موسوعة التفسير

سورةُ المُلْكِ
الآيات (12-15)

ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات:

يَخْشَوْنَ: الخَشيةُ: خَوفٌ يَشوبُه تَعظيمٌ، وهي: أشدُّ مِن الخَوفِ وأَخَصُّ منه؛ فهي خَوفٌ مَقرونٌ بمعرفةٍ، وأكثرُ ما تكونُ الخَشيةُ عن عِلمٍ بالمَخوفِ منه، وأصلُ (خشِي): يدُلُّ على خَوفٍ وذُعْرٍ [200] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/184)، ((المفردات)) للراغب (ص: 283)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/508)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 82)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 428). .
بِذَاتِ الصُّدُورِ: أي: بالضَّمائِرِ والنِّيَّاتِ والأسرارِ؛ خَيرِها وشَرِّها؛ لأنَّها في الصُّدورِ، تَحُلُّها وتُصاحِبُها، وذاتُ: صاحبةُ، مؤنَّثُ (ذو) بمعنى صاحبٍ، وقيل: حاجةِ الصُّدورِ، وقيل: بخَفِيَّاتِ القلوبِ، وقيل: بحقيقةِ ما في الصُّدورِ، وذاتُ الشَّيءِ: نفْسُه وحَقيقتُه [201] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/127)، ((البسيط)) للواحدي (6/100)، ((الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة)) لابن القيم (4/1383، 1384)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/212)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 148)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 455)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/25) و (23/342). قال ابنُ القَيِّم: (قَولُه تعالى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ليس المرادُ به عليمًا بمُجَرَّدِ الصُّدورِ؛ فإنَّ هذا ليس فيه كَبيرُ أمرٍ، وهو بمنزلةِ أن يُقالَ: عَليمٌ بالرُّؤوسِ والظُّهورِ والأيدي والأرجُلِ، وإنَّما المرادُ به: عليمٌ بما تُضمِرُه الصُّدورُ مِن خَيرٍ وشَرٍّ، أي: بالأسرارِ الَّتي في الصُّدورِ، وصاحِبةِ الصُّدورِ؛ فأضافها إليها بلَفظٍ يَعُمُّ جميعَ ما في الصُّدورِ مِن خَيرٍ وشَرٍّ). ((الصواعق المرسلة)) (4/1384). .
اللَّطِيفُ: أي: العالِمُ بدقائقِ الأمورِ، الَّذي أحاط عِلمُه بالسَّرائرِ والخفايا، الرَّفيقُ بالعبادِ، اللَّطيفُ بهم في مَعايِشِهم، وأرزاقِهم، وهدايتِهم، الموصلُ إليهم مَصالِحَهم بلُطفِه وإحسانِه مِن طُرقٍ خفيَّةٍ لا يَشعُرون بها، وأصل (لطف): يدُلُّ على رِفْقٍ، وعلى صِغَرٍ في الشَّيء [202] يُنظر: ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزجاج (ص: 44)، ((اشتقاق أسماء الله)) للزجاجي (ص: 138)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 62)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/250)، ((المفردات)) للراغب (ص: 740)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 34)، ((تفسير السعدي)) (ص: 947). .
الْخَبِيرُ: أي: الَّذي انتهَى عِلمُه إلى الإحاطةِ ببَواطِنِ الأشياءِ وخَفاياها، كما أحاطَ بظَواهِرِها، والخُبْرُ: العِلمُ بالشَّيءِ، أو: هو العِلمُ بكُنْهِ المَعلوماتِ على حقائقِها، وأصلُ (خبر) هنا: يدُلُّ على عِلمٍ [203] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/239)، ((الفروق اللغوية)) للعسكري (ص: 93)، ((الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة)) لابن القيم (2/492)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 438)، ((تفسير السعدي)) (ص: 252). .
ذَلُولًا: أي: سَهلةً لَيِّنةً لا يَمتَنِعُ المَشيُ عليها؛ مِنَ الذِّلِّ: وهو اللِّينُ والانقيادُ، وأصلُ (ذلل): يدُلُّ على الخُضوعِ واللِّينِ [204] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/127)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/345)، ((البسيط)) للواحدي (22/53)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 408)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 463). .
مَنَاكِبِهَا: أي: أطرافِها ونواحيها وطُرُقِها وفِجاجِها، وأصلُ (نكب): يدُلُّ على مَيلٍ في شَيءٍ [205] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 475)، ((تفسير ابن جرير)) (23/127)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 427)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/474). .
النُّشُورُ: أي: البَعثُ والمَرجِعُ، وأصلُ (نشر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وتشَعُّبِه [206] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 360)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/430)، ((تفسير القرطبي)) (18/215)، ((تفسير ابن كثير)) (8/179). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا حُسنَ عاقبةِ المؤمنينَ: إنَّ الَّذين يَخافونَ رَبَّهم، والحالُ أنَّهم لم يَرَوه، ويُطيعونَه، ويَترُكونَ مَعصيتَه حتَّى في خَلَواتِهم: لهم مَغفِرةٌ وثوابٌ عَظيمٌ.
ثمَّ يقولُ تعالى مُنَبِّهًا على أنَّه مُطَّلِعٌ على الضَّمائرِ والسَّرائرِ: وأخْفُوا كَلامَكم -أيُّها النَّاسُ- أو أظْهِروه؛ إنَّ اللهَ عليمٌ بما في قُلوبِ العِبادِ.
ثمَّ يَستَدِلُّ تعالى على عِلمِه بدليلٍ عقليٍّ، فيقولُ: مَن خلَق الخَلْقَ، كيفَ لا يَعلَمُه، وكيف يَخفى عليه سبحانَه، وهو العالِمُ بدقائِقِ الأشياءِ وخَباياها، فلا تخفى عليه خافِيةٌ؟!
ثُمَّ يذكرُ تعالى نِعمتَه على خَلقِه في تسخيرِه لهم الأرضَ، فيقولُ: هو الَّذي جَعَل لكم الأرضَ مُذَلَّلةً مُوطَّأةً؛ فامشُوا في جوانبِها ونواحيها، وكُلُوا مِن رِزقِ اللهِ، وإليه تعالى وَحْدَه المرجِعُ والبَعثُ بعْدَ المَوتِ.

تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ وَعيَد الكُفَّارِ؛ أتْبَعَه بوَعدِ المؤمِنينَ [207] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/588). ، ولَمَّا ذكَرَ حالةَ الأشقياءِ الفُجَّارِ؛ ذكَرَ حالةَ السُّعَداءِ الأبرارِ [208] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 876). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الشوكاني)) (5/312). .
