موسوعة التفسير

سُورةُ ق
الآيات (16-22)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ

غريب الكلمات:

تُوَسْوِسُ: أي: تُلْقي وتُحَدِّثُ، والوَسْوَسةُ: الخَطرةُ الرَّديئةُ وحديثُ النَّفْسِ، والصَّوتُ الخفىُّ، وبه سُمِّيَ صَوتُ الحلْيِ وَسْواسًا، وأصلُ (وسوس): يدُلُّ على صَوتٍ غَيرِ رَفيعٍ [191] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/188)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/76)، ((المفردات)) للراغب (ص: 869)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/111). .
حَبْلِ الْوَرِيدِ: الحَبلُ هو الوَريدُ؛ فهو مِن إضافةِ الشَّيءِ إلى نَفْسِه لاختِلافِ اللَّفظَينِ، وهو عِرقٌ في باطِنِ العُنُقِ مُعَلَّقٌ بالقَلبِ [192] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/421)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 196)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 366)، ((تفسير القرطبي)) (17/9)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 387)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 411). .
قَعِيدٌ: أي: قاعِدٌ رَاصِدٌ مُلازِمٌ لا يَبرَحُ [193] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/108)، ((المفردات)) للراغب (ص: 679)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 388)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 739). .
رَقِيبٌ: أي: مُراقِبٌ لأعمالِه، حافِظٌ لها، شاهِدٌ عليها، وأصلُ (رقب): يدُلُّ على انتِصابٍ لِمُراعاةِ شَيءٍ [194] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 236)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2 /427)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 58)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 484)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/ 427). .
عَتِيدٌ: أي: حاضِرٌ لا يَغيبُ، مُعَدٌّ للحِفظِ والشَّهادةِ، وأصلُ (عتد): يدُلُّ على حُضورٍ وقُربٍ [195] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 339)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/216)، ((تفسير القرطبي)) (17/11)، ((تفسير ابن كثير)) (7/402)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 388)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 660). .
سَكْرَةُ الْمَوْتِ: أي: غَمْرَتُه وشِدَّتُه الَّتي تَغشَى الإنسانَ، وتَغلِبُ على عَقلِه، وأصلُ (سكر): يدُلُّ على حَيرةٍ [196] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/427)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 269)، ((المفردات)) للراغب (ص: 416)، ((تفسير البغوي)) (7/359)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 388)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 519). .
تَحِيدُ: أي: تَفِرُّ منه، وتَميلُ عنه، وأصلُ (حيد): يدُلُّ على مَيلٍ وعُدولٍ عن طَريقِ الاستِواءِ [197] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/428)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/123)، ((المفردات)) للراغب (ص: 261)، ((تفسير القرطبي)) (17/13)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 319). .
الصُّورِ: أي: القَرنِ يَنفُخُ فيه إسرافيلُ [198] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 25، 26)، ((تفسير ابن جرير)) (9/339)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 308)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 566)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 97)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 193). .
حَدِيدٌ: أي: نافِذٌ حادٌّ قويٌّ، وحِدَّةُ البَصَرِ: قُوَّةُ نَفاذِه في المَرئيِّ، وأصلُ (حدد): يدُلُّ على مَنعٍ، وسُمِّيَ الحديدُ حَديدًا؛ لامتناعِه وصلابَتِه وشِدَّتِه [199] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/253) و(2/3)، ((المفردات)) للراغب (ص: 222)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 247)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/309). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا شمولَ عِلمِه لكلِّ شَيءٍ: ولقد خَلَقْنا كلَّ إنسانٍ ونحنُ نعلَمُ ما تُحدِّثُه به نفْسُه مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، ونحن أقرَبُ إليه مِن حَبلِ الوَريدِ الَّذي في عُنُقِه، إذ يَتلَقَّى المَلَكانِ ما يَصدُرُ منه فيُحصيانِه عليه: أحَدُهما عن يمينِه، والآخَرُ عن شِمالِه.
ما يَتلفَّظُ إنسانٌ بقَولٍ إلَّا وعِندَه مَلَكٌ حافِظٌ لكَلامِه، حاضِرٌ لا يُفارِقُه.
ثمَّ يُبيِّنُ الله سبحانَه حالةَ الإنسانِ عندَ الاحتضارِ، فيقولُ: وجاءت شِدَّةُ الموتِ بالحَقِّ الَّذي يكونُ بعدَ الموتِ مِن ثَوابٍ أو عِقابٍ، ذلك الموتُ هو ما كُنتَ تَهرُبُ منه أيُّها الإنسانُ!
ثمَّ يَذكُرُ سبحانَه يومَ القيامةِ وحالَ النَّاسِ فيه، فيقولُ: ونَفَخ المَلَكُ في القَرنِ لِبَعثِ النَّاسِ، وذلك يَومُ القيامةِ الَّذي توعَّد اللهُ الكافِرينَ والظَّالِمينَ فيه بالعَذابِ، وجاءتْ كلُّ نَفسٍ معها سائِقٌ مِنَ الملائِكةِ يَسوقُها إلى اللهِ تعالى، وشَهيدٌ مِنَ الملائكةِ يَشهَدُ عليها بما عَمِلَته.
لقد كنتَ -أيُّها الإنسانُ- في غَفلةٍ مِن هذا اليَومِ، فأزَلْنا عنك الغِطاءَ، ورَفَعْنا عنك الحِجابَ يومَ القيامةِ؛ فظَهَرت لك حقائِقُ الآخِرةِ، فبَصَرُك يومَ القيامةِ حادٌّ قَويٌّ نافِذٌ.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى خَلْقَ الخافِقَينِ -السَّماءِ والأرضِ-؛ أتْبَعَه خَلْقَ ما هو جامِعٌ لجميعِ ما هو فيهما [200] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/419). .
وأيضًا بعد أن استدَلَّ على إمكانِ البعثِ بقولِه: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: 15] - أردف ذلك دليلًا آخَرَ على إمكانِه، وهو عِلمُه بما فى صدورِهم، وعدَمُ خَفاءِ شَىءٍ مِن أمرِهم عليه [201] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (26/159). .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ.
أي: ولقد خَلَقْنا كلَّ إنسانٍ ونحنُ نعلَمُ ما تُحدِّثُه به نفْسُه سِرًّا، فلا يخفَى علينا ما يَختَلِجُ في قَلْبِه [202] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/421)، ((تفسير القرطبي)) (17/8)، ((تفسير ابن كثير)) (7/398)، ((تفسير السعدي)) (ص: 805)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 89). قال البقاعي: (فنحن نعلمُ أنَّ قُلوبَهم عالِمةٌ بقُدرتِنا على أكمَلِ ما نريدُ، وبصِحَّةِ القرآنِ وإعجازِه، وصِدقِ الرَّسولِ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وامتيازِه، وإنَّما حمَلَهم الحَسَدُ والنَّفاسةُ [أي: الحسدُ] والكِبرُ والرِّئاسةُ على الإنكارِ باللِّسانِ حتَّى صار ذلك لهم خُلُقًا، وتمادَوا فيه حتَّى غطَّى على عُقولِهم، فصاروا في لَبْسٍ مُحيطٍ بهم مِن جميعِ الجوانِبِ). ((نظم الدرر)) (18/419، 420). .
قال تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7].
وقال سُبحانَه: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19] .
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.
