موسوعة التفسير

سُورةُ ق
الآيات (23-30)

ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ

غريب الكلمات:

قَرِينُهُ: أي: المَلَكُ المُصاحِبُ له، وقيل: الشَّيطانُ المقرونُ به، وأصلُ (قرن): يدُلُّ على جَمعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ [285] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 371)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/76)، ((المفردات)) للراغب (ص: 667)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 167)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (35/541). .
مُرِيبٍ: أي: واقِعٍ في الرِّيبةِ والشَّكِّ، ومُوقِعٍ غَيرَه كذلك في الشَّكِّ، والرِّيبةُ: التُّهمةُ، وهي ظنُّ السوءِ، فهي قِسمٌ مِن الشكِّ، والرِّيبةُ: قَلَقُ النَّفْسِ، وانتفاءُ الطُّمأْنينةِ، وأصلُ (ريب): يدُلُّ على شَكٍّ [286] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/454)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (15/182)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/463)، ((البسيط)) للواحدي (2/37)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 163)، ((تفسير الشوكاني)) (2/576). .
أَطْغَيْتُهُ: أي: أَضلَلتُه، وأغوَيتُه، وأوقَعتُه في الطُّغيانِ، وأصلُ الطُّغيانِ: مُجاوَزةُ الحَدِّ في العِصيانِ [287] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/412)، ((المفردات)) للراغب (ص: 520)، ((تفسير القرطبي)) (17/17)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 142). .
تَخْتَصِمُوا: أي: تَتنازَعوا، وأصلُ (خصم): يدُلُّ على مُنازَعةٍ [288] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/442)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/187)، ((المفردات)) للراغب (ص: 284). .

المعنى الإجمالي:

يحكي الله سبحانَه بعضَ مَشاهِدِ يومِ القيامةِ، وما يقولُه قَرينُ الإنسانِ، فيقولُ تعالى: وقال المَلَكُ المَقْرونُ بالإنسانِ في الدُّنيا لِكِتابةِ أعمالِه: هذا هو الَّذي وُكِّلتُ به، وهذا عَمَلُه الَّذي أحصَيْتُه عليه حاضِرٌ، فيقولُ اللهُ تعالى: اطْرَحا في نارِ جَهنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ شديدِ العِنادِ، مَنَّاعٍ للخَيرِ، مُعتَدٍ على حُدودِ اللهِ، ظالِمٍ للنَّاسِ، شاكٍّ في وحدانيَّةِ اللهِ وقُدرتِه، ومُشكِّكٌ لِغَيرِه، ذلك الَّذي أشرَكَ باللهِ، فعَبَد معه مَعبودًا آخَرَ، فألْقِياه في عَذابِ النَّارِ الشَّديدِ.
قال الشَّيطانُ مُتَبَرِّئًا مِن ذلك الكافِرِ: رَبَّنا ما أضلَلتُه ولا أغوَيتُه؛ فلا سُلطانَ لي عليه، ولكِنَّه كان ضالًّا بَعيدًا عن الحَقِّ.
وقال اللهُ تعالى لأولئك المُشرِكينَ وقُرَنائِهم مِنَ الشَّياطينِ: لا تَختَصِموا عندي، وقد سبَق أن أقمْتُ عليكم الحُجَّةَ في الدُّنيا، فلا يُغَيَّرُ قَولي الَّذي قُلْتُه مِن قَبْلُ بأنِّي سأَمْلأُ جَهنَّمَ مِن الجِنَّةِ والنَّاسِ أجمَعينَ، وما أنا بذِي ظُلمٍ لعِبادي.
يومَ نَقولُ لِجَهنَّمَ: هل امتَلَأتِ، وتقولُ جَهنَّمُ طالِبةً المَزيدَ: هل مِن زيادةٍ؟!

تفسير الآيات:

وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23).
أي: وقال المَلَكُ المَقْرونُ بالإنسانِ في الدُّنيا لِكِتابةِ أعمالِه: هذا هو الَّذي وُكِّلتُ به قد أحضَرْتُه، وهذا عَمَلُه الَّذي أحصَيْتُه عليه مُعَدٌّ مُحضَرٌ، بلا زِيادةٍ ولا نُقْصانٍ [289] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/436)، ((تفسير القرطبي)) (17/16)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 10)، ((تفسير ابن كثير)) (7/402)، ((تفسير السعدي)) (ص: 805)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 98، 99). قال ابنُ كثير: (قال مجاهِدٌ: هذا كلامُ المَلَكِ السَّائِقِ، يقولُ: هذا ابنُ آدَمَ الَّذي وكَّلْتَني به، قد أحضَرْتُه. وقد اختار ابنُ جريرٍ أنْ يَعُمَّ السَّائِقَ والشَّهيدَ، وله اتِّجاهٌ وقُوَّةٌ). ((تفسير ابن كثير)) (7/402). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/436، 437). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ: الملَكُ الموَكَّلُ به: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والثعلبي، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، وابنُ كثير، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل ابن سليمان)) (4/113)، ((تفسير السمرقندي)) (3/336)، ((تفسير الثعلبي)) (9/101)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1023)، ((تفسير السمعاني)) (5/242)، ((تفسير البغوي)) (4/274)، ((تفسير ابن كثير)) (7/402)، ((تفسير السعدي)) (ص: 805)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 98). قال النسفي: (وَقَالَ قَرِينُهُ الجمهورُ على أنَّه الملَكُ الكاتبُ الشَّهيدُ عليه). ((تفسير النسفي)) (3/365).  وقال ابنُ القيِّم: (يَقولُ لَمَّا يُحضِرُه: هذا الَّذي كُنتَ وَكَّلْتَني به في الدُّنيا قد أحضَرْتُه وأتَيْتُك به. هذا قَولُ مُجاهِدٍ. وقال ابنُ قُتَيْبةَ: المعنى: هذا ما كَتبتُه عليه وأحصَيتُه مِن قَولِه وعَمَلِه حاضِرٌ عِندي). ((الفوائد)) (ص: 10). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ -أي: هذا الذي وكَّلتني به قد أتيتُكَ به: السمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/336). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: ابنُ قُتَيبةَ، والسمعانيُّ، والقرطبيُّ، وهو ظاهرُ اختيارِ ابنِ كثير، واختاره العُلَيمي. يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 239)، ((تفسير السمعاني)) (5/242)، ((تفسير القرطبي)) (17/16)، ((تفسير ابن كثير)) (7/402)، ((تفسير العليمي)) (6/387). وممَّن جمَع بيْن القَولَينِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ الجوزي، وابنُ القيم، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/113)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/161)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 10)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806). قال ابن القيم: (والتَّحقيقُ: أنَّ الآيةَ تَتضَمَّنُ الأمْرَينِ، أي: هذا الشَّخصُ الَّذي وُكِّلْتُ به، وهذا عَمَلُه الَّذي أحصَيتُه عليه). ((الفوائد)) (ص: 10). وقال السعدي: (فيُحضِرُه يومَ القيامةِ ويُحضِرُ أعمالَه، ويقولُ: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ، أي: قد أحضَرْتُ ما جُعِلتُ عليه؛ مِن حِفظِه، وحِفظِ عمَلِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 806). وقال ابن عطيَّة: (قال جماعةٌ مِن المفسِّرينَ: قَرِينُه مِن زَبانيةِ جهنَّمَ، أي قال: هذا العذابُ الَّذي لَدَيَّ لهذا الإنسانِ الكافرِ حاضرٌ عَتيدٌ، ففي هذا تحريضٌ على الكافرِ، واستِعجالٌ به). ((تفسير ابن عطية)) (5/163). وقيل: القَرينُ هنا: هو الشَّيطانُ الَّذي سُلِّطَ على إغواءِ الإنسانِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الزمخشريُّ، وابنُ جُزَي، والبِقاعي، وأبو السعود، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/386)، ((تفسير ابن جزي)) (2/302)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/425، 426)، ((تفسير أبي السعود)) (8/130)، ((تفسير القاسمي)) (9/21). والمعنى على هذا القولِ: هذا الإنسانُ حاضرٌ لدَيَّ، أعتَدْتُه ويَسَّرْتُه لِجَهنَّمَ، وهَيَّأْتُه لها بإغوائي وإضلالي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/386)، ((تفسير ابن جزي)) (2/302). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (26/310). .