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12).
أي: إنَّ الَّذين يخافُونَ اللهَ وهم لم يَرَوه في الدُّنيا، ولم يَرَوا عذابَه، فيُطيعونَه ويَترُكونَ مَعصيتَه حتَّى في خَلَواتِهم حيثُ لا يَراهم النَّاسُ: لهم مَغفِرةٌ مِنَ اللهِ لِذُنُوبِهم، وثوابٌ عَظيمٌ [209] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/126)، ((الوسيط)) للواحدي (4/328)، ((تفسير ابن عطية)) (5/340)، ((تفسير القرطبي)) (18/213)، ((تفسير البيضاوي)) (5/230)، ((تفسير ابن كثير)) (8/179)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/240 - 242)، ((تفسير الشوكاني)) (5/312)، ((تفسير السعدي)) (ص: 876). قيل: معنى قولِه: يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي: في خَلَواتهم إذا غابوا عن النَّاسِ، حيث لا يَطَّلِعُ عليهم ولا يَراهم إلَّا اللهُ. وممَّن اختاره في الجملةِ: ابنُ كثير، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/179)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 755)، ((تفسير العليمي)) (7/112)، ((تفسير السعدي)) (ص: 876). وقيل: المعنى: يَخافون ربَّهم وهم لم يَرَوْه. وممَّن اختاره: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، ومكِّي، والخازنُ، ونسَبه ابنُ الجوزيِّ للجمهورِ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/391)، ((تفسير ابن جرير)) (23/126)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7596)، ((تفسير الخازن)) (4/320)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/193). قال الشوكاني: (بِالْغَيْبِ حالٌ مِن الفاعلِ أو المفعولِ، أي: غائبينَ عنه، أو غائبًا عنهم، والمعنى: أنَّهم يَخْشَون عذابَه ولم يَرَوه، فيُؤمِنونَ به خَوفًا مِن عذابِه. ويجوزُ أن يكونَ المعنى: يَخشون ربَّهم حالَ كَونِهم غائبينَ عن أعيُنِ النَّاسِ، وذلك في خَلَواتِهم. أو المرادُ بالغَيبِ كَوْنُ العذابِ غائبًا عنهم؛ لأنَّهم في الدُّنيا). ((تفسير الشوكاني)) (5/312). وقال البِقاعي جامعًا بيْن معاني هذه الآيةِ: (بِالْغَيْبِ أي: حالَ كَونِهم غائبينَ عنه سُبحانَه، ووعيده غائبًا عنهم، وهم غائبونَ عن أعيُنِ النَّاسِ، وقد ملأ الخَوفُ ما غاب منهم عن النَّاسِ وهي قُلوبُهم، فهم مع النَّاسِ يَتكلَّمونَ، وقُلوبُهم تَتلَظَّى بنِيرانِ الخَوفِ، وتُكلَمُ بسيوفِ الهَيبةِ، فيَترُكونَ المعصيةَ حيث لا يَراهم أحدٌ مِن النَّاسِ). ((نظم الدرر)) (20/240). .
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت الخَشيةُ مِن الأفعالِ الباطنةِ، وكان كلُّ أحدٍ يَدَّعي أنَّه يَخشى اللهَ؛ قال مخوِّفًا لهم بعِلمِه، نادبًا إلى مُراقَبتِه لئلَّا يَغتَرُّوا بحِلمِه، عاطفًا على ما تقديرُه لإيجابِ المراقبةِ: فأبطَنوا أفعالَهم وأظْهَروها [210] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/242). :
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ.
أي: وأخفُوا كَلامَكم -أيُّها النَّاسُ- أو أظْهِروه؛ فكِلا الأمْرَينِ سَواءٌ عِندَ اللهِ، فلا يَخفى عليه شَيءٌ ممَّا تُسِرُّونَه أو تَجهَرونَ به مِن أقوالٍ [211] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/127)، ((تفسير ابن عطية)) (5/340)، ((تفسير السعدي)) (ص: 876). وقيل: هذه الآيةُ خِطابٌ للكفَّارِ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/589)، ((تفسير الشوكاني)) (5/312). والمعنَى: إنْ أخفَيْتُم كلامَكم أو جهَرْتُم به في أمرِ رسولِ اللهِ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم، فكلُّ ذلك يَعلَمُه اللهُ، لا تَخفَى عليه منه خافِيةٌ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/312). .
كما قال تعالى: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ [الرعد: 10] .
وقال سُبحانَه: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7] .
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
أي: إنَّ اللهَ ذو عِلمٍ بالِغٍ تامٍّ بما في قُلوبِ العِبادِ مِن العقائِدِ والنِّيَّاتِ والأسرارِ والخواطِرِ الَّتي لم يُتكلَّمْ بها، فما تكَلَّم به الإنسانُ سِرًّا أو نطَقَ به جهرًا أَولى وأحرى أن يَعلَمَه اللهُ سُبحانَه [212] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/127)، ((تفسير ابن عطية)) (5/340)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 55، 56)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/243)، ((تفسير السعدي)) (ص: 876). قال ابن القيِّم: (ذاتُ الصُّدورِ كلمةٌ جامعةٌ لِما يَشتمِلُ عليه الصَّدرُ مِن الاعتقاداتِ والإراداتِ، والحُبِّ والبُغضِ، أي: صاحبةُ الصُّدورِ؛ فإنَّها لَمَّا كانت فيها قائمةً بها نُسِبَتْ إليها نِسبةَ الصُّحبةِ والمُلازَمةِ). ((شفاء العليل)) (ص: 55). وقال ابنُ تيميَّةَ: (قَولُه بعْدَ ذلك: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ مِن بابِ التَّنبيهِ بالأدنى على الأعلى؛ فإنَّه إذا كان عليمًا بذاتِ الصُّدورِ، فعِلْمُه بالقَولِ المُسَرِّ والمَجهورِ به أَولى). ((مجموع الفتاوى)) (15/36). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] .
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذَكَر كَونَه عالِمًا بالجَهرِ وبالسِّرِّ، وبما في الصُّدورِ؛ ذكَرَ الدَّليلَ على كَونِه عالِمًا بهذه الأشياءِ [213] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/589). .
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14).