أي: ونحن أقرَبُ إليه مِن حَبلِ وَريدِه الَّذي في عُنُقِه [203] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/421، 422)، ((تفسير القرطبي)) (17/9)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/505)، ((مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم)) للموصلي (ص: 480، 481)، ((تفسير ابن كثير)) (7/398)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 89، 90). قيل: المرادُ: قُربُ ملائكتِه منه. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ تيميَّة، وابن كثير، وابن عثيمين. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/505)، ((تفسير ابن كثير)) (7/398)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 89). وقال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ يعنى: ملَكَ الموتِ وحْدَه، إذا أتاه لِيَقبِضَ رُوحَه). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/225). وقيل: المرادُ: نحن أقرَبُ إليه بالعِلمِ والقُدرةِ والإحاطةِ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ في الجملةِ: الأخفَشُ، والسَّمَرْقَنْديُّ، والثعلبي، والواحدي، والبغوي، وابنُ عطية، وابن الجوزي، والقرطبي، وابنُ جُزَي، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((معانى القرآن)) للأخفش (2/522)، ((تفسير السمرقندي)) (3/334)، ((تفسير الثعلبي)) (9/98)، ((الوسيط)) للواحدي (4/ 164)، ((تفسير البغوي)) (4/272)، ((تفسير ابن عطية)) (5/159)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/159)، ((تفسير القرطبي)) (17/9)، ((تفسير ابن جزي)) (2/302)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 690). قال ابن كثير: (مَن تأوَّله على العِلمِ فإنَّما فَرَّ لئَلَّا يَلزَمَ حُلولٌ أو اتِّحادٌ، وهما مَنفيَّانِ بالإجماعِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/398). .
كما قال تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ [الواقعة: 85] .
وقال سُبحانَه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة: 7] .
وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا غَزا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَيبَرَ أشرَفَ النَّاسُ على وادٍ، فرَفَعوا أصواتَهم بالتَّكبيرِ: اللهُ أكبَرُ، اللهُ أكبَرُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ارْبَعوا [204] ارْبَعُوا على أنفُسِكم: أي: ارْفُقوا بها، وأمسِكوا عن الجَهرِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/1597). على أنفُسِكم؛ إنَّكم لا تَدْعُونَ أصَمَّ، ولا غائِبًا، إنَّكم تَدْعُونَ سَميعًا قَريبًا، وهو معكم )) [205] رواه البخاري (4205) واللفظ له، ومسلم (2704). .
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا تَمَّ الإخبارُ مِنَ اللهِ تعالى بالخَلقِ والعِلمِ بخَطَراتِ الأنفُسِ، والقُربِ؛ أخبَرَ بذِكرِ الأحوالِ الَّتي تُصَدِّقُ هذا الخبَرَ، وتُعَيِّنُ وُرودَه عندَ السَّامعِ؛ فمِنها: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ، ومنها مجيءُ سَكرةِ الموتِ، ومنها: النَّفخُ في الصُّورِ، ومنها: مجيءُ كُلِّ نفْسٍ معها سائِقٌ وشَهيدٌ [206] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/533). .
وأيضًا فإنَّه ذكَر سبحانَه أنَّه مع عِلمِه به وكَّل به مَلَكَينِ يَكتُبانِ ويَحفَظانِ عليه عمَلَه؛ إلزامًا للحُجَّةِ، فقال [207] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (26/160). :
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17).
أي: نحن أقرَبُ إليه مِن حَبلِ الوَريدِ في الوَقتِ الَّذي يَتلَقَّى فيه المَلَكانِ جميعَ ما يَصدُرُ منه مِن أقوالٍ وأعمالٍ، فيُحصيانِها عليه: أحَدُهما ثابِتٌ عن يمينِه، والآخَرُ ثابتٌ عن شِمالِه، لا يُفارِقانِه [208] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/422)، ((تفسير القرطبي)) (17/9-11)، ((تفسير ابن كثير)) (7/398)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/421)، ((تفسير السعدي)) (ص: 805)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/301، 302)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 90، 91)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/426، 427). قال ابنُ رجب: (أجمَع السَّلَفُ الصَّالِحُ على أنَّ الَّذي عن يمينِه يَكتُبُ الحَسَناتِ، والَّذي عن شِمالِه يَكتُبُ السَّيِّئاتِ). ((جامع العلوم والحكم)) (1/336). وقال الشنقيطي: (المرادُ أنَّ الَّذي خلَق الإنسانَ ويَعلَمُ ما تُوسوِسُ به نفْسُه وهو أقرَبُ إليه مِن حَبلِ الوَريدِ في وَقتِ كِتابةِ الحَفَظةِ أعمالَه: لا حاجةَ له لِكَتْبِ الأعمالِ؛ لأنَّه عالِمٌ بها، لا يَخفى عليه منها شَيءٌ، وإنَّما أمَرَ بكِتابةِ الحَفَظةِ للأعمالِ؛ لحِكَمٍ أُخرى، كإقامةِ الحُجَّةِ على العَبدِ يومَ القيامةِ). ((أضواء البيان)) (7/426، 427). .
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18).
أي: ما يَتكلَّمُ الإنسانُ بقَولٍ إلَّا وعِندَه مَلَكٌ حافِظٌ يُراقِبُ كَلامَه لِيَكتُبَه، حاضِرٌ لا يُفارِقُه [209] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/424)، ((تفسير القرطبي)) (17/11)، ((تفسير ابن كثير)) (7/398)، ((تفسير السعدي)) (ص: 805)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/427)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 92، 93). قال الماوردي: (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ فيه ثلاثةُ أوجُهٍ؛ أحدُها: أنَّه المُتتَبِّعُ للأمورِ. الثَّاني: أنَّه الحافظُ، قاله السُّدِّيُّ. الثَّالثُ: أنَّه الشَّاهدُ، قاله الضَّحَّاكُ. وفي عَتِيدٌ وجْهانِ؛ أحدُهما: أنَّه الحاضرُ الَّذي لا يَغيبُ. الثَّاني: أنَّه الحافظُ المُعَدُّ؛ إمَّا لِلحِفظِ، وإمَّا للشَّهادةِ). ((تفسير الماوردي)) (5/ 347). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/11). وقال الشنقيطي في قولِه تعالى: إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ: (أي: إلَّا والحالُ أنَّ عندَه رقيبًا، أي: مَلَكًا مُراقِبًا لأعمالِه، حافِظًا، لها شاهدًا عليها، لا يَفوتُه منها شَيءٌ. عَتِيدٌ: أي: حاضرٌ، ليس بغائبٍ، يَكتُبُ عليه ما يقولُ مِن خَيرٍ وشرٍّ). ((أضواء البيان)) (7/ 427). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 12].