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24).
أي: فيقول اللهُ تعالى: اطْرَحا [290] قال ابنُ القَيِّم: (هذا إمَّا أن يكونَ خِطابًا للسَّائِقِ والشَّهيدِ، أو خِطابًا للمَلَكِ المُوَكَّلِ بعذابِه وإن كان واحِدًا، وهو مَذهَبٌ مَعروفٌ مِن مَذاهِبِ العَرَبِ في خِطابِها، أو تكونَ الألِفُ مُنقَلِبةً عن نونِ التَّأكيدِ الخَفيفةِ، ثمَّ أُجْرِيَ الوَصلُ مجرى الوَقفِ). ((الفوائد)) (ص: 10، 11). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/163)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 99). وأيضًا -على أنَّ الخِطابَ للملَكَينِ-: فقولُه: وَقَالَ قَرِينُهُ مفردٌ مضافٌ -والمعروفُ أنَّ المفردَ المضافَ يكونُ للعُمومِ -؛ فيَشملُ كلَّ ما ثَبَتَ مِن قرينٍ، وعلى هذا فيكونُ وَقَالَ قَرِينُهُ أي: الملَكانِ الموكّلانِ به، وممَّا يدُلُّ على أنَّ المفردَ يكونُ لأكثَرَ مِن واحدٍ -وذلك إذا أُضيفَ- قولُ الله عزَّ وجل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [النحل: 18] ، فنِعمةُ اللهِ مُفرَدٌ مٌضافٌ؛ فتَكونُ شاملةً لكلِّ نعمةٍ. وكذلك إذا كان المفردُ اسمَ جِنسٍ. أو: أنَّ قولَه: وَقَالَ قَرِينُهُ هو واحدٌ مِن الملَكَينِ، ولا شكَّ أنَّه يجوزُ أنْ يَتكلَّمَ واحدٌ مِن الاثنَينِ باسمِ الاثنَينِ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 99). وأيضًا: قيل -على أنَّ الخِطابَ لواحدٍ-: إنَّ تَثنيةَ الفاعِلِ أُقيمَت مَقامَ تَكرُّرِ الفِعلِ للتَّأكيدِ، واتِّحادِهما حُكمًا، فكأنَّه قال: ألْقِ ألْقِ، كقَولِ امرئِ القَيسِ: (قِفَا نَبْكِ). وأيضًا فإنَّ العرَبَ أكثَرُ ما يُرافِقُ الرَّجُلَ منهم اثنانِ؛ فكَثُرَ على ألسِنتِهم خِطابُهما، فقالوا: خَليلَيَّ، وصاحِبَيَّ، وقِفَا، ونحوَها. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/ 387)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 532). في نارِ جَهنَّمَ كُلَّ كثيرِ الكُفرِ باللهِ وبدِينِه، وآياتِه ونِعَمِه؛ شديدِ العِنادِ للحَقِّ [291] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/437، 438)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 10، 11)، ((تفسير ابن كثير)) (7/402)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/426)، ((تفسير السعدي)) (ص: 805)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/312). .
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25).
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ.
أي: كَثيرِ المَنعِ لكلِّ خَيرٍ [292] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/438)، ((تفسير القرطبي)) (17/17)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 11)، ((تفسير ابن كثير)) (7/402)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/312)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 100). قال ابنُ عطيَّة: (قَولُه تعالى: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ لَفظٌ عامٌّ للمالِ، والكلامِ الحَسَنِ، والمُعاوَنةِ على الأشياءِ. وقال قَتادةُ، ومجاهِدٌ، وعِكْرِمةُ: معناه: الزَّكاةُ المفروضةُ. وهذا التَّخصيصُ ضَعيفٌ). ((تفسير ابن عطية)) (5/164). ممَّن قصَر الخَيرَ هنا على الزَّكاةِ: ابنُ أبي زَمَنِين، والقُشَيريُّ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/273)، ((تفسير القشيري)) (3/ 452). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ: الزَّكاةُ، وكلُّ حقٍّ وجَبَ لله، أو لآدَميٍّ في مالِه: ابنُ جرير، والثعلبيُّ، والبغوي، والبيضاوي، والخازن، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/439)، ((تفسير الثعلبي)) (9/102)، ((تفسير البغوي)) (4/274)، ((تفسير البيضاوي)) (5/142)، ((تفسير الخازن)) (4/188)، ((تفسير أبي السعود)) (8/131). وممَّن اختار العمومَ في كلِّ خَيرٍ دونَ أن يَقصُرَه على المالِ: ابنُ عطيَّة، وابنُ جُزَي، وابن كثير، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/164)، ((تفسير ابن جزي)) (2/303)، ((تفسير ابن كثير)) (7/402)، ((تفسير الشوكاني)) (5/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالخَيرِ: الإيمانُ والإسلامُ، وأنَّهم كانوا يَمنَعون أبناءَهم وذَويهم مِن الإسلامِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/113)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/312). .
مُعْتَدٍ مُرِيبٍ.
