهمُ العُذرُ، ولم يُقبَلْ منهم تَنَصُّلٌ، وقَولُه: فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ دَليلُ جَوابِ الشَّرطِ؛ لِأنَّ كَونَ النارِ مَثوًى لهم ليسَ مُسَبَّبًا على حُصولِ صَبرِهم، وإنَّما هو مِن بابِ قَولِهم: إنْ قُبِلَ ذلك فذاكَ، أيْ: فهو على ذلك الحالِ، فالتَّقديرُ: فإنْ يَصبِروا فلا يَسَعُهم إلَّا الصَّبرُ؛ لأنَّ النَّارَ مَثوًى لهم [356] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/273). .
- قولُه: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ... الآيةَ، فيه -على قولٍ في التَّفسيرِ- إضمارٌ، تَقديرُه: فإنْ يَصبِروا أو لا يَصبِروا، فالنارُ مَثوًى لهم. أو قَيَّدَ ذلك؛ لأنَّه جَوابٌ لِقَولِهم: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ [ص: 6] ؛ فلا مَفهومَ له [357] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص 506). .
- وأيضًا في قولِه: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ الْتِفاتٌ مِن التَّكلُّمِ إلى الغَيبةِ؛ لِلإيذانِ باقتِضاءِ حالِهم أنْ يُعرِضَ عنهم، ويَحكي سُوءَ حالِهم لِغَيرِهم، أو لِلإشعارِ بإبعادِهم عن حَيِّزِ الخِطابِ، وإلقائِهم في غايةِ دَرَكاتِ النَّارِ [358] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/11)، ((تفسير الألوسي)) (12/370). .