وعن عَلْقَمةَ بنِ وقَّاصٍ اللَّيثيِّ، عن بلالِ بنِ الحارِثِ المُزَنيِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الرَّجُلَ لَيَتكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِن رِضوانِ اللهِ عزَّ وجَلَّ ما يظُنُّ أنْ تَبلُغَ ما بَلَغَت، يَكتُبُ اللهُ عزَّ وجَلَّ له بها رِضوانَه إلى يومِ القيامةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَتكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِن سَخَطِ اللهِ عزَّ وجَلَّ ما يظُنُّ أن تَبلُغَ ما بلَغَت، يَكتُبُ اللهُ عزَّ وجَلَّ بها عليه سَخَطَه إلى يومِ القيامةِ !))، فكان عَلْقمةُ يقولُ: (كم مِن كَلامٍ قد مَنَعَنيه حديثُ بلالِ بنِ الحارِثِ!) [210] أخرجه الترمذي (2319)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) كما في ((تحفة الأشراف)) للمِزِّي (2/104)، وابن ماجه (3969)، وأحمد (15852) واللَّفظُ له. قال الترمذي، وابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (210): (حسَنٌ صحيحٌ). وصحَّحه ابنُ حِبَّانَ في ((الصحيح)) (280)، والحاكمُ في ((المستدرك)) (1/106)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3969)، وصحَّحه لغيرِه شُعَيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (25/180). .
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ إنكارَهم البَعثَ، واحتَجَّ عليهم بوصْفِ قُدرتِه وعِلمِه؛ أعلَمَهم أنَّ ما أنكَروه وجَحَدوه هم لاقوهُ عن قريبٍ عندَ مَوتِهم وعندَ قِيامِ السَّاعةِ [211] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/385)، ((تفسير البيضاوي)) (5/141)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/540)، ((تفسير أبي السعود)) (8/129)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/288). .
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ.
أي: وجاءتْ شِدَّةُ الموتِ وغَمْرتُه الَّتي تَغشَى الإنسانَ، بما يكونُ بعدَ الموتِ مِن ثَوابٍ وعِقابٍ، وسَعادةٍ وشَقاوةٍ، فيَظهَرُ عندَ الموتِ صِدقُ ما أخبَرَتْ به الرُّسُلُ مِن ذلك [212] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفرَّاء (3/78)، ((تفسير ابن جرير)) (21/427)، ((تفسير القرطبي)) (17/12)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/265)، ((تفسير ابن كثير)) (7/399)، ((تفسير الشوكاني)) (5/89)، ((تفسير السعدي)) (ص: 805)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 95). قال ابنُ الجوزي: (بِالْحَقِّ فيه وَجهانِ؛ أحَدُهما: أنَّ معناه: جاءت بحقيقةِ الموتِ. والثَّاني: بالحَقِّ مِن أمرِ الآخِرةِ، فأبانت للإنسانِ ما لم يكُنْ بَيِّنًا له مِن أمرِ الآخِرةِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/160). وقال ابنُ تيميَّةَ: (ليس مُرادُه أنَّها جاءت بالحَقِّ الَّذي هو الموتُ؛ فإنَّ هذا مَشهورٌ لم يُنازَعْ فيه، ولم يَقُلْ أحدٌ: إنَّ الموتَ باطِلٌ حتَّى يُقالَ: جاءت بالحَقِّ). ((مجموع الفتاوى)) (4/265). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/347، 348)، ((تفسير الزمخشري)) (4/385، 386). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ حضَرَتْه الوَفاةُ جَعَل يُدخِلُ يَديه في الماءِ، فيَمسَحُ بهما وَجْهَه، يقولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، إنَّ لِلْمَوتِ سَكَراتٍ )) [213] رواه البخاري (4449). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أحَدَكم إذا مات عُرِضَ عليه مَقعَدُه بالغَداةِ والعَشِيِّ؛ إنْ كان مِن أهلِ الجنَّةِ فمِن أهلِ الجَنَّةِ، وإنْ كان مِن أهلِ النَّارِ فمِن أهلِ النَّارِ، يُقال: هذا مَقعَدُك حتَّى يَبعَثَك اللهُ إليه يومَ القيامةِ )) [214] رواه البخاري (1379)، ومسلم (2866) واللَّفظُ له. .
ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ.
أي: ذلك الموتُ الَّذي جاءَتْك سَكْرتُه بالحَقِّ هو ما كُنتَ تَميلُ عنه وتَهرُبُ منه -أيُّها الإنسانُ- وقد أدركَك الآنَ [215] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/428)، ((الوسيط)) للواحدي (4/167)، ((تفسير الرازي)) (28/135)، ((تفسير ابن كثير)) (7/399)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/306). قال ابنُ كثيرٍ: (في قَولِه: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ قَولانِ: أحَدُهما: أنَّ «ما» هاهنا مَوصولةٌ، أي: الَّذي كنتَ منه تحيدُ -بمعنى: تبتَعِدُ وتَنأى وتَفِرُّ- قد حَلَّ بك، ونزل بساحَتِك. والقولُ الثَّاني: أنَّ «ما» نافيةٌ، بمعنى: ذلك ما كُنتَ تَقدِرُ على الفِرارِ منه، ولا الحَيدِ عنه). ((تفسير ابن كثير)) (7/400). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 95، 96). وممَّن ذهب إلى القولِ الأوَّلِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقندي، ومكِّي، والبِقاعي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/112)، ((تفسير ابن جرير)) (21/428)، ((تفسير السمرقندي)) (3/335)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7043)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/423)، ((تفسير القاسمي)) (9/19). وقال ابنُ كثير: (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي: هذا هو الَّذي كنتَ تَفِرُّ منه قد جاءك، فلا مَحيدَ ولا مَناصَ، ولا فَكاكَ ولا خَلاصَ). ((تفسير ابن كثير)) (7/399). !
كما قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ [الجمعة: 8] .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20).
أي: ونَفَخ المَلَكُ في القَرنِ لِبَعثِ النَّاسِ يَومَ القيامةِ الَّذي توعَّد اللهُ الكافِرينَ والظَّالِمينَ فيه بالعَذابِ [216] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/428)، ((تفسير القرطبي)) (17/13)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/423، 424)، ((تفسير السعدي)) (ص: 805)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 96). قال ابن عثيمين: (المرادُ بقَولِه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ النَّفخةُ الثَّانيةُ، بدَليلِ قَولِه تعالى: ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وهذا يَعني أنَّه بهذه النَّفخةِ صار يومُ القيامةِ الَّذي هو يومُ الوَعيدِ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 96). .
قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ما الصُّورُ؟ قال: قَرْنٌ يُنفَخُ فيه )) [217] أخرجه أبو داودَ (4742)، والترمذيُّ (2430)، والنَّسائيُّ (11456) واللَّفظُ لهما، وأحمدُ (6507) باختلافٍ يسيرٍ. حسَّنه الترمذيُّ، وصحَّح إسنادَه الحاكمُ في ((المستدرك)) (2/550)، ووافقه الذهبي في ((التلخيص)) (2/550)، وذكر ثبوتَه ابنُ كثير في ((تفسير القرآن)) (5/308)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (10/9)، وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2430). .
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21).
أي: وجاءت كلُّ نفْسٍ يومَ القيامةِ ومعها سائِقٌ مِنَ الملائِكةِ يَسوقُها إلى اللهِ تعالى، وشَهيدٌ مِنَ الملائكةِ يَشهَدُ عليها بما عَمِلَتْه في الدُّنيا [218] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/429، 433)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 10)، ((تفسير ابن كثير)) (7/401)، ((تفسير السعدي)) (ص: 805)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 97). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ نُفوسُ جميعِ البَشَرِ: ابنُ جرير، والبِقاعي، وأبو السعود، والشوكاني، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/433)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/424)، ((تفسير أبي السعود)) (8/130)، ((تفسير الشوكاني)) (5/90)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 97). ونسَبَ مكِّيٌّ هذا القولَ إلى أكثَرِ العُلماءِ، ونسَبه الماوَرْديُّ للجُمهورِ. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7045)، ((تفسير الماوردي)) (5/349). وقيل: المرادُ بـ كُلُّ نَفْسٍ: نفوسُ المُشرِكينَ، لا المؤمِنينَ. وممَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/112)، ((البسيط)) للواحدي (20/397)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/307، 308). .