أي: مُعْتَدٍ على حُدودِ اللهِ، ظالِمٍ للنَّاسِ، شاكٍّ في وحدانيَّةِ اللهِ وقُدرتِه، ووَعْدِه ووَعيدِه، ومُشكِّكٌ لِغَيرِه [293] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/439)، ((تفسير ابن عطية)) (5/164)، ((تفسير القرطبي)) (17/17)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 11)، ((تفسير ابن كثير)) (7/402)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/427)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ بقولِه: مُرِيبٍ أي: شاكٍّ في الله ووحدانيَّتِه وقدرتِه ودينِه: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقندي، ومكِّي، والواحدي، والبغوي، والزمخشري، والقرطبي، والبيضاوي، والنسفي، والخازن، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/113)، ((تفسير ابن جرير)) (21/439)، ((تفسير السمرقندي)) (3/336)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7050)، ((الوسيط)) للواحدي (4/167)، ((تفسير البغوي)) (4/274)، ((تفسير الزمخشري)) (4/387)، ((تفسير القرطبي)) (17/17)، ((تفسير البيضاوي)) (5/142)، ((تفسير النسفي)) (3/366)، ((تفسير الخازن)) (4/188)، ((تفسير الشوكاني)) (5/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806). وممَّن اختار أنَّ قولَه: مُرِيبٍ المرادُ به أنَّه مُشَكِّكٌ: الثعلبيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/102)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/312). قال ابن عاشور: (والمريبُ الَّذي أراب غيرَه، أي: جعَلَه مُرتابًا، أي: شاكًّا، أي: بما يُلقُونَه إلى النَّاسِ مِن صُنوفِ المُغالَطةِ؛ لِيُشَكِّكوهم في صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وصحَّةِ الإيمانِ والتَّوحيدِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/312). وممَّن جمَع بيْنَ القولَينِ: البِقاعي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/427)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 100). قال ابن عثيمين: (مُرِيبٍ أي: واقِعٍ في الرِّيبةِ والشَّكِّ والقَلَقِ، وكذلك أيضًا يُشَكِّكُ غَيرَه فيُدخِلُ في قَلْبِه الرِّيبةَ. فكَلِمةُ مُرِيبٍ تَقتَضي وَصْفَ الإنسانِ بها، وحَمْلَ هذا الوَصفِ إلى غَيرِه). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 100). وقال ابن كثير: (مُرِيبٍ أي: شاكٍّ في أمرِه، مُريبٍ لِمَن نظَر في أمرِه). ((تفسير ابن كثير)) (7/402). وقال ابن القيِّم: (ومع هذا فهو آتٍ لكُلِّ رِيبةٍ؛ يقال: فُلانٌ مُريبٌ: إذا كان صاحِبَ رِيبةٍ). ((الفوائد)) (ص: 11). وقال ابن عطيَّة: (و: مُرِيبٍ معناه: مُتلَبِّسٌ بما يرتابُ به، أرابَ الرَّجُلُ: إذا أتى برِيبةٍ ودخَل فيها). ((تفسير ابن عطية)) (5/164). .
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26).
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ.
أي: الَّذي أشرَكَ باللهِ، فعَبَد معه مَعبودًا آخَرَ مِن خَلْقِه [294] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/439)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 11)، ((تفسير ابن كثير)) (7/402)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806). قال ابنُ عثيمين: (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إن كانت وصْفًا خاصًّا بالكَفَّارِ العنيدِ فإنَّها تختصُّ بمَن يَعبُدُ الصَّنَمَ والوَثَنَ، وإن كانت للعُمومِ فهي تَشملُ كُلَّ مَنِ اشتغل بغيرِ اللهِ عن طاعتِه؛ حتى التَّاجِرُ الذي ليس له هَمٌّ إلَّا تجارتُه وتنميتُها فإنَّه عابدٌ لها). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 101، 102) بتصرف. .
كما قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان: 43] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((تَعِسَ [295] تَعِسَ: أي: خاب وخَسِرَ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3228). عبدُ الدِّينارِ والدِّرهَمِ، والقَطيفةِ والخَميصةِ [296] الخَميصةِ: هي ثَوبُ خَزٍّ أو صُوفٍ مُعَلَّمٌ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3228). ؛ إن أُعطِيَ رَضِيَ، وإنْ لم يُعطَ لم يَرْضَ )) [297] رواه البخاري (6435). .
فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ.
أي: يَقولُ اللهُ يومَ القيامةِ: فألْقِيَا ذلك المتَّصِفَ بتلك الصِّفاتِ في عَذابِ النَّارِ الشَّديدِ [298] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/439)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/311، 312). .
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27).
أي: قال الشَّيطانُ مُتَبَرِّئًا مِن ذلك الكافِرِ الَّذي اقتَرَن به في الدُّنيا: رَبَّنا ما أوقَعْتُه فيما كان فيه مِن طُغيانٍ، ولا أضلَلتُه ولا أغوَيتُه؛ فإنَّه لا سُلطانَ لي عليه، ولا حُجَّةَ ولا بُرهانَ، ولكِنْ كان بَعيدًا عن الحَقِّ باختيارِه، مُبادِرًا إلى الضَّلالِ بطَبْعِه [299] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/440، 441)، ((الوسيط)) للواحدي (4/167)، ((تفسير القرطبي)) (17/17)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 11)، ((تفسير ابن كثير)) (7/403)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/428، 429)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806). قال ابنُ عطيَّة: (هو شَيطانُه في الدُّنيا ومُغْويه بلا خِلافٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/163). وقال السمعاني: (قوله تعالى: قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ القرينُ هاهنا هو الشَّيطانُ باتِّفاقِ المفسِّرينَ). ((تفسير السمعاني)) (5/243). ونسَبَه ابنُ الجوزيِّ والشَّوكانيُّ للجمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/162)، ((تفسير الشوكاني)) (5/91). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الثعلبي)) (9/102)، ((تفسير القرطبي)) (17/17). وقال الواحدي: (قولُه تعالى: قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ اختلَفوا في المرادِ بالقرينِ هاهنا؛ فقال ابنُ عبَّاسٍ في روايةِ عَطاءٍ: يعني: قرينَه مِن الشَّياطينِ. وقال مقاتلٌ: قَرِينُهُ هو شَيطانُه. واختاره ابنُ قُتَيْبةَ... وقال الكَلْبيُّ: يقولُ الملَكُ: ربَّنا ما أطغَيْتُه. وعلى هذا القولِ المرادُ بالقرينِ الملَكُ. وهو قولُ سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قال: يقولُ الكافرُ: ربِّ إنَّ الملَكَ زاد علَيَّ في الكتابةِ. واختار الفَرَّاءُ هذا القولَ، فقال: إنَّ الكافرَ يقولُ: يا ربِّ إنَّه كان يُعجِلُني عن التَّوبةِ، فيقولُ الملَكُ: ربَّنا ما أطغَيْتُه، أي: ما أعجلتُه عن التَّوبةِ، وما زِدتُ عليه. والمعنى: لم أكُنْ سببَ طُغيانهِ بالإعجالِ والزِّيادةِ عليه، ولكنْ كان في ضلالٍ بعيدٍ لا يَرجِعُ إلى الحقِّ ولا إلى التَّوبةِ). ((البسيط)) (20/ 402). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/113)، ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 239)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/ 79). .
كما قال تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم: 22] .
قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28).