أي: وكيف يَخفى عليه سبحانَه ما في الصُّدورِ مِنْ أسرارٍ هو خلَقها، وهو العالِمُ بدقائِقِ الأشياءِ، فيُدَبِّرُها ويَسوقُها لعبادِه برِفقٍ وخَفاءٍ مِن حيثُ لا يَشعُرونَ؛ فهو سُبحانَه عالِمٌ بما بَثَّه في القُلوبِ، وهو العالِمُ ببواطِنِ الأشياءِ وخباياها، فلا تخفَى عليه خافيةٌ [214] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/127)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1118)، ((تفسير السمعاني)) (6/11)، ((تفسير الرازي)) (30/590)، ((تفسير القرطبي)) (18/214)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (10/117)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (2/211) و(16/354)، ((تفسير أبي حيان)) (10/225)، ((تفسير الشوكاني)) (5/312)، ((تفسير السعدي)) (ص: 876)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/31). قال ابن جُزَي: (يحتمِلُ أن يكونَ مَنْ خَلَقَ فاعلًا يُرادُ به الخالقُ، والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: ألَا يعلمُ الخالقُ خَلْقَه؟! أو يكونَ مَنْ خَلَقَ مفعولًا، والفاعلُ مُضمَرٌ تقديرُه: ألَا يَعلَمُ اللهُ مَن خَلَق؟!). ((تفسير ابن جزي)) (2/396). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ -أنَّ قولَه: مَنْ خَلَقَ فاعِلٌ يُرادُ به الخالِقُ-: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والسمعاني، والبغوي، والرازي، والرَّسْعَني، والقرطبي، وابن جُزَي، وابن كثير، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/391)، ((تفسير السمرقندي)) (3/ 476)، ((تفسير السمعاني)) (6/11)، ((تفسير البغوي)) (5/126)، ((تفسير الرازي)) (30/590)، ((تفسير الرسعني)) (8/205)، ((تفسير القرطبي)) (18/214)، ((تفسير ابن جزي)) (2/396)، ((تفسير ابن كثير)) (8/179)، ((تفسير الشوكاني)) (5/312). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 876). قال ابن جُزَي: (لأنَّ مَنْ خَلَقَ إذا كان مفعولًا اختصَّ بمَن يعقِلُ، والمعنى الأوَّلُ يَعُمُّ مَن يَعقِلُ ومَن لا يعقِلُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/396). وقال الرَّسْعَني: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ أي: ألَا يَعلَمُ ما في الصُّدورِ مَنْ خَلَقَها، ومَنْ خَلَقَ في محلِّ الرَّفعِ بإسنادِ الفِعلِ إليه). ((تفسير الرسعني)) (8/205). وقال الشَّوْكاني: (المعنى: ألَا يَعلَمُ السِّرَّ ومُضْمَراتِ القُلوبِ مَن خلَقَ ذلك وأوجَده، فالمَوصولُ عِبارةٌ عن الخالقِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/312). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ -أنَّ قوله: مَنْ مفعولٌ-: ابنُ جرير، واستظهره أبو حيَّان، واستَحسَنه البِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/127)، ((تفسير أبي حيان)) (10/225)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/243). قال ابن القيِّم: (وقد اختُلِف في إعرابِ مَنْ خَلَقَ هل هو النَّصبُ أو الرَّفعُ؟ فإن كان مرفوعًا فهو استِدلالٌ على عِلمِه بذلك لِخَلْقِه له، والتَّقديرُ: أنَّه يَعلَمُ ما تَضَمَّنَتْه الصُّدورُ، وكيف لا يَعلَمُ الخالقُ ما خلَقَه؟! وهذا الاستِدلالُ في غايةِ الظُّهورِ والصِّحَّةِ؛ فإنَّ الخَلقَ يَستلزِمُ حياةَ الخالقِ وقُدرتَه، وعِلمَه ومَشيئتَه. وإن كان منصوبًا فالمعنى: ألَا يَعلَمُ مَخلوقَه؟! وذكَر لَفظةَ «مَنْ» تغليبًا؛ لِيَتناوَلَ العِلمُ العاقلَ وصِفاتِه). ((شفاء العليل)) (ص: 56). ؟!
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لمَّا ضرَبَ الله سبحانَه لهم بخلْقِ أنفُسِهم دَليلًا على عِلمِه الدَّالِّ على وَحدانيَّتِه؛ شَفَعَه بدَليلِ خلْقِ الأرضِ الَّتي همْ عليها، مع المِنَّةِ بأنَّه خَلَقَها هيِّنةً لهم، صالحةً للسَّيرِ فيها، مُخرِجةً لأرزاقِهم [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/31). ، فقال:
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا.
أي: هو الَّذي جَعَل لكم الأرضَ مُذَلَّلةً مُوطَّأةً بحيثُ تَتمكَّنونَ مِن الانتفاعِ بها، بالوطْءِ عليها، والمشْيِ فَوقَها إلى غيرِ ذلك، ولم يَجعَلْها مُستصعَبةً ومُمتَنِعةً على مَن أراد ذلك منها [216] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/127)، ((تفسير القرطبي)) (18/214، 215)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 17)، ((تفسير ابن كثير)) (8/179)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/244، 245)، ((تفسير السعدي)) (ص: 877). !
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا.