كما قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 93 - 95] .
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22).
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا.
أي: لقد كنتَ -أيُّها الإنسانُ- في الدُّنيا في غَفلةٍ مِن هذا اليَومِ، فلمْ تستَعِدَّ له [219] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/433)، ((تفسير ابن كثير)) (7/401)، ((تفسير السعدي)) (ص: 805)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 98). وقد ذهب ابنُ جرير، وابنُ عطيَّة، والرَّازيُّ، وابنُ كثير -ونسَبه الشَّوكانيُّ إلى أكثَرِ المفَسِّرينَ-: إلى أنَّ هذا الخِطابَ لكُلِّ إنسانٍ؛ مُؤمِنٍ وكافِرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/433)، ((تفسير ابن عطية)) (5/162)، ((تفسير الرازي)) (28/135)، ((تفسير ابن كثير)) (7/401)، ((تفسير الشوكاني)) (5/90). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الحُسَينُ بنُ عَبدِ الله بنِ عُبَيدِ الله بنِ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/435). قال الرازي: (الخِطابُ عامٌّ؛ أمَّا الكافِرُ فمَعلومُ الدُّخولِ في هذا الحُكمِ، وأمَّا المؤمِنُ فإنَّه يَزدادُ عِلمًا، ويظهَرُ له ما كان مَخفيًّا عنه، ويرى عِلمَه يَقينًا، فيكونُ بالنِّسبةِ إلى تلك الأحوالِ وشِدَّةِ الأهوالِ كالغافِلِ). ((تفسير الرازي)) (28/135). وذهب مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والشَّوكانيُّ، والسعديُّ، وابنُ عاشور إلى أنَّ هذا الخِطابَ خاصٌّ بالكافِرِ، وهو ظاهرُ اختيارِ الشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/113)، ((تفسير الشوكاني)) (5/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 805)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/308)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/122). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهِدٌ، وسُفْيانُ، والضَّحَّاكُ بنُ مُزاحِمٍ، وصالحُ ابنُ كَيْسانَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/434)، ((تفسير ابن كثير)) (7/401). .
فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ.
أي: فأزَلْنا عنك الغِطاءَ، ورَفَعْنا عنك الحِجابَ يومَ القيامةِ؛ فظَهَرت لك حقائِقُ الآخِرةِ [220] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/433)، ((تفسير الرازي)) (28/136)، ((تفسير الشوكاني)) (5/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 805)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 98). .
فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.
أي: فبَصَرُك يومَ القيامةِ في غايةِ الحِدَّةِ والقُوَّةِ والنُّفوذِ، فتَرى به ما كُنتَ غافِلًا عنه في الدُّنيا [221] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/78)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 361)، ((تفسير ابن جرير)) (21/435)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7046)، ((الوسيط)) للواحدي (4/167)، ((تفسير القرطبي)) (17/15)، ((تفسير ابن كثير)) (7/401)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 805)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/309). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: فَبَصَرُكَ: بصَرُ العَينِ: مُقاتِلُ بنُ سُلَيمانَ، والماوَرْديُّ، والبغوي، وابنُ جُزَي، والخازن. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/113)، ((تفسير الماوردي)) (5/349)، ((تفسير البغوي)) (4/274)، ((تفسير ابن جزي)) (2/302)، ((تفسير الخازن)) (4/188). وممَّن اختار أنَّ المرادَ به: العِلمُ والبصيرةُ: الفَرَّاءُ، والزَّجَّاجُ، والواحدي، وابنُ عطية، والشنقيطي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/78)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/45)، ((البسيط)) للواحدي (20/398)، ((تفسير ابن عطية)) (5/162)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/122). قال الشنقيطي: (معنَى قولِه: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ [النمل: 66] ، أي: تكامَل عِلْمُهم فيها؛ لِمُبالَغَتِهم في سَمْعِ الحقِّ وإبصارِه في ذلك الوقتِ... وكقولِه تعالَى: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أيْ: عِلمُكَ اليومَ بما كنتَ تُنْكِرُه في الدُّنيا مِمَّا جاءَتْكَ به الرُّسُلُ حديدٌ، أي: قَوِيٌّ كامِلٌ، و... أنَّ المرادَ بحدَّةِ البصرِ في ذلك اليَومِ: كمالُ العِلمِ، وقوَّةُ المعرفةِ). ((أضواء البيان)) (6/122). .
كما قال الله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [مريم: 38] .
وقال سُبحانَه: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: 12] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء: 97] .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ في هذا زَجرٌ عن المعاصي الَّتي يَستَخفي الإنسانُ بها [222] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/8). .
2- يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وُجوبُ مُراقبةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى؛ وألَّا نُحَدِّثَ أنفُسَنا بما يُغضِبُه وبما يَكرَهُ؛ فعلينا أنْ يكونَ حديثُ نُفوسِنا كلُّه بما يُرضيه؛ لأنَّه يَعلمُ ذلك، أفَلا يَليقُ بنا أنْ نَستحيَ مِن ربِّنا عزَّ وجلَّ أنْ تُوسوِسَ نُفوسُنا بما لا يَرضاه؟! لكِنَّ الوَساوِسَ الَّتي تَطرَأُ على القَلبِ، ولا يَميلُ الإنسانُ إليها بل يُحارِبُها، ويُحاوِلُ البُعدَ عنها بقَدْرِ إمكانِه: لا تَضُرُّه شَيئًا، بل هي دَليلٌ على إيمانِه؛ لأنَّ الشَّيطانَ إنَّما يأتي إلى القَلبِ، فيُلقي عليه الوَساوِسَ إذا كان قَلبًا سَليمًا [223] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 89، 363). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فيه هَيبةٌ وفَزَعٌ وخَوفٌ لِقَومٍ، ورَوحٌ وسُكونٌ وأُنسُ قَلبٍ لِقَومٍ [224] يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/450). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ هذا ممَّا يدعو الإنسانَ إلى مُراقَبةِ خالِقِه المُطَّلِعِ على ضَميرِه وباطِنِه، القَريبِ منه في جميعِ أحوالِه؛ فيَستَحي منه أن يَراه حيثُ نهاه، أو يَفقِدَه حيثُ أَمَره، وكذلك ينبغي له أن يَجعَلَ الملائِكةَ الكِرامَ الكاتِبينَ منه على بالٍ، فيُجِلَّهم ويُوَقِّرَهم، ويَحذَرَ أن يَفعَلَ أو يقولَ ما يُكتَبُ عنه مِمَّا لا يُرضي رَبَّ العالَمينَ؛ ولهذا قال: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ أي: يتَلَقَّيانِ عن العَبدِ أعمالَه كُلَّها [225] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 805). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ فيه إشارةٌ إلى أنَّ المُكَلَّفَ غَيرُ مَتروكٍ سُدًى [226] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/134). .