أي: قال اللهُ تعالى لأولئك المُشرِكينَ وقُرَنائِهم مِنَ الشَّياطينِ [300] ممَّن اختار أنَّ هذا الخِطابَ للكافرينَ وقرنائِهم مِن الشَّياطينِ: القرطبيُّ، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/17)، ((تفسير الشوكاني)) (5/91). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (7/403). قال ابن عطية: (وجمَعَ الضَّميرَ في قَولِه: لَا تَخْتَصِمُوا يريدُ بذلك مُخاطَبةَ جَميعِ القُرَناءِ؛ إذ هو أمرٌ شائِعٌ لا يَقِفُ على اثنَينِ فقط، وهذا كما يقولُ الحاكِمُ لِخَصْمَينِ: لا تَغلَطوا علَيَّ، يريدُ الخَصْمَينِ ومَن هو في حُكْمِهما). ((تفسير ابن عطية)) (5/164). وقال القرطبي: (وقيل: هذا خِطابٌ لكُلِّ مَنِ اختَصَم. وقيل: هو للاثنَينِ وجاء بلَفظِ الجَمعِ). ((تفسير القرطبي)) (17/17). وقال الماوَرْدي: (قولُه عزَّ وجلَّ: قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ فيه وجْهانِ؛ أحدُهما: أنَّ اختِصامَهم هو اعتِذارُ كلِّ واحدٍ منهم فيما قدَّم مِن مَعاصيه، قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثَّاني: أنَّه تَخاصُمُ كلِّ واحدٍ مع قَرينِه الَّذي أغْواه في الكفرِ، قاله أبو العاليةِ). ((تفسير الماوردي)) (5/352). : لا تَختَصِموا عندي وقد سبَق أن أقمْتُ عليكم الحُجَّةَ في الدُّنيا بإنزالِ الكُتُبِ، وإرسالِ الرُّسُلِ، وبلَغَكم وعيدي لِمَن كفَرَ بي، وعصاني، وكذَّب رُسُلي؛ فلا نجاةَ لكم مِن جَهنَّمَ، ولا فائدةَ في اختِصامِكم [301] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/441)، ((تفسير ابن عطية)) (5/164)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/251)، ((تفسير ابن كثير)) (7/403)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806). !
قال تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 31] .
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29).
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ.
أي: لا أحدَ يَستطيعُ أن يُغَيِّرَ قَولي الَّذي قُلْتُه مِن قَبْلُ بأنِّي سأَمْلأُ جَهنَّمَ مِن الجِنَّةِ والنَّاسِ؛ فالكُفَّارُ في النَّارِ، وأهلُ الإيمانِ في الجِنانِ، وما قَضَيتُ به لا بُدَّ مِن وُقوعِه لا مَحالةَ [302] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/442)، ((تفسير ابن عطية)) (5/164)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 11، 12)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 103). قال ابنُ القيِّم: (أخبَرَ سُبحانَه أنَّه لا يُبَدَّلُ القَولُ لَدَيه، فقيلَ: المرادُ بذلك قَولُه: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] ، ووَعْدُه لأهلِ الإيمانِ بالجنَّةِ، وأنَّ هذا لا يُبَدَّلُ ولا يُخلَفُ. قال ابنُ عبَّاسٍ: يُريدُ: ما لَه عِندي خُلفٌ لأهلِ طاعتي ولا أهلِ مَعصيتي. قال مجاهِدٌ: قد قَضَيتُ ما أنا قاضٍ. وهذا أصَحُّ القَولَينِ في الآيةِ، وفيها قَولٌ آخَرُ: أنَّ المعنى: ما يُغَيَّرُ القَولُ عندي بالكَذِبِ والتَّلبيسِ، كما يُغَيَّرُ عندَ المُلوكِ والحُكَّامِ، فيَكونُ المرادُ بالقَولِ قَولَ المُختَصِمينَ، وهو اختيارُ الفَرَّاءِ وابنِ قُتيبةَ. قال الفرَّاءُ: المعنى: ما يُكذبُ عِندي لِعِلْمي بالغَيبِ. وقال ابنُ قُتَيبةَ: أي: ما يُحَرَّفُ القَولُ عندي ولا يُزادُ فيه ولا يُنقَصُ منه. قال: لأنَّه قال: القَولُ عِندي، ولم يَقُلْ: قَولي. وهذا كما يُقالُ: لا يُكذبُ عِندي، فعلى القَولِ الأوَّلِ يكونُ قَولُه: وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ مِن تَمامِ قَولِه: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ في المعنى، أي: ما قُلتُه ووَعدتُ به لا بُدَّ مِن فِعْلِه، ومع هذا فهو عَدلٌ لا ظُلمَ فيه ولا جَورَ، وعلى الثَّاني: يكونُ قد وَصَف نفْسَه بأمْرَينِ؛ أحَدُهما: أنَّ كَمالَ عِلْمِه واطِّلاعِه يَمنَعُ مِن تَبديلِ القَولِ بيْنَ يَدَيه، وتَرويجِ الباطِلِ عليه، وكَمالَ عَدْلِه وغِناه يَمنَعُ مِن ظُلمِه لعَبيدِه). ((الفوائد)) (ص: 11). يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/  79)، ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 239). .
كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119] .
وقال سُبحانَه: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] .
وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
أي: وما أنا بذِي ظُلمٍ لعِبادي؛ فلا أعاقِبُ أحدًا بغيرِ ذَنْبِه، أو أَزيدُ في سَيِّئاتِه، أو أَنقُصُ مِن حَسَناتِه [303] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/443)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/251)، ((تفسير ابن كثير)) (7/403)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 103). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: 44] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] .
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30).
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ.
أي: يومَ نَقولُ لِجَهنَّمَ: هل امتَلَأتِ كما وَعدْتُ بذلك [304] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/443)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/430)، ((تفسير الشوكاني)) (5/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 103، 104). قال الواحدي: (قال المفسِّرون: أراها اللهُ تصديقَ قَولِه: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [هود: 119] ، فلمَّا امتلأَتْ قال لها: هل امتلأتِ؟). ((الوسيط)) (4/168). وقال الألوسي: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أي: اذكُرْ، أو أنذِرْ يومَ... إلخ. فـ يَوْمَ: مَفعولٌ به لِمُقَدَّرٍ. وقيل: هو ظَرفٌ لِـ «ظَلَّامٍ»). ((تفسير الألوسي)) (13/337). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ في الجملةِ: العُلَيمي، والشوكاني، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير العليمي)) (6/389)، ((تفسير الشوكاني)) (5/92)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 103، 104). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/443). وقيل: المعنى: ما يُبَدَّلُ القَولُ لدَيَّ في ذلك اليَومِ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/46). ؟
وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ.
أي: وتقولُ جَهنَّمُ طالِبةً المزيدَ مِن أهلِ الضَّلالِ: هل مِن زيادةٍ مِنَ الجِنِّ والإنسِ تُزادُ إلَيَّ [305] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/445، 446)، ((تفسير السمعاني)) (5/244)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/46، 47)، ((تفسير ابن كثير)) (7/403)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/430)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 104، 105). قال ابن عطية: (الَّذي يترجَّحُ في قَولِ جَهنَّمَ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أنَّها حقيقةٌ، وأنَّها قالت ذلك وهي غيرُ مَلْأَى). ((تفسير ابن عطية)) (5/165). ويُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 75)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/430). وممَّن قال بأنَّ الاستِفهامَ هنا مرادٌ به طلبُ الزِّيادةِ: ابنُ جرير، وابنُ تيميَّة، وابنُ جُزَي، وابن القيِّم، وابن كثير، والسعدي، والشنقيطي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/446)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/46)، ((تفسير ابن جزي)) (2/303)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 12)، ((تفسير ابن كثير)) (7/403)، ((تفسير السعدي)) (ص: 806)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/430)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 104). قال ابن كثير: (هذا هو الظَّاهِرُ مِن سياقِ الآيةِ، وعليه تدُلُّ الأحاديثُ). ((تفسير ابن كثير)) (7/403). وذهب مقاتِلٌ، والواحديُّ، والقرطبيُّ: إلى أنَّ المعنى: ما بَقِيَ فيَّ موضِعٌ يحتَمِلُ الزِّيادةَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/114)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1024)، ((تفسير القرطبي)) (17/18). قال ابنُ القيِّمِ: (وأخْطَأ مَن قالَ: إنَّ ذلك للنَّفْيِ، أي: ليسَ مِن مزِيدٍ. والحديثُ الصَّحيحُ يرُدُّ هذا التَّأْويلَ). ((الفوائد)) (ص: 12). ؟!