أي: فامشُوا في جوانبِها ونواحيها، وسافِروا حيثُ شئتُم مِن أقطارِها لطلبِ الرِّزقِ والمَكاسِبِ [217] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/129)، ((تفسير ابن كثير)) (8/179)، ((تفسير السعدي)) (ص: 877). قال القرطبي: (هو أمرُ إباحةٍ، وفيه إظهارُ الامتِنانِ). ((تفسير القرطبي)) (18/215). واختلف المفسِّرون في معنى مَنَاكِبِهَا؛ على أقوالٍ: فقيل: المرادُ: طُرُقاتُها وفِجاجُها. وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مُجاهِدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/129)، ((تفسير الثعلبي)) (9/359). قال ابن عطيَّة: (قال مجاهِدٌ: هي الطُّرُقُ والفِجاجُ. وهذا قَولٌ جارٍ مع اللُّغةِ؛ لأنَّها تُنكَبُ يَمنةً ويَسرةً، ويَنكُبُ الماشي فيها في مَناكِبَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/341). ويُنظر: ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 408). وقال ابنُ القيِّم: (حسُنَ التَّعبيرُ بمَناكِبِها عن طُرُقِها وفِجاجِها؛ لِما تقَدَّم مِن وَصفِها بكَونِها ذَلولًا؛ فالماشي عليها يطَأُ على مَناكِبِها، وهو أعلى شَيءٍ فيها؛ ولهذا فُسِّرَت المَناكِبُ بالجبالِ، كمَناكِبِ الإنسانِ، وهي أعاليه. قالوا: وذلك تنبيهٌ على أنَّ المَشيَ في سُهولِها أيسَرُ. وقالت طائفةٌ: بل المناكِبُ الجوانِبُ والنَّواحي، ومنه مَناكِبُ الإنسانِ لِجَوانبِه. والَّذي يَظهَرُ أنَّ المُرادَ بالمناكِبِ الأعالي، وهذا الوَجهُ الَّذي يَمشي عليه الحيوانُ هو العالي مِن الأرضِ دونَ الوَجهِ المقابِلِ له؛ فإنَّ سَطحَ الكُرةِ أعلاها، والمَشيُ إنَّما يقعُ في سَطحِها، وحَسُنَ التَّعبيرُ عنه بالمَناكِبِ؛ لِما تقدَّمَ مِن وَصفِها بأنَّها ذَلولٌ). ((الفوائد)) (ص: 18). وقيل: المرادُ: جِبالُها. ومِمَّن ذهب إلى هذا: الزَّجَّاجُ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/199). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/127)، ((تفسير الثعلبي)) (9/359)، ((تفسير ابن كثير)) (8/180). وقيل: المرادُ: جوانِبُها ونواحيها. ومِمَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والفرَّاءُ، وأبو عُبَيدةَ، وابنُ قُتَيبةَ، وابن جرير، والسمعاني، والخازن، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/391)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/171)، ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/262)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 475)، ((تفسير ابن جرير)) (23/129)، ((تفسير السمعاني)) (6/11)، ((تفسير الخازن)) (4/320)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 755). ونسَبَ ابنُ كثيرٍ إلى ابنِ عبَّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وقَتادةَ، والسُّدِّيِّ أنَّ معنى مَنَاكِبِهَا: أطرافُها وفِجاجُها ونواحيها. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/180). وقال الزمخشري: (المشيُ في مَناكِبِها: مَثَلٌ لِفَرطِ التَّذليلِ ومُجاوَزَتِه الغايةَ؛ لأنَّ المَنكِبَينِ ومُلتقاهما مِن الغارِبِ أرَقُّ شَيءٍ مِن البعيرِ، وأنباه عن أن يَطأَه الرَّاكِبُ بقَدَمِه ويعتَمِدَ عليه، فإذا جعَلَها في الذِّلِّ بحيثُ يُمشى في مَناكِبِها لم يَترُكْ [شَيئًا منها إلَّا قد ذَلَّلَـه]). ((تفسير الزمخشري)) (4/580). وقيل المرادُ: أطرافُها ونواحيها وجبالُها. وممَّن اختاره: السمرقنديُّ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/476)، ((تفسير القرطبي)) (18/215). .
وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ.
أي: وكُلُوا مِن رِزقِ اللهِ الحَلالِ الَّذي أودَعَه فيها، وأقْدَرَكم على إخراجِه منها [218] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/391)، ((تفسير ابن جرير)) (23/129)، ((تفسير القرطبي)) (18/215)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 18)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/246). .
وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.
أي: وإلى اللهِ وَحْدَه لا إلى غَيرِه المرجِعُ بعْدَ مَوتِكم، فتُبعَثونَ مِن قُبورِكم يومَ القيامةِ للجَزاءِ على أعمالِكم [219] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/129)، ((الوسيط)) للواحدي (4/329)، ((تفسير القرطبي)) (18/215)، ((تفسير ابن كثير)) (8/179)، ((تفسير الشوكاني)) (5/313)، ((تفسير السعدي)) (ص: 877). قال القُرطبيُّ: (قيل: معناه: أنَّ الَّذي خلَقَ السَّماءَ لا تَفاوُتَ فيها، والأرضَ ذَلولًا: قادِرٌ على أن يَنشُرَكم). ((تفسير القرطبي)) (18/215). .

الفوائد التربوية:

1- خَشيةُ اللهِ تعالى في الغَيبِ والشَّهادةِ المعنيُّ بها أنَّ العَبدَ يَخشى اللهَ سِرًّا وإعلانًا، وظاهِرًا وباطِنًا؛ فإنَّ أكثَرَ النَّاسِ يرى أنَّه يخشى اللهَ في العَلانيةِ وفي الشَّهادةِ، ولكِنَّ الشَّأنَ في خشيتِه اللهَ في الغَيبِ إذا غاب عن أعيُنِ النَّاسِ، وقد مدَحَ اللهُ مَن يَخافُه بالغَيبِ؛ قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ، وقال تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 49] ، وقال تعالى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق: 33] ، وقال تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [220] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/162). [المائدة: 94] .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ خِطابٌ عامٌّ لجميعِ الخَلقِ في جميعِ الأعمالِ، والمرادُ أنَّ قَولَكم وعمَلَكم على أيِّ سَبيلٍ وُجِدَ، فالحالُ واحِدٌ في عِلْمِه تعالى بهذا؛ فاحذَروا من المعاصي سِرًّا كما تحتَرِزونَ عنها جَهرًا؛ فإنَّه لا يتفاوَتُ ذلك بالنِّسبةِ إلى عِلمِ اللهِ تعالى [221] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/589). .
3- في قَولِه تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ تحذيرٌ للإنسانِ أنْ يَعمَلَ بما يُسْخِطُ اللهَ تعالى؛ لا تَعمَلْ بما يُسْخِطُ اللهَ لا بالقَولِ ولا بالفِعلِ ولا بالاعتِقادِ؛ لأنَّ اللهَ عليمٌ به، احْذَرْ كما قال عزَّ وجلَّ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [222] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 235). [آل عمران: 28] .
4- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أنَّه يَنبغي للإنسانِ أنْ يأكُلَ مِن عَمَلِ يدِه، ويَتعفَّفَ عن السُّؤالِ، وأنْ يَكتَسِبَ ويَتَّجِرَ [223] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/397). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ الأمرُ للإباحةِ، ولكِنَّ التَّقديمَ لهذا الأمرِ بقَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فيه امتِنانٌ مِنَ اللهِ تعالى على خَلْقِه، مِمَّا يُشعِرُ أنَّ في هذا الأمرِ مع الإباحةِ توجيهًا وحَثًّا للأمَّةِ على السَّعيِ، والعَمَلِ والجِدِّ، والمَشيِ في مَناكِبِ الأرضِ مِن كُلِّ جانِبٍ؛ لِتَسخيرِها وتَذليلِها؛ ممَّا يَجعَلُ الأمَّةَ أحَقَّ بها مِن غيرِها، وعليه فقد وَضَع القُرآنُ الأمَّةَ الإسلاميَّةَ في أعزِّ مَواضِعِ الغِنى والاستِغناءِ والاستِثمارِ والإنتاجِ، فما نَقَص عليها مِن أمورِ دُنياها إلَّا بقَدْرِ ما قصَّرَت هي في القيامِ بهذا العَمَلِ، وأضاعت مِن حَقِّها في هذا الوُجودِ [224] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/238، 239). . فما حَصَلَ في الدُّولِ الغربيَّةِ الكافِرةِ المُلْحِدةِ مِن التَّقَدُّمِ في الصِّناعاتِ وغَيرِها؛ فإنَّ دِينَنا لا يَمنَعُ منه -لو أنَّنا التفَتْنا إليه- لكنْ مع الأسفِ ضَيَّعْنا هذا وهذا؛ ضَيَّعْنا دِينَنا، وضَيَّعْنا دُنْيانا، وإلَّا فإنَّ الدِّينَ الإسلاميَّ لا يُعارِضُ هذا التَّقدُّمَ، بل قال اللهُ تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [225] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/49). [الأنفال: 60] .
6- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أنَّ الإسلامَ يأمُرُ بكلِّ تَقدُّمٍ نافعٍ؛ فقد أُمِرْنا بالمشيِ في مناكِبِ الأرضِ -أي: جِهاتِها- ثُمَّ أُمِرْنا بالأكلِ مِن رِزْقِه، ومعنى ذلك أنْ نسعَى بطَلَبِ هذا الرِّزقِ؛ إذْ لا يُمكِنُ تحصيلُه إلَّا بأسبابِه، والنَّاسُ يَختَلِفونَ في سُلوكِ ما يُلائِمُهم مِن أسبابِ الرِّزقِ؛ فمِنهم مَن يُحَصِّلُه بالتِّجارةِ، ومِنهم مَن يُحَصِّلُه بالصِّناعةِ، ومِنهم مَن يُحَصِّلُه بالزِّراعةِ، ومِنهم مَن يُحَصِّلُه بالعَمَلِ، إلى غيرِ ذلك مِن أسبابِ الرِّزقِ [226] يُنظر: ((الضياء اللامع من الخطب الجوامع)) لابن عثيمين (1/87). .
7- في قَولِه تعالى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ حُجَّةٌ في السَّعيِ والحَركةِ في طَلَبِ الرِّزقِ، والتِماسِه بالمكاسِبِ في الأسفارِ والحَضَرِ [227] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/375). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ، يعني: يَنبغي أن يكونَ مُكْثُكم في الأرضِ، وأكْلُكم مِن رِزقِ اللهِ: مُكْثَ مَن يَعلَمُ أنَّ مَرجِعَه إلى اللهِ، وأكْلَ مَن يتيَقَّنُ أنَّ مَصيرَه إلى اللهِ، والمرادُ تحذيرُهم عن الكُفرِ والمعاصي في السِّرِّ والجَهرِ [228] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/591). .
وأيضًا فقولُه تعالى: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ فيه تنبيهٌ على أنَّا في هذا المسكَنِ غيرُ مُستَوطِنينَ ولا مُقيمينَ، بل دخَلْناه عابِري سَبيلٍ؛ فلا يَحسُنُ أنْ نَتَّخِذَه وطَنًا ومُستقَرًّا، وإنَّما دخَلْناه لِنَتزَوَّدَ منه إلى دارِ القَرارِ، فهو مَنزِلُ عُبورٍ، لا مُستقَرُّ حُبُورٍ، ومَعْبَرٌ ومَمَرٌّ، لا وطَنٌ ومُستَقَرٌّ.
فتضمَّنَتِ الآيةُ التَّحذيرَ مِن الرُّكونِ إلى الدُّنيا، واتِّخاذِها وطَنًا ومُستقَرًّا، بل نُسرِعُ فيها السَّيرَ إلى الجَنَّةِ ودارِ القرارِ. فلِلَّهِ ما في ضِمنِ هذه الآيةِ مِن معرفتِه وتوحيدِه، والتَّذكيرِ بنِعَمِه، والحثِّ على السَّيرِ إليه، والاستِعدادِ لِلِقائِه والقُدومِ عليه، والإعلامِ بأنَّه سُبحانَه يَطوي هذه الدَّارَ كأنْ لم تكُنْ، وأنَّه يُحْيي أهْلَها بعدَ ما أماتَهم وإليه النُّشورُ [229] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 18). !
وأيضًا فقولُه: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ فيه تحذيرٌ مِن اللهِ لعبادِه أنْ يَسْلُكوا في تحصيلِ رِزْقِهم سُبُلًا حَرَّمَها اللهُ عليهم؛ فإنَّهم راجِعونَ إليه، ومُحاسِبُهم عليها [230] يُنظر: ((الضياء اللامع من الخطب الجوامع)) لابن عثيمين (1/87). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ فيه دَلالةٌ على أنَّ السِّرَّ والجَهرَ عندَ الله وفي عِلمِ اللهِ على حَدٍّ سَواءٍ؛ لأنَّه عَليمٌ بذاتِ الصُّدورِ، يَعلَمُ خائِنةَ الأعيُنِ وما تُخفِي الصُّدورُ [231] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/236). .
2- مِن صِفاتِ اللهِ تعالى ما قد يُعلَمُ بالعَقلِ، كما يُعْلَمُ أنَّه عالِمٌ، وأنَّه قادرٌ، وأنَّه حيٌّ؛ كما أرْشَد إلى ذلك قولُه تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [232] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/88). .