6- قَولُه تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ في اللِّسانِ آفَتانِ عَظيمتانِ إنْ خَلَص العبدُ مِن إحداهما لم يَخلُصْ مِنَ الأُخرى: آفةُ الكلامِ، وآفةُ السُّكوتِ، وقد يكونُ كُلٌّ منهما أعظَمَ إثمًا مِنَ الأخرى في وَقتِها؛ فالسَّاكِتُ عن الحَقِّ شَيطانٌ أخرَسُ، عاصٍ للهِ، مُراءٍ مُداهِنٌ، إذا لم يَخَفْ على نَفْسِه، والمتكَلِّمُ بالباطِلِ شَيطانٌ ناطِقٌ، عاصٍ للهِ، وأكثَرُ الخَلقِ مُنحَرِفٌ في كَلامِه وسُكوتِه، فهُم بيْنَ هذَينِ النَّوعَينِ، وأهلُ الوَسَطِ -وهم أهلُ الصِّراطِ المُستقيمِ- كَفُّوا ألسِنتَهم عن الباطِلِ، وأطلَقوها فيما يَعودُ عليهم نَفْعُه في الآخِرةِ [227] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 161). .
7- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ التَّحذيرُ مِن التَّهاوُنِ بالأعمالِ الصَّالحةِ، والتَّكاسُلِ عن التَّوبةِ؛ وأنَّ الإنسانَ يجبُ أن يُبادِرَ؛ لأنَّه لا يدري متى يأتيه الموتُ [228] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 96). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ يدُلُّ على اعتناءِ اللهِ بالعِبادِ، وحِفظِه لأعمالِهم، ومُجازاتِه لهم بالعَدلِ، فهذا الأمرُ مِمَّا يَجِبُ أن يَجعَلَه العبدُ منه على بالٍ، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ غافِلونَ [229] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 805). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فائِدةُ الإخبارِ بأنَّ اللهَ يَعلَمُ ما تُوسوِسُ به نفْسُ كُلِّ إنسانٍ: التَّنبيهُ على سَعةِ عِلمِ اللهِ تعالى بأحوالِهم كُلِّها، فإذا كان يَعلَمُ حَديثَ النَّفْسِ فلا عَجَبَ أن يَعلَمَ ما تَنقُصُ الأرضُ منهم [230] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/299). .
2- مَن أنكَرَ عِلمَ اللهِ تعالى فهو كافِرٌ، سَواءٌ أنكَرَه فيما يَتعلَّقُ بفِعْلِه، أو فيما يتعلَّقُ بخَلْقِه؛ فلو قال: إنَّ اللهَ تعالى لا يَعلَمُ ما يَفعَلُه العبدُ فهو كافِرٌ، كما لو قال: إنَّ اللهَ لا يَعلَمُ ما يَفعَلُه بنَفْسِه؛ ولهذا كفَّر أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ غُلاةَ القَدَريَّةِ الَّذين قالوا: إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لا يَعلَمُ أفعالَ العبادِ؛ فالَّذي يُنكِرُ عِلمَ اللهِ بأفعالِ العِبادِ لا شَكَّ أنَّه كافِرٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يَقولُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، ويَقولُ سُبحانَه وتعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [231] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/61). [الزخرف: 80] .
3- النَّفْسُ لها وَسوَسةٌ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ؛ فهذا تُوسوِسُ به نَفْسُه لِنَفْسِه، فالَّذي يُوسوِسُ في صُدورِ النَّاسِ نُفوسُهم، وشَياطينُ الجِنِّ وشَياطينُ الإنسِ [232] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/510). .
4- قال الله تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ لم يَقُلْ: على اليَمينِ وعلى الشِّمالِ؛ لأنَّهما ليسا على كَتِفَيه، بل هما في مَكانٍ قَريبٍ أقرَبَ مِن حَبلِ الوَريدِ [233] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 91). .
5- قولُه تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ أي: يتَلَقَّى المُتلَقِّيانِ جميعَ ما يَصْدُرُ عن الإنسانِ، فيَكْتُبانِه عليه [234] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/426). ، ويُؤخَذُ منه أنَّ لكُلِّ إنسانٍ ملَكَينِ يُحصِيانِ أعمالَه، وأنَّ أحدَهما يكونُ من جِهةِ يَمينِه، والآخَرَ من جِهةِ شِمالِه [235] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/302). .
6- في قَولِه تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أنَّ الملَكينِ يَكتُبانِ جميعَ أقوالِ العَبدِ؛ فإنَّه قال: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ نَكِرةٌ في سياقِ النَّفيِ مُؤكَّدةٌ بحَرفِ «مِن»؛ فهذا يَعُمُّ كُلَّ قَولِه [236] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/49). ، قال بَعضُهم: يُكتَبُ عليه كُلُّ شَيءٍ حتَّى الأنينُ في المَرَضِ، وهذا هو ظاهِرُ قَولِه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، وهذا هو ظاهِرُ الآيةِ؛ لأنَّ قَولَه: مِنْ قَوْلٍ نَصٌّ صَريحٌ في العُمومِ [237] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/428). ، فظاهِرُ الآيةِ الكريمةِ أنَّ القَولَ مهما كان يُكتَبُ، سواءٌ كان خيرًا أم شَرًّا أم لَغوًا يُكتَبُ، لكِنْ يُحاسَبُ على ما كان خَيرًا أو شرًّا، ولا يَلزَمُ مِن الكتابةِ أنْ يُحاسَبَ الإنسانُ عليها [238] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 92). قال ابن كثير: (اختلف العُلَماءُ: هل يَكتُبُ المَلَكُ كُلَّ شَيءٍ مِن الكلامِ، وهو قَولُ الحَسَنِ وقَتادةَ، أو إنَّما يكتُبُ ما فيه ثوابٌ وعِقابٌ، كما هو قَولُ ابنِ عبَّاسٍ: على قَولَينِ، وظاهِرُ الآيةِ الأوَّلُ؛ لِعُمومِ قَولِه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). ((تفسير ابن كثير)) (7/398). ويُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 44)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 161)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/303). .
7- في قَولِه تعالى: رَقِيبٌ حُجَّةٌ في تَسميةِ المخلوقينَ ووصفِهم باسمِ الخالِقِ ووصفِه [239] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/190). ، وذلك فيما كان له معنًى كُلِّيٌّ تتفاوتُ فيه أفرادٌ مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ -كالمَلِكِ، والعَزيزِ، والجَبَّارِ- فيَجوزُ تَسميةُ غَيرِ الله بها؛ فقد سَمَّى اللهُ نَفْسَه بهذه الأسماءِ، وسَمَّى بَعضَ عِبادِه بها، أمَّا ما كان مِن أسمائِه لا يقبل الشَّرِكةَ -كالخالِقِ والبارئِ- فلا تجوزُ التَّسميةُ به [240] جاء في فتوى اللَّجنةِ الدَّائِمةِ: (ما كان مِن أسماءِ اللهِ تعالى عَلَمَ شَخصٍ -كلَفظِ «اللهِ»- امتَنَع تَسميةُ غَيرِ اللهِ تعالى به؛ لأنَّ مُسَمَّاه مُعَيَّنٌ لا يَقبَلُ الشَّرِكةَ، وكذا ما كان مِن أسمائِه في معناه في عدَمِ قَبولِ الشَّرِكةِ كالخالِقِ والبارئِ... أمَّا مَا كان له معنًى كُلِّيٌّ تَتفاوَتُ فيه أفرادٌ مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ -كالمَلِكِ، والعَزيزِ، والجَبَّارِ، والمتكَبِّرِ- فيَجوزُ تَسميةُ غَيرِه بها؛ فقد سَمَّى اللهُ نَفْسَه بهذه الأسماءِ، وسَمَّى بَعضَ عِبادِه بها). ((فتاوى اللجنة الدائمة - 2)) (2/368). .