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يُقالُ لِجَهنَّمَ: هل امتَلأتِ؟ وتقولُ: هل مِن مَزيدٍ؟ فيَضَعُ الرَّبُّ تبارك وتعالى قَدَمَه عليها، فتَقولُ: قَطْ قَطْ [306] قَطْ قَطْ: أي: كَفَى كَفَى. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3629). ) [307] رواه البخاريُّ (4849). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال اللهُ للجَنَّةِ: إنَّما أنتِ رَحمَتي أرحَمُ بكِ مَن أشاءُ مِن عبادي، وقال للنَّارِ: إنَّما أنتِ عذابي أعَذِّبُ بكِ مَن أشاءُ مِن عبادي، ولكُلِّ واحدةٍ مِنكما مِلْؤُها؛ فأمَّا النَّارُ فلا تمتَلِئُ حتَّى يَضَعَ اللهُ تبارك وتعالى رِجْلَه، تقولُ: قَطْ قَطْ قَطْ، فهُنالك تمتَلِئُ، ويُزوَى [308] ويُزوَى: أي: يُضَمُّ ويُجمَعُ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3629). بَعضُها إلى بَعضٍ، ولا يَظلِمُ اللهُ مِن خَلْقِه أحَدًا )) [309] رواه البخاريُّ (4850)، ومسلمٌ (2846) واللَّفظُ له. .
وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تزالُ جَهنَّمُ تقولُ: هل مِن مَزيدٍ؟ حتى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فيها قَدَمَه، فتقولُ: قَطْ قَطْ وعِزَّتِك، ويُزوَى بَعضُها إلى بَعضٍ )) [310] رواه البخاري (6661) واللَّفظُ له، ومسلم (2848). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ وعيدٌ شديدٌ على مانعِ الزَّكاةِ [311] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/192). . وهذا على قولٍ في التَّفسيرِ.
2- قَولُ اللهِ تعالى: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ فيه سُؤالٌ: هذا يُوجِبُ أن يكونَ الإلقاءُ خاصًّا بمَنِ اجتَمَع فيه هذه الصِّفاتُ بأَسْرِها، والكُفرُ كافٍ في إيراثِ الإلقاءِ في جَهنَّمَ والأمرِ به؟
الجوابُ: قَولُه تعالى: كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ليس المرادُ منه الوَصْفَ المُمَيِّزَ، كما يُقالُ: (أعْطِ العالِمَ الزَّاهِدَ)، بل المرادُ الوَصفُ المُبَيِّنُ لكَونِ المَوصوفِ مَوصوفًا به؛ إمَّا على سَبيلِ المَدحِ، أو على سَبيلِ الذَّمِّ، كما يُقالُ: (هذا حاتِمٌ السَّخِيُّ)، فقَولُه: كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ معناه: أنَّ الكَفَّارَ عَنيدٌ ومَنَّاعٌ؛ لأنَّ آياتِ الوَحدانيَّةِ ظاهِرةٌ، ونِعَمَ اللهِ -تعالى- على عَبدِه وافِرةٌ، وهو مع ذلك عَنيدٌ، ومَنَّاعٌ للخَيرِ؛ لأنَّه يَمدَحُ دِينَه، ويَذُمُّ دينَ الحَقِّ -وذلك على قولٍ-، فهو يَمنَعُ، ومُريبٌ؛ لأنَّه شاكٌّ في الحَشرِ؛ فكُلُّ كافرٍ فهو مَوصوفٌ بهذه الصِّفاتِ [312] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/137). .
3- إنْ قيلَ: القائِلُ هنا واحِدٌ، وقال: رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ، ولم يَقُلْ: رَبِّ، وفي كَثيرٍ مِن المواضِعِ القائِلُ واحِدٌ، وقال: رَبِّ، كقَولِه: رَبِّ أَرِنِي [البقرة: 260] ، وقَولِه: رَبِّ اغْفِرْ لِي [نوح: 28] ، رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ [نوح: 26] ، رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ، [يوسف: 33] ، رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا [التحريم: 11] ، رَبِّ فَأَنْظِرْنِي.
فالجَوابُ: أنَّ في جَميعِ تلك المواضِعِ القائِلَ طالِبٌ، وأمَّا هنا فالموضِعُ مَوضِعُ هَيبةٍ وعَظَمةٍ وعَرضِ حالٍ دونَ الطَّلَبِ؛ لذا قال: رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ [313] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/138). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ فيه سؤالٌ: كيف قال: مَا أَطْغَيْتُهُ مع أنَّه قال: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] ؟
الجوابُ مِن أوجُهٍ:
منها: أنَّ الشَّيطانَ يقولُ: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ بمعنى: لَأُزَيِّننَّ لهم الأمرَ، وما ألجَأَهم؛ فيَصِحُّ القَولانِ مِنَ الشَّيطانِ.
ومنها: أن تكونَ الإشارةُ إلى حالَينِ: ففي الحالةِ الأُولى: إنَّما فَعلْتُ بهم ذلك الإغواءَ؛ إظهارًا للانتِقامِ مِن بني آدَمَ، ثمَّ إذا رأى العذابَ، وأنَّه معه مُشتَرِكٌ، وله على الإغواءِ عَذابٌ -كما قال تعالى: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84، 85]- فيقولُ: رَبَّنا ما أطغَيتُه، فيَرجِعُ عن مقالتِه عندَ ظُهورِ العذابِ [314] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/138). .
5- قال الله تعالى: قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ما الوَجهُ في اتِّصافِ الضَّلالِ بالبَعيدِ؟
الجوابُ: الضَّالُّ يكونُ أكثَرَ ضَلالًا عن الطَّريقِ، فإذا تمادى في الضَّلالِ وبَقِيَ فيه مُدَّةً يَبعُدُ عن المَقصَدِ كَثيرًا، وإذا عَلِم الضَّلالَ قَصَّرَ في الطَّريقِ مِن قَريبٍ، فلا يَبعُدُ عن المَقصَدِ كثيرًا، فقَولُه: ضَلَالٍ بَعِيدٍ وَصفٌ للمَصدَرِ بما يُوصَفُ به الفاعِلُ، كما يُقالُ: كلامٌ صادِقٌ، وعِيشةٌ راضيةٌ. أي: ضَلالٌ ذو بُعدٍ، والضَّلالُ إذا بَعُدَ مَداه وامتَدَّ الضَّالُّ فيه يَصيرُ بَيِّنًا، ويَظهَرُ الضَّلالُ؛ لأنَّ مَن حاد عن الطَّريقِ وأبعدَ عنه تتغيَّرُ عليه السِّماتُ والجِهاتُ، ولا يرَى عَينَ المَقصَدِ، ويَتبَيَّنُ له أنَّه ضَلَّ عن الطَّريقِ، وربَّما يَقَعُ في أوديةٍ ومَفاوِزَ، ويَظهَرُ له أماراتُ الضَّلالِ، بخِلافِ مَن حاد قليلًا؛ فالضَّلالُ وصَفَه اللهُ تعالى بالوَصفَينِ في كثيرٍ مِن المواضِعِ، فقال تارةً: فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وأُخرَى قال: فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [315] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/138). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ فيه رَدٌّ على المُرجِئةِ؛ حيثُ قالوا: ما ورَدَ في القُرآنِ مِن الوَعيدِ فهو تخويفٌ لا يُحَقِّقُ اللهُ شَيئًا منه! وقالوا: الكريمُ إذا وَعَد أنجَزَ ووفَى، وإذا أوعَدَ أخلَفَ وعَفا [316] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/140). قال ابنُ عثيمين: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ يعني: لا أحَدَ يَستطيعُ أن يُبَدِّلَ قَولي؛ لأنَّ الحُكمَ للهِ عزَّ وجَلَّ وَحْدَه، فإذا كان اللهُ تعالى قد وَعَد فهو صادِقُ الوَعدِ سُبحانَه وتعالى، وأمَّا الإيعادُ فقد يَغفِرُ ما شاء مِنَ الذُّنوبِ إلَّا الشِّركَ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 103). .