3- قَولُه تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ استُدِلَّ به على أنَّه سُبحانَه خالِقُ أقوالِ العِبادِ وما في صُدورِهم [233] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (10/117). قال ابن القيِّم: (على التَّقديرَينِ [أي: كونِ مَنْ خَلَقَ فاعلًا أو مفعولًا] فالآيةُ دالَّةٌ على خَلقِ ما في الصُّدورِ كما هي دالَّةٌ على عِلْمِه سُبحانَه به...، فقال: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ أي: كيف يَخفى عليه ما في الصُّدورِ وهو الَّذي خلَقه، فلو كان ذلك غيرَ مخلوقٍ له لَبَطَلَ الاستِدلالُ به على العِلمِ، فخَلْقُه سُبحانَه للشَّيءِ مِن أعظَمِ الأدِلَّةِ على عِلمِه به، فإذا انتفَى الخَلقُ انتفى دليلُ العِلمِ، فلم يَبْقَ ما يدُلُّ على عِلمِه بما يَنطوي عليه الصَّدرُ إذا كان غيرَ خالِقٍ لذلك، وهذا مِن أعظَمِ الكفرِ برَبِّ العالَمينَ، وجَحْدٌ لِما اتَّفقَتْ عليه الرُّسلُ مِن أوَّلِهم إلى آخِرِهم، وعُلِم بالضَّرورةِ أنَّهم ألْقَوْه إلى الأُمَمِ كما ألْقَوْا إليهم أنَّه إلهٌ واحدٌ لا شريكَ له). ((شفاء العليل)) (ص: 56). لكِنْ قال ابنُ عاشور: (الآيةُ دليلٌ على عُمومِ عِلْمِه تعالى، ولا دَلالةَ فيها على أنَّه تعالى خالِقُ أفعالِ العبادِ؛ للانفِكاكِ الظَّاهرِ بيْن تعَلُّقِ العِلمِ وتعَلُّقِ القُدرةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/31). .
4- في قَولِه تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ أنَّ كُلَّ مخلوقٍ للهِ فهو مَعلومٌ له [234] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 295). .
5- قال اللهُ تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ له سُبحانه صِفَتا اللُّطفِ والخُبْرِ اللَّتانِ شَأنُهما إدراكُ البواطِنِ إدراكًا لا يكونُ مِثلُه؛ لأنَّ الغَرَضَ إثباتُ العِلمِ لِما أخفَوه؛ لظَنِّهم أنَّهم إذا أسَرُّوا يَخفى، لا إثباتُ مُطلَقِ العِلمِ؛ فإنَّهم لم يُنكِروه [235] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/243، 244). . على القولِ بأنَّ الخطابَ للكفَّارِ.
6- في قَولِه تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أنَّه سُبحانَه عالِمٌ بالجُزئيَّاتِ، وذلك مِن طُرُقٍ؛ أحَدُها: مِن جهةِ كَونِ الخَلْقِ يَستَلزِمُ العِلمَ بالمخلوقِ. والثَّاني: مِن جهةِ كَونِه في نفْسِه «لطيفًا خبيرًا»، وذلك يُوجِبُ عِلْمَه بدقيقِ الأشياءِ وخَفِيِّها. ثُمَّ يُقالُ: اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ عِلْمُه بنَفْسِه أَولى مِن عِلْمِه بغَيرِه، وعِلْمُه بنَفْسِه مُستَلزِمُ لعِلْمِه بلَوازمِ ذاتِه [236] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (10/117). .
7- في قَولِه تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أنَّه سُبحانَه يَجعَلُ أسماءَه دليلًا على ما يُنكِرُه الجاحِدونَ مِن صِفاتِ كَمالِه [237] يُنظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 176). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ فيه الأمرُ بالتَّسَبُّبِ والكَسبِ [238] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 270). .
9- قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أخبَر سُبحانَه أنَّه جعَل الأرضَ ذَلولًا مُنقادةً لِلْوَطْءِ عليها وحَفرِها وشَقِّها والبناءِ عليها، ولم يَجعَلْها مُستصعَبةً مُمتَنِعةً على مَن أراد ذلك منها، والمقصودُ أنَّه سُبحانَه جعَل لنا الأرضَ كالجَمَلِ الذَّلولِ، الَّذي كَيْفَما يُقادُ يَنقادُ، ثمَّ أمَرَهم أن يأكُلوا مِن رِزقِه الَّذي أودعه فيها، فذَلَّلها لهم ووَطَّأها، وفَتَقَ فيها السُّبُلَ والطُّرُقَ الَّتي يَمشون فيها، وأودعها رِزقَهم، فذكَرَ تهيئةَ المَسكَنَ للانتِفاعِ والتَّقلُّبِ فيه بالذَّهابِ والمجيءِ، والأكلِ ممَّا أودع فيها للسَّاكنِ؛ فتضَمَّنَتِ الآيةُ الدَّلالةَ على رُبوبيَّتِه ووحدانيَّتِه وقُدرتِه وحِكمتِه ولُطفِه، والتَّذكيرَ بنِعَمِه [239] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 17). .

 بلاغة الآيات:

1- قوله تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ اعتِراضٌ -وذلك على القولِ بأنَّ الخطابَ في قولِه: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ ... للكفَّارِ- يُفيدُ استئنافًا بيانيًّا جاء على سَنَنِ أساليبِ القرآنِ مِن تَعقيبِ الرَّهبةِ بالرَّغبةِ، فلمَّا ذَكَر ما أعدَّ للكافِرِين المعرِضينَ عن خَشيةِ اللهِ، أعقَبَه بما أعدَّ للَّذين يَخشَون ربَّهم بالغَيبِ مِن المغفرةِ والثَّوابِ؛ للعِلمِ بأنَّهم يَترقَّبون ما يُميِّزُهم عن أحوالِ المشرِكين [240] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/29). .
- وفي قولِه: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ قدَّمَ المغفرةَ تَطمينًا لقُلوبِ الَّذين يَخشَون ربَّهم بالغَيبِ؛ لأنَّهم يَخشَون المؤاخَذةَ على ما فرَطَ منهم مِن الكفْرِ قبْلَ الإسلامِ، ومِن اللَّمَمِ ونحْوِه، ثمَّ أُعقِبَت بالبِشارةِ بالأجْرِ العظيمِ، فكان الكلامُ جاريًا على قانونِ تَقديمِ التَّخليةِ على التَّحليةِ، أو تَقديمِ دفْعِ الضُّرِّ على جلْبِ النَّفْعِ [241] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/29). .
- وتَنكيرُ مَغْفِرَةٌ للتَّعظيمِ؛ بقَرينةِ مُقارَنتِه بـ (أَجْرٌ كَبِيرٌ)، وبقَرينةِ التَّقديمِ [242] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/29). .
- وتَقديمُ المسنَدِ لَهُمْ على المسنَدِ إليه مَغْفِرَةٌ؛ لإفادةِ الاهتمامِ، وللرِّعايةِ على الفاصِلةِ [243] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/29). .