8- الرَّقيبُ هو العَتيدُ وليس غيرَه؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: رَقِيبٌ عَتِيدٌ، ولم يَقُلْ سُبحانَه: رَقيبٌ وعَتيدٌ [241] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/426). وهما وصفانِ للمَلَكينِ اللذينِ يسجِّلانِ أعمالَ العِبادِ، وليسا اسمينِ لهما. ينظر: ((عالم الملائكة الأبرار)) للأشقر (ص: 18). !
9- في قَولِه تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ أنَّ الموتَ له سَكَراتٌ، وله شِدَّةٌ [242] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (6/42). .
10- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ سُؤالٌ: أنَّ يومَ القيامةِ يومُ الوَعيدِ للكُفَّارِ، ويَومُ الوَعدِ للمُؤمِنينَ؛ فلماذا ذَكَرَ اللهُ تعالى هنا الوَعيدَ دونَ الوَعدِ؟
الجوابُ: لأنَّ السُّورةَ كلَّها مَبدوءةٌ بتَكذيبِ المكذِّبينَ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فناسَبَ أنْ يُغَلَّبَ فيها جانبُ الوَعيدِ؛ قال تعالى: ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إلخ؛ فكان مِن الحِكمةِ أنْ يُذْكَرَ الوَعيدُ دونَ الوَعدِ، ومع ذلك فقد ذَكَرَ اللهُ تعالى أصحابَ الجنَّةِ فيما بعدُ؛ لأنَّ القُرآنَ مَثانٍ [243] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 96). .
11- في قَولِه تعالى: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أنَّ النَّفْسَ إذا تَمَّ تَجَرُّدُها بالموتِ مِن تَعَلُّقِها بالبَدَنِ، رأتْ ما لم تكُنْ تَراه [244] يُنظر: ((الرد على المنطقيين)) لابن تيمية (ص: 470). !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ هذا تَفصيلٌ لبعضِ الخَلْقِ الأوَّلِ بذِكرِ خَلْقِ الإنسانِ، وهو أهمُّ في هذا المَقامِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّه المُرادُ من الخلْقِ الأوَّلِ، ولِيُبنى عليه وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ الَّذي هو تَتميمٌ لإحاطةِ صِفةِ العِلمِ في قَولِه: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق: 4] ، وليُنتَقَلَ منه إلى الإنذارِ بإحصاءِ أعمالِ النَّاسِ عليها، وهو ما استُرْسِلَ في وَصْفِه مِن قولِه: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ [ق: 17] إلخ [245] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/299). .
- قولُه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ تأكيدُ هذا الخبَرِ باللَّامِ و(قدْ) مُراعًى فيه المُتعاطِفاتُ، وهي (نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)؛ لأنَّهم وإنْ كانوا يعلَمون أنَّ اللهَ خلَقَ النَّاسَ؛ فإنَّهم لا يَعلَمون أنَّ اللهَ عالمٌ بأحوالِهم [246] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/299). .
- والإنسانُ يَعُمُّ جميعَ النَّاسِ، ولكنَّ المَقصودَ منهم أوَّلًا المشرِكون؛ لأنَّهم المَسوقُ إليهم هذا الخبَرُ، وهو تَعريضٌ بالإنذارِ، كما يدُلُّ عليه قولُه بعْدَه: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19] ، وقولُه: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [ق: 22] ، وقولُه: ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [247] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/299). [ق: 20] . وذلك على قولٍ.
- قولُه: وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ الباءُ في قَولِه: بِهِ صِلةٌ؛ لتأكيدِ اللُّصوقِ [248] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/299). .
- والإخبارُ عن فِعلِ الخَلْقِ بصِيغةِ المُضيِّ خَلَقْنَا ظاهرٌ، وأمَّا الإخبارُ عن عِلمِ ما تُوسوِسُ به النَّفْسُ بصِيغةِ المُضارِعِ؛ فلِلدَّلالةِ على أنَّ تَعلُّقَ عِلمِه تعالى بالوَسوسةِ مُتجدِّدٌ، غيرُ مُنقَضٍ ولا مَحدودٍ؛ لإثباتِ عُمومِ عِلمِ اللهِ تعالى، والكِنايةِ عن التَّحذيرِ مِن إضمارِ ما لا يُرضي اللهَ [249] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/299). .
- قولُه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ في مَوضِعِ الحالِ من ضَميرِ وَنَعْلَمُ، والمَقصودُ منها تأكيدُ عاملِها، وتحقيقُ استِمرارِ العِلمِ بباطنِ الإنسانِ، والقُربُ هنا قيل: هو كِنايةٌ على إحاطةِ العِلمِ بالحالِ؛ لأنَّ القُربَ يَستلزِمُ الاطِّلاعَ، ومِن لَطائِفِ هذا التَّمثيلِ أنَّ حبْلَ الوريدِ مع قُربِه لا يَشعُرُ الإنسانُ بقُربِه؛ لِخَفائِه، وكذلك قُرْبُ اللهِ مِن الإنسانِ بعِلمِه -أو قُربُ ملائكتِه- قُربٌ لا يَشعُرُ به الإنسانُ؛ فلذلك اختِيرَ تَمثيلُ هذا القُربِ بقُربِ حبْلِ الوريدِ، وبذلك فاقَ هذا التَّشبيهُ لحالةِ القُربِ كُلَّ تَشبيهٍ مِن نَوعِه ورَدَ في كلامِ البُلغاءِ [250] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/300، 301). .
- وإضافةُ الحَبْلِ إلى الوريدِ: إمَّا للبَيانِ، كقولِهم: بعيرُ سانيةٍ [251] السَّانِيَةُ: النَّاضِحةُ، وهي النَّاقةُ الَّتي يُستَقَى عليها. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2384). ، وشَجَرُ الأراكِ. وإمَّا أنْ يُرادَ حبلُ العاتِقِ، فيُضافَ إلى الوَريدِ كما يُضافُ إلى العاتقِ؛ لاجتِماعِهما في عضْوٍ واحدٍ [252] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/384)، ((تفسير البيضاوي)) (5/141)، ((تفسير أبي حيان)) (9/533)، ((تفسير أبي السعود)) (8/128)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/300). .
2- قولُه تعالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ هذا الكلامُ تَخلُّصٌ للمَوعظةِ والتَّهديدِ بالجزاءِ يومَ البعثِ والجزاءِ مِن إحصاءِ الأعمالِ خَيرِها وشَرِّها المعلومةِ مِن آياتٍ كثيرةٍ في القرآنِ. وهذا التَّخلُّصُ بكلمةِ (إذ) الدَّالَّةِ على الزَّمانِ مِن ألطَفِ التَّخلُّصِ [253] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/301). .