7- في قَولِه تعالى: وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أنَّ اللهَ تعالى قادِرٌ على الظُّلمِ، ولكِنْ لا يَفعَلُه؛ فَضلًا منه وَجُودًا، وكَرَمًا وإحسانًا إلى عبادِه [317] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/35). . ولأنَّه لا يحتاجُه سُبحانَه، وإنَّما يَظلِمُ الَّذي يَرى في الظُّلمِ تحقيقَ حاجةٍ أو مصلحةٍ له، واللهُ تعالى غنيٌّ عن هذا كلِّه.
وفيه إبطالُ مَذهَبِ مَن زَعَم: «أنَّ الظُّلمَ الَّذي نَزَّهَ نفْسَه عنه هو الممتَنِعُ المُستحيلُ، لا أنَّ هناك أمرًا مُمكِنًا مَقدورًا لو فَعَله لَكان ظُلمًا»! قال اللهُ تعالى: وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي: لا أُؤاخِذُ عبدًا بغيرِ ذنْبٍ، ولا أمنَعُه مِن أجرِ ما عَمِلَه مِن صالحٍ؛ ولهذا قال قَبْلَه: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ المتضمِّنِ لإقامةِ الحُجَّةِ، وبُلوغِ الأمرِ والنَّهيِ، وإذا آخَذْتُكم بعدَ التَّقَدُّمِ فلَسْتُ بظالمٍ، بخِلافِ مَن يُؤاخِذُ العبدَ قبْلَ التَّقَدُّمِ إليه بأمْرِه ونَهْيِه؛ فذلك الظُّلمُ الَّذي تَنَزَّهَ اللهُ سُبحانَه وتعالى عنه [318] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/251). .
8- في قَولِه تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ دليلٌ على أنَّ القُرآنَ غيرُ مخلوقٍ؛ لأنَّ اللهَ جلَّ وتعالى كلُّ كلامِه غيرُ مخلوقٍ؛ ما قد تكَلَّمَ به، وما يَتكلَّمُ به يومَ القيامةِ. فكيف يجوزُ أنْ يكونَ هَلِ امْتَلَأْتِ مَخلوقًا الآنَ -لو جاز أنْ يكونَ أيضًا مخلوقًا كلامُه، ومعاذَ اللهِ- وهو لم يَقُلْه بعدُ [319] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/195). ؟!
9- قال تعالى: قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فإذا كان اللهُ الَّذي خلَقَ العبادَ قد جعَلَ مُؤاخَذةَ مَن لم يَسبِقْ له تَشريعٌ ظُلمًا، فما بالُكَ بمؤاخَذةِ النَّاسِ بَعضِهم بعضًا بالتَّبِعاتِ دونَ تقدُّمٍ إليهم بالنَّهيِ مِن قَبلُ؟! ولذلك يُقالُ: لا عُقوبةَ إلَّا على عمَلٍ فيه قانونٌ سابقٌ قبْلَ فِعلِه [320] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/317). .

بَلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ هذا ليس بالْتِفاتٍ؛ إذ ليس هو تَغييرَ ضَميرٍ، ولكنَّه تَغْييرُ أُسلوبِ الكلامِ، وأُعِيدَ عليه ضَميرُ الغائبِ المفرَدِ باعتبارِ معنى نفْسِ أيِّ شخْصٍ، أو غُلِّبَ التَّذكيرُ على التَّأنيثِ [321] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/310). .
2- قولُه تعالَى: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ انتِقالٌ مِن خِطابِ النَّفْسِ إلى خِطابِ المَلَكينِ المُوكَّلينِ: السَّائقِ والشَّهيدِ -على قولٍ في التَّفسيرِ-. والكلامُ مَقولُ قولٍ مَحذوفٍ، والجُملةُ استِئنافٌ ابتدائيٌّ، انتِقالٌ مِن خِطابِ فَريقٍ إلى خِطابِ فَريقٍ آخَرَ [322] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/311). .
- وصِيغةُ المُثنَّى في قَولِه: أَلْقِيَا قيل: يجوزُ أنْ تكونَ مُستعمَلةً في خِطابِ الواحدِ، وهو الملَكُ المُوكَّلُ بجهنَّمَ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وخُوطِبَ بصِيغةِ المُثنَّى جرْيًا على طَريقةٍ مُستعمَلةٍ في الخِطابِ جَرَت على ألْسنتِهم؛ لأنَّهم يَكثُرُ فيهم أنْ يُرافِقَ السَّائرَ رَفيقانِ، وهي طَريقةٌ مَشْهورةٌ، أو أنَّ تَثنيةَ الفاعلِ نُزِّلَت مَنزِلةَ تَثنيةِ الفِعلِ؛ لاتِّحادِهما، كأنَّه قِيل: ألْقِ ألْقِ؛ للتَّأكيدِ، وقيل غيرُ ذلك [323] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/387)، ((تفسير البيضاوي)) (5/142)، ((تفسير أبي حيان)) (9/537)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 532)، ((تفسير أبي السعود)) (8/131)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/312). .
- قولُه: الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ يَجوزُ أنْ يكونَ اسمُ المَوصولِ بدَلًا مِن كَفَّارٍ عَنِيدٍ؛ فإنَّ المَعرِفةَ تُبدَلُ مِن النَّكرةِ، على أنَّ الموصولَ هنا تَعريفُه لَفظيٌّ مُجرَّدٌ؛ لأنَّ مَعنى الصِّلةِ غيرُ مَخصوصٍ بمُعيَّنٍ، وأنَّ قولَه: فَأَلْقِيَاهُ تَفريعٌ على أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: 24] ، ومَصبُّ التَّفريعِ المتعلِّقُ، وهو فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، أي: في أشدِّ عَذابِ جهنَّمَ، تَفريعًا على الأمْرِ بإلْقائِه في جهنَّمَ تَفريعَ بَيانٍ، وإعادةُ فِعلِ (ألْقِيا) للتَّأكيدِ، مع تَفريعِ مُتعلَّقِ الفِعلِ المُؤكِّدِ، وهذا مِن بَديعِ النَّظْمِ. ويجوزُ أنْ يكونَ اسمُ الموصولِ مُبتدَأً على استِئنافِ الكلامِ، ويُضمَّنُ المَوصولُ مَعنى الشَّرْطِ، فيَكونَ وُجودُ الفاءِ في خبَرِه مِن أجْلِ ما فيه مِن مَعنى الشَّرْطِ، وهذا كثيرٌ، والمقصودُ منه هنا تأْكيدُ العُمومِ الَّذي في قَولِه: كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. ويجوزُ أنْ يكونَ مَفعولًا لمُضمَرٍ يُفسِّرُه فَأَلْقِيَاهُ [324] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/387)، ((تفسير البيضاوي)) (5/142)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 532)، ((تفسير أبي السعود)) (8/131)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/312، 313). .