2- قولُه تعالَى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ عطْفٌ على الجُمَلِ السَّابقةِ عطْفَ غرَضٍ على غرَضٍ، وهو انتقالٌ إلى غرَضٍ آخَرَ لمُناسَبةِ حِكايةِ أقوالِهم في الآخرةِ بذِكرِ أقوالِهم في الدُّنيا، وهي الأقوالُ الَّتي كانت تَصدُرُ منهم بالنَّيلِ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [244] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/29، 30). . وذلك على القولِ بأنَّ الخطابَ للكفَّارِ.
- وصِيغةُ الأمرِ في وَأَسِرُّوا واجْهَرُوا مُستعمَلةٌ في التَّسويةِ بيْن السِّرِّ والجَهرِ بالنِّسبةِ إلى عِلمِه تَعالى [245] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/579)، ((تفسير أبي السعود)) (9/6)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/30). .
- وتَقديمُ السِّرِّ على الجَهرِ؛ للإيذانِ بافتضاحِهم، ووُقوعِ ما يَحذَرونه مِن أوَّلِ الأمرِ، والمُبالَغةِ في بَيانِ شُمولِ عِلمِه عزَّ وجلَّ المحيطِ لجَميعِ المعلوماتِ، كأنَّ عِلمَه تعالَى بما يُسِرُّونه أقدَرُ منهُ بما يَجهَرونَ به، مع كَونِهما في الحقيقةِ على السَّويَّةِ؛ فإنَّ عِلمَه تعالَى بمَعلوماتهِ ليس بطريقِ حُصولِ صُوَرِها، بلْ وُجودُ كلِّ شَيءٍ في نفْسِه عِلْمٌ بالنِّسبةِ إليه تعالَى. أو لأنَّ مَرتبةَ السِّرِّ مُتقدِّمةٌ على مَرتبةِ الجَهرِ؛ إذْ ما مِن شَيءٍ يُجهَرُ به إلَّا وهو أو مَباديهِ مُضْمَرٌ في القلبِ يَتعلَّقُ بهِ الإسرارُ غالبًا، فتَعلُّقُ عِلمِه تعالَى بحالَتِه الأُولى مُتقدِّمٌ على تَعلُّقهِ بحالتِه الثَّانيةِ [246] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/6). .
- قولُه: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ تَعليلٌ لِما قبْلَه، وتَقريرٌ لهُ. وفي صِيغةِ الفَعيلِ، وتَحليةِ الصُّدورِ بلامِ الاستِغراقِ، ووصْفِ الضَّمائرِ بصاحبِيَّتِها؛ مِن الجَزالةِ ما لا غايةَ وَراءَه، كأنَّه قيلَ: إنَّه عزَّ وجلَّ مُبالِغٌ في الإحاطةِ بمُضْمَراتِ جَميعِ النَّاسِ وأسرارِهم الخفيَّةِ المُستكِنَّةِ في صُدورِهم، بحيثُ لا تَكادُ تُفارِقُها أصلًا، فكيفَ يَخْفَى عليه ما تُسِرُّونَه وتَجْهرونَ به [247] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/579)، ((تفسير أبي السعود)) (9/6)، ((تفسير أبي حيان)) (10/225)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/30). ؟!
3- قولُه تعالَى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن قولِه: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك: 13] ؛ بأنْ يَسأَلَ سائلٌ منهم: كيف يَعلَمُ ذاتَ الصُّدورِ، والمعروفُ أنَّ ما في نفْسِ المرءِ لا يَعلَمُه غيرُ نفْسِه؟ فأُجِيبوا بإنكارِ انتفاءِ عِلمِه تعالَى بما في الصُّدورِ؛ فإنَّه خالِقُ أصحابِ تلك الصُّدورِ، فكما خَلَقَهم وخلَقَ نُفوسَهم، جعَلَ اتِّصالًا لتَعلُّقِ عِلمِه بما يَختلِجُ فيها، وليس ذلك بأعجَبَ مِن عِلمِ أصحابِ الصُّدورِ بما يَدورُ في خَلَدِها؛ فالإتيانُ بـ(مَن) الموصولةِ لإفادةِ التَّعليلِ بالصِّلةِ [248] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/579)، ((تفسير أبي السعود)) (9/7)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/30). .
- يَجوزُ أنْ يكونَ مَنْ خَلَقَ مَفعولَ يَعْلَمُ، فيكونَ يَعْلَمُ وخَلَقَ رافعَينِ ضَميرينِ عائدينِ إلى ما عاد إليه ضَميرُ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، فيكونَ (مَن) الموصولةُ صادقةً على المخلوقينَ، وحُذِفَ العائدُ مِن الصِّلةِ؛ لأنَّه ضَميرُ نصْبٍ يَكثُرُ حذْفُه، والتَّقديرُ: مَن خَلَقَهم. ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ خَلَقَ فاعلَ يَعْلَمُ، والمرادُ اللهُ تَعالى، وحُذِفَ مَفعولُ يَعْلَمُ؛ لدَلالةِ قولِه: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ، والتَّقديرُ: ألَا يَعلَمُ خالِقُكم سِرَّكم وجَهْرَكم، وهو الموصوفُ بلطيفٍ خبيرٍ [249] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/579)، ((تفسير البيضاوي)) (5/230)، ((تفسير أبي حيان)) (10/225)، ((تفسير أبي السعود)) (9/7)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/30، 31). ؟!
- وتَخصيصُ ذِكرِ الخالِقِ دونَ سائرِ الأسماءِ في مَقامِ إثباتِ العِلمِ، إشعارٌ بأنَّ الخالقَ يَنْبغي أنْ يكونَ عالِمًا بما يَخلُقُه وبتَفاصيلِه. وفيه إدماجٌ لمعْنى أنَّ العبْدَ غيرُ خالقٍ لأفعالِه؛ لأنَّه لا يَعلَمُها في الأزَلِ [250] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/550، 551). .
- وجُملةُ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الأحسَنُ أنْ تُجعَلَ عطْفًا على جُملةِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؛ لتُفيدَ تَعليمًا للنَّاسِ بأنَّ عِلمَ اللهِ تعالى مُحيطٌ بذَواتِ الكائناتِ وأحوالِها؛ فبَعْدَ أنْ أنكَرَ ظنَّهم انتفاءَ عِلمِ اللهِ بما يُسِرُّون، أعلَمَهم أنَّه يَعلَمُ ما هو أعمُّ مِن ذلك، وما هو أخْفَى مِن الإسرارِ مِن الأحوالِ [251] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/31). .