- قولُه: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ مُقدَّرٌ بـ (اذكُرْ)، أو مُتعلِّقٌ بـ أَقْرَبُ [ق: 16] ، أي: هو أعلَمُ بحالِه مِن كلِّ قريبٍ حينَ يَتلقَّى -وذلك على قولٍ- أي: يَتلقَّنُ الحَفيظانِ ما يَتلفَّظُ به، وفيه إيذانٌ بأنَّه سُبحانَه غنيٌّ عن استِحفاظِ الملَكَينِ؛ فإنَّه أعلَمُ مِن الملَكَينِ، ومُطَّلِعٌ على ما يَخفَى عليهما، لكنَّه لِحِكمةٍ اقتَضَتْه، وهي ما فيه مِن تَشديدٍ يُثبِّطُ العَبدَ عن المعصيةِ، وتأكيدٍ في اعتِبارِ الأعمالِ وضَبطِها للجزاءِ، وإلزامٍ للحُجَّةِ يومَ يَقومُ الأَشهادُ [254] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/384، 385)، ((تفسير البيضاوي)) (5/141)، ((تفسير أبي السعود)) (8/128، 129). .
- ومفعولُ التَّلَقِّي في الفعلِ الَّذي هو يَتَلَقَّى، والوصْفُ الَّذي هو الْمُتَلَقِّيَانِ مَحْذوفٌ، تَقديرُه: إذْ يتَلَقَّى المُتلَقِّيانِ جميعَ ما يَصْدُرُ عن الإنسانِ فيَكْتُبانِه عليه [255] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/426). . وقيل: حُذِف مَفعولُ يَتَلَقَّى؛ لدَلالةِ قَولِه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، والتَّقديرُ: إذ تُحصى أقوالُهم وأعمالُهم [256] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/302). .
- وتعريفُ الْمُتَلَقِّيَانِ تعريفُ العهدِ إذا كانتِ الآيةُ نزَلَت بعدَ آياتٍ ذُكِرَ فيها الحفَظةُ، أو تَعريفُ الجِنسِ، والتَّثنيةُ فيها للإشارةِ إلى أنَّ هذا الجِنسَ مُقسَّمٌ اثنَينِ اثنينِ [257] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/301). .
- والتَّعريفُ في اليمينِ والشِّمالِ تَعريفُ العهدِ، أو اللَّامُ عِوَضٌ عن المُضافِ إليه، أي: عن يمينِ الإنسانِ وعن شِمالِه [258] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/302). .
- ويَجوزُ أنْ يكونَ قولُه: قَعِيدٌ بدَلًا مِن الْمُتَلَقِّيَانِ بدَلَ بعضٍ، ويكونَ عَنِ الْيَمِينِ مُتعلِّقًا بـ قَعِيدٌ، وقُدِّمَ على مُتعلَّقِه؛ للاهتِمامِ بما دلَّ عليه مِن الإحاطةِ، وللرِّعايةِ على الفاصِلةِ. ويجوزُ أنْ يكونَ عَنِ الْيَمِينِ خبَرًا مُقدَّمًا، وقَعِيدٌ مُبتدأً، وتكونَ الجُملةُ بيانًا لِجُملةِ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ [259] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/302). .
- وقالَ قَعِيدٌ ولم يقُلْ: قَعيدانِ -إذ إنَّه وصْفٌ للملَكَينِ المذكورَين-؛ لأنَّ معناه عن اليَمينِ قَعيدٌ، وعن الشِّمالِ قَعيدٌ، لكنَّه حُذِفَ أحدُهما لدَلالةِ المَذكورِ عليه، أو أنَّ (فَعيلًا) يَستوي فيه الواحدُ والاثنانِ والجمعُ، وقيل: معناه: مُقاعِدٌ، كما تقولُ: جليسٌ وخليطٌ، أي: مُجالِسٌ ومُخالِطٌ، فيَكونُ عُدِلَ مِن فاعلٍ إلى فَعيلٍ للمُبالَغةِ، كـ (عليمٍ) [260] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/384، 385)، ((تفسير البيضاوي)) (5/141)، ((تفسير أبي حيان)) (9/534)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 531، 532)، ((تفسير أبي السعود)) (8/129)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/302). ، أو أنه قال ذلك رعايةً للفواصِلِ [261] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 531). .
- وجُملةُ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ مُبيِّنةٌ لجُملةِ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ؛ فلذلك فُصِلَت [262] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/302). .
- و(مِن) في قَولِه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ صِلةٌ في مَفعولِ الفعلِ المنْفيِّ؛ للتَّنْصيصِ على الاستِغراقِ [263] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/303). .
- قولُه: إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ استِثناءٌ مِن أحوالٍ عامَّةٍ، أي: ما يقولُ قولًا في حالةٍ إلَّا في حالةِ وُجودِ رَقيبٍ عتيدٍ لَدَيه، وإنَّما خُصَّ القولُ بالذِّكرِ؛ لأنَّ مِن الأقوالِ السَّيِّئةِ ما لَه أثرٌ شديدٌ في الإضلالِ، كالدُّعاءِ إلى عِبادةِ الأصنامِ، ونهْيِ النَّاسِ عن اتِّباعِ الحقِّ، وتَرويجِ الباطلِ بإلقاءِ الشُّبَهِ، وتَغريرِ الأغرارِ، ونحوِ ذلك، على أنَّه مِن المعلومِ بدَلالةِ الاقتِضاءِ [264] دلالةُ الاقتضاءِ: هي دلالةُ اللَّفظِ على مقصودٍ محذوفٍ لا بدَّ مِن تقديرِه؛ لتوقُّفِ الصِّدقِ أو الصِّحَّةِ عليه. يُنظر: ((إجابة السائل شرح بغية الآمل)) لابن الأمير (ص: 355)، ((مذكرة في أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 283). أنَّ المُؤاخَذةَ على الأعمالِ أَوْلى مِن المُؤاخَذةِ على الأقوالِ، وتلك الدَّلالةُ كافيةٌ في تَذْكيرِ المؤمنينَ، وقيل غيرُ ذلك [265] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/303). .
3- قولُه تعالَى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لبَيانِ ما يُلاقونه مِن الموتِ والبَعثِ، وما يَترتَّبُ عليهما مِن الأهوالِ [266] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/385)، ((تفسير البيضاوي)) (5/141)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/540)، ((تفسير أبي السعود)) (8/129)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/288). . أو هو عطْفٌ على جُملةِ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ؛ لاشتِراكِهما في التَّنبيهِ على الجَزاءِ على الأعمالِ؛ فهذا تَنقُّلٌ في مَراحلِ الأُمورِ العارضةِ للإنسانِ الَّتي تُسلِّمُه مِن حالٍ إلى آخَرَ، حتَّى يقَعَ في الجزاءِ على أعمالِه الَّتي قدْ أحْصاها الحَفيظانِ [267] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/305، 306). .
- وعُبِّرَ بصِيغةِ الماضي (جاءتْ)؛ إيذانًا بتَحقيقِ ذلك، وغايةِ اقترابِه، وأنَّه لقُربِه صار بمَنزِلةِ ما حصَلَ؛ قَصدًا لإدخالِ الرَّوعِ في نُفوسِ المشركين [268] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/129)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/305، 306). .
- وفي التَّعبيرِ عن الحُصولِ والاعتراءِ بالمَجيءِ تَهْويلٌ لحالةِ احتِضارِ الإنسانِ، وشُعورِه بأنَّه مُفارِقٌ الحياةَ الَّتي ألِفَها، وتعلَّقَ بها قلبُه [269] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/306). .