3- قولُه تعالَى: قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ أُخلِيَت جُملةُ قَالَ قَرِينُهُ عن الواوِ، وأُدخِلَت على الأولى وَقَالَ قَرِينُهُ [ق: 23] ؛ لأنَّها استُؤنِفَتْ كما تُستأنَفُ الجُمَلُ الواقعةُ في حِكايةِ التَّقاوُلِ؛ فإنَّه لَمَّا قالَ قَرينُه: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ، وتَبِعَه قَولُه: قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ، وتلاهُ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ؛ عُلِمَ أنَّ ثَمَّ مُقاوَلةً مِن الكافرِ، لكنَّها طُرِحَتْ وحُذِفَتْ لِمَا يدُلُّ عليها، كأنَّه قالَ: رَبِّ هو أطْغاني، فقال قرينُه: رَبَّنا ما أَطغَيتُه، وأمَّا الجُملةُ الأُولَى فواجبٌ عَطفُها؛ للدَّلالةِ على الجمْعِ بيْنَ معناها ومعْنى ما قَبْلَها في الحُصولِ، أي: مَجيء كلِّ نَفْسٍ معَ الملَكَينِ [325] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1199-1201)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 228، 229)، ((تفسير الزمخشري)) (4/387)، ((تفسير الرازي)) (28/138)، ((تفسير البيضاوي)) (5/142)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/ 447)، ((تفسير أبي حيان)) (9/537)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/438)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 532)، ((تفسير أبي السعود)) (8/131)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/313). .
- والاستِدراكُ بقولِه: وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ناشئٌ عن شِدَّةِ المُقارَنةِ بيْنَ القَرينِ وبيْنَ قَرينِه، لا سِيَّما إذا كان المُرادُ بالقَرينِ شَيطانَه المُقيَّضَ له؛ فإنَّه قُرِنَ به مِن وقْتِ إدراكِه، فالاستِدراكُ لدَفعِ توَهُّمِ أنَّ المُقارَنةَ بيْنَهما تَقتضي أنْ يكونَ ما به مِن الطُّغيانِ بتَلقينِ القَرينِ، فهو يَنفي ذلك عن نَفْسِه؛ ولذلك أُتبِعَ الاستِدراكُ بجُملةِ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ، فأخبَرَ القَرينُ بأنَّ صاحِبَه ضالٌّ مِن قَبْلُ، فلم يَكُنِ اقتِرانُه معه في التَّقييضِ أو في الصُّحبةِ بزائدٍ إيَّاه إضلالًا [326] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/314). .
- وفِعلُ كَانَ لإفادةِ أنَّ الضَّلالَ ثابتٌ له بالأصالةِ، مُلازِمٌ لتَكوينِه [327] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/314). .
- والبعيدُ: مُعبَّرٌ به عن البالِغِ في قوَّةِ النَّوعِ حدًّا لا يَبلُغُ إليه إدراكُ العاقلِ بسُهولةٍ، كما لا يَبلُغُ سَيرُ السَّائرِ إلى المكانِ البعيدِ إلَّا بمَشقَّةٍ. أو بَعيدُ الزَّمانِ، أي: قديمٌ أصيلٌ؛ فيَكونُ تأكيدًا لمَفادِ فِعلِ (كان) [328] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/314). .
4- قولُه تعالَى: قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ هذا حِكايةُ كلامٍ يَصدُرُ يومَئذٍ مِن جانبِ اللهِ تعالى للفريقَينِ الَّذين اتَّبَعوا والَّذين اتُّبِعوا؛ فالضَّميرُ عائدٌ على غيرِ مَذكورٍ في الكلامِ يدُلُّ عليه قولُه: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ [ق: 22] . وعدَمُ عَطفِ فِعلِ قَالَ على ما قَبْلَه؛ لِوُقوعِه في مَعرِضِ المُقاوَلةِ [329] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/314). .
- وهو استِئنافٌ مبنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ ممَّا قَبْلَه، كأنَّه قيلَ: فماذَا قال اللهُ تعالَى؟ فقيلَ: قال: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ، أيْ: في مَوقفِ الحسابِ والجزاءِ [330] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/387)، ((تفسير البيضاوي)) (5/142)، ((تفسير أبي حيان)) (9/538)، ((تفسير أبي السعود)) (8/131). .
- والتَّعبيرُ بصيغةِ الماضي قَالَ؛ لِتَحقُّقِ وُقوعِه [331] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/314). .
- والنَّهيُ عن المُخاصَمةِ بيْنَهم يَقتَضي أنَّ النُّفوسَ الكافرةَ ادَّعَتْ أنَّ قُرناءَها أطغَوْها، وأنَّ القُرَناءَ تنصَّلوا مِن ذلك، وأنَّ النُّفوسَ أعادَت رمْيَ قُرنائِها بذلك، فصار خِصامًا؛ فلذلك قالَ اللهُ تعالى: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ، وطُوِيَ ذِكرُه لدَلالةِ لَا تَخْتَصِمُوا عليه؛ إيثارًا لحقِّ الإيجازِ في الكَلامِ. والنَّهيُ عن الاختِصامِ بعدَ وُقوعِه بتأويلِ النَّهيِ عن الدَّوامِ عليه، أي: كُفُّوا عن الخِصامِ [332] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/315). .
- وهو كِنايةٌ عن أنَّ حُكمَ اللهِ عليهم قد تَقرَّرَ، فلا يُفيدُهم التَّخاصُمُ لإلْقاءِ التَّبِعةِ على أحدِ الفريقَينِ [333] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/315). .
- قولُه: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ حالٌ مُعلِّلةٌ للنَّهيِ عن الاختِصامِ [334] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/142)، ((تفسير أبي السعود)) (8/131)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/315). .
- وهو كذلك كِنايةٌ عن عدَمِ الانتِفاعِ بالخِصامِ؛ لِكَونِ العِقابِ عَدلًا من اللهِ، وقدْ قدَّمتُ إليكم الوعيدَ قبْلَ اليومِ [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/315). .
- والباءُ في بِالْوَعِيدِ صِلةٌ للتَّأكيدِ، والمعنى: وقد قدَّمتُ إليكم الوعيدَ قبْلَ اليومِ. أو مُعدِّيةٌ، على أنَّ (قدَّمَ) مُطاوِعُ (تَقدَّمَ) [336] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/388)، ((تفسير البيضاوي)) (5/142)، ((تفسير أبي حيان)) (9/538)، ((تفسير أبي السعود)) (8/131)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/315). .