- أو هي حالٌ مِن فاعلِ يَعْلَمُ مُؤكِّدةٌ للإنكارِ والنَّفيِ، أي: ألَا يَعلَمُ ذلكَ والحالُ أنَّه المُتوصِّلُ عِلمُه إلى ما ظهَرَ مِن خلْقِه وما بطَنَ؟! أو المعنَى: ألَا يَعلَمُ اللهُ مَنْ خلَقَه؛ والحالُ أنَّه بهذه المثابةِ مِن شُمولِ العلمِ، على القولِ بأنَّ مَنْ خَلَقَ مَنصوبًا، وقيل: هي حالٌ مِن فاعلِ خَلَقَ [252] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/579، 580)، ((تفسير البيضاوي)) (5/230)، ((حاشية الطيبي)) (15/547)، ((تفسير أبي السعود)) (9/7)، ((تفسير الألوسي)) (15/15). ؟!
4- قولُه تعالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ
- قولُه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا استئنافٌ فيه عَودٌ إلى الاستِدلالِ، وإدماجٌ [253] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 449)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (2/ 484)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/ 339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/ 427). للامتنانِ؛ فإنَّ خلْقَ الأرضِ الَّتي تَحْوي النَّاسَ على وَجْهِها أدلُّ على قُدرةِ اللهِ تعالَى وعِلمِه مِن خلْقِ الإنسانِ؛ إذ ما الإنسانُ إلَّا جُزءٌ مِن الأرضِ، أو كجُزْءٍ منها، قال تعالَى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ [طه: 55] ، وامتنَّ عليهم بأنَّه خَلَقَ الأرضَ هيِّنةً لهم، صالحةً للسَّيرِ فيها، مُخرِجةً لأرزاقِهم، وذيَّلَ ذلك بأنَّ النُّشورَ منها، وأنَّ النُّشورَ إليه لا إلى غيرِه [254] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/31). .
- والقصْرُ المستفادُ مِن تَعريفِ جُزأي هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قصْرُ قلْبٍ [255] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). بتَنزيلِ المخاطَبين مَنزِلةَ مَن يَعتقِدُ أنَّ الأصنامَ خَلَقَت الأرضَ؛ لأنَّ اعتقادَهم إلهيَّتَها يَقْتضي إلزامَهم بهذا الظَّنِّ الفاسدِ وإنْ لم يَقولوه [256] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/32). .
- وتَقديمُ لَكُمُ على مَفعُولَي الجَعْلِ مع أنَّ حقَّه التَّأخُّرُ عنهُما؛ للاهتمامِ بِما قُدِّمَ، والتَّشويقِ إلى ما أُخِّرَ؛ فإنَّ ما حقُّه التَّقديمُ إذا أُخِّرَ -لا سيَّما عندَ كَونِ المقدَّمِ ممَّا يدُلُّ على كَونِ المؤخَّرِ مِن مَنافعِ المخاطَبينَ- تَبقَى النَّفْسُ مُترقِّبةً لِوُرودِه، فيَتمكَّنُ لَدَيها عِندَ ذِكرِه فضْلَ تَمكُّنٍ [257] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/7). .
- والذَّلولُ فَعولٌ للمُبالَغةِ، مِن ذلك تقولُ: دابَّةٌ ذَلولٌ: بيِّنةُ الذِّلِّ، ورجُلٌ ذَليلٌ: بيِّنُ الذُّلِّ [258] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/225). .
- قولُه: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا الفاءُ الفصيحةُ لتَرتيبِ الأمْرِ على الجَعْلِ المذكورِ، أي: إنْ عرَفْتُم ذلك فامْشُوا في... [259] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/7)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/32)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/154). .
- قولُه: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا أمرُ إباحةٍ. وقيل: هو خبرٌ بلَفظِ الأمرِ [260] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/591)، ((تفسير القرطبي)) (18/215). . وقيل: صِيغةُ الأمرِ فَامْشُوا مُستعمَلةٌ في معْنى الإدامةِ؛ تَذكيرًا بما سخَّرَ اللهُ لهم مِن المشْيِ في الأرضِ امتنانًا بذلك [261] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/32). .
- ومُناسَبةُ قولِه: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أنَّ الرِّزقَ مِن الأرضِ، والأمْرُ قيل: هو مُستعمَلٌ في الإدامةِ أيضًا؛ للامتنانِ [262] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/32). .
- قولُه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ تَذكيرٌ بشَواهدِ الرُّبوبيَّةِ والإنعامِ؛ ليَتدبَّروا فيَترُكوا العِنادَ [263] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/32). .
- وعطْفُ جُملةِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ على ما قبْلَها تَتميمٌ [264] التَّتميم: هو أن يُؤتى في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المراد بفضلةٍ تُفيد نكتةً. أو بعبارةٍ أخرى هو: الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ متمِّمٍ للمقصود؛ لرَفْعِ اللبسِ عنه، وتقريبِه للفَهم، أو لزِيادةٍ حسنة، بحيث إذا طُرِح من الكلام نقَص معناه في ذاتِه، أو في صِفاته. يُنظر: ((تفسير أبي حيَّان)) (1/120)، (2/ 333)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/252)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/240). واستِطرادٌ لمُناسَبةِ ذِكرِ الأرضِ؛ فإنَّها مَثوى النَّاسِ بعْدَ الموتِ، والمعْنى: إليه النُّشورُ منها، وذلك يَقْتضي حذْفًا، أي: وفيها تَعودون [265] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/32). . أو مُناسَبةُ ذِكرِ النُّشورِ هو ذِكرُ خلْقِ الأرضِ؛ فإنَّ البعثَ يكونُ مِن الأرضِ [266] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/32). .
- وتَعريفُ النُّشورِ تَعريفُ الجِنسِ؛ فيَعُمُّ، أي: كلُّ نُشورٍ، ومنه نُشورُ المخاطَبينَ، فكان قولُه: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ بمَنزلةِ التَّذييلِ [267] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/32). .
- قولُه: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي: المرجِعُ بعدَ البعثِ لا إلى غيرِه، فبالِغُوا في شُكرِ نِعَمِه وآلائِه [268] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/7). . وقيل: تَقديمُ المجرورِ في جُملةِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ للاهتمامِ [269] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/32). .