- وقولُه: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ إشارةٌ إلى الموتِ بتَنْزيلِ قُربِ حُصولِه مَنزِلةَ الحاصِلِ المُشاهَدِ، والخِطابُ فيها للإنسانِ المَذكورِ في قَولِه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ على طَريقِ الالْتفاتِ، أو إشارةٌ إلى الحقِّ، والخِطابُ للفاجرِ [270] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/386)، ((تفسير البيضاوي)) (5/141)، ((تفسير أبي حيان)) (9/534)، ((تفسير أبي السعود)) (8/130)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/306). .
- وتَقديمُ مِنْهُ على تَحِيدُ؛ للاهتِمامِ بما منه الحِيادُ، وللرِّعايةِ على الفاصِلةِ [271] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/307). .
- وتَحِيدُ تَفِرُّ وتَهرُبُ، وهو مُعبَّرٌ به عن الكراهيةِ، أو تجنُّبِ أسبابِ الموتِ، والخِطابُ المقصودُ الأوَّلُ منه هم المُشرِكون؛ لأنَّهم أشدُّ كراهيةً للمَوتِ؛ لأنَّ حَياتَهم مادِّيَّةٌ مَحضةٌ، فهم يُريدونَ طُولَ الحياةِ؛ إذ لا أمَلَ لهم في حياةٍ أُخرى، ولا أملَ لهم في تَحصيلِ نَعيمِها، فأمَّا المؤمنون فإنَّ كراهتَهم للمَوتِ المُرتكِزةَ في الجِبِلَّةِ بمِقدارِ الإلْفِ لا تبلُغُ بهم إلى حدِّ الجزَعِ منه [272] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/306). .
4- قولُه تعالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ
- صِيغةُ المُضيِّ وَنُفِخَ مُستعمَلةٌ في مَعنى المضارعِ، أي: يُنفَخُ في الصُّورِ؛ وإنَّما صِيغَ له المُضيُّ لتَحقُّقِ وُقوعِه [273] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/307). .
- والإخبارُ عن النَّفخِ بأنَّه يَوْمُ الْوَعِيدِ بتَقديرِ مُضافٍ، أي: ذلك حُلولُ يومِ الوعيدِ. وإضافةُ يَوْمُ إلى الْوَعِيدِ مِن إضافةِ الشَّيءِ إلى ما يقَعُ فيه، أي: يومَ حُصولِ الوعيدِ الَّذي كانوا تُوُعِّدوا به، والاقتِصارُ على ذِكرِ الوعيدِ؛ لأنَّ المقصودَ الأوَّلَ مِن هذه الآيةِ هم المشرِكون. وفي الكلامِ اكتفاءٌ [274] تقدم تعريفه (ص: 145). ، تَقديرُه: ويومُ الوعْدِ [275] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/534)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/307). .
5- قولُه تعالَى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ مَقولُ قَولٍ محذوفٍ دلَّ عليه تَعيُّنُه مِن الخِطابِ، أي: يُقالُ هذا الكلامُ لكلِّ نفْسٍ مِن نُفوسِ المشركين، فهو خِطابُ التَّهكُّمِ التَّوبيخيِّ للنَّفْسِ الكافرةِ؛ لأنَّ المؤمنَ لم يكُنْ في غَفلةٍ عن الحَشرِ والجَزاءِ. أو الخِطابُ لكُلِّ إنسانٍ، والخِطابُ للكُلِّ بذلك؛ لِمَا أنَّه ما مِن أحدٍ إلَّا وله غَفْلةٌ ما مِن الآخرةِ [276] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/130)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/308)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/289). .
- وعَلاماتُ الخِطابِ في كَلماتِ كُنْتَ عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ مَفتوحةٌ؛ لتَأويلِ النَّفْسِ بالشَّخصِ أو بالإنسانِ، ثمَّ غُلِّبَ فيه التَّذكيرُ على التَّأنيثِ [277] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/309). .
- قولُه: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ... الغَفْلةُ: الذُّهولُ عمَّا شَأنُه أنْ يُعلَمَ، وأُطلِقَت هنا على الإنكارِ والجَحدِ على سَبيلِ التهكُّمِ -على قولٍ في التَّفسيرِ- ورَشَّحَ ذلك قولُه: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ، بمعنى: بيَّنَّا لك الدَّليلَ بالحِسِّ، فهو أيضًا تهكُّمٌ [278] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/309). .
- وأُوثِرَ قولُه: فِي غَفْلَةٍ على أنْ يُقالَ: (غَافلًا)؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِ الغَفْلةِ منه [279] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/309). .
- وقال: فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ولم يَقُلْ: «عنه» كما قال: وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [هود: 110] ، ولم يَقُلْ: «في شَكٍّ فيه»، وجاء هذا في المصدَرِ وإنْ لم يَجِئْ في الفِعلِ؛ فلا يُقالُ: «غَفَلْتُ منه»، ولا «شَكَكْتُ منه»، كأنَّ غَفلتَه وشَكَّه ابتِداءٌ منه، فهو مَبدَأُ غفلتِه وشَكِّه، وهذا أبلَغُ مِن أنْ يُقالَ: «في غفلةٍ عنه» و «شَكٍّ فيه»؛ فإنَّه جَعَلَ ما يَنبغي أنْ يكونَ مَبدأَ التَّذكِرةِ واليَقينِ ومَنشأَهما مَبدأً للغَفلةِ والشَّكِّ [280] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 10). !
- وكَشفُ الغِطاءِ كِنايةٌ عن الغَفْلةِ، كأنَّها غطَّتْ جميعَه أو عينَيه فهو لا يُبصِرُ، فإذا كانتِ القِيامةُ زالَتْ عنه الغَفْلةُ فتكشَّفَتْ له الحقائقُ، وانجلَى عنه الرَّينُ الَّذي كان مَسدولًا أمامَه، فأبصَرَ ما لم يكُنْ يُبصِرُه في حياتِه [281] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/386)، ((تفسير البيضاوي)) (5/141)، ((تفسير أبي السعود)) (8/130)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/309)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/293). .
- وأُسنِدَ الكَشفُ إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّه الَّذي أظهَرَ لها أسبابَ حُصولِ اليَقينِ بشَواهِدِ عَينِ اليقينِ [282] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/309). .
- وأُضيفَ (غِطاء) إلى ضَميرِ الإنسانِ المُخاطَبِ؛ للدَّلالةِ على اختِصاصِه به، وأنَّه ممَّا يُعرَفُ به [283] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/309). .
- قولُه: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ حِدَّةُ البصَرِ: قُوَّةُ نفاذِه في المَرْئيِّ، وحِدَّةُ كلِّ شيءٍ قُوَّةُ مَفعولِه، ومنه حِدَّةُ الذِّهنِ، والكلامُ يَتضمَّنُ تَشْبيهَ حُصولِ اليقينِ برُؤيةِ المَرئيِّ ببَصَرٍ قويٍّ. وتَقييدُه بقولِه: الْيَوْمَ تَعريضٌ بالتَّوبيخِ، أي: ليس حالُك اليَومَ كحالِكَ قبْلَ اليومِ؛ إذْ كنتَ في الدُّنيا مُنكِرًا للبَعثِ [284] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/309). . وذلك على القولِ بأنَّ المرادَ به الكافرُ.