5- قولُه تعالَى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
- قولُه: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ بيانٌ للمعنَى الأوَّلِ المُكنَى عنه بقولِه: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ، أي: لَستُ مُبطِلًا ذلك الوعيدَ، وهو القولُ؛ إذ الوعيدُ مِن نوعِ القولِ، والتَّعريفُ للعهدِ، أي: فما أوعدتُكم واقعٌ لا مَحالةَ؛ لأنَّ اللهَ تعهَّدَ ألَّا يَغفِرَ لِمَن يُشرِكُ به ويموتُ على ذلك [337] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/316، 317). .
- والمُبالَغةُ الَّتي في وصْفِ بِظَلَّامٍ راجِعةٌ إلى تأْكيدِ النَّفيِ، والمرادُ: لا أَظلِمُ شَيئًا مِن الظُّلمِ، وليس المعنى: ما أنا بشديدِ الظُّلمِ. وقيلَ: هي لرِعايةِ جمْعِه العبيدَ مِن قولِهم: فلانٌ ظالمٌ لعبدِه، وظلَّامٌ لعَبيدِه، على أنَّها مُبالَغةٌ كَمًّا لا كَيفًا، فنفى ظُلْمَه للعبيدِ، والعبيدُ في غايةِ الكثرةِ، والظُّلمُ المنفيُّ عنهم تَستلزِمُ كَثرتُهم كَثرتَه؛ فناسَبَ ذلك الإتيانُ بصيغةِ المُبالَغةِ للدَّلالةِ على كثرةِ المَنفيِّ التَّابِعةِ لكثرةِ العَبيدِ المنفيِّ عنهم الظُّلمُ؛ إذ لو وقع على كُلِّ عبدٍ ظُلمٌ -ولو قليلًا- كان مجموعُ ذلك الظُّلمِ في غايةِ الكثرةِ، وبذلك تعلَمُ اتِّجاهَ التَّعبيرِ بصيغةِ المُبالَغةِ، وأنَّ المرادَ بذلك نَفيُ أصلِ الظُّلمِ عن كُلِّ عبدٍ مِن أولئك العبيدِ الَّذين هم في غايةِ الكثرةِ [338] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/388)، ((تفسير أبي السعود)) (8/132)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/316، 317)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/32). . وقيل: كلمةُ (ظَلَّام) ليستْ صيغةَ مُبالَغةٍ، بل هي مِن بابِ النِّسبةِ، أي: لَستُ بذي ظُلمٍ، فقد يُستعمَلُ (فعَّال) بمعنى: صاحِبِ كذا، فمعنى قَولِه تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي: بذي ظُلمٍ [339] يُنظر: ((شرح الكافية الشافية)) لابن مالك (4/1962). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 103). .
وقيل: نفْيُ صِيغةِ المُبالَغةِ إذا دلَّتْ أدِلَّةٌ مُنفصِلةٌ على أنَّ المُرادَ به نفْيُ أصْلِ الفِعلِ؛ فلا إشكالَ؛ لقِيامِ الدَّليلِ على المرادِ، والآياتُ الدَّالَّةُ على نفْيِ الظُّلمِ مِن أصلِه عن اللهِ تعالى كثيرةٌ معروفةٌ؛ كقولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ... [النساء: 40] ، وقولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: 44] ، وغيرِ ذلك مِن الآياتِ. أو يكون المسَوِّغُ لصِيغةِ المُبالَغةِ أنَّ عذابَه تعالَى بالِغٌ مِن العِظَمِ والشِّدَّةِ أنَّه لولا استِحقاقُ المعذَّبِينَ لذلك العذابِ بكُفرِهم ومَعاصيهم لَكان مُعذِّبُهم به ظَلَّامًا بليغَ الظُّلمِ مُتفاقِمَه، سُبحانَه وتعالى عن ذلِك عُلوًّا كَبيرًا [340] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/31-33)، ((العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير)) (5/ 117، 118). . وقيل: صِيغةُ المُبالَغةِ (ظلَّام) تَقْتضي بظاهِرِها نَفْيَ الظُّلمِ الشَّديدِ، والمقصودُ: أنَّ الظُّلمَ مِن حَيثُ هو ظُلْمٌ أمْرٌ شَديدٌ؛ فصِيغَتْ له زِنَةُ المُبالَغةِ [341] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/210). . وقيل غيرُ ذلك [342] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (2/ 470، 471). .
- والتَّعبيرُ بـ (العَبيد) دونَ التَّعبيرِ بالناسِ ونَحوِه؛ لزيادةِ تَقريرِ معنى الظُّلمِ في نُفوسِ الأمَّةِ، أي: لا أَظلِمُ ولو كان المَظلومُ عَبدي [343] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/317). .
6- قولُه تعالَى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ
- لفظُ يَوْمَ ظرْفٌ مُتعلِّقٌ بـ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق: 28] ، والتَّقديرُ: قال لهم ذلك القولَ يومَ يقولُ قولًا آخَرَ لجهنَّمَ: هلِ امتلَأْتِ؟ -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ- ومناسَبةُ تَعليقِه به أنَّ هذا القولَ لجهنَّمَ مَقصودٌ به تَرويعُ المدفوعينَ إلى جهنَّمَ ألَّا يَطمَعوا في أنَّ كَثرتَهم يَضيقُ بها سَعةُ جهنَّمَ، فيَطمَعَ بَعضُهم أنْ يكونَ ممَّن لا يُوجَدُ له مكانٌ فيها، فحكاهُ اللهُ في القرآنِ؛ عِبرةً لِمَن يَسمَعُه مِن المشركين، وتعليمًا لأهلِ القُرآنِ المؤمنينَ؛ ولذلك استوَتْ قِراءةُ يَقُولُ بالياءِ [344] قرأها بالياءِ نافِعٌ وأَبو بَكْرٍ، وقرأها الباقون بالنُّونِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/376). جَرْيًا على مُقتضَى ظاهرِ ما سبَقَه مِن قولِه: قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ، وقِراءةُ نَقُولُ بالنُّونِ على الالْتفاتِ، بلْ هو الْتفاتٌ تابعٌ لتبْديلِ طَريقِ الإخبارِ مِن الحَديثِ عن غائبٍ إلى خِطابِ حاضرٍ [345] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/317). .
- والاستِفهامُ في هَلِ امْتَلَأْتِ تَقريرٌ وتوقيفٌ مُستعمَلٌ في تنْبيهِ أهلِ العذابِ إلى هذا السُّؤالِ على وجْهِ التَّعريضِ [346] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/538)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/317). .
- والاستِفهامُ في قَولِه: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ مُستعمَلٌ للتَّشويقِ والتَّمنِّي، وفيه دَلالةٌ على أنَّ الموجوداتِ مُشوَّقةٌ إلى الإيفاءِ بما خُلِقَتْ له. وفيه دَلالةٌ على إظهارِ الامتِثالِ لِمَا خلقَها اللهُ مِن أجلِه، ولأنَّها لا تَتلكَّأُ، ولا تتعلَّلُ في أدائِه على أكمَلِ حالٍ في بابِه [347] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/